أجرى الحوار: حسن سلمان(*)[1]
سؤال: في إطار الإشكاليات التي تثيرها رواية الواقعية الرقمية والأدب الرقمي عامة، كيف تقيم تجربة محمد سناجلة الرقمية؟ وهل نحن مقبلون حقيقة على زوال الأدب الورقي، كما يؤكد سناجلة؟
جواب: أولا يجب التمييز بين «الأدب الرقمي» و«الرواية الواقعية». الأدب الرقمي هو نوع من الإبداع يوظف الحاسوب في كتابة النصوص بحيث تتجاوز وظيفة هذه الآلة مجرد الكتابة إلى التدخل في العملية الإبداعية نفسها بتوليد أعمال (قصائد، حكايات سردية) أو إمداد المؤلف ببرامج تُثمر نصوصا يتوارى فيها الوضع الاعتباري للمؤلف على نحو ما هو متعارف عليه وتختفي فيها الحدود التقليدية بين القراءة والكتابة. هذا النوع الذي صار الآن حركة عالمية عرف بدايته منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي، بالتزامن في فرنسا وألمانيا وكندا، حيث جرت أولى محاولات إنتاج نصوص أدبية باستدعاء الحاسوب. أما «رواية الواقعية الرقمية»، أتنظيرا كانت أم كتابة، فهي اجتهاد للروائي الأردني محمد سناجلة داخل هذه الخريطة الأوسع.
تجربة سناجلة تبقى رائدة في العالم العربي بالنظر إلى أنه أصدر ثلاثة أعمال لحد الآن، وله رابع قيد الإنجاز. الأعمال الصادرة له هي: «ظلال الواحد» و«شات» وصقيع»، وكلها نصوص يتداخل فيها السردي بالشعري، ما يعني أنه شق طريقه في الأدب الرقمي، بخلاف أسماء عربية أخرى تراوح تعاملها مع هذا النوع من الكتابة بين التجريب الذي أفضى إلى إنتاج عمل واحد لا غير على نحو ما نجد عند د. أحمد خالد توفيق صاحب قصة «ربع مخيفة» ومحمد اشويكة صاحب نص «احتمالات»، والعراقي مشتاق معن صاحب قصيدة «تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق» ومنعم الأزرق الذي لم تتحرر قصائدة الرقمية من المنتديات إلا مؤخرا.
تقييم أعمال سناجلة يجب أن يكون مزدوجا: عربيا وعالميا.
عربيا هي الرائدة بدون منازع، وتمثل بدايات هذا اللون من الكتابة في عالمنا العربي الذي يُنتظر أن يشهد تطورا كبيرا على يد أطفال اليوم الذين يدخل الحاسوب ضمن تنشئتهم الاجتماعية.
عالميا هي تنويعة على ما ينتج في أقطار أخرى، ولا شك في أنها ستُمدّ مُنظري هذا اللون من الإبداع بمعطيات هامة لإدراجها في تنظيراتهم اعتبارا إلى أن هذا النوع من الكتابة لازال في بداياته حتى في الغرب نفسه، ومعالمه النهائية لم تتضح، هذا إن كانت ستتضح في يوم من الأيام اعتبارا للإمكانيات اللامتناهية التي يفتحها الحاسوب أمام الكتابة.
نعم، الأدب الورقي آيل إلى الزوال. والتأكيد ليس من اكتشاف محمد سناجلة. صاحب الفكرة هو Dick Brass مسؤول قسم النشر الإلكتروني في شركة ميكروسوفت؛ أطلقها عام 2000، ويقول فيها إن الكتاب الورقي سيختفي نهائيا في غضون الثلاثين سنة المقبلة، وهو يبني تأكيده على وجود رهانات اقتصادية واجتماعية وثقافية كبيرة بالنظر لهذه التعبئة الشاملة في أوساط كبار الفاعلين في قطاع النشر والمعلوميات في الولايات المتحدة الأمريكية بالخصوص.
هذا التوقع لم ينشأ من فراغ كما لا يقتصر على الأدب وحده. إنه حلقة في سلسلة طويلة من تاريخ التدوين والتوثيق. فقد عرفت الكتابة على امتداد وجودها تقلبا في الأسندة؛ مواد من العالم الطبيعي: حجر، شجر، طين، عظام حيوانات، أوراق البردي، جلود الحيوانات، ثم الورق، وحاليا الرقم. مدار هذا التقلب كان على الدوام الحرصُ على تدوين أكبر عدد من المعلومات في حيز مساحة مادية صغيرة، ثم التنظيم الفضائي للكتابة بحيث تتيسر قراءتها واستعادتها. كان ثمرة ذلك، ابتكار الفراغ بين الكلمات، ووسم نهايات الجمل، وإنشاء الصفحات، فالفقرات، فتقسيم النص إلى فصول، ثم تقسيم الكتاب إلى أجزاء أو مجلدات. الآن، القدرة التخزينية للأقراص الصلبة ترتفع بشكل مذهل، بل إن الحديث جار عن قرب تحقق مُنجز يُتيح تخزين خزانة في حجم مكتبة كاليكا الرقمية (حوالي 000 200 كتاب) داخل مساحة باتساع رأس إبرة لا غير! هل تحتاج جدوى الورق إلى سؤال آنذاك؟!
بيد أن مسألة الكتاب تظل أعمق من اختفاء الورق؛ من الباحثين مَن يرى أن عصر الكتاب بكامله هو بصدد التقويض تحت أعيننا، لأن الكتاب الإلكتروني نفسه لا يعدو مُجرَّد تجل أخير للكتاب نفسه باعتباره أحد سمات ما بات يعرف بـ «حضارة الكتاب» التي دخلت الآن مرحلة الأفول. بتعبير آخر: نحن نعيش نهاية الكتاب أيا كان شكله؛ الانتقال جار الآن من الكتاب إلى النص، من المغلق إلى المفتوح، من البسيط إلى المعقد، من الخطية كتابة وتفكيرا إلى التشعبية، من الكتاب إلى المكتبة، بل ومن المكتبة إلى الشبكات. وحيث إن النت داهم مشروع كسانادو الذي كان يسعى لابتكار ما يشبه ماكدونالد ثقافيا ومعلوماتيا، إذ يمكن لأي فرد في أية بقعة من بقاع العالم أن يتسوق المعلومة (أو المعلومات) التي يريد، بل ويودع أيضا معلومـ (ا) ته، فإن التجسيد الأمثل لاختفاء الكتاب لصالح النص قد يكون هو الشبكة.
س) أعيد طرح بعض الأسئلة التي طرحتها أنت في بعض مقالاتك: هل تستطيع الرّواية بشكلها الحالي أنْ تستوعب الثورة الرقمية المتسارعة في العالم، أم أنها يجب أنْ تتخلى عن مكانتها لصالح أشكال تعبيرية وإبداعية أخرى أكثر قدرة وجاذبية كالسينما أو البرمجة مثلاً؟
ج) الرواية المتعارف عليها اليوم هي نتيجة لظهور المطبعة واتساع دائرة القراء والكتَّاب بشكل غير مسبوق، من جهة، وتعبير أدبي عن التحولات العميقة التي عرفها مجتمع دون كيشوت وقيمه الثقافية والأخلاقية، من جهة ثانية.. نحن الآن نعيش تحولات شبيهة، ولكن بإيقاع أسرع وأشكال أعنف ونتائج أكبر: انتشار الحواسيب الشخصية والشبكة وسعا دائرة القراء والكتاب بشكل لا تفي كلمة «كبير» بوصفه، الثورة الرقمية التي نعيش بداياتها الآن بصدد إجراء تغييرات جذرية على كافة الأصعدة: المجتمع، السياسة، الاقتصاد، العمل، الثقافة. ولكن هل الرواية هي الشكل الوحيد القادر على ترجمة هذه التحولات أدبيا؟ هل تظل استجابة دونكيشوت هي النمط الوحيد الممكن للتعبير عن التحولات الكبرى في كل العصور؟
مهما يكن الأمر، المحقق اليوم أن الأدب بانتقاله من الورق إلى الرقم لم يعد هو الأدب وعسر عليه أن يظل كما كان. في هذا الصدد، لا يمكن للنقد أن يقدم سوى فرضيات لتحديد زاوية للتعامل مع الوضع الجديد. من هذه الفرضيات:
- اعتبار الكتابة الرقمية تجلّ لقطيعة مع الأدب السابق الذي يُنتظر أن يدخل إلى المتحف. في انتظار ذلك، لا مجال لإقحام قواعد الأدب الورقي ونقده في الشأن الرقمي.
- النظر إلى الكتابة الجديدة باعتبارها بداية حلقة جديدة في تاريخ الأدب الطويل متصلة بالماضي، ومن ثمة إمكانية النظر إلى الأدب بوصفه كلا لا يتجزأ متألفا من مراحل ثلاث: شفهية (الأدب الشفهي)، كتابية (أدب عصر الكوديكس)، ثم رقمية (الأدب الرقمي).
إذا كان من الصعب الآن تكهن مصير الرواية الحالية، فإن هذا المصير سيتحدد بدون شك في إحدى الخانتين السابقتين.
س) هل الكتاب – بشكله الورقي المعهود – قادر على استيعاب الرواية القادمة؟ أم أننا بحاجة إلى لغة أخرى وكتاب آخر؟.
ج) لا أحد بوسعه البرهنة على أن الرواية نفسها باعتبارها نوعا أدبيا ستبقى أم لا في مشهد الإبداع الرقمي قيد التشكل الآن.
إذا تأملنا التجارب الرقمية (بالمعنى الضيق للكلمة) المنشورة اليوم في الشبكة أو في الأقراص المدمجة وجدنا ما يوحد بينها هو استحالة نشرها ورقيا، إلا في حالات نادرة جدا. عمل ريمون كينو «مائة ألف مليار قصيدة شعر»، مثلا، إذا رغب القارئ في تصفحه كاملا، وبمعدل تخصيص 45 ثانية لقراءة كل قصيدة، احتاج إلى مليوني قرن من الزمن (نعم ميلوني قرن). هذا الديوان الافتراضي المتألف فعلا من مائة ألف مليار قصيدة شعر هو في الأصل قصيدة واحدة، والباقي نتيجة برمجة معلوماتية. أي ديوان ورقي يستطيع أن يُخرج هذا العمل للقراء؟ ما يقال عن هذا العمل يصدق أيضا على النصوص المندرجة تحت ما يُدعى بـ «النص التشعبي التخييلي» التي تغيب فيها الخطية تماما، وعلى القصائد الرقمية التي تكتب بالخط والصورة والصوت والحركة. بمجرد ما تتخلى الكتابة عن الخطية وتندمج في مكونات أخرى يصير الكتاب الورقي عاجزا عن أداء وظيفته باعتباره وسيطا للكتابة.
س) ماذا يحتاج الكاتب التقليدي ليدخل ميدان أدب الواقعية الرقمية، أو ما هي سمات الكاتب الرقمي؟
ج) أولا ولوج المرء حقل الكتابة عموما لا يتم بمجرد قرار شخصي. يجب أن تكون هناك حاجة داخلية ملحة وراء هذا الاختيار. ومعناه أن التحاق الكاتب الورقي بالعالم الافتراضي لن يجعل منه كاتبا رقميا بالضرورة. لا توجد وصفة جاهزة للكتابة الرقمية.
على الكتاب التقليديين اللحاق فورا بالعالم الافتراضي لتكثيف نشر أعمالهم ومنحها حظوظ قراءة في الجهات الأربع للكوكب، ومضاعفة الاتصال بقرائهم وأندادهم، والاطلاع على ما هو منشور الآن في رفوف الخزانة الافتراضية الكونية قيد التشكل. لأجل ذلك، لاتكفي معرفة القراءة والكتابة؛ يجب التوفر على حاسوب والتردد يوميا على الشبكة وتعلم برامج معلوماتية. ومن داخل الإقامة في العالم الافتراضي بهدوئه وصخبه، بنعيمه وبؤسه، يمكن أن تتولد الحاجة إلى التعبير رقميا عن هذه التجربة الوجودية الجديدة.
س) هل نستطيع القول إن رواية الواقعية الرقمية هي نتيجة تراكمية لتطور الرواية الواقعية، بدءا بالرواية الواقعية التقليدية ومرورا برواية الواقعية السحرية التي أنتجها الأدب اللاتيني وانتهاء برواية الواقعية الرقمية التي أبدعها محمد سناجلة؟
ج) مفهوم «الرواية الوقعية»، كما مر معنا، هو من ابتكار الناقد والمبدع العربي محمد سناجلة للتعبير عن هذا اللقاء بين الأدب والمعلوميات الذي يطلق عليه تارة اسم «الأدب الرقمي» وتارة نعت «الأدب المعلوماتي». يمكن توقع ظهور اجتهادات أخرى من لدن مبدعين عرب آخرين رقميين سيزداد عددهم بالتأكيد بالنظر للانتشار المتزايد لجهاز الحاسوب الشخصي في العالم العربي. والمصطلح الذي ابتكره سناجلة لا صلة له إطلاقا بالمدارس الأدبية التي تدخل تحت تسمية «الواقعية». هو بمثابة بيان للأدب الرقمي يمكن تحديد خطوطه العريضة في نقطتين:
– الأولى: التغييرات الجارية في ظل الثورة الرقمية، على مستوى الفرد والمجتمع، هي من القوة والجذرية والحقيقة بحيث تدشن ولادة إنسان ومجتمع مختلفين كليا عن سابقيهما؛ مثلا اختفاء فارق الزمان والمكان الذي يعاش في التواصل الرقمي يولد نمطا وجوديا جديدا وعلاقات اجتماعية مختلفة عما هو مألوف في الواقع المادي، والأدب بدوره سيتأثر بهذه المتغيرات ويجليها في نصوصه.
– الثانية: ضرورة توسيع أدوات الكتابة لتشمل كل الإمكانيات التي يتيحها الحاسوب، من صوت وصورة وخط وحركة، ومراعاة اختلاف متلقي العالم الافتراضي عن نظيره الورقي. هذا الأخير بإمكانه الاختلاء بالكتاب لوقت طويل بينما الأول في ترحال مستمر، ومن ثمة ضرورة الاقتصاد في التعبير إلى أبعد الحدود.
لأول وهلة يبدو مفهوم «الواقعية الرقمية» مثيرا للبس، ولكن بالإنصات إلى ما يعرضه مُبتكره في كتاب له بالعنوان نفسه يتضح طرحه الذي يمكن اختصاره في كلمة واحدة: إن العالم الافتراضي حقيقة واقعية محسوسة ومعاشة وليس محض خيال. وحيث وجودنا المادي بصدد التراجع، يجب على الكتابة أن تستمد مادتها وأشكالها من هذا «الواقع» الجديد.
س) كيف ترد على عدم اعتراف دعاة القدامة من أمثال سعيد الوكيل بأدب الواقعية الرقمية واعتباره مجرد خرافة، إضافة إلى استهزاء كتاب مثل حسين سليمان بتجربة سناجلة ودعوته – على سبيل السخرية – لافتتاح كلية لتدريس الآداب والسينما الرقمية.
ج) انتقاد سعيد الوكيل انكب على رواية «ظلال الواحد» ولم يتجاوزها إلى «شات» و«صقيع»، وهما نصان صدرا لسناجلة بعد مقال الوكيل «خرافة رواية الواقعية الرقمية»، وفيهما تطور كبير بالمقارنة مع «الظلال» سواء من حيث المضمون أو تطوير أدوات الكتابة باستخدام برامج الفيديو والفلاش أو المزج بين أكثر من نوع أدبي (شعر، حكي).
الوكيل لا يعترض على توظيف المعلوميات في الكتابة الإبداعية، هو يسحب اعترافه بمنجز سناجلة لأنه لم يعثر فيه على روابط تشعبية ترفع إمكانيات قراءة النص وتنوع مسارات الحكي على غرار أعمال غربية مثل «ظهيرة» مايكل جويس التي لا تمنح نفسها للقراءة المتطابقة في مرتين متعاقبين، لأن النص يتشكل مما يشبه جزرا من الحكايات المتقاطعة والمستقلة في آن.
حصيلة تجربة الكتابة الرقمية العربية الآن لا تتجاوز بضعة نصوص، مؤلفوها يعدون على رؤوس الأصابع، وقراؤها قلة كذلك بالنظر إلى أن الحاسوب والشبكة لم يدخلا بعدُ في الاستعمال اليومي لمجموع قراء العالم العربي. من هذه الزاوية، قد تجازف مطالب سعيد الوكيل بالغرق في النخبوية.
أما تدريس الآداب الرقمية في الجامعات فهو قائم منذ مدة، بل هناك مراكز بحث متخصصة في الموضوع وشعبُ تمنح سائر الدرجات الجامعية، بما فيها الدكتوراه، في التخصص نفسه في أكثر من بلد غربي. من ذلك، مثلا، شعبة الوسائط التشعبية بجامعة باريس الثامنة ومجموعة البحث «فقرة» Paradraphe في الجامعة ذاتها، وهي متخصصة في الفن وإنتاجات الوسائط التشعبية، و«المركز متعدد التخصصات للبحث في جماليات الرقمية» بباريس. للمزيد، يكفي البحث في الموضوع باعتماد محركات البحث، وبأكثر من لغة. من هذه الزاوية، يُحتمل أن يكون وراء موقف حسين سليمان غياب معلومات لا غير.
هامـش:
(*) حسن سلمان: كاتب وصحفي سوري، أجرى هذا الحوار معنا في إطار تهييئ ملف لصحيفة «الشرق الأوسط»، تحت عنوان: «الأدب الرقمي يطالب بحقوقه! جامعات بدأت تدريسه والبعض يبشر بابتلاعه ”الأدب الورقي”»، صدر بالملحق الثقافي للصحيفة نفسها يوم الأربعاء 02 يناير 2008، العدد: 671 10.
[1] (*) حسن سلمان: كاتب وصحفي سوري، أجرى هذا الحوار معنا في إطار تهييئ ملف لصحيفة «الشرق الأوسط»، تحت عنوان: «الأدب الرقمي يطالب بحقوقه! جامعات بدأت تدريسه والبعض يبشر بابتلاعه ”الأدب الورقي”»، صدر بالملحق الثقافي للصحيفة نفسها يوم الأربعاء 02 يناير 2008، العدد: 671 10.