أصدر العديد من الكتب في هذه المجالات وغيرها: «حديث الجثة»، «كتاب الفقدان»، «سفر المأثورات»، «بالعنف تتجدد دماء الحب»، «ذاكرة الأدب»، «الإسلام والسحر»، «هوامش في السحر»… ومن ترجماته: «الفرنكوفونية والتعريب»، «اللغة والسلطة والمجتمع في المغرب العربي»، «اللغة والأخلاق والسياسة في السياق العربي الإسلامي»، «وداعا جتنبرغ»، «الحداثة والتربية» وغيرها من الكتب.
التقته «القدس العربي»، وأجرت معه الحوار التالي:
■ أنت من أبرز الكتاب الذين يهتمون بالعالم
الافتراضي الذي تمثله الشبكة العنكبوتية، ما الذي يستثيرك في هذا العالم؟ وبأي
صيغة يمكن أن يخدم الثقافة والأدب، ولاسيما في سياق محلي كالمغرب، حيث لا يزال
الكثيرون يترددون في اعتماد الإنترنت أداة لتداول المعرفة وللتواصل الثقافي؟
□ خلافاً
لبدايات إطلاق الشبكة، في مستهل تسعينيات القرن الماضي، حيثُ كان الاتصال
بالإنترنت يُعتبر ضربا من الترف أحيانا، وجريا وراء أدب «القشور» وثقافته، أحيانا
أخرى، صار الحضور في العالم الافتراضي مسألة حيوية اليوم، للفوائد العديدة التي
يتُيحها هذا الوسيط.
أسعى ما أمكن إلى الحضور في العالم الافتراضي للتواصل والنشر وتحميل الكتب وسماع
الموسيقى ومشاهدة العروض والمحاضرات… وكذلك لتأمل ما يجري في عالم اليوم.
تقدم شبكة الإنترنت خدمة كبيرة للثقافة والأدب؛ فقد برزت معالم ضخمة، كمشروع
جتنبرغ الرامي إلى رفع المنتوج الأدبي المنتمي للمجال العمومي إلى مليار كتاب،
ورقمنة مكتبة الإسكندرية لمجموع ممتلكاتها وإتاحتها مجانا للمستخدمين، ومكتبة
العلوم الكلاسيكية الاجتماعية الكندية بآلاف كتبها ودراساتها المجانية، والمكتبات
الرقمية لكبريات الجامعات العالمية (وضعت جامعة لافال وحدها مليون أطروحة جامعية
على الخط)، والأرشيفات المفتوحة، ومكتبة قطر الرقمية التي وضعت على الخط ما يناهز
نصف مليون مؤلف ووثيقة، وما إلى ذلك مما يوجد في الشبكة ويستحيل عمليا الإحاطة به،
ناهيك عن آلاف الأشرطة السمعية البصرية لمحاضرات وأعمال كاملة لندوات، وما إلى
ذلك.
بخصوص سلوك المثقفين والمبدعين المغاربة مع شبكة الإنترنت، يُلاحظ ارتفاع مطرد في
الأعوام الأخيرة، إذ تزايد عدد المواقع الشخصية لأدبائنا ونقادنا، وكذلك أسماء
الملتحقين بشبكات التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها الفيسبوك. وهي ظاهرة صحية عموما.
وإن أمكن إبداء ملاحظات عليها، فأهمها ولوج الشبكة بذهنية الورق، كالسعي إلى
العَلَمية (من علَم)، من خلال الحضور في صفحات وتجمعات عديدة حضورا بالاسم من دون
تجاوز ذلك إلى المساهمة النوعية في هذه الاحتشادات… ثم قبول آلاف طلبات الصداقة،
بحيثُ تتحول قائمة العضو إلى حشد من الأسماء الموجودة كتماثيل ميتة في غياب أي
تواصل مرئي ومفيد. من المأمول أن يتجاوز الأدباء والكتاب ذلك إلى الإسهام الثقافي
الفعلي في الشبكة، عبر وضع كتاباتهم بنصوصها الكاملة رهن إشارة القراء العرب، على
غرار أعلام غربيين كبار.
لمن شاء ملازمة التردد في ولوج العالم الافتراضي كامل الحق في ذلك. فقط عليه أن
يعي بأنَّ كتاباته قد تتجه تدريجيا إلى أخذ ما يمكن تسميته بـ»الوضع الاعتباري
للإخوانيات»، بمعنى أنَّ دائرة قراءته ستلازم مُجايليه وستنتهي بنهايتهم، وستتقلص
في المستقبل بسبب صعود جيل جديد، هم صغار اليوم الذين ينشأون اجتماعيا في ظل أجهزة
إلكترونية ورقمية، وقريباً سيتلقون تعليمهم في حواسيب رقمية… إذا كانت غاية المرء
مما يكتب وينشر تتجاوز المردود الآني إلى الانهمام بحياة الأدب والفكر والثقافة
عامة والإسهام فيهما، فلا أظن أن ثمة مجالا للحياد اليوم تجاه ما تفعله الثورة
الرقمية بالأدب والثقافة والإنسان. وأيّا كان الموقف المتخذ، يجبُ إبداؤه من داخل
الشبكة. أما إذا كانت غاية الإنسان من الكتابة والبحث هي أن يعيشَ يومَه، أي بمنطق
«ومن بعدي الطوفان»، فتلك مسألة أخرى، وله واسع النظر.
صوت آت من الطفولة
■ تهتم في كتاباتك الأدبية والفكرية بموضوعات
مغايرة كالألم والجنون والسحر وغيرها، أي مسوغات لطرح هذه الموضوعات مجالا للتفكير
والإبداع؟
□ يعود
الانشغال بالسحر إلى الطفولة، حيثُ كانت الوالدة تحثني على الاحتياط من غرباء قد
يكلمونني في الشارع، فتقول: أنت «زُهري» (في صفحة كفّك خطان أفقيان متوازيان
كسطرين)، والزُهري يطلبه السحرة، ليذبحوه ويستخدموا جثته في إخراج الكنوز. ربما
كان هذا الصوت الآتي من الطفولة هو ما أخذ شكل انشغال معرفي لاحقا.
أما الموت، فيعود الانشغال به إلى أنَّ منزل الطفولة يقعُ قرب مقبرة، لم تشكل ساحة
للعب اليومي فحسب، بل كانت كذلك مسرحا لمشاهدة مواكب الجنائز يوميا، ما كان يتيحُ
لنا، معشر الأطفال، مرافقة المواكب إلى القبر، والاندساس بين الكبار، ومعاينة كل
تفاصيل الدفن، حتى إذا انصرفوا انفردنا بالقبر، سعيا لسماع «محاسبة الملاك عزرائيل
للميت»…
أثناء إنجاز بحث جامعي في السحر، وقفتُ على تقاطع السحر بالموت والجنون، فقرأتُ
كثيرا في الموضوعين الأخيرين، فبدا مفيداً أخذ مسافة من المقروء لإبلاغ صوت الذات
مُجرَّدا من خطاب البحث العلمي الذي يبقى مجرَّد اجتهاد تتقلب نتائجه بتقلب مسيرة
العلم (على سبيل المثال لعلوم أعصاب الدماغ اليوم رأي آخر في تفسير السحر والجنون،
بل وحتى العواطف) فيما يتيح الأدب أخذ مسافة من العلم والاتجاه نحو الأسئلة
الكبرى…
ابتعدتُ اليومَ نسبيا عن هذه المواضيع، لا لفقدان أهميتها، بل فقط للانشغال
بالتحولات الأدبية والفكرية والثقافية عامة (بالمفهوم الأنثروبولوجي «لاصطلاح
الثقافة»). فالتطور المذهل الذي تعرفه علوم تكنولوجيا النانو البيوتكنولوجيا
والمعلوماتية والذكاء الاصطناعي والعلوم المعرفية يؤشر إلى وشك ارتقاء النوع
البشري مرتبة أخرى في سلم تطوره البيولوجي والثقافي، باستخدام العلوم الآنفة.
وموضوعات السحر والألم والجنون، وكل ما يدخل ضمنَ الإنسانيات يتوقع له أن يعرفُ
تراجعا كبيرا في العقود المقبلة بسبب التطورات الآنفة. إن كان المرءُ قاعدا في
بيته، ثم سمعَ أصوات آليات تهدمه من الخارج لا أظن من اللائق البقاء بداخله، يجب
الخروج لمعرفة من يهدمه ولماذا. هذا ما يخيل لي ما يجري الآن.
■ يصف أحد
النقاد كتاباتك الأدبية بأنها ترفض التجنيس، ويؤكد أنك نفسك ترفض التموقع في خانة
جنس أدبي معين. لماذا هذا الاختيار؟
□ التجنيس
مهمة نقاد الأدب ومنظّريه، والكتابة سابقة على التنظير، ومن حق المرء أن يكتب
بالشكل الذي يناسبه ليُخرجَ ما يعتمل بداخله، شريطة أن يعمل ما أمكن على توفير
مواصفات تتيحُ له أن يقدم ما كتبه باعتباره نصا أدبيا، كالتلميح بدل التصريح
والرمز والاستعارة والخيال والتكثيف والتصوير، وما إلى ذلك. علما بأنَّ هناك خيوطا
رفيعة تربط بين فن الكتابة وسائر فروع ما يُسمى بالعلوم الإنسانية، لاسيما
الأنثروبولوجيا والاجتماع والنفس. متى توفرت مثل هذه العناصر في نص من دونَ أن يسع
كتابتها أحد الأشكال المتعارف عليها التي يحدَّدها النقد، فمن حق المرء أن يقول:
«هذا سرد» وكفى. ذلك ما تمَّ القيام به في «حديث الجثة»، و»سفر المأثورات»، و»كتاب
الفقدان»، في حين تمَّ التنصيص على روائية «بالعنف تتجدد دماء الحب» لحضور مكونات
من الجنس الروائي.
الترجمة جسر للّحاق بالعصر
■ ما الذي قادك إلى الولع بمجال الترجمة، وكيف
يمكن أن تشكل قيمة مضافة للثقافة المغربية؟
□ قد يعني
القول بكون الترجمة قيمة مضافة أنَّ ما يُكتبُ محليا كاف، وما سيترجم سيشكل زيادة
وإغناء له. ربّما يصدق هذا على الإبداع إلى حد كبير (كالرواية والشعر، وغيرهما)،
ولكن فحص ما يُنشر في مجال البحث، في العلوم الإنسانية بالخصوص، يدعو إلى ضرورة
أخذ الترجمة جسرا للّحاق بالعصر؛ فمعظم ما يُكتب عندنا لا يرقى إلى نظيره في
اللغات الأخرى. ويكفي المقارنة بين الرسائل الجامعية، بل حتى بين بحوث الإجازة
المنشورة اليوم إلكترونيا في مواقع جامعات غربية ومعظم ما تعرضه أكشاكنا
ومكتباتنا، لإدراك حجم الفارق بين إنتاجنا وإنتاج الآخرين والوقوف على أنه يلزمنا
الكثير والكثير من الترجمة لدخول العصر والعزف على نغمه. من هذه الزاوية، تصيرُ
الترجمة مسألة حيوية، لكن شريطة انتقاء النصوص وضمان قراءتها ومردوديتها. على سبيل
المثال، ترجمَ كتاب «صدمة المستقبل» لألان توفلر، إلى اللغة العربية منذ عام 1974،
ولكن لم يكن له أي أثر يُذكر في عالمنا العربي معَ أنَّ هذا الكتاب شكل نبوءة
حقيقية أثبتتها الثورة الرقمية صدقها اليوم.
■ إلى أي حد
يمكن الحديث عن وجود وضع اعتباري للكاتب والمثقف المغربيين، برأيك الشخصي؟
□ منزلة
الكاتب من مستحدثات العصر الحديث وإحدى نتائج اختراع المطبعة في أوروبا، حيث
استثمرت البورجوازية في مجال الكتابة. أما المثقف، فقيمة ظهرت في أوروبا في القرن
العشرين. تُمنَحُ صفة الكاتب هناك للشخص الذي «يتفرد» بامتلاك قدرة استعمال اللغة
المكتوبة بمواصفات معينة، فيُعطى حق مخاطبة الحشود (جمهور القراء) بالكلمة
المكتوبة فيما يتعينُ عليهم أن يُنصتوا إليه (يقرأونه). أما الثانية، أي صفة
المثقف، فظهرت هي الأخرى في أوروبا في مستهل القرن الماضي، وينالها الفرد عموما،
بالاستثمار زمنا طويلا في القراءة والتعلم إلى أن يتجمَّعَ له رأسمال رمزي يمنحه
هو الآخر سلطة رمزية للفعل في المجتمع بشكل لا يُرى بالعين المجرَّدة.
نحنُ نعيشُ في تاريخ آخر مختلف، يمكن وصفه بأنه «هجين»، نصفه استمرارٌ لتطور
مجتمعنا بإيقاعه المحلي والطبيعي، ونصفه الثاني إيقاعُ تطور فرضه علينا الغربُ
بالأمس، من خلال الاستعمار، وتفرضه علينا اليوم حركتان كونيتان، هما العولمة
والثورة الرقمية. لقد أدخل الاستعمار المطبعة، ولكن قبل أن يَنجمَ عن مُخترَع
جتنبرغ تشكُّلُ قاعدة واسعة من القراء، وقبلَ أن تكتمل نشأة مؤسسة صناعة الكتاب
بكل حلقاتها، وقبل ظهور الكاتب بمعناه الحديث… ها هي الثورة الرقمية تُداهمنا
مُطالبة منا إغلاق الورشة الآنفة وفتح أخرى جديدة يجري فيها الحديث عن نهاية
المؤلف، ونهاية الكتاب، وما إلى ذلك. والحالة هذه، لا يمكنني إلا أن أتساءل معك عن
معنى الكاتب في مجتمعنا، وعن جدوى الحديث عن «وضعه الاعتباري» في الحركية التي
يشهدها المجتمع ككل. وما يقالُ على الكاتب يصدق على المثقف، في سياق يجري فيه
الحديث عن نهاية السياسة، ونهاية المدرسة في نسختها الأولى…