Notice: _load_textdomain_just_in_time تمّ استدعائه بشكل غير صحيح. Translation loading for the amnews domain was triggered too early. This is usually an indicator for some code in the plugin or theme running too early. Translations should be loaded at the init action or later. من فضلك اطلع على تنقيح الأخطاء في ووردبريس لمزيد من المعلومات. (هذه الرسالة تمّت إضافتها في النسخة 6.7.0.) in /home/aslim/public_html/wp-includes/functions.php on line 6114
محمد أسليم: سِفـرُ المأثـُـورَات (4) – محمد أسليـم

محمد أسليم: سِفـرُ المأثـُـورَات (4)

1183 مشاهدة
محمد أسليم: سِفـرُ المأثـُـورَات (4)

إذا كنتَ حِواريا طورُوبريَّانديّا وفطنتَ إلى أن المرأة السابقة بضربها إياك إنما كانت تنتقم من قريبة لكَ ثم ظننتَ أنه يمكنك الخلاص من ضَربات دبُّوسِها بالاحتجاج عليها كأن تصرخ في وجههَا قائلا: «لا يُعقل أن تضربينني لأنني أدَوِّنُ نُصُوصَ «الطّالوكِيمِينِي» بسرعة البرق مع أنكِ تعلمين عِلم اليقين أن ما لقنني شيُوخي طيلة السنوات العشر التي قضيتها في التكوين إلاَّ سُرعَة الكتابة وأنني لم أكتسِب هَذِه القدرَة إلا ببركة ما نفثه الإلهان السُّولُولُو والوُولُولُو في يديَّ…»، إذا ظننتَ ذلك أخطأتَ لأنَّ المرأة مَا تسمَع كلامَك ذاك حتى تزبد غيضا وتجرُّكَ من يديك وهي تقولُ لك: «تعَالَ نتحقق من زعمكَ ونختبرك إن كنتَ من الصَّادقين. لكن قبل ذلك، فلننظُر أوّلاً ما أحدثتهُ كلماتك من خسائر»، فتطوفُ بكَ في شوارع المدينة وأزقتها وأسوَاقها وكنائسها، ومَا من آفةٍ شاهَدَتها إلا ونسَبتها لك: فإن رأتْ متسوِّلا قرَّعَتْـكَ وعَنَّفتكَ قائلة: «أي ذنب ارتكبه هذا المسكين لتحوله بين عَشية وضُحاها إلى شحَّاذ؟ فقبلَ أن تنطقَ بكلماتك كَان من أكابر تجّار أهل البلد، وكان صَاحب إبل ونخيلٍ وقصور وحَشم وخَدم…، ولمـا قلتَ ما تجرَّأتَ على قولِهِ لم يفطن لنفسه إلا وهو مَرمِيّ في الطرقات يتسوَّلُ!»، وإن شاهدتْ سُورا محطما أو مَدرسَة دشَّنها راهبٌ توّا وأمرَ بهدمها قالت لكَ: «مَا كان هذا السُّور الأثريُّ العظيمُ ليسقط، وما كانت هَذه المؤسَّسَة الأثرية النفيسَة لتهدَّمَ لو لم ترمِني بما رميتَني به لما اتهَمتَني بأنني أنتقمُ من قريبتك»… إلى أن تجلسَكَ بين أيدي مَشايخك القدَامَى فتسألهم وهيَ تغمزهم محرِّضَة إياهُم كي ينقلبُوا عليكَ: «قد زعَمَ هذا الحِوَاريُّ أنكم، مَعشر المشايخ، ما لقنتمُوه طلية السَّنوات العَشر إلا سُرعة الكتابة، وتجاوَزَ ذلكَ إلى إتيان ذنبٍ عظيم، فافترَى على الإلهين وقالَ: إنَّ السُّولولو والوُولُولو نفثا في يَديه كي يكتسبَ القدرةَ على ملء صَفحات الطَّالوكيميني بسُرعة البـرق! أصادقٌ هُو في ما يدَّعيه أم كاذبٌ؟»، فما تكادُ تنهِي كلامَها حتى ينقلب القومُ عليكَ ويغلظون الأيمانَ بأنهُم ما علمُوك إلا فنون الإبطاء في الكتابة وأنَّ الإلهين مَا نفثا في يد أحدٍ إلا وصَارت أبطأ من سُلحفاة. فإن قبلتَ كلام شُيوخك جرَّتكَ المرأة من أذنيك وعادتْ بكَ إلى الفصل لتستأنفَ عقابك وتواصله إلى أن تترككَ جُثة هامدة وتنفضَ يديها منكَ، وإن أنت رفضتَه، كأن تقول: «هَذا غير معقول، إني ما أراكم عليَّ إلا مُنقلبين لأنَّ سَائلتكُم غمَزَتكُم، وقد رأيتها بأم عيني هاتي تفعل ذلكَ…»، أطلقَ الجمعُ ضجَّة عظيمة وهُم يتسَاءلون: «ما مَعنى الغمزُ؟! هه؟! ما معنى الغمزُ؟!»، فيُلفقون لكَ حالا تُهمَة الزَّندقة لأنَّكَ تكون حينئذٍ قد أحدثتَ كلمة – إسما جديدا، والحال أن المأثورة الطُّورُوبريَّانديَّة تقول:

«لو أحدثتَ من الكلمَاتِ والأسماء ما لو جعلتَه في كفَّةٍ وجعلتَ الأرضَ في أخرَى، ورجَحتْ كفَّة الكلمات وما رجحَت الأخرى لما أحدثتَ مقدار قطرةٍ من بحرِ الكلماتِ والأسماء التي خلفها لك أجدادُك».

وبذلك تُسَاقُ إلى محكمةٍ لتُحاكَم ثمَّ تُعدَم حرقا أو شنقا.

*

*             *

إذا دفعكَ ما سَبَقَ إلى الاعتقاد بأن أسهل ما يمكِنُ للمرء الطُّورُوبريَّانديِّ أن يقومَ به هو أن يزعم أنه أحسَّ بوجع في رأسه أنبأه بأنه صارَ «زَالام بُوبُو»، فيحمِلُ دبُّوسا ويتجه إلى المؤسَّسَات التعليمية ليُهَشِّمَ رُؤُوس من يَكره من الحِوَاريين أخطأتَ. فلهؤلاء من الذَّكاء ما يجعلُ في بعض الأحيان من المستحِيل على المرء أن يصِلَ إليهم مَا لم يُنقذه وحيٌ أو اختراعٌ بديعٌ، ولذلكَ فالطُّورُوبريَّانديُّون يقولون: «طوبَى ثمَّ طوبَى لمن رَامَ رأسَ حواريّ وأطاحَ به في أقلَّ من يَوم واحدٍ». وبالفعل، يحدُث أن يصلَ «الزَّالام بُوبُو» إلى فصلٍ دراسيّ فيقولُ في خاطره: «لن ينقطع يومان إلا وقد وجدتُ ما يستوجبُ قتل شبه الآدمِيِّ هذا، الذي يدعُونه حِواريّا»، غير أنَّه قد يقضي أسبُوعا بكامله وهُو يقرأ كتاب «الطَّالوكِيمِينِي» حَرفا حَرفا تحت مجهر رصدِ الكواكب والمجرَّاتِ فلا يجد في السِّفر أقل هَفوة، فيعدُّ مسحُوق المسخ ويتهيأ للنّفث في الشيء المستخلَصِ اسمُـهُ ليحوِّله إلى شيء آخـر، إلا أنه يجدُ الحواريَّ واقفا له بالمرصادِ، إذ يلازم الأشياءَ / مواضيع الدُّرُوس طالما «الزَّالام بُوبُو» في القسم ولا يسمَح له بالاقتراب منهَا قيد أنملة. وبذلكَ يقضي المحتسبُ أسبوعا أو أسبوعين دون أن يفلحَ في الإيقاع بغريمه، فيستولي عَليه اليأسُ ويعمدُ إلى تقنية الأسئلة، فيسألُ الحوَاريَّ عن السَّمَاء، والأرض، وأحذِية التَّلاميذ، ودُور الكراء، وحَانات اللهو، ومواخير المدينة، وبَيض الأفاعي، والنسَاء المطلقات، وأسماء المواليدِ الجدُد… فإذا بالمسئول يجيبُ بمنتهى الدِّقَّة عن كلِّ ما يلقى عليه، فلا يملك «الزَّالام بُوبُو» إلا أن يطأطئ رأسَه مُعقِّبا: «نعم. طيِّب. أحسنت. هو كذلك…». وهكذا تتواصلُ لعبة الهرِّ والفأر بين الاثنين عَلى امتدادِ أسابيع أو أشهر، فلا يُوقفها إلا وَحيٌ ينزَّلُ على الحواريّ تنزيلا، فيضحكُ إلى أن يستلقي على قفاه، ثم يدُسُّ لمحاوره سُؤالا-فخّا بارعا كأن يقول له: «لن يجادِلَ أحدٌ في كونك حِوَاريا ممتازا. فقد أجبتَ بمنتهى الدِّقَّة عن كلِّ ما سألتُكَ عنه حتى السَّاعة. غير أنه أوحِيَ إليَّ أنَّ ما سبق كله لم يكُن سوى تمهيدٍ للسُّؤال الحاسم الذي يتوقف عليه مَصيرك»، ثمَّ يجهِّزُ الدَّبوس ويطرح سُؤالا مثل: «أنتَ تخالفُ بني البشر قاطبة في كونك تتنفسُ من أنفكَ مع أنكَ تعلم علم اليقين أنَّ الأنف خلِقَ للسَّمع وليسَ للشَّمِّ، فلماذا خرجتَ عن الإجماع؟»، أو يلتفتُ إلى ذقن الحِواريّ، فإن وجدَهُ حليقا صَاح في وجهه: «لماذا خرجتَ عن القوم بحلق لحيتك؟»، وإن وجده ملتحيا صرَخَ في وجهه: «لماذا قصَصتَ عقلَكَ وعَفيتَ لحيتكَ من بين النـاس أجمعين؟»، وبذلكَ يوقع غريمه في الفخِّ ويثبُ على رأسه. وإذا صدَف أن اهتَدَى الحِوَاريّ إلى جَوَابٍ دَامغ، فإنه يستحيل على «الزَّالام بُوبُو» أن يثب على رأس الحواريّ ما لم يتلقَّ وحيا جديدا، يتلقاه، مثلا، كأن يُقعِي مثل كلبٍ ثمَّ يشرَعُ في النباح قائلا: «والآن أجبْ عن هذَا السُّؤال: «عَّوْ عَوْ عَوْ؟»، وآنئذٍ مهما يَقل الحواريُّ فإنه لا يتلقَّى إلا ضرْباتٍ على أمِّ رأسه. فإن تكلم باللغة البشريَّة ضرَبَهُ «الزَّالام بُوبُو» وهو يرفق كل ضرْبَة بالنُّباح: «عَّوْ عَوْ!»، وإن أجابَ بالنباح ضربَه المحتسبُ معنفا إيَّاه بكلامٍ بشريّ: «طلبتُ منكَ أن تجيبَ عن السُّؤال ولم أطلب منك أن تعِيدَهُ عليَّ، فأنا أعرفه حق المعرفة بما أنني أنا الذي طرحته عليكَ وليس أنت!، وفوقَ هذا كله، فإنكَ – بخلافي – لا تملكُ الحق في طَـرح أيّ سـُؤال عليّ»…

*

*             *

إذا سألتَ أي طُورُوبريَّانديٍّ، وإن كان مجرَّدَ طفل في سنِّ الرَّضَاعة، عن سبب ضربه للحواريين أو وجَّهتَ له لوما عن سوء مُعاملته إياهم ضحِكَ من قولتك كثيرا ثم رَوى لكَ أسطُورَةَ أصل «الزَّالاَم بُوبُو» التي تقول إحدَى رواياتها:

«فِي البَدءِ كَانَ الحوَاريُّ إِذَا حَانَ أَجلُ استلامه القسمَ عقدَ معـه السَّاحر جلسة طويلة تستغرق ثلاثة أيَّام يلقنه طيلتها مجموعةً من الأوَامِر والنَّوَاهِي، حتى إذا آنَ أوانُ انصرافه قال له: “اعلم أنَّ لي عيونا وآذانا تأتيني بكلِّ ما أنـت فاعلـه، فيمكنني أن أرَاقبك وأنتَ تأكلُ، أفتشكَ وأنتَ نائمٌ، أحَاسِبك وأنتَ فوق زَوجَتِكَ…، لأنَّكَ لاترَانِي وأرَاكَ”. ولم يكن هذا الكلامُ أكثر من محض ادِّعاء، وهو ما لم يبطـئ الحواريون في إدراكِه، فكانَ الواحدُ منهم ينصتُ لقول السَّاحر، ويقولُ: “نَعَم سيِّدي. حاضر سيدي. سأكون عندَ حُسن ظنِّ سيدي…”، ثم  ينصرف إلى القسم، فلا يعمل بداخله إلا ما طاب له، فكانَ يصرف ثلاثـة أيام مَع التلاميذ في الضَّحكِ والغناء والرقص وقصِّ الحكايات والنُّكت والأحَاجي دُون أن يمهد للدرس أو يسألَ أي تلميذٍ أو يكسر أيّ رِجْل… حتَّى إذا حلَّ مسَاء اليوم الثَّالث كشفَ لهم عن الاسم – اللغـز وأمرَهم بتدوينه في دفاترهم، ثمّ قال لهم: “إذا غادرتم المدرسة وسألكم أي كان عما فعلناه داخلَ الفصل فقولوا له: ضرَبَ المعلمُ كذا تلميذا، وكسر كذا أنفا، وهشّمَ كذا رأسا، ثمّ قام فلانٌ بن فلان الساكن بالحي الفلاني، زنقة كذا، رقم كذا…، فقالَ: هذا كذا، فانتهى “طقس التعذيب التمهيدي”، ثمَّ أرانا الأستاذ شيئا يُشبه كَذَا، فقضينا ثلاثة أيَّام في الأخذ والرَّدِّ، فزَعَمَ فلانٌ أنه كذا، وقال فلانٌ إنه كَذا…، وقرأنا نشيد كذا على ذِكر كذا، ورقصنا رقصَة كذا عَلى ذِكر كذا، وتوَّضَأنا كَذَا مرة على ذكر كذا… ثم كشفَ عنه الحوَاري فإذَا هو كذا…”. وبتلكَ الطريقة كان الحواريون يفلحُون في إيهام أهلِ الأمر بأنهُم يعطون دُروسا فعلا، ولم يكن بمقدرَة أي ساحر أن يضبطهم متلبسِين لأنه متى داهم الحِواريَّ بزيارة مُفاجئة وجَدَ كل شيء على أحسن ما يُرام، ومتى تفحصَ “الطَّالوكِيمِينِي” وجدهُ مملوءا عن آخره بمنتهى الدِّقة والعناية، ومتى سَأل التلاميـذ عند خرُوجهم من المدرَسَة قالوا له ما أوصاهم الحواري بقوله وأرَوه ما بأرجُلهم ورُؤوسِهم من كسُور وهمية. فبقيَ الحالُ على ما كان عليه إلى أن ضجت المدينة ضجَّـة عظيمة لما أصَابه الحواريون من ثراء فاحش ومن طُول قامات وسمنـة أبدان وكثرة أموال، فجاءَ ساحرٌ داهية محتالٌ لم يزر فصلا ولم يتفحَّص “طالوكيميني” ولم يسأل تلميذا، بل عمد إلى حواري وقالَ له: “هَاتِ عَصَاكَ”، ثم انصرفَ، فما مضَى يومٌ واحدٌ حتى جاءت الشرطة وجلدَت الحواري إلى أن أقر بكل ما نسبه إليه الساحر، فلما اتَّضَحَ أن ما نُسِبَ إليه كان في مُنتهَى الدّقة سُئل الساحر: “كيـفَ عرفتَ هَذا كلَّهُ عن بُعد؟”، أجابَ: “بالزَّالام بُوبُو”، قيل له: “وما الزَّالام بوبو؟”، قال: “جهازٌ يسجِّل الصوت، اخترعتُه ثمّ أخفيته داخل عصا الحواري دون أن يفطن”، فقال القومُ: “فلنجعل من الآن فصاعدا لكل حواريّ “زالاَم بُوبُو ” يفتشه، ومنذُ ذلكَ الوقت ما من أحَدٍ من أهل المدينة مرض إلاَّ وقال: “إنِّي لأحسُّ بوَجَع في رأسِي، وإنه لينبؤني بأن علي أن أذهب إلى فلان بن فلانة كي أحاسبه”، ثم أمر بقلم ودبُّوس وهرول إلى “طالوكيميني” غريمـه».

*

*             *

إذا اعتقدتَ أن الطورُوبريَّانديين قومٌ غارقون في التقليدِ وأنَّهم لا يفكِّرون إطلاقا في إصلاح نظامهم التَّعليمي أخطأتَ، لأنهم نجحوا في تبديد العَدَاوة التقليدية بينَ الحواريين وأهل الحسبة، فصارت الموضة المعمُول بها اليوم في محاسَبة الحواري هيَ أن يأتي «الزَّالاَم بُوبُو» إلى القسم ويستأذنَ الحواري بالدُّخول مسخِّـرا لذلكَ جميع الحيَل – لأنَّه صار من حقِّ الحواريِّ ليس أن يرفض زيارة «الزَّالام بُوبُو» فحسب، بل وأيضا أن يطرده من القسم – كأن يقدِّم له رَشاوي على شكل هَدَايا (قطع شوكولاطة، بارابول، عُلب تبغ، جَوارب، قوارير عطر، علب جعة، رضَّاعَات ومصَّاصَات، أضحية عيد النار المقدسة…)، أو يتنكَّر في هيأة نجار أو حدَّاد فيدَّعي أنَّه جاء لإصلاَح البَاب أو إحدَى النَّوافذ إلى أن يؤذَن له بالدُّخول، فيلج الحجرَة ويتظاهَر بإصلاح النَّافذة أو الباب وهو في الحقيقة يُتابع الدَّرس خِفية – باهتمام شدِيد – حتَى إذا انتهَى الدَّرسُ قامَ وصَافح الحِواريّ بحرَارة، ثمَّ قالَ له: «نِعم المدرِّس أنت، وياليتَ جميع الحواريِّين كانوا مثلكَ!»، وانصرف. وما يكادُ يمضي يوم أو يومان حتى يأتِي رسُولٌ إلى الحواريِّ بصحيفةٍ تدعوه لحضورِ مأدُبة يقيمها زائره السابق تكريما له. ولهذا الغرَض يكون «الزَّالام بُوبُو» قد استدعَى مائة حِواريّ أو أكثر، فيلبس كلُّ مدعُو أبهَى الحلل ويتطيَّبُ بأغلى العُطور ويتوجَّه إلى المكان المعلوم، منتظرا أن يصرفَ الليلة في اللهو والمرَح والاستمتاع بشُرب أقدَاح النبيذ على اهتزاز أردَاف الرَّاقصَات العِظام المتخصِّصَات في تجسيد أغاني السَّيدَة ماكولا والاطوم وأشعَارها الشَّجية. غيرَ أنه فورَ وُصُوله يكتشف أنَّ الأمرَ لا يعدُو مجرد خدعَة طورُوبريَّانديَّة أصيلة، إذ عِوَضَ أن يجد نفسَه داخل قصر فُرشَت أرجاؤه بالزَّرابي ومُلئت مَوَائده بالأطباق والصُّحُون والكؤوس والفوَاكه والخمور يلقى نفسَه في قلب إحدَى المدارس قابعا وسَط حُجرَة دِرَاسيَّةٍ…

يأمر «الزَّالاَم بُوبُو» الحواريين بالجلوس ثمَّ يخطب فيهم قائلا: «إنني لأطمئنكم الاطمئنَانَ كله بأنني لن أحاكِمَ منكم أحَدا، ولن أضربَه على أمِّ رأسِه بدبُّوس، ولن أطرده من عمَلِه، ولن أشكِّكَ في كفاءته، ولن أتطرَّقَ معه قط لمسألة الأسمَاء لأنه لولا إتقانكم إياهـا وإحاطتكم بها جميعا لما صِرتُم حواريين، ولأنَّنِي لو أثرتُها – لا فعلتُ – لارتكبتُ معصية التشكيك في عِلم المشَايخ الذين أجَازُوكُم… وكلُّ ما أودُّه من حضوركم هو تدقيق بعـض الأمُـور البَسيطَة…»، ثمَّ يغادر القاعَة ويعودُ وهو يجرُّ حمارا بمجرَّد ما يرَاه الجالسُون يضجُّون ضجَّة عظيمة لا تنهيها إلا كلمَةٌ جديدةٌ يطلقها «الزَّالاَم بُوبُو» على الحاضرين كقنبلة: «إنَّنِي لأؤكِّدُ لكم ثانية بأنَّنِي لن أشكِّكَ إطلاقا في ما لدَيكم من الأسماء؛ لن أسْألكم عن اسم هذا الشَّيء، فهُو – كما ترون – حمارٌ لا غبار عليه… وكلُّ ما سَأطلبه منكم هُوَ كيفَ نركبُ هذه الدَّابَّة؟ ومِن أين نركبها؟»، ثمَّ يأخذ في مناداة الحواريين واحدا واحدا، وعَقِبَ كل نداء يطلب من المنادى عليه الرُّكوب، فيتعاقب الجمعُ طيلة يومين علَى رُكُوب الحمار: بعضُهُم يمتطيه من العُنق وبعضُهُم يمتطيه منَ الظَّهر، بعضهُم يتسَّلقه من المؤخِّرة وبعضهُم من الرَّأس، بعضُهُم يضَع طَاوُلة أو كرسيا فيتسلقُ ويركبُ وبعضهُم ينادي جماعة ويأمرُها بحملِه ووضعه فوق البَهيمة…، وعقبَ كل ركبة يعلق «الزَّالاَم بُوبُو» مُلاَحِظا: «جيِّد. ركوبُكَ ممتاز، لكنك نسيتَ أن تتوضأ وضوء الهواء قبل صُعُودك الدَّابَّة»، «حسنا، كدتَ أن تكونَ أحسنَ الرَّاكبين لولا أنَّكَ أمسكتَ بالحمَار من أذنيه، فهللاَّ أمسكته من ذَيلِه في المرَّة المقبلة؟!»، «أنت أحسن الرَّاكبين جميعا، لكن لماذا لم تقرأ مقطعا من سِفر الهَواء قبل أن تتوضأ وضوء الماء؟!»…، وهكذا إلى أن يركَبَ البهيمةَ كلُّ من في القسم أربع مرَّاتٍ على الأقل. وآنئذ يُلقي المحتسب دَرسا طويلا في الرُّكوب، يستغرق ساعاتٍ عشر، يخلص منه إلى الخلاصَة التاليةِ: «من أين تركبُوا الحمَارَ فرُكوبُكُم جائزٌ، بل جيِّدٌ، لأنَّه لا توجَدُ ركبة مِثالية ولأنَّ المهم هو أن تركبوا، والأهمُّ هُو أن تأتوا إلى هُنا لتتبادلوا التَّحية وصلة الرَّحِم، وتسمعُوا دَرسِي هَذا…»، ثمَّ يخلي سبيلهُم ليلتحِقُوا بحجراتهم من جَدِيـد…

*

*             *

إذا كنتَ حِوَاريّا طورُوبريَّانديّا وظننت أنه يمكنك الخلاص من هَذا التَّحصِيل للحاصل بأن تقولَ، مثلا، «للزَّالاَم بُوبُو»: «اركبْ أنتَ كي نقتدي برُكوبك فنوفِّر عليكَ تعبَ الملاحظة وإلقاء الدَّرس وعلى أنفسِنا عناءَ هذا المجيء» أخطأتَ، لأنك ما تُلقي بطلبكَ حتَّى يصدَّكَ المحتسبُ بأحد جوابين: فإمَّا سيقولُ لكَ: «نحنُ معشرَ الزَّالاَم بُوبُو حُرِّمَ علينا رُكُوبُ الحمير. فلو كانت هَذه الدَّابَّة بقرَة لرَكبتها»، وهذا الجوابُ ليس إلا خُدعة لأنَّ المحتسبَ يستضيفكَ لمأدُبَة مُوالية فتجدُه قد دَعَاكَ لرُكوب بَقرة، وتقولُ له: «هِي ذي البقرة، فاركبها وقِنَا عَذَابَ الرُّكوب!»، لكنه يجيبك: «نحنُ معشر الزَّالاَم بُوبُو حُرِّمَ علينا امتطاءُ البقر. فلو كانت هذه الدَّابَّةُ حمارا لركبتها»، أو يقولُ لكَ: «اعلم يابُنَيَّ أني لو ركبتُ هذا الحمارَ لصارَ قردا أو نعجة، ولاضطررنا حينئذٍ إلى البث في مسألة الاسم، ولأُجبرْتُ على إحضار دبُّوسٍ وتهشيم رُؤُوس كثيرة منكم، وهذا أمرٌ لا طاقة لي ولكم به»…

وإذا ظننتَ أنه يمكنك الخلاصَ بأن تعمدَ، مثلا، إلى حشوِ أذنيك بالقطنِ كي لا تسمع كلامَ المحتسب أو وَضع نظَّارتين كي تتمكنَ منَ النوم أو تحويل عينيك دونَ أن يفطنَ لك أحدٌ من الحاضرينَ، أو الشُّرُود بحيث توهِمُ رائيك بأنَّكَ تتابع المشهدَ والخطب بانتباهٍ شَديدٍ فيما تكون رُوحُكَ مُسَافرة في الأجواء العُليَا ووحدَه جسدُكَ الحاضرُ…، إذا ظننتَ ذلك أخطأتَ لأن الرُّكوب لا يؤذَنُ به إلا بعدَ فحص آذان الرَّاكبين أذنا أذنا وتجريدهم من النظارات، وعُلب السَّجائـر، والأورَاق، والأقـلام، وكُلِّ ما من شأنـه أن يلهيهـم عَـن متابعة ما يجري في الفصْلِ أو يفيدهم في تجزية الوَقتِ، ولأنه – فوقَ ذلك كله – يتمُّ إجراء تحليلٍ لعينة من بُول الحاضرين ودمهم لضبطِ من قد يكونُ تناولَ خمرا أو مخدِّرا ليهدِّئ أعصابه ويُزيِّن لخوَاطره مشاهدَ القاعة ووقعَ الكلمات… وأثناءَ الرُّكوب لا يكفُّ «الزَّالاَم بُوبُو» عن تنقيل عينيه بين عُيون الحواريين، وكلمَا شكَّ في شُرُود أحدهم وَقَفَ قبالته ورَسَمَ في الهواء حرَكاتٍ دائرية وهو يقول: «أطَانْ زُورُو سُولُولُو وُولُولُو! أطَانْ زُورُو سُولُولُو وُولُولُو!»،وترجمتها حرفيا: «سُبحَانَ الإلهين سُولُولُو وُولُولُو! سُبحَانَ الإلهين سُولولو وُولُولُو!»…

*

*             *

إذا اعتقدت أن العِلمَ الطُّورُوبريَّاندي علم لا فائدةَ ترجى منه لأنَّ الحواري يأتي ويقولُ للتلميذ: «إنَّ المرأة خيمة»، ثمَّ يعودُ في اليوم الموالي ويقولُ له: «إنَّ المرأةَ تمرٌ»، ويتراجعُ بعد ذلك فيقولُ: «مَا التّمر إلا قنفذ»، ثمَّ يرتدُّ صبيحة الغد فيقولُ: «ما العفريتُ إلا نفريتٌ»… أخطأتَ، لأن الأمرَ لو كان بهذه السُّهولة لما كان الحواريُّ الغشَّاشُ يصَاب بالفزع لمجرَّد رؤية شبح «الزَّالاَم بُوبُو» فلا يجدُ بُدّا من القفز من نافذةِ الفصل وسُور المدرسَة وإطلاق الساقين للرِّيح. ثمَّ لو كانَ الأمرُ كذلكَ لما كَان هذا الانتفاخ للرَّأس الذي يُصيبُ كلَّ خِرِّيج طورُوبريَّانديٍّ من جرَّاء ما يحشى به من عُلوم ومَعارف ولما تقلدَ الأطفالُ الطورُوبريَّانديُّون أعلى المناصِب في بلادهم وفي الخارج فورَ إنهاء دراستهم، وبالتَّالي لما غابت كلمة بطالة منَ المعجم الطورُوبريَّانديِّ، بحيث إذا سألتَ طورُوبريَّانديا: «ما البطالة؟» فغَرَ فاهُ فيكَ، وإنْ ألححتَ عليه بالسُّؤال أجابَك متمتما: «ما أراها إلا طائرا أو سمكة، إن لم تكن تميمة». ثمَّ إن التلميذ الطورُوبريَّانديّ، يكفيه أن يتعَلمَ اسمين فيصيرُ لتوه جزَّارا، وثلاثا فيصبِحُ راعيا، وأربعة فيصيرُ جلاَّدا أو سيَّافا… وإذا بَدَتْ هذه الوظائفُ وضيعة فذلك لا يعودُ إلا للتقدُّم العلميِّ الهائل الذي أحرزَ عليه الطورُوبريَّانديُّون بالمقارنة مع سَائر الأقوام، ذلكَ أن التلميذَ إذا لم يتعلم سوى حرفين اثنين ولم يرغب في البَقَاء بين بني أمِّه، فإنَّ أقلَّ ما يمكن أن يجنيه من حرفيه هُو أن يصير ثريّا بين عشيةٍ وضُحاها، ولأجل ذلكَ يكفيه أن يمتطِيَ دابَّة ويأخذ وجهَة الحي المتعدد الجنسيات إلى أن يصلَ إلى بَلدَة تُدْعَى مَاقِنْطُـوشَـة، وهي بلادٌ يسكنها قومٌ كالطورُوبريَّانديِّين، أصابوا من العِلم ما جعلهم يكتفُون بصباغة حميرهم بطلاء فِضِّيٍّ فتصيرُ تسرع في عَدوها كالبرق، وتمخرُ عُبَابَ الماء، وتطيرُ في الهوَاء… إلا أنهُم لا زالوا قوما بدائيين – في نظر الطّورُوبريَّانديِّين – لأنَّهُم يمشون عراة، ولأنَّ المرأة منهم تشبعُ زوجها شتما ورَكلا ولكما لأقلِّ هفوة يرتكبها، ولأنهم يُنصِّبون عليهم حُكاما لازالوا في سنِّ الرَّضَاعة، ويعتبرون الناسَ جميعا سَواسِيَ في الحقوق والواجبات، ويُبيحون زواج الرَّجُل بالرَّجُل والمرأة بالمرأة… وهم يَعملون ليلَ نهَار من أجل اللحَاق بالطورُوبريَّانديِّين. وبمجرَّد ما يحلُّ التلميذ الغاضبُ بقرية مَاقِنْطُـوشَـة يقولُ لأهلها: «هاتوني قلما وصَحيفة لأحدِّثكم عن نقائص الطُّورُوبريَّانديِّين»، فيُدَوِّنُ مُصنّفات يزعم فيها أنَّ بني أهله قومٌ مجانين لا يُعلِّمون أطفالهم سوى حماقاتٍ وترَّهَاتٍ نطقَ بها أعمى وأعرج زَعَمَا أنهما إلهان، وأنَّ حوارييهم كلهم لوطيُّون يُراودون الصبيانَ في حُجُرات الدَّرس، وأنَّ نساءهم كلهن عَاهِرات لأنهن محتجبات الوجوه سَافرات المؤخِّرات، وأن السَّبب في تهافت الطُّورُوبريَّانديِّين على كلِّ مقيم جديدٍ بينهم إنما هُو كَون المرأة منهُم تظلُّ تتبوَّلُ في الفراش إلى أن تبلغَ سِنَّ الأربعين… ثمَّ يمضي أبعدَ من هذا كله، فيُخرج نسخَة من سفر المأثورَات فيسيء قراءَتها ويُؤَوِّلُ مضَامينها بما لا يقبله عقلٌ ولامنطقٌ لما يبعثُ عليه من الضَّحِك… حتَّى إذا انتهَى أقعَى ككلبٍ وتبوَّلَ وتغوَّط على الكتابِ، فيفرحُ أهلُ ماقنطوشة أيما فرح وهم يردِّدُون: «إذا كانَ بنو قومِك الطورُوبريَّانديُّونَ على ما ذكرتَ فإنا بهم لَلاَحِقُونَ وإنَّا لهم لسَابقُون ببركة نبيتنا وأمِّنَا مَارَامَارَا»، ثمَّ يفتحونَ له خَزائنَ بيت مالهم ويُغذقون عليهِ من الذَّهب، واليَاقوت، والمرمُر، والمرجان، والمسكِ، والفضَّة، وبساتين التين والزيتون والنخيل، وقطعان الإبل والبقر والماعز ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطر على بـال…

*

*             *

وبعـــد،

فإذا بَدَا لكَ ما حكيتُه لكَ حتى الآن إيغالا في مَسَالك الوَهمِ والخيال أو ضرباً من الكلام الذي لا يمكنُ أن يصدر إلا مِن امرئ يقطن الزُّهَرَة أو المريخ أخطأتَ. وإن شئتَ التَّحقق منه فترصَّد خطوات أيّ كان من أقاربك وباغِثهُ وقد تجرَّد من أقنعته جميعا إلى أن بَدَا على حقيقته: طورُوبريَّانديّا قحّا أصيلا لا غبار عليه، ثمَّ اقصُصْ عليه ما رَويته لكَ. فما تنهِي حِكايتك حتَّى يضحكَ إلى أن يستلقي على قفاهُ ثم يقولُ لكَ: «إني لأحسُّ بوجع في رأسِي، وإنه لينبئني بأن عليَّ أن أذهبَ لمحاسبةِ صاحبكَ هذا…». آنذاك، قل له: «عفوا، ثم عفوا يا سيدي! فصاحبي ما زعَم أن السُّولُولُو والوُولُولُو نفثا في يَديه يَوما، ومَا رام مَلء “طَالوكِيمِيني”، ولا ترقَّب “زَالاَم بُوبُو”. إنما هُو بَرقَلَ شيئا نسميه نحن كتابـة»، ثمَّ نبهه إلى أنَّني قد احترزتُ كليا من أن يختلطَ نصي بكتاب «الطَّالُوكِيمِينِي»، ولذلكَ أكثرتُ في السِّفر الحالي، وأخويه المقلبين وهما «سِفرُ المحبة» و«سِفرُ السياسة»، من استعمال عبارات خاصة مثل: «إذا ظننتَ كذا… أخطأتَ لأنَّ كذا…». فإن أفلحتَ في إقناعه فقد كفيتَني شرَّه، وإلا فاخبرني لأني سأجدُ نفسي آنذاكَ مضطرّا لسدِّ ثغرات هذا النص فأحدثك عن الحبِّ الطورُوبريَّاندي، وأروي لكَ عن المرأة التي إذا أحبَّتكَ قتلتكَ، وعن التي تأويكَ في ضريحها أياما طَويلة وكلما قلتَ لها: «قبِّليني» أجابتك: «اتَّق لعنة الدراجة يا رجُل! فأنا امرأة محصَّنَة أخشى بطشَ الإلهين!»، وعن الرَّجُل الذي يَغار على زوجته فيعمَدُ إلى بطنٍ بلاستيكيّ ويلصقه بجسمِهَا دُون علمها فيُرعبُ الرِّجَال بحبلها الوهميِّ سنينا وأحقابا…، ثمَّ أحدِّثكَ عن السياسة الطورُوبريَّانديَّة، فأقصُّ لكَ عن الإصطبل المركزيِّ الذي يُدعَى «الطَّانْ الرَّان ضُو» (مجلس التشاور) ونقاشاتِه البيزنطية وحُرُوبه البونيقية، وعن الرَّجُل الذي جعَلوا على فمه كمامة وأودَعُوه السِّجن لأنه كشف عن اللصِّ الذي سَرق أوراقا تفوح منها رائحة بُرَاز الكلب، وعَن المرء يقولُ: «قد أوحي إليَّ من العِلم ما لم يُوحَ بمثله لأحدٍ من قبل. فانصبُوا لي خيمة وهَاتوني قصبا وسكينا أجعل لكُم الأوراق دُولارا، والحميرَ أبقارا، والصَّحاري أنهارا»، فيُمنَح مَا طلبَ، غير أنه ما يكاد يَدُور عَليه الحَوْلُ داخل الخيمة حتَّى يخـرُج شاهرا دبُّوسا في يدٍ وخنجرا في الأخرى وهو يصرُخ بأعلى صَوتِهِ: «أينَ الأعمى؟ أينَ الأعرجُ؟ أينَ السَّاحـرُ؟ أينَ الرَّاهـِبُ؟

الاخبار العاجلة