تناول باحثان ناطقان بالفرنسية، هما دانيال سركي وأوليفييه سيميوني (من معهد الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا بجامعة لوزان)، حجج السِّجال الذي أطلقه الفيلسوف بيتر سلوتردايك حول تدجين الإنسان العنيف (الزمن 1999.09.28 و1999.21.10). وبعيدا عن أن يعتبرا أطروحاته ضاجَّة وفضائحية، هما يعتقدان أن الوقت قد حان للتساؤل حول ما هو الإنسان، وكيفية تحويله، وتبعا لأي معايير، ومن أجل أي مشروع للمجتمع. وبالخصوص التساؤل عمَّن لديه القدرة على التدخل؟ مقال ظهر في صحيفة الزمن يوم 11 نونبر 1999.
في يوليوز من عام 1999، أطلق الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك جدلا بإثارة قضية التغيير الجذري للإنسان. والموضوع بعيدا عن أن يكون جديدا له تداعيات في الأدب ومختبرات البحوث على السواء. كيف يُمكن ترويض الإنسان، وتدجينه أو – بكلمية واحدة – «إزالة توحشه»؟
هذا هو السؤال الذي حاول بيتر سلوتردايك الإجابة عنه، مما جلب عليه سهام النقد. ليس في نيتنا أن نأخذ موقفا مباشرا مناصرا أو مناهضا لأطروحاته – التي عرضها، وهذا للتذكير، خلال مداخلة له في ندوة حول هايدغر – وذلك لسببين:
الأول ليس من السهل فهم أفكار سلوتردايك المعقدة والغنية جدا من خلال قراءة مجرد مقاطع من محاضرته تُخرَجُ من سياقها في وقت لاحق. والنقاشُ الناجم عن الطريقة التي تمَّ بها فهمُ الفيلسوف الألماني يستحق اهتماما أكثر من تعابير الفيلسوف نفسها التي هي في نظرنا أكثر تنوعا واستعصاء مما يُرادُ اختزلها فيه.
الثاني، وهنا ندخل في صلب النقاش، يبدوُ أنَّ ما تمَّ أخذه من محاضرة سلوتردايك أساسا هو: فمن جهةٍ الإنسانُ عنيف بالطبيعة لدرجة لا تستطيع معها أية نزعة إنسانية وضع حد لعنفه. ومن جهة أخرى، ونتيجة لذلك يمكن التفكير في التدخل في الإنسان من أجل تحسينه. ومع ذلك، فأيٌّ من الادعاءين ليس جديدا تماما، بل الأمر أبعد من ذلك.
بعد الحرب العالمية الثانية، أفضت سيبرنطيقا نوربرت وينر بالخصوص إلى فكرة أنَّه لا يمكن أن لدورة التوحش التي أدت إلى الصراع المسلح أن تتوقف إلا إذا أوكل البشرُ أمرَ حُكمهم إلى الآلات، أي إلى عنصر خارجي عنهم، بسبب عدم قدرتهم على السيطرة على عنفهم.
منذ عام 1952، أظهر روائي في الخيال العلمي اسمه برنارد وولف حدودَ مثل هذه النظرية شاجبا بطريقته الخاصة هذه الإيديولوجية لـ «إزالة توحُّش الإنسان» عن طريق العلوم والتقنية.
يعرض ليمبو وولف في روايته مجتمعين كانا يمارسان شكلين من تدجين الغزائر القتالية في البشر. في مرحلة أولى، يتعرف القارئ على المَنْدُوج، وهم سكانُ جزيرة صغيرة تقع شرق القارة الإفريقية، كانوا للقضاء على كل غريزة عدوانية بداخلهم يخضعون طوعا لتجارب شخص اسمه الدكتور مارتين، وهو جراح أعصاب في حالة فرار، وكانت تلك التجارب تتمثل في إجراء عملية جراحية دقيقة في الجبين تؤدي إلى نتيجة ضارة هي استئصالُ كل نية في الإبداعية أو التغيير. ولما جدَّد ذلك الطبيبُ صلته لاحقا بالعالم العصري الذي كان قد فرَّ منه بضع سنوات اكتشف أنَّ إيديولوجية جديدة اسمها الإيمُّوبْ قد هيمنت على العالم العصري، و كان أتباعها يبترون عمدا سيقانهم وأيديهم لأنهما مصدر كل عدوانية، في اعتقادهم، وذلك لاجتناب نشوب صراع نووي جديد. وبالفعل في الماضي، كانت المجتمعات «المتقدمة» قد نقلت مسؤوليات الحكومة إلى آلات كان من المفترض أن تكون أكثر عقلانية، ولكن ما حدث مع الآلات – وهو محرقة نووية – كان لا مفرَّ من أن يحصل مرة أخرى، إذ لما وصل أتباع إيديولوجيا الإيمُّوبْ إلى السلطة اخترعوا أطرافا اصطناعية أكثر كفاءة من أطراف الإنسان، فأعادوا النظر بذلك في مشاريعهم السلمية، ما أدى إلى فشل جديد لعملية رفض الجسد ومحاولة تدجينه. عادت الحرب ثانية.
تكمنُ عبقرية وولف في إدراك أن العلاقة التي يقيمها الإنسانُ مع الآلة لا تنفصل عن تمثل هذا الإنسان لنفسه. في هذه الحالة، تشهد الثقة الممنوحة للآلات الحاسبة الكبيرة، أسلاف أجهزة الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي، على فقدان ثقة في الإنسان. في عالم لم تعد تملك الأديان قوتها الحكائية الكبرى، ولم يعد بوسع الله ولا الشيطان أن يَعزُوا إلى نفسيهما الإفلاسَ أو العنف الاجتماعين صار الجسَد، أي الإنسانية على نحو ما هي مُجسَّدة، هو الهدف المفضل في النهاية. هذا الجسدُ، أو المادة بالأحرى، هو ما يربطنا بالحيوان أو الوحش، وهو الذي يمنعنا من الوصول الكامل الى العقل، ومن ثمة يجبُ إيجاد وسيلة لتدجينه من أجل فسح المجال للفكر العقلاني.
في أيامنا هذه، تتردد أصداءُ الرؤى القوية لمؤلف ليمبو في التأملات التي تطرحها أفلامٌ مثل «مرحبا بك في غاتاكا» أو روايات «متمردو الفضاء الإلكتروني «cyberpunks (بما في ذلك رواية المتخاطر العصبي neuromancien لوليام جيبسون). ونتذكر أنه في عام 1997 حذَرنا فيلم أندرو نيكول من المخاطر المرتبطة بتدبير المواليد وفقا للمعايير البيولوجية وحدَها. والفضاء الطوباوي الذي يصفه، وهو غاتاكا، كان لا تسكنه إلا شخصيات تُعتبر كاملة لأنه تمَّ انتقاؤها استنادا إلى جودة شفرتها الوراثية. أما روايات السايبربانك، فهي تصور منذ عشرين عاما عوالم تسكنها ذكاءات اصطناعية وكائنات بشرية تمَّ تعديلُها على نطاق واسع بتدخلات جينية أو بزراعة مواد إلكترونية. والشخصيات الأروع هي تلك التي تتخلى عما تسميه بـ «اللحم»، أي الجسد، وتتصل بالفضاء الإلكتروني، أي بهذا المزيج من الشبكات المعلوماتية والواقع الافتراضي، مُحاولة بذلكَ أن تتجاوز القيود الملازمة لشرطها باعتبارها بَشرا من خلال العيش على شكل كائنات أثيرية في فضاء إعلامي خالص ومُجرَّد.
من الواضح أن الواقع والخيال يلتقيان في مختبرات للأبحاث، إذ تُثارُ دائما موضوعة تحسين الكائن البشري بزرع مواد تقنية أو بإجراء تعديلات جينية. هكذا، يهدف الكثير من الباحثين إلى الجمع بين التقدم الطبي والالكترونيات الدقيقة في بحوث واعدة من شأنها أن تؤدي بلا شك على المدى الطويل بهذا القدر أو ذاك إلى القضاء على العديد من العاهات والأمراض. فعلى سبيل المثال، نشرت الصحف مؤخرا خبر عملية أجراها في يوم 28 سبتمبر الفارط فريق من العلماء الفرنسيين المشاركين في المشروع الأوروبي SUAW (Stand Up Walk)، قاموا فيها بوضع شريحة إلكترونية في بطن مريض مشلول لتحفيز أعصابه وعضلاته بهدف تمكينه من المشي.
ومع ذلك فالحدودُ بين هذه الممارسات الرامية إلى تصحيح «عيوب» قياسا إلى معيار يُحيل إلى مفهوم الصحة وبين تحسين حقيقي مقارنة مع ذلك المعيار، تلكَ الحدُود تميل على نحو متزايد نحو الغموض، إذ صار الإنسان العادي يوصَفُ أكثر فأكثر بأنه كائن ناقص يطمح إلى بلوغ الكمال بفضل العلم والتكنولوجيا. يجري الانزلاقٌ من فكرة أن يُتاحَ لكل فرد أن يعيش عددا معقولا من السنوات في أفضل الظروف الممكنة إلى فكرة تمديد متوسط العمر إلى أقصى حد ممكن، مع تفضيل أن يكون ذلك في إطار شروط تتجاوز بكثير ما للإنسان المتوسط. وإذا كانت الحلول التقنية لقيود الإنسان المزعومة كانت لا تزال خارجة عنه في وقت وينر فهي اليوم تتخطى حدود جسده: يمكن السيطرة على العدوانية مُستقبلا بواسطة الأدوية كما يقترح ذلكَ باحثون من جامعة برمنغهام. وقد ذهب مارفن مينسكي، وهو أحد «آباء» الحاسوب وباحث في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إلى أبعد من ذلك إذ قال: «في عام 2035، بفضل تكنولوجيا النانو قد يكونُ المعادل الإلكتروني للدماغ نفسه أصغر من طرف أصبعكم، وهذا يعني أنه سيمكنكم أن تتوفروا داخل جمجمتكم على ما شئتم من مساحة لكي تزرعوا فيها نظُما وذاكرات إضافية. ثم، تدريجيا سوف تستطيعون أن تتعلموا أكثر في كل عام، وأن تضيفوا أنواعا جديدة من الإدراك، وأنماطا جديدة من المنطق، وطرقا جديدة في التفكير والتخيل – وسائر الأشياء التي لا يقوى أحد منا على أن يتخيلها اليوم».
أيا كان الموقف الذي قد يتخذه كل واحد منا تجاه مثل هذه التوقعات يبقى السؤال المطروح مع ذلك هو معرفة ما هو جوهر الكائن البشري في الأساس. بعبارة أخرى، أليس هناك نقطة قطيعة انطلاقا منها ستفضي التقنيات الرامية إلى تحسين الإنسان، وبشكل مفارق، إلى جعلنا نتخطى حدود الإنسان؟
يبدو أن الباب مفتوح علميا أمام ما يسميه البعضُ بـ «ما بعد الإنسانية»، وهي هذه الإنسانية المحسَّنة رُبما ولكنها في سائر الأحوال مختلفة عن تلك التي نعرف والتي إن نصدق التأكيدات المثيرة لمؤلفين، مثل ميشال تيبون كانيلو، فسيكون المُدمنُ هو نموذجها الأصلي الذي يُذكِّرُ بشكل «إنسان مُعَدَّل جوهريا». يُظهر مارك ديري في تحليله لهذه الظاهرة أنه مع اقتراب نهاية الألفية [الثانية] كان يوجدُ نوعٌ متزايد من «الإيمان بالآخرة التكنولوجي» الذي يتوقع أن تفضي التكونولوجيا إلى ولادة إنسانيةٍ بَعدية (أو ما بعد إنسانية) ستفلتُ من قبضة الموت، ويَنظر إلى الجسد البشري باعتباره شبه هيكل قديم عفا عليه الزَّمن وغير متكيف مع عصر المعلومات. في هذا المنظور لم يعد الجسد البشري سوى سوى مادة للتعديل.
لذلك، من الواضح أن النقاش حول «التكنو-أنثروبولوجيا» الذي أثاره سلوتردايك في محاضرته نقاشٌ مشروع جدا. والمثيرُ للدهشة ملاحظة أن ذلك السجال قد خرج من هذا الخطاب الفلسفي كما لو كان معزولا كليا عن الواقع، والحالُ أنَّه في العديد من المختبرات يتزايد يوما بعد يوم تطويرُ عمليات تقنية تهدف بشكل واضح إلى تعديل الإنسان، لتنظمَّ على هذا النحو ربما إلى كل الذين يتوقعون ظهور ما بعد الإنسانية. والمدهشُ أكثر أن كل هذه التطورات تندرجُ أيضا في علاقات قوى يتم إخفاؤها في معظم الأحيان. ذلك أنه: من سيستطيعُ تقرير ما هو الإنسان، وكيفية تحويله، وحسب أية معايير، ولمشروع أي مجتمع؟ هل العلماء أم الأطباء أم شركات التأمين أم السلطة السياسية أم السلطة الاقتصادية؟ يبدو أن الوقت قد حان لطرح هذا النوع من الأسئلة.
daniela.cerquiducret unil.ch @ / @ olivier.simioni unil.ch
ترجمة: محمد أسليـم
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الجمعة 14-12-2012 11:56 مساء