إن أطروحة الكتاب، كما هو وارد في تقديم البروفيسور م. تييه، هي أن الشأن السياسي بالنسبة لابن المقفع، لا يستمد مبادئه من الدين، وإنما هو شأن دنيوي (مؤسسة إنسانية). ويؤكد ذلك حضور مفاهيم من قبيل (الدولة، التقنين، العقل، الخاصة، العامة) بدلا من مفاهيم (الأمة، الخلافة، الشريعة). وفي نفس السياق تتم الاستعاضة عن ثنائية (مؤمن / كافر) بثنائية (حاكم / محكوم). وإذا كان التمييز بين الحاكم والمحكوم حاضرا في التراث الفكري اليوناني (أفلاطون وأرسطو)، فإن ابن المقفع يبدو شديد الانشغال بإقامة سياسة عملية أكثر منها نظرية. وللدنيوي عنده الأولوية على ما هو روحي. فالحكم المرتكز على العقل يرتكز أيضا على النظام والضرورة. وحجج الدليمي في تبرير أطروحته لا تقف عند حدود الاستشهادات النصية[2] وإن كانت تستند إليها، بل تمارس نوعا من التأويل لوصايا عملية اتخذت من صورة نصائح موجهة للأمير. فما الذي يسمح بافتراض العقلانية في كتابات ليست منهجية وليست منظمة؟
في القسم الأول من الكتاب، يرصد حميد الدليمي عقلانية ابن المقفع من خلال تصوراته لأسس السلطان وطبيعته وأشكاله. فالسلطة السياسية، باعتبارها شأنا دنيويا، يجب أن تتأسس على العقل لأنها ضرورة تفرضها مصلحة الجماعة. وتقضي هذه المصلحة مناهضة الفوضوية والعنف من أجل استتباب الأمن الذي بدونه يتعذر تحقيق السعادة.
وعلى الرغم من أن السعادة ظلت مرتبطة عند المفكرين المسلمين بمقاصد الشريعة، فإن شرعية الدولة والمجتمع تقتضي طاعة الناس (العامة) للإمام. ويتعين على الإمام أن يستجيب لتطلعات العامة والمهام المرتبطة بمرتبته ارتباط السعادة بالضرورة والنظام. كما يتعين على السلطان أن أن يقوم بتربية شعبه لتجنب انحلال الرعايا وضمان استقرار النظام. وللطبقة السياسة (النخبة) دور اعتبار داخل نظام تراتبي يتألف من الحكام والجيش والفقهاء. وهذا التقسيم لا يحيل على أي اعتبار ديني. ولا يزعم حميد الدليمي بأن هذا التقسيم يتماهى مع التقسيم الأفلاطوني الذي يفترض العدالة فينظام تراتبي منسجم شبيه بالنظام النفسي. إلا أن ابن المقفع لا يشعن هيمنة طبقة على أخرى. ومسؤولية النخبة التي يجب إلغاء مركزيتها تشمل استنكار تجاوزات السلطة السياسية. وتصنيف ابن المقفع لأشكال السلطة السياسية يخضع لمعايير أخلاقية وعقلانية، سواء أكان «السلطان مشيَّدا قديما أو حديث النشأة (ملك الدين / ملك الحزم / سلطان الهوى). وتكامل السياسي والأخلاقي يتمفصل حول المعيار الاقتصادي الذي يدعوه ابن المقفع (المعاش). وتأسيس الدولة عند ابن المقفع لا يكتمل إلا بحضور البعد الإيديولوجي الذي يسمح بنفاذ الدولة إلى عمق كل فرد[3]. والشأن السياسي ترافقه فكرة تخليق الدولة؛ فوظيفة الدولة تجمع بين الدفاع، من جهة، وبين توزيع الثروة الاجتماعية بكيفية تجنب إفقار الرعايا. وهذا يقتضي تقوية الرعايا وتقوية الجيش. وإصلاح الجيش لا يستند إلى تعليم عقائدي، وإنما يحتاج إلى تحسين شروط العيش ومكافحة الأمراض الطفيلية للدولة بفضل مصالح الاستخبارات. وإنشاء هذه المصالح لا يولد العنف إلا عندما تفسد عناصر هذه المؤسسة. لذلك وجب حسن اختيار الأشخاص الذين سيشغلون هذه الهيئة.
ويتجلى الطابع العقلاني فيالعلاقات التي يقيمها ابن المقفع بين الدولة وبين ما تنهض به من مهام بخصوص المجال الترابي والسكان وتدبير الموارد وعدالة النظام الضريبي. وتقنيات النظام الضريبي ترتبط باستقرار الدولة.
وبخصوص علاقة الدولة بالإيديولوجيا[4]، فإن سيرورة التاريخ في اتجاه الفصل بين الشأن الديني والشأن السياسي[5] أوجدت نقطا مشتركة بين الدين والعقل. وقد استدعى هذا عنصرا ثالثا هو الأخلاق. والأخلاق هي العقل والدين ممارسين في اليومي. وابن المقفع يعترف للعقل بنفس الوضع الاعتباري الذي يتمتع به الدين، ويرى فيه وسيلة لتحقيق السعادة في الحياة الدنيا. فالعقل يتطور والدين ثابت لا يتغير.
كما أن علاقة الدولة بالقانون تستدعي إصلاح الإطار التشريعي والقضائي بصورة تعطي الأولوية للقانون على الدولة.
وفي القسم الثاني من الكتاب، يتناول حميد الدليمي مشروع ابن المقفع في سياق علاقة الأخلاق بالسياسة. وتبني ابن المقفع للملكية كنظام وحيد، يترتب عن أوضاع تاريخية قديمة جدا، طرحت الحاجة إلى وجود ملك قوي وحكيم، ويترتب كذلك عن طبيعة السلطة السياسية التي لا تقبل الاقتسام. فاقتسام الحكم شبيه باقتسام الزوجة. ولتخليص الملكية من غموضها الإيديولوجي، وجب تصورها تصورا وظيفيا؛ فالملك رجل يمكن تفوقه في عدالة فعله. والملكية فرضت نفسها تاريخيا لأنها استجابت لحاجيات الشعب. ولا يفوت الدليمي أن يثير الانتباه إلى الصورة المثالية للأمير عند ابن المقفع. فهو فيلسوف ومثقف وحكيم، ويتمتع بصفات هي قيم للأمير أخلاقية (العدل – الكرم – الشفقة)، وصفات هي كفاءات عملية (سداد العمل – المواظبة – الخبرة…). وتعيين الأمير يكون من باب تجنيب الدولة الخراب، لكن ابن المقفع سرعان ما يبدد هذه المثالية عندما يفترض بأن الأمير النموذجي هو مجموعة من الأفعال ترسم صورة أخلاقية لما يتطلبه حكم المجتمع، وتجعل من العدل معطى أساسيا في تكوين الأمير المثال. والعدل يستوجب حماية من يعاني من شروط مزرية[6]. والعدالة فضيلة سلطانية علاوة على أنها حاجز ضد الاستبداد. وحضور الأخلاقي عند ابن المقفع يسمح له بأن يرفع أشكال السلطة إلى ما يشبه المستوى الفلسفي… فقابلية الإجتماع هي الخاصية التي يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات. وللاجتماع، كما هو مؤكد في متون «كليلة ودمنة»، يتصل بأبواب الحكمة والعفة والعقل والعدل.
والأبواب جميعها تتصل بالصالح العام. وإذا كان حميد الدليمي يتحفظ من وجود نظرية فلسفية عند ابن المقفع، فإنه لا يتردد يف التصريح بنزعة مادية صريحة؛ فالفقر معادل للموت، والموت يفضل على الفقر. والتصورات والطبائع والسلوكات تتنوع حسب ما إذا كان المرء غنيا أو فقيرا. ويتعذر تنظيم الحكومة بدون الاعتماد على معايير أخلاقية؛ فأعضاء الحكومة «وزراء – ولاة – أعوان» ليسوا مجرد موظفين أو متعاونين، وإنما هم صحابة للأمير وبدائل له. ويتوجب على الصاحب الكامل ألا يفشي أسرار الملكية، كما يتوجب عليه أن يكون أمينا بعيدا عن النفاق والرياء، ومتمتعا بمرونة ومنزها عن سكر السلطة والمال والشباب. والحكيم الفعال (المثقف المناهض للظلم) يندرج تصوره ضمن منظور شمولي مغاير للمنظور الديني، وهو في الوقت نفسه منظور أصيل لا يكتفي بإعادة إنتاج نماذج موجودة قبليا.
إن كتاب حميد الدلمي لا يراهن فحسب على إعادة الاعتبار لرجل أريد له أن يقبع يف الظل، وإنما يراهن أكثر على طرح الحاجة إلى إعادة كتابة تاريخ السياسة، مع ما يستتبع هذه المحاولة من توقع مقاومة شرسة من قبيل الفقهاء السياسيين. وعبد الله ابن المقفع الفارسي الأصل والأرستقراطي الممثل «للأفستا» و«مرايا الأمراء» و«نموذج الشاهنشاه الفارسي» هو في الوقت ذاته المثقف المسلم الذي نشأ في التقليد الإسلامي وفي كنف اللغة العربية، وأبى أن يتم استخدام الدين لأغراض سياسية. فأثر التعبير عن أفكاره بعقلانية محجوبة بغطاء الخرافة، بيد أن ذلك لم يحل دون دفع حياته ثمنا لالتزامه. إن تجديد النظرة إلى نصوص مشتتة ظاهريا وذات صبغة أدبية يسمح بإعادة مقاربة مفاهيم سيتم استخدامها فيما بعد في سياق ثقافي آخر من طرف مفكري عصر الأنوار الأوروبيين (الحق – الحرية – الطبيعة الإنسانية – النظام السياسي).
إن صدور كتاب حميد الدليمي يتزامن مع صدور كتاب عبد الله حمودي «الشيخ والمريد»[7]. والمشترك بين الكتابين، رغم الاختلاف المتعددة بينهما، هو حضور إشكالية السلطة ليس بوصفها موضوعة نظرية، وإنما باعتبارها واقعا سياسيا له جذور ثقافية تاريخية. وذاكرة السلطة السياسية يف هذا السياق ليست ماضيا مطلقا بقدر ما هي شرعنة للحاضر السياسي ولديمومته، فضلا عما يمكن أن تمدنا به من إمكانات تسمع باستشراف المستقبل. ومن المؤكد أن لهذا الانشغال السياسي لدى المفكرين المغاربة مبررات متعددة، لكن هذه المبررات لا تنحصر في المستوى النظري فحسب، بل تتصل كذلك بطبيعة السياسي كملتقى لتقاطعات اللغة والدين والأخلاق والاجتماع في وجوده التاريخي.
(نشر هذا المقال، في الأصل، بجريدة «الاتحاد الاشتراكي»، السبت 18 مارس 2000، العدد 6064)
——
هوامـش
[1] الكتاب، في الأصل أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه في الحقوق (جامعة باريس الثامنة)، نقله إلى العربية محمد أسليم، سنة 1999، وصدر عن سندي للطباعة والنشر والتوزيع، في 142 ص.
[2] يمكن للقارئ أن يعود إلى الاستشهادات الواردة في الكتاب إحالاتها المرجعية.
[3] يستعمل المؤلف مفهوم «الاستدخال» بمعناه النفسي.
[4] يستعمل المؤلف تحديد م. روبان للإيديولوجيا باعتبارها مجموعة من المبادئ باسمها يعمل الفاعل السياسي على تعبئة أعضاء المجتمع لدعم قرارات واضحة تبدو له ضرورية.
[5] يشير المؤلف إلى أن هذه السيرورة بدأت منذ عهد الأمويين. وف يأصل هذه السيرورة توجد مصلحتان: مصلحة دينية تريد الحفاظ على النفوذ الواحد والوحيد للدين، ومصلحة مؤسساتية / سياسية تريد توسيع دائرة الشأن السياسي دون أن تزعم تقليص الشأن الديني، انظر ص. 66 و67.
[6] محمد أسليم يترجم الجملة الفرنسية إلى «إنسان الشرط الوضيع»، وهي ترجمة لا تخلو من التباس. ونفس الملاحظة تصدق على الجملة التي ترجمها إلى «الأمير وضعفه». وربما كان الأقرب إلى الصواب هو «الأمير وبديله»، والمترجم يعني هذا الالتباس بدليل احتفاظه بالمقابل الفرنسي للجملتين ومفاهيم أخرى.
[7] عبد الله حمودي، الشيخ والمريد»، نقله إلى العربية عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، ط. 1، 2000.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: السبت 08-09-2012 10:39 مساء