(صدر في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، ع. 493، دجنبر 1996، ثم في بمجلة نزوى، العدد: 15، يوليو 1998، صص. 236-238)
تشكل رواية «جنوب الروح» فضاء خصبا لتمفصل موضوعات تحليلنفسية وأخرى إثنولوجية بكيفية تتيح القول مع فرانسوا لابلانتين: «إن ما يقوم به الكاتب [الروائي فعلا] هو تحليل ظواهر يهدف أن يستخلص منها قوانين عامة مفسرة للسلوكات البشرية»، كما تتيح التأكيد، دون مجازفة، بأننا أمام تحليل نفسي وإثنولوجيا عفويين. ذلك أن ما يعسر معاينته في الواقع وما لا يتوصل إليه إلا بمجهود فكري شاق، إنما تمنحه الحكاية بمنتهى التلقائية.
1. في البدء كانت الكلمـة
يحتل الموت في «جنوب الروح» مكانة مركزية بحيث لا يطال عددا من الشخوص فحسب، بل ويمتد أيضا إلى المكان نفسه. ولهذا الموت علاقة سلبية بالرغبة. ذلك أن رغبة الفرسيوي وسلام في عودة السلالة إلى دوار «بوضيرب»، ورغبة بعض شخصيات الرواية، مثل محمد الفرسيوي وسلام، في العودة إلى المكان نفسه، كلتاهما لم تتحقق. أي خلل كان يتضمنه «نسق «بومندرة» بحيث آل إلى الانقراض؟ لماذا لم تتحقق تلك الرغبة؟ أيكون مصير «بومندرة» متضمنا في «الأمر» الذي تلقاه الفرسيوي من أخيه الأكبر بحيث لم تكن الوقائع اللاحقة سوى إخراج (mise en scène) لهذا القانون أم أن كلمة الأخ الأكبر نفسها تتضمن خللا بحيث تعذر كل إيصال؟ ما دلالة الموت المعمم في الرواية؟
للوهلة الأولى، يبدو هذا التلاشي انعكاسا للخصوبة. يحفز على هذا التفسير هيمنة موضوعة الجنس بحيث يمكن اعتبارها أحد الخيوط الرفيعة الناظمة للحكي: الجنس باعتباره سلوكا متعيا، لكن أيضا – بل وربما أساسا – سلوكا بيولوجيا يؤدي وظيفة استمرار النوع من خلال التكاثر والتوالد. لكن فيما وراء هذا التأويل، يمكن افتراض أن «مشكلة» بومندرة هي مسألة إيصال ثقافي بالأساس. إننا نصوغ هذه الفرضية انطلاقا من تأكيد لنيكول لورو تقول فيه: «يَمنع استنساخ المثيل كل ولوج للآخر»[1]، ونرمي ومن ورائها إلى اختبار نموذجي الإيصال كما صاغهما فرويد.
2. الموت والخصـوبة
يمكن القول إن نسق بومندرة أوشك على التوقف عن الاشتغال بسبب افتقاده لعنصر الخصوبة. صارت الأمور تسير على نحو إما يكون هناك إفراط جنسي أو قحط جنسي[2]:
أ. الانقراض باعتباره مشكلة خصوبة:
ويأخذ شكله الأسمى في ربط الجنس، في مستهل الرواية، بفصل الربيع الذي بات معروفا أن العديد من الشعوب القديمة كانت تقيم فيه طقوسا جنسية متهتكة لإثارة خصوبة الطبيعة[3]. فالفصل الأول يورد وصفا لأشغال زراعية تهيمن عليه النكهة الجنسية بما يوحي بأننا على أبواب ولادة أو ولادات كبرى:
«(…) وقال [الفرسيوي] في نفسه: هذا هو عبير الربيع، فصل اللقاح والاضطراب والشهوة، وابتسم وهو يفكر في الشبان الذين ستلفحهم الشمس بعد قليل وهم ينقلون أحزمة العشب الفواحة أو ينكفئون على الأرض الرطبة (…) كأنهم يقومون بكشف نعومة جسدها (…) ولن يستطيع الشبان أن يستسلموا لالتذاذاتهم الدفينة وهم يحزون العشب فتنبعث من حركة المنجل رائحة فرجية لاسعة…» (ص. 8).
غير أن الفرسيوي يموت في هذا الفصل بالضبط. أكثر من ذلك، عندما تتلمس هموشة أسفل سرته تجده أنزل أثناء احتضاره (ص. 11). وهموشة نفسها التي يمكن اعتبارها تجسيدا لاستيهام المرأة فائقة القوة الجنسية، لكونها «كانت لا تشبع من النكاح» (ص. 76)، هذا الاستيهام الذي مضى البعض، في دراسته لسياقات ثقافية مماثلة، إلى حد التعبير عنه بـ «استيهام المرأة ذات الفرج المسنن [= الذي له أسنان]»[4]، هموشة هي الأخرى تموت في الفصل نفسه، في شهر أبريل (ص. 143، 149). وحادة تشتعل رغبة بالجنس، لكن هذا الاشتعال يتم زمن احتضارها:
«… ثم لأمر ما صارت تتذكر كل حركات جسدها القديمة بما في ذلك تلك الحركات العنيفة التي كانت تزلزل حوضها عندما يدخل علال بين فخذيها، فتندفع نحوه بهز متوتر تتألم له حتى نخاع اللذة، فكان هذا الاستذكار اللطيف يبعث نسمة ساخنة على أسفلها فتمد يدها هناك وتضغط ضغطا خفيفا مترددا…» (ص. 136-137).
للإشارة، فإننا نقف في هذا المقطع على أحد أمثلة ما صدرنا به هذه الدراسة، ونعني به عفوية تقديم الحكاية لما يتوصل إليه في حقول معرفية أخرى؛ فقد أثبت بعض المحللين النفسانيين أن بعض النساء يظهرن، لحظة احتضارهن، اهتمامات كبيرة بالجنس:
«سبق لماك كليلاند أن درس هذه الاستشباحات الإيروتيكية التي تنتاب بعض النساء لحظات الاحتضار وأطلق عليها اسم «عقدة أرلوكان». فبين أنهن كن، وهن على وشك مفارقة الحياة، مع علمهن التام بأنهن سيتوفين، يبدين انشغالات جنسية أكثر من جماعة أخرى من النساء يتلقين العلاج بالمستشفى، لكن بسبب مرض غير مميت»[5].
ب) فرط الخصـوبة
تصيب الخصوبة خللا ببومندرة عندما تتوفر، لكنها تصاب بشلل إما لكون أحد الزوجين يكون عاقرا، أو لكونه لا يضاهي الطرف الآخر في القوة الجنسية. وهكذا، فهموشة «لا تشبع من النكاح» وبإمكانها أن تلد «من شدة نكاحها مدينة كاملة»، و«لكنها لا تلد» (ص. 66)، وسلام ابن عم محمد الفرسيوي لم ينل السن من فحولته شيئا، لكن زوجته لم تعد تشبعه لأن قوتها ربما خمدت:
«… أسر إليه سلام قبل خمس سنوات برغبة العودة للريف والتزوج هناك بامرأة صغيرة تقدر على المباشرة، لأن عمتك كنزة أوليدي لم يعد هناك أي فرق بينها وبين البقراج، لا لحم ولا حس كأنه تضربه في الرماد. هاي هاي أعمي سلام، ومازال فيك القابلية؟! فيجيب سلام ضاحكا: القابلية؟ في القابلية والجاهلية، والله أوليدي لا أضع رأسي على الوسادة حتى يصبح معي شيء كأنه محمي» (ص. 35-36).
ج) فاقة الخصـوبة
وتأخذ عدة أشكال: إما يكون الأشخاص مصابين بالعقم (زوجة الفقيه السي محند أوبناصر، وهموشة)، أو بالعجز الجنسي أو خمود الطاقة الجنسية (الفرسيوي قبل تجربته الربانية، والعكيوي الذي «ينعض في كل وقت إلا عندما يكون بين ساقي امرأة» (ص. 84) وزوجة سلام الفرسيوي)، أو العنوسة (يامنة ونورية)، أو لكونهن يضعن رامزات بذلك إلى الخصوبة، لكن ما أن يفعلن ذلك حتى يفارقن الحياة (فضيلة أم محمد الفرسيوي، نجمة أو نورية، والمجذوبة أم الفرسيوي الحفيد)، أو لكون هذه الشخصيات ترفض أن تخلف عقبا (الفقيه محمد أوبناصر (ص. 130)، ومحمد الفرسيوي نفسه (ص. 93).
3. رمزية اختفـاء الفرسيـوي
بالنظر إلى هذا الوضع، يكتسي اختفاء الفرسيوي الملغز بعدا رمزيا؛ فقد اختفى خمسة أعوام ليس بوسع أي أحد معرفة أين قضاها لأنه تكتم عليها تكتما تاما، ناقلا حقيقتها إلى عالم الموت نفسه، تاركا الجماعة متخبطة في تفسيرها إلى أن وجدنا أنفسنا أمام أربعة تأويلات:
أ) رواية الفرسيوي نفسه
ينفي فيها نفيا تاما أن يكون تغيب كل هذه المدة زاعما أنه لم يختف إلا نصف ساعة (ص. 24)، ولما أرادت هموشة معرفة ما جرى خلال كل هذه الحقبة: «قطع دابر أسئلتها بتهديد صارم إن هي خاضت معه مرة أخرى في هذا الموضوع» (ص. 50)، بمعنى أنه استغل سلطته الأبوية ووضعه الاعتباري المتفوق على المرأة في منع كل بحث عن حقيقة ما جرى.
ب) رواية يامنة
وهي الرواية التي اتبعتها الجماعة. تفسر الاختفاء باعتباره «تجربة ربانية»: «روت يامنة أنها تبعت الفرسيوي منادية عليه بأعلى صوتها، فإذا البغلة تطير فجأة مثل نسر هائل وتختفي بالفرسيوي في عنان السماء. فسرت يامنة بعد ذلك ما رأته بكون الفرسيوي قد وقع على جنية فأغوته، وتبعها الناس في هذا التأويل» (ص. 139).
ج) رواية العجوز حادة
نقلتها عن حدو. وتذهب إلى أن الفرسيوي قد عاد إلى المكان-الأم، بوضيرب، وتزوج فيه بامرأة أخرى:
«متى اختفى الفرسيوي مع الجنية؟ الجنية؟ الجنية هي بني آدم، تزوج في الريف والسلام (…) كيف يلد الرجل من جنية واش حماقيتي؟» (ص. 138)؛ «الرواية الأولى عن اختفاء الفرسيوي، التي تقول إنه كان مجرد إقامة في الريف مع امرأة أخرى خلف منها ثلاث بنات، حدو هو الذي أتى بالحكاية من الريف فنقلتها أمه وصارت لا تفتر عن روايتها» (ص. 139).
د) رواية محمد الفرسيوي
هي تركيب من روايتي يامنة وحادة. قصها الفرسيوي الابن في حلقة بمكناس بكيفية تشبه إلى حد ما نوع القصص الذي يطلق عليه في التحليل النفسي اسم «الرواية العائلية». بموجب رواية الابن هذه، قد يكون الفرسيوي، طيلة اختفائه، مر من تجربة زواج بجنية لم تمنحه فحولة جنسية مضاعفة فحسب، بل ومنحته أيضا قدرة مجامعة ما شاء من النساء عن طريق الاستحضار. كما نقلته إلى بوضيرب، لكنها سرعان ما أعادته إلى بومندرة، واحتجبت عنه نهائيا لكونه طلب منها أن يتحول إلى امرأة ويضجع نفسه.
«صار الفرسيوي منذ ظهور سوالف مرة أخرى مثل حصان جامح لا يقدر عليه إنس ولا جان. وصارت الجنية تأخذ له المرأة التي يشتهيها فينام معها ليلة كاملة وهو يقلب عليها في أنواع النكاح حتى يأذن الله بالصبح. فلم يترك امرأة في الريف ولا بومندرة. لم يترك امرأة يعرفها، ولا امرأة في الطريق فاستهوته إلا أحضرتها سوالف على صورتها وطبعها وكلامها وحركاتها وسكناتها.
ووسوس الشيطان للفرسيوي فصار يطلب من سوالف العجب العجاب، وهي تقول له أنا بالله والشرع معك، ستسقط ذات يوم في المحظور، ولكن الفرسيوي كان لا يقف عند حد، فاستحضر نساء عائلته، وأخوات هموشة ونساء معارفه ونساء أولاد أخيه، وخالة له ماتت في الريف قبل الهجرة، ثم صار يشتهي غلمانا في السوق فيستحضرهم بسوالف، ويفعل معهم العجب العجاب، حتى كان ذات يوم، ياحضار يا كرام، فطلب من سوالف أن تأخذ هيأته هو نفسه ولكن بجسد أنثى…» (ص. 77-78).
نميل إلى قبول الروايتين الثانية والأخيرة لأن ما يعبَّر عنه «بالتجربة الربانية» يغدو في الواقع بمثابة «رحلة مسارية» أو «طقس مساري» (rite initiatique) شبيه بطقوس التحليق التي يمر منها الملك أو الشامان المبتدئين في بعض المجتمعات، والتي، بعد أن يجتاز فيها المتعلم امتحانات عديدة، تتوج بحصول تغيير في نظامه الحواسي وولوجه أبعادا أخرى من الواقع[6]. وموضوع التحليق السماوي الذي قام به الفرسيوي هو البحث، في العالم اللامرئي، عالم الجن والآلهة، عن القوة الجنسية الخارقة التي صار غيابها يهدد بقاء الجماعة. هو بحث عن الخصوبة المفقودة، الأمر الذي تأتى له بحيث لم يستعد فحولته فحسب، (و«مررت [الجنية] يدها على ذكره فصار مثل ذراع» (ص. 77))، بل ونقل أيضا بالعدوى، على غرار ما يتم في السحر المعدي، هذه الطاقة المتجددة إلى كل مخلوقات دوار بومندرة من بني الإنسان والحيوان على السواء:
«لم يبق في الدوار رجل لم يباشر زوجته في ذلك الفجر، بل لم يبق حمار ولا بغل لم يضرب خلقته في أحشاء أقرب حيوان إليه، حتى أن ثور السي حمو ظل اليوم كله ينكح الأتان المربوطة حتى قلنا هذا يوم القيامة» (ص. 25).
ومع ذلك، آل مصير بومندرة والعديد من شخوصه إلى الموت، الأمر الذي يضمر أن سبب هذا «الموت» ربما يقع فيما وراء مشكلة الخصوبة، في استحالة إيصال ثقافي ما، يقوم على التكرار. وبالنظر إلى وجود استمرارية معينة عبر حضور السارد، حفيد سلالة الفرسيوي، يمكن إضافة فرضية أخرى مفادها أن التلاشي المعمم في الرواية لا يدل على الفناء بقدر ما يبشر بانخراط ما في حياة جديدة.
4. جنوب الروح ونموذجا الإيصال الثقافي
لدى تناول مسألة الإيصال الثقافي ضمن إطار مرجعي أنثروبولوجي، فإن قانون منع غشيان المحارم يكتسي أهمية قصوى. فهذا القانون بمحتواه المزدوج، متمثلا في اختلاف الجنسين واختلاف الأجيال، هو ما يمنح للفرد هويته من خلال التقييد المزدوج الذي يطاله: كونه محددا باختلاف الأجيال ومحدَّدا باختلاف الجنسين. وبالنظر إلى كل من كيفية تعامل الثقافات مع مسألة الإيصال وآراء فرويد نفسه في الموضوع، يمكن التمييز بين نموذجين للإيصال: سياقات تسهله، تشجع على التجديد والحياة، فيجد فيها الأنثوي مكانته، والابن كلمته بالقياس إلى الأب، وسياقات تعرقله، فيسودها التحجر والتكرار، ويقصى منها الأنثوي، فيما لا يتجاوز الوضع الاعتباري للابن مجرد نسخة للأب أو عائد للجد[7].
ضمن هذا المنظور، يمكن اعتبار الخيط الناظم للحكي في «جنوب الروح» هو كلمة الأخ الأكبر للفرسيوي التالية:
«إذا وصلت فاس فاسأل عن الطريق المؤدية إلى زرهون، فإذا وصلت الزاوية فاسأل عن أهل الريف، ستجد هناك شتاتا من بني توزين وبني ورياغل وقلعية وغيرهم. وقال: إذا كبر الأولاد فارجعهم إلى الريف، «أمراسن أبريذ نبابا تسن» [عرفهم طريق أبيهم، حيا أو ميتا]» (الرواية، ص. 41).
فهي كلمة موجهة من أخ أكبر إلى أخ أصغر، في سياق ثقافي تقليدي يمنح للكبار سلطة على الصغار، مما يتيح إمكانية اعتبارها بمثابة قانون للأب. والقوم الذين يؤمر بالاتجاه نحوهم قوم من الريف، مما يضمر أمنية بقاء السلالة داخل عالمها الرمزي الأصلي نفسه، فضلا عن أن الإقامة في مكان الوجهة مهما طالت، فالمآل يجب أن يكون إلى الأصل. والعبارات المستعملة هنا شديدة الدلالة: (التعريف – الطريق – الأب – الحياة – الموت)، بمعنى أنه يُراد «لقانون الأب» أن يكون من القوة والإلزامية بحيث يتعالى عن الحياة والموت. غير أن تطور وقائع الرواية سارت وفق اتجاهين متعارضين: الأول الامتثال الحرفي لهذا القانون، والثاني انتهاكه للاندراج في قانون آخر. وللتدليل على هذه الفرضية سنكتفي بتتبع بعض السلوكات الجنسية لعينة من الشخصيات.
أ) الإيصال على نموذج التكرار
يتجسد في تصرف مجموعة من الشخصيات منها: محند العكيوي، والفرسيوي الأب، ثم ابنه محمد الفرسيوي؛ فالأول خانته الفحولة ليلة الزفاف، بمعنى أنه لم يظهر رجولة، فصار أضحوكة بين أنداده: («وماذا نقضي بالبارود والرجلة وحيد بالاك إذا كنا لا نستطيع أن نثقب امرأة؟!» (ص. 86). غير أنه سرعان ما حصل في المقابل على تعويض رمزي يتمثل في ما صار يحظى به من احترام لدى الجماعة نفسها تقديرا لما أبداه في محاربة الاستعمار.
والفرسيوي امتثل لقانون الأب، فنزل إلى ضاحية زرهون وأسس قرية «بومندرة». لكن الوضع الاعتباري لهذا المكان هو وضع مُستنسَخ للمكان الأصل (بوضيرب)، بمعنى أنه مجرد محاكاة مؤقتة ينبغي أن تنتهي بالرجوع إلى الأصل. وهو ما تم في رحلته المسارية التي عاد فيها إلى الريف. إذا اعتبرنا الجن تعبيرا عن رغبات مكبوتة[8]، أمكن النظر إلى حكاية زواج الفرسيوي بسوالف، وما ترتب عنها من مضاجعته نساء أقارب ورغبة في التحول إلى امرأة، بوصفها تمثيلا رمزيا لرغبة انتهاك قاعدتي منع غشيان المحارم واختلاف الجنسين. وهو سلوك يندرج ضمن بعض آليات اشتغال النسق التقليدي الذي كان يمجد العلاقة بين الأبناء والأبوين من الجنس المخالف (علاقة الابن بالأم، وعلاقة الأب بالبنت). وبذلك تكون شخصية الفرسيوي الجد خير من يمثل النموذج الإيصالي الحالي.
في حين تلعب شخصية محمد الفرسيوي دور مؤشر على التحول من خلال التعارض الوجداني الذي طبع بعض سلوكاته: فهو حاول التماهي مع الأب عبر إيصال حكاياته لابنه، وترك مساحة بيضاء في إحدى متتالياتها، ونقل الأصل مرموزا إليه بالدفتر الصغير الذي أعطاه للسارد، والاختفاء الملغز في نهاية الرواية على غرار اختفاء أبيه خمس سنوات. لكنه في المقابل، سهل عملية إرساء قانون غشيان المحارم من خلال تصرفه لما علم أن ابنه كان يضاجع نفس النساء اللواتي كان يضاجعهن هو. يقول الابن (الفرسيوي الحفيد):
«وساعدني المناخ الليلي لوالدي على الدخول إلى عالم المرأة بلا صخب، وبدون عواطف مربكة. يخرج والدي فجرا، فتندس إحدى مومساته جنبي، وتأخذني برفق، فأنقاذ لها آمنا غير مستعجل، حتى نفيء معا إلى سكينة حالمة. وكان اكتشاف والدي لهذا الفردوس السري هو ما جعله يعود إلى بومندرة. فعل ذلك بانفعال شديد…» (ص. 123-124).
وهذا الموقف هو ما يضيء مجموعة من السلوكات التي صدرت عن محمد الفرسيوي ضدا على ضابط جماعة انتمائه، كزواجه من امرأة من الأباعد (المجذوبة المكناسية)، ورفضه مهنة فقيه أو الالتحاق بالقرويين لنيل العالمية، وإدخال ابنه إلى مدار الدراسة العصرية، فضلا عن معاقرته الخمرة مع هذا الابن في مكان واحد: «يصلني صوت الفرسيوي في الكونتوار رافعا عقيرته بالإنشاد يخلط البردة والعاصمية وابن عاشر ومجموع المتون التي حفظها (…) تتعالى قهقهات أصحابه قصاصين وشعراء، يتلهون بفقيه يضرب الطاسة، ويحفظ المتون…» (ص. 122).
ب) الإيصال الثقافي على نموذج الانخراط في دورة الحياة والتجديد
غير أن دور التحول هذا يتأصل في سلوك ثلاث شخصيات أساسية، هي هموشة، ويامنة، وحادة، ليتبلور أخيرا في شخصية السارد (الفرسيوي الحفيد). فقد كانت الأولى على علم تام بحقيقة الإقامة المزعومة لمحمد الفرسيوي في الريف، أي على علم بأنه فيما كان يدعي أنه يسكن في بوضيرب لم يكن في الواقع سوى حلايقي يزاول مهنا وضيعة في مدن مكناس والرباط والبيضاء. بل لقد تواطأت معه إلى حد إمداده بكل المعلومات الضرورية لنجاحه في التمويه على الجماعة طيلة عشرين سنة «في ظل مؤامرة محكمة التدبير لا يعرفها سواهما، بدون ثرثرة زائدة ولا محاولة للفهم» (ص. 149).
أما يامنة، فأشرت على التحول من خلال استغلال بعض آليات اشتغال النسق التقليدي نفسه للتصرف بطرق لا تنسجم وضابط الجماعة. ذلك أن سلوكها يندرج في نظامين: أحدهما متخيل، تشاطرها فيه الجماعة، بمقتضاه قد يكون أحد الفقهاء صنع لها ثقافا، الأمر الذي أتاح لها البقاء في عنوسة مزمنة والتحول إلى امرة في خدمة الجماعة، والآخر واقعي يتيح لها فهم عنوستها باعتباره تمردا على الوضع الاعتباري للمرأة الذي يجعل منها مجرد أداة للنكاح والإنجاب:
«قررت بينها وبين نفسها أن لا تتزوج أبدا إلا إذا كان العريس شابا ناعما من فاس. وعبثا كانت النساء تلوحن بضعف رجال المدن، كانت ترد غاضبة بأنها لا تريد مثلهن حمارا يملأ أحشاءها بشيئه الضخم» (ص. 66)؛ «تقصدها النساء للبوح بأسرارهن الزوجية، فكان ذلك يمكنها من إثارة الموضوع مع الرجال رأسا لرأس، فتطلب من أحدهم مثلا أن يمارس الجنس مع زوجته في وضع معين تكون زوجته قد تمنته على يامنة، أو تطلب من أحدهم تطويل مدة المباشرة (…) اكتسبت من كثرة الخوض في الموضوع خبرة كبيرة مكنتها من ابتكار سبل غريبة لتقوية الشهوة، وتضخيم الذكر، وتهييج فرج المرأة، وإبطال الإنزال، وتسريع وصول المرأة (…) ولا شك أن عالم الحب في الدوار قد عرف على يدها، هي التي لم تذق له طعما أبدا، تقدما خارقا جعل يامنة نفسها تقول ذات يوم لعروس جديد بكت بين يديها كثيرا مشتكية من عنف عريسها وضخامة ذكره: سأجعله لك مثل حمامة بذكر حمار!» (ص. 66-67).
في حين يندرج سلوك حادة في النمط الإيصالي الحالي من خلال ربطها لعلاقة جنسية مع الفرسيوي الجد خارج مؤسسة الزواج، والإشادة بسلوك جنسي غير مألوف من المرأة في المجتمع التقليدي، فضلا عن صياغتها خطابا «عقلانيا» حول شخصيتين تنتميان إلى جيلين من سلالة الفرسيوي:
«العام الذي هجم فيه التيفوس على الدوار تزوجت فيه فاطمة، ولم تكن بكرا ولكنها كانت مثل سبع، عندما رأت زوجها يهم بالقيام فنها فتحت سحينها «بونقشة» وأمسكت بذكره مهددة «ما جا تسخذ الدم أش أويخ الدم !» [إذا أردت لدم أجيئك به] هيء، هيء، هيء، هيء الله يعطيها الصحة، متى اختفى الفرسيوي مع الجنية؟ الجنية؟ الجنية هي بني آدم، تزوج في الريف والسلام. ومحمد الفرسيوي ألم يتزوج جنية هو الآخر؟ كيف يلد الرجل من جنية واش حمقتي؟ ومن خطف عقله إذا لم تكن الجنية، خطفه السحر والجري وراء الكنوز والنساء…» (ص. 138).
ومع الفرسيوي الحفيد نقف على خطاب «عقلاني»، ليس عن قصة أبيه فحسب، بل وكذلك عن حكاية النزوح بكاملها. بخصوص الأولى، يقول:
«لم تكن المجذوبة سوى بنت يتيمة خف عقلها في دار الباشا حمو، من كثرة ما عذبها الشغل، ومكائد النساء، والشبق المؤذي لصبيان الباشا. فهامت على وجهها يسلمها بر إلى بر، وبحر إلى بحر. والرجل لم يكن سوى فقيه دوخته الأحاجي وهشاشة سلالة أضنتها الهجرات والأحلام الموؤودة. فهام على وجهه باحثا عن سكينة» (ص. 116-117).
وبخصوص الثانية، يقول:
«وفجأة بدا لي الأمر في غاية السخافة. فهذه القضية كلها بأحلامها، ورحلتها، وتهاويمها لا تساوي بصلة، فأحرى أن تساوي جلسة في مقهى باليما، بجرائدها ومتسوليها ونجومها البالية» (ص. 162). ومعنى ذلك أن الإيصال على النمط التكراري صار مستحيل التحقق. وهنا تأخذ إحدى الجمل الواردة في مستهل الرواية معناها الممتلئ: «لا يرجع شيء يذهب أبدا» (ص. 35).
خلاصـة
بقدر ما تتيح رواية «جنوب الروح» الوقوف على نموذجي الإيصال الثقافي: التكرار داخل الديمومة والتجديد داخل الحياة، وفهم التلاشي المعمم الذي عرفه فضاء بومندرة باعتباره ولوجا لدورة حياتية أخرى، تفتح الرواية نفسها إمكانيات للتساؤل: إذا كان حظ النساء من التأشير على التحول والتغيير أكبر من حظ الرجال، في الرواية على الأقل، فهل معنى ذلك أنهن محركات هذا التجديد؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف ننظر إلى وضعهن الاعتباري في المجتمع التقليدي كما ترسمه الأدبيات الشائعة في هذا الباب؟
———–
هوامـــش
[*] محمد الأشعري، جنوب الروح، البيضـاء، منشورات الرابطة، 1996 (174 ص.)
[1] عن:
– Gilbert Grandguillaume, «La relation père-fils dans L’Amour, La Fantasia d’Assia Djebbar et Bandarshah de Tayeb Saleh», in Littératures Maghrébines, vol. 10, t. I, pp. 167-173, Paris, L’Harmatan, 1990.
[2] التصنيفات التي نسوقها هنا تبقى مغرقة في الأمبريقية، ذلك أن تعميق تحليل هذا الجانب، ضمن إطار مرجعي ملائم، يمكن أن يفضي إلى خلاصات أعمق.
[3] حول هذا الموضوع، يمكن العودة، على سبيل المثال، إلى فراس سواح، «الإيقاع الجنسي في أسطورة الشرق القديم»، ضمن مجلة المعرفة (السورية)، ع. 188، تشرين الأول (اكتوبر)، 1977، صص. 17-35.
[4] N. Plantade, La guerre des femmes, magie et amour en Algérie, Paris, La Boîte à Documents, 1988, p. 57.
[5] R. Menahem, La mort apprivoisée, Paris, Editions Universitaires, 1973, p. 89.
[6] M. Eliade, Le chamanisme et les techniques archaïques de l’extase, Paris, Payot, 1983, pp. 160-165.
[7] جلبير غرانغيوم، مرجع سابـق.
[8] S. Freud, Essais de psychanalyse appliquée, Paris, Gallimard, Coll. Idées, 1933, p. 212.