- نجيمـة بلانطــاد
تتوفر اللغة القبائلية[2] على عدة كلمات للدلالة على المرأة التي نطلق عليها هنا اسم ساحرة. ومع أن المعنى الدقيق لكل الأسامي لا يتوفر دائما، فإنه يمكن ترجمتها بمراعاة فوارقها الدقيقة ما أمكن.
لقِبْلَـــة
كلمة من أصل عربي مشتقة من الجذر (ق ب ل) الذي يعني «واجَه»، وتطلق على المطببة عموما والمولدة بالخصوص. وتتميز لْقِبْلَة عن غيرها من النساء بما امتلكته من معرفة بالأعشاب والتقنيات العلاجية. وتكتسب مهنتها بواسطة التجربة وغالبا انطلاقا من قيامها، وبشكل اضطراري، بأول عملية توليد. إنها امرأة في سن اليأس عموما، حبِلَت وَوَلَدَت عدة مرات، تحظى بهالة «تجعلها ستدخل الجنة مباشرة»[3]، كما أنها مُحتَرَمة ومندمجة تماما في المجتمع، وليس لكلمة قبلة نظير في المذكر.
تَادرويشـت
اســم منحـدر مـن الكلمـة الفارسية «درويش» التي تعني الصّوفي المسلـم
المنتمي إلى زاوية ذات هدف مُسارِّي[4]. ومعنى كلمة تادرويشت في اللغة القبائلية هو «مجنونة». ويجب الإشارة إلى أن هذا المصطلـح يتضمن إيحـاءات أخرى كثيـرة، إذ يتعلــق الأمـر بكلمـة عامـة تغطـي عـدَّة اختصـاصـات. ولمذكرهـا، أدرويـش، المعانـي نفسها.
تـامـرابطـت
لهذه الكلمة معنيان: الأول يُقصَدُ به امرأة ذات قرابة صلاحية، أي تنتمي إلى طبقة الأسياد والمرشدين الروحيين، وهي صفة وراثية. وفي منطقة القبائل يعتبر الصلحاء أنفسهم كأنهم غير قبائليين، لكنهم مندمجون استراتيجيا في المجتمع مع حقهم في نيل الاحترام والتقدير وحمل ألقاب تشريفية خاصة. وهم ينفرون من التحالف مع «القبائليين» ويمارسون زواجا طبقيا من الأقارب. ويقول ج. م. ضاليه إنهم «كانوا في الماضي مرشدين ومستشارين، وحكماء مسموعين. كانوا حكاما في النزاعات بين الجماعات والعائلات والقرى والقبائل. ففلانٌ أو فلان منهم قد أنقذ المنطقة من أضرار الفوضى. أرستقراطيتهم متميِّزَة وجد مُمَيَّزَة في لغة تراتبيات (وأعضاء) الزوايا الدينية ومشايخها» (ج. م. ضاليه، 1982).
أما المعنى الثاني لكلمة تامرابطت، فتتضمنه علاقة غير مباشرة مع المعنى الأَّوَّل، ويقصد به امرأة لها مزايا خاصة من صنف فوق طبيعي. وهي تستمد اسمها من الولي الصالح الذي يسكنها ويعرف باعتباره صالحا، أمرابـط.
لا تملك التامرابطت صفاتها بطريقة وراثية وإنما تحصل عليها خلال تجربة داخلية تربطها بصلة مَعَ مجموعة من الأولياء (أو ولي خاص). وتسمية تامرابطت نتيجة تغيير داخلي سيحول الشخص، من الآن فصاعدا، إلى «وليَّة» ويزودها بقدرات خاصَّة. ويقالُ إن سبب تسمية التامرابطت بهذا الاسم يعود إلى الروح الذي يسكنها، وهو روح خطير يُمنح هذا اللقب التشريفي لإظهار الاحترام له، وبالتالي فهو محاولـة لملاطفـة هـذا الـروح.
ليس لقب التامرابطت في الواقع سوى بديل لاسم التادرويشت، أي مجنونة، الذي يطلق في البداية على كل امرأة تعيش أزمة نفسية تفسر باعتبارها مسَّا من قِبل روح. وانطلاقا من هذا الحدث، يمكن لتلك المرأة أن تتطوَّر بأربع طرق مختلفة:
1 – يمكنها أن تُشفى طبيعيا؛
2 – يمكن أن تظل مريضة عقليا، أي تادرويشت؛
3 – يمكن أن تصبح عرافة – مطبِّبَة، أي تامرابطت؛
4 – يمكن أن تصير ساحرة، تاسحَّارت.
تادرويشـــت
|
وتبقى درجة الخطر الصَّادر عن الروح الذي يتملَّك المطبِّبَة هو ما يفرق بينها وبين الساحرة من حيث مصير كلتيهما. فبعض الأرواح يسهل تنشئتها اجتماعيا أكثر من أرواح أخرى. ومتى أمكن تنشئة الروح تنشئة اجتماعية صارت ضحيته مطبِّبَة. وعلى العكس، إذا رفض الروح قبول القيم الاجتماعية صـارت الضَّحية ساحرة.
كيـف يتصرَّف المجتمع لمعرفة صنف الروح الذي «يركب»[5] الضَّحيـة؟
إن الطقس الذي يحدد مصير التادرويشت بعد انصرام بضعة أسابيع من مرضها، وفيه يطلب منها هل تقبل بتقديم الذبيحة (كبش)، هو الذي سيمكنها من مزاولة مهمتها مستقبلا باعتبارها مطبِّبَة. فإن هي قبلت ذبحت عائلتها الحيوان وأعدت مأدبة ثم وزَّعتها على أهل القرية، وبذلك يعلم هؤلاء، من الآن فصاعدا، بوجود عرَّافة – مطبِّبة جديدة. وبهذه العلامة القربانية للاندماج في المجتمع من جديد تعود التادرويشت إلى جماعتها بعدما كانت قد ابتعدت عنها مؤقتا. أما إذا رفضت هذا الطَّقس القرباني، فإن المجتمع سيفسر هذا الموقف باعتباره علامة لخطورة المرض. سيعتبره إعلانا عن أن الرُّوح الذي يملكها هو عدو معيَّن وأكيد يرفض الحوار مع الجماعة[6]. وفي هذه الحالة تتعذَّر إمكانية إعادة إدماج المريضة من جديد في الجماعة، وبذلك ستعيش تهميشا حقيقيا. ستصير إذن ساحرة مكروهة ومُهابَة، ما لم تبقَ في جنون عقيم.
ورغم التقاء التامرابطت والتاسحارت في كونهما معا يملكهما روح، فإنهما تختلفان في مدى تعارض هذين الروحين مع الفكر السحري الديني. ففيما يتبدَّى الروح المالك للتامرابطت قديسا إسلاميا وليّا، ظهر روحُ التاسحارت باعتباره روحا شـريـرا. وهذان الروحـان اللذان يُوصَفان بالرجوع إلى الإسلام ليسا بلاشـك سوى الاستبدالات التي طرأت على أرواح الموتى خلال التاريخ الديني.
هناك اختلاف آخر ملحوظ بين المرأتين يكمن في قدرة – أو عدم قدرة – كلتيهمـا على التحول. فبينمـا تستطيـع التاسحـارت أن تتحوّل إلى حيـوان
(ضفدع، قط،…) أو شيء (جرَّة ماء، قِدر)[7]، تعجز التامرابطت عن ذلك.
رغم وجود هذه الاختلافات بين التامرابطت والتاسحارت، فإنهما لا زالتا تنعتان معا بتسمية تادرويشت الأكثر عموما، وهي أفضل طريقة لوسم حالتهما السابقة للجنون. ورغم أن اللغة تمنحهما أسماء جديدة والمجتمع يحدد لهما وضعا جديدا، فإنهما تظلان، رغم كل شيء، موسومتين مدى الحياة بمرحلة خللهما النفسي. وسواء أتطورت التادرويشت إلى تامرابطت أم إلى تاسحارت، فإنها تبقى دائما تادرويشت، أي مجنونة[8]. ويترتب عن هذا أن الجنون مرضٌ لا يداوى أبدا بالكامل، وأنه قادر على الظهور في أية لحظة. ويساهم في تقوية هذه الفكرة نوعُ الباتولوجيا العقلية نفسه السائد في المغرب العربي (وفي سائر المجتمعات البدائية عموما)، والذي تُكَوِّنُه الهستيريا والفورةُ الهذيانية.
يوجد نوع آخر من التاسحارت (السَّاحرة) لا يُطلق على صاحبته أبدا اسم تادويشت، وسبب ذلك هو أنها لم تعرف خللا نفسيا، وإنما حصلت على هذه الصفة إما عن طريق النقل النَّسَبي أو بمحض الخاطر عبر إخضاع نفسها لمُسَارَّةٍ. في الحالة الأولى، نكون أمام مجرَّد امرأة تنقل معرفتها إلى ابنتها التي غالبا ما تخدمها باعتبارها مساعِدة في مهنتها. وفي الثانية، يتعلق الأمر بامرأة تجري مسارَّة سرية. ويَعرضُ م. دوفلدير (1951) المسارَّة مختصرا إياها في نوعين:
– الأوَّل تقوم فيه التاسحارت بحزِّ رأس لسانها ثم تُلَحِّسُه لتلميذتها فتجعلها بذلك تبلع دمَها.
– الثاني نوعٌ من المسارَّة الذاتية، تكتفي فيه التاسحارت بلحس ظهر سُرفُوتٍ من الرأس إلى الذيل ثم تبلع بعد ذلك ريقهـا الممزوج بإفرازات هـذا الحيـوان شديـدة المـرارة. وتشكـل القدرة على ابتلاع المادة التي يفرزها السّـرفـوت باعتباره العنصر المساري الوحيد.
أما أنا، فلم أصادف أية تاسحارت اجتازت مسارَّة، صادفتُ فقط تادرويشت. كما لم أتمكن من معرفة أي شيء عن المسارَّة، كما لم أسمع أي حديث عن مسارة من النوع الذي أورده دوفلدير.
تاكـزَّانـت
كلمة تُطلق، حسب ج. م. ضاليه، على العرَّافة التي تتنبأ بالمستقبل، وعلى الشحاذة أيضا. وقد سمعتُ شخصيا هذه الكلمة تُستعمل بمعنى العاهرة التي تراود الرجال في أزقة الجزائر لتتحكم فيهم بعد ذلك عن طريق أعمال سحرية لا تعرفها إلا هي. ولا يمكن أن تكون التاكزانت إلا امرأة عربية رحَّالة حسب ما يقوله القبائليون. إنها توحي بالفزع والجحود، ولذلك ينفر الناس من طلب خدمتها. والمذكَّر أكزان موجود كذلك.
تَامْكاشْفْـتْ
(مذكرها: أمكاشف) ويعرفها ج. م. ضاليه باعتبارها عرَّافة. والكلمة مشتقَّة من الجذر العربي (ك ش ف) الذي يعني تنبأ وألقى نبوءات.
تاعزامـت
(مذكرها: أعزَّام) مأخوذة من فعل عزَّمَ. يتعلق الأمر، إذن، بالمُعَزِّمَة أو المعوِّذَة.
تامْسْنسِيـتْ:
ليس لها مقابل في المذكر. والكلمة منحدرة من فعل نْسْ «قضى الليل»، صار السّنس «قضَّى الليلة»، ثم تامسنسيت بالتسمية.
إن هذه الوفرة من المصطلحات[9] التي تطلق على الساحرة (واللائحة بالتأكيد ليست شاملة) تعكس المكانة التي يحتلها السحر في حياة القبائليين. وإذا لخصنا هذه التعريفات حصلنا على اللائحة التالية:
1 – لقبلـة: المولِّـدة، المطبِّبَة؛
2 – التادرويشت:
3 – تاكزَّانـت: كاشفة الحظ أو المتنبئة بالغيب؛
4 – تامكاشفت: عرافة، كاهنة؛
5 – تامسنسيت: مناجية الأرواح
ورغم تباين هذه الأسماء الثمانية لغويا، فإنها تظل بعيدة عن أن تشكل وحداتٍ منفصلة. ففي الممارسة لا تقف الشخصية المعنية بأحد هذه الأسماء عند «اختصاصها»، بل تزاول في أغلب الأحيان جميع الوظائف، مما يعيق عملية تصنيف نشاط هذه المرأة أو تلك ضمن الاسم المطابق لها ما عدا لقِبلَة التي تبقى أكثر قابلية للإحاطة. وهذا التعدُّد في المعاني هو ما قادني إلى إطلاق كلمة ساحرة عليهن جميعا بلا تمييز. فمفهوم السحر له معنى واسع بما فيه الكفاية للإحاطة بمختلف الأنشطة المذكورة. والقبائليون أنفسهم يجدون صعوبة كبيرة في إعطاء معنى دقيق لكل واحد من هذه المصطلحات.
ميزاتٌ وعُـيُــوب
تستمد الساحرة إذن خاصيتها من مرحلة سيكولوجية متميزة تجعلها تتطوَّر نحو وظيفتها الجديدة. وهذه هي الحالة الأكثر انتشارا بما أنه لا يمكن للمرأة، حتى ولو كانت تنتمي للطبقة المرابطية، أن تصير ساحرة إلا بعد مرورها بهذه التجربة الداخلية.
في الواقع توجد نساء مرابطيات بشكل مزدوج، مرابطيات بولادتهن ومرابطات بالولي الذي يسكنهن. وهن ساحرات يحظين بامتياز أكبر من نظيره الذي تحظى به اللواتي ينحدرن من عائلة عادية كما لو أن الاصل الاجتماعي العالي يزيد من سلطتهن السحرية.
تملك الساحرات هبات روحية ليست هي كل ما لديهن؛ فمن الشائع جدا أن تنضاف إلى هذه الهبات عاهات جسدية (الحدبة أو قوس الظهر، العمى…) أو خفة متميزة في تحريك الجسد. وقد كانت إحدى العرافات اللواتي زرتهنَّ تدهش حقا زبوناتها بجعلهن يضعن أيديهن في صدرها وهي تحركه. وأنا نفسي استحوذ عليَّ انطباع بلبلة وتشوش لا يمكن وصفه. وهذا التشوش في صدر الساحرة هو الذي يكشف عن السحر الذي يستهدف الزبونة. كما يذكر بالمعتقد القبائلي الطفولي الذي يرى في قرقرات البطن حربا بين الأمعاء الجائعة المتخيلة بمثابة أفعى. ففي هذا التمظهر لِغاز الأمعاء لا يمكن إغفال العثور علىالرابط الموجود بين السحر والثعبان.
يعتبر تحريك الهواء داخل الجسم خاصية عامة عند الساحرات. ويشكل الجشاء أكثر مظاهره بساطة. وكلما كانت الجشآت هامة وكثيرة عند الساحرة علمت الزبونة أنها مصابة بالسحر السلبي. وكل النساء يعرفن تفسير هذا التجشؤ المطوَّل والجهوري بالخصوص.
علاوة على العلامات والقدرات الجسمية، تملك الساحرة قدرات أسطورية ألصقتها بها «الأقاويل». ورغم أن هذه المزايا (أو القدرات) لا يتم التأكد منها بالتجربة، فإنها تبقى لاصقة في العقول. فهي تستفيد من هالة تمتد لتشمل حتى أقاربها وممتلكاتها. فمن الأدوات والأشياء التي تستعملها يفيض السحر القادر على تحقيق المشاريع الشخصية بسهولة. وكل أنشطتها، سواء النهارية أو الليلية، مَحْـبُوة بالسحر: تحضير الوجبات، وتدبير شؤون المنزل، وإقامة الصلاة، ما تتلفظ به من كلمات وما تراه من أحلام، الخ.، لكل تلك الأنشطة شأن أعظم من تلك التي تزاولها المرأة العادية. وعندما ترى حلما، فإنها ترويه لزائراتها اللواتي ينتظرن تفسيرها له وهن كالمعلقات في شفتيها. والمعنى الذي تقدمه يرضي دون أدنى شك المستمعات. ويمكن فتح قوس حول الأحلام لإعطاء بعض التوضيحات عن تفسيراتها حتَّى نتمكن بسهولة من ملاحظة كيف يتم إخضاع التفاؤل بالرؤى للقيم الاجتماعية. رغم أن التفاؤل موجود في القبائل، فإنه لا يوجد (أو لم يعد يوجد) مُفسِّرٌ اختصاصي للأحلام مثلما وجده ب. كيلبورن (1978) في المغرب. فالقبائليون يملكون «مفتاحا للأحلام» يتناقلونه جيلا عن جيل ويُمَكِّنُ كلَّ فردٍ من العثور فيه على دلالة حلمه. إلا أنَّ النساء العجائز هن الأشخاص المؤهَّلين اليوم لتفسير الأحلام.
كما هو الشأن في المغرب، يفسر القبائليون الحلم دائما بالرجوع إلى القيم الاجتماعية حتَّى لو كان محتواه يعبِّرُ عن رغبة فردية ظاهرة. وفيما يلي مثالٌ عن هذا التفسير.
- الحلـم: ترى امرأة متزوجة نفسَها زوجة لرجل آخر من القرية.
– التفسير الثقافي: ستلد صاحبة الحلم عما قريب مولودا ذكرا.
ونرى كيف «أعادت» الثقافة «تكييف» هذا الحلم حيث صار محملا بمعنى الخصوبة، بينما هو حلم في الزِّنَى إذ يعبر عن رغبات جنسية بشكل لا يقبل الجدل.
إن تفسيـر الأحـلام تفسيـر ذاتـي يأخذ بعين الاعتبار، وفي آن واحـد،
علاقة عناصر الحلم بالواقع والوجدانات الشخصية الأولية لصاحـب الحلم حينما تكون هذه الأخيرة غير مقموعة ثقافيا.
تشاهد المرأة حلما ترى فيه بقرةً تنظر إليها بإلحاح، نظرة تكشف عبرها عن نوايا عدوانية تجاه صاحبة الحلم. في الغد طبعا، تحكي المرأة حلمها المقلق لامرأة أخرى من البيت مع الإدلاء بتفسيرها الشخصي: ليست البقرة، في اعتقادها، سوى أخت زوجها التي تعتبرها منذ وقت طويل عدوَّة لها. فهذه الأخيرة بالضبط بدينة (كالبقرة)، وذات عينين كبيرتين. فمن قبل، كثيرا ما عَزَت صاحبة الحلم أمراض أبنائها إلى عين أخت زوجها هذه. وليس ما صادفته في الحلم سوى هذه العين الشريرة. إنها تشير إليها بأن عليها أن تضاعف الحذر وتراقب تصرفات أخت زوجها التي لا شك أنها تلقي عليها سحرا ما. ولا يبقى هذا الحلم، في اعتقادها، انعكاسا «صحيحا» لدواخل ومكنونات أخت زوجها فحسب، بل هو أيضا إنذار. وهكذا يمارس كل فرد العِرافة لحسابه بواسطة ما يراه من أحلام. وليس في ذلك ما يدعو للتعجب في مجتمع تظل ممارسة الحِضَانة فيه معروفة جدا. لقد كان الأمر يتعلق في هذه الممارسة بقضاء ليلة في مكان مقدَّس (ضريح، مغارة…) لرؤية أحلام مضيئة للواقع أو التزوُّد بتوجيهات للعلاج في حالة الحضانة العلاجية. ويرد ج. كامب (1961: 150) هذه الممارسة إلى المناخ المتوسطي الغربي: «كذلك يشير أرسطو إلى أنه طقس كان للصَّارديين في عصره (وبالتأكيد منذ وقت أطول بكثير) عادة النوم قرب قبور ابطالهم: إنه طقس الحضانَة كما يمارسه البربر حتَّى اليوم».
تتصف مزايا الساحرة وقدراتها بالتعارض الوجداني: فهي تستطيع مساعدة زبونتها كما هي قادرة على معاكستها. وقد بدا لي من خلال الملاحظات العديدة التي تمكنت من إجرائها أن ما تبديه النساء إزاء الساحرة من احترامٍ وتقدير إنما يعود في معظمه إلى خوفهن منها.
لا يخفى على الزبونات اللواتي تـلازمـن الساحرة الجانِبُ السَّقـوطُُ فـي شخصيتها. إلا أنهن لا يعزين إليها ما يشعرن به من خوفٍ، بل يعتبرنَه مِن تحريض الروح الذي يملكها. فهذا الروح شديد الحساسية والتأثر لا يتساهل مع أي انحراف: إنه كثير المطالب، يفرض أحيانا أعمالا مؤلمة، وسُلطوي لا يمكن إلا طاعته. وكثيرا ما يجد من المبررات ما يكفي للحقد على الساحرة[10]. إنَّ المرأة التي تنتمي إلى صنف التامرابطت لا تمارس مبدئيا السحر السلبي، على الأقل فيما تزعم، إلا أن الأمر يخالف ذلك تماما في الممارسة. أما أنا، فمن مجموع التامرابضين (وهذا هو الاسم الذي يطلقنه على أنفسهن) الأربع اللواتي زرتهن لم أسمع إلا واحدة تنفر فعلا من إبطال السحر السلبي، ولم أرها أبدا تستعمله. لكن هل بإمكانها فعلا أن تبطل السحر الذي تلقي به الأخريات ما لم تكن لها دراية دقيقة بهذا النوع من الأعمال؟ لقد كانت هذه التامرابطت تكشف جميع أعراض السحر التي تعاني منها زبوناتها لتصف لهن الأدوية بعد ذلك. إن كل امرأة قبائلية، حتَّى وإن كانت أكثرهن سذاجة، بإمكانها تصوُّر ما هو السحر الشرير وترياقه، وذلك بفضل الفلكلور الغني المتوافر عن هذا الموضوع.
التاسحارت التي لم تمر بمرحلة التادرويشت هي التي تحمل عيوب الساحرة ونقائصها. فهي امرأة غير مريضة، وبالتالي فهي غير ممسوسة، تؤثر إراديا وبطريقة مسؤولة، ولذلك فأعمالها لا تغتفر. شرورها وآثامها شديدة الخطورة لأنها قادرة على القتل والتفرقة بين الزوجين وتحريض أفراد العائلة الواحدة بعضهم ضد البعض الآخر.
رغم أن الممارسات السحرية المعاصرة تضطر أحيانا للاستجابة لطلبات جديدة، فإنها تعتمد دائما المرتكزات نفسها. فالعناصر السماوية والنباتية والحيوانية، الخ. تبقى متماثلة حتى وإن أضيف إليها أحيانا عنصر جديد. ويسمح هذا الثبات الشكلي بصياغة السؤال التالي: هل النساءُ مالكات القدرات فوق الطبيعية هن اللواتي يقاومن التحولات الثقافية أكثر مما يقاومها الرجال، مع أن هذه التحولات قد تبدو لهن قبليا لصالحهن؟ إن هذه المحافظة لا تعود بالتأكيد إلى وجود سيكولوجية أنثوية افتراضية خالصة، وإنما ترجع إلى النظام الاجتماعي نفسه الذي جعل منهن مؤتمنات على العالم فوق الطبيعي. إن التطابق امرأة = فوق الطبيعة هو الذي يبقيهن في موقعهن. ومن المعروف تاريخيا أن ما هو فوق الطبيعة يشكل الرائز النفسي الثقافي الذي يقاوم بشكل أفضل حتَّى أكثر التحولات عنفا. فهو لا يبقى على حاله فحسب، بل يتقوى ويتطور في المجتمعات التي تعاني وضعا فوضويا وغير نظامي.
قلـب القيـم
تتميَّز الأنوثة بانطلاق حركاتها من الخارج واتجاهها نحو الداخل، باتجاهها من الخارج إلى الداخل. ويمثل الحركات المتجهة نحو الداخل، أو الحركات الجاذِبَة، فعلُ جَمَعَ أو كدَّسَ. أما الحركات النابذة، فيمثلها فِعل أسْرَفَ وبذَّرَ، وهي تشارك أساسا في الذكورة. ويمكن تمثيل هذين الموقفين كالتالي:
دينامية أنثويــة دينامية ذكورية
يرتكز الانقسام الأسطوري للعالم على الانقسام الجنسي. وتأتي الساحرة من موقعها الاجتماعي الخاص لتخلط هذا النظام بتلاعبها بالحدود المقبولة. فرغم كونها امرأة فيزيولوجيا فهي تخفي وضعا جنسيا غامضا. وسلطتها في الحقيقة ليست ملكا لها وإنما للروح الذي يملكها. أيضا، ليست هي التي تتلفظ بعزائمها السحرية، بل يقوم بذلك رجلٌ يستعير فمَها ويرشدها فيما تقوم به من حركات. وعلى مستوى اللباس، سنرى أن للا فاضمة ترتدي البرنس أثناء ممارستها لبعض الطقوس. وعادة ما يمنح هذا اللباس للرجل شرفا وسيادة.
بالإضافة إلى ذلك، فهي تكثر من العلامات الخارجية للديانة الإسلامية الأرثذوكسية (امتياز ذكوري) التي تمكنها، مثلا، من إقامة الصَّلاة ومرافقة الميت إلى المقبرة، الخ. وتقودها هذه الشرعنة الشخصية – بواسطة الدين الرسمي – إلى الوضع الاعتباري الذكوري والاستفادة من امتيازاته، فتصير شخصية عمومية وتذوق تجارة المال وهما وضعان اعتباريان مقصوران على الرجل. وهي نفسها تبرر استعمالها للنقود قائلة: «تُعطاني [النقود] لكنني أعيدها». والحالُ، إن الحركة السَّخية هي ما يعلي الشرف الـذكوري. إن السَّاحرة بجميع هذه السمات والسلوكات، تبدو كأنها تقول: «إنـي امرأة، لكنني رجلٌ أيضا»، وهو ما يمكن تمثيله على النحو التالي:
دينامية ثنائية الجنسية
بالنظر إلى العلاقات الموجودة بين الهستيريا والثنائية الجنسية، وبملاحظة أن الهستيريا هي الاضطراب النموذجي الأنثوي في هذا المجتمع، يمكن فهم ما تحققه النساء من إشباع عبر معاينتهن للازدواج الجنسي عند الساحرة. فهنَّ يتمكنَّ من إشباع، وبشكل «تفويضي»، غرائزهنَّ الجنسية الذكورية الكامنة مع تقوية قدرتهن الداخلية على كبح هذه الغرائز نفسها.
مثـــال:
إن أفضل طريقة للإحاطة بخصوصية الساحرة عن كثب هي، بالتأكيد، عرضُ مثال محدَّد. ولذلك سأختار مثال للا فاضمة التي سبقت الإشارة إليها في عدة فقرات من هذا البحث. ليس وراء هذا الاختيار أي باعث قبلي. لقد فرض نفسه لسبب وحيد، هو أن للا فاضمة كانت الساحرة الوحيدة التي قبلت مساعدتي «بصدق».
لقب «للا» التشريفي الذي يسبق الاسم الشخصي ليس من إضافتي. إنه يرفَقُ دائما الاسم الشخصي للنساء التيمرابضين (وليات صالحات أو ساحرات)، ومعناه «سيدة» و«سيدتي». وبهذا اللقب يتم رفعهن فوق النساء العاديات. فاستعمال «للا» باعتباره نعتا أو صفة يميِّزُ إيجابيا المرأة كما في جملة «للاَّ – سْ تّلاوينْ» التي تعني «أفضل النساء». وأحيانا يتم استبدال «للا» بكلمة أخرى هي «نانَّا»، وهي لقب للاحترام معناه «أختي الكبرى»، كما يعني عموما كل امرأة أكبر سنا من الناطقـ(ة) به.
للا فاضمـة امرأة يناهز عمرها 55 عاما، بشوشة الوجه، تحب الصحبة والدعابة. تزوَّجت في سن الثلاثة عشر، وهي أم لـ 12 ولدا بالإضافة إلى كونها حملت 12 مرة أخرى انتهت جميعا إما بوضع مولودٍ ميتٍ أو بالإجهاض. ومن بين أولادها الأحياء 7 متزوجون. أما الـ 5 الآخرون (3 بنات وذكران)، فلا زالوا يعيشون معها في بيت واحد. الذكران يعرضان اضطرابات سيكولوجية وسبق لهما أن دخلا مستشفى الأمراض العقلية. ومؤخرا، مات أحدهما في المستشفى في ظروفٍ مجهولة. زوجها يشتغل عاملا في شركة وطنية، ولا يأتي إلى المنزل سوى للأكل والنوم. هي التي تدير حياة البيت. أما هو فليس له أي كلمة يقولها، حسب ما يبدو؛ ففي حالة زوجية عادية، سيجد رجلٌ مثله من المبررات ما يجعله يقف ضد زوجته التي لا تملك أي وقت للقيام بواجباتها الجنسية نظرا لانصرافها كليا لأنشطتها. أما أشغال المنزل وتحضير الوجبات، فتقوم بها في أغلب الأحيان بناتها أو إحدى الزبونات المترددات على البيت. بالإضافة إلى ذلك، فهي تتمتع بحرية في التصرف والتحرك تحسدها عليها العديد من النساء.
لقد أمدَّتني للا فاضمة بالعديد من عناصر حياتها الشخصية، وذلك بإبداعها الخاص. فقد حكت لي قصَّة مرضها وقَدَرها على شكل نشيد شعري. وقبل أن تشرع في إنشاد حكايتها بدأت بمناداة الأولياء:
الله، أيها الأولياء
أواهٍ يا مولاي علي موسى
مسـاء ذات خميـس
حلَّت بـي مصيبـة
فسلكت سبيل العالم المتـوحش[11]
مرضتُ 18 عاما
لم يعثر الطبيبُ على أي دواء
أما أنت، يا مولاي علي موسى
فإني قصدتُك مضحية بأولادي
ورطـتُ حتى إخوتي
وبكـى زوجـي
ولبستُ البرنس
والمسبحة هي كل ما في حجـري
الناسُ جميعـا يهرعـون إلـيَّ
كل منهم يقـولُ قـولا.
بمـرض إلهي أنا مصابـة
في الأعشاب وجدتُ دوائـي
كم رجوتُ الإله العالـي
في ليالـي متواليـة
إنه المعلم أحمـد بودربالـة
قلت: «أواهٍ يا مولاي بلـوى»
فجاء من [مسلك] العنـق
قصدتك كل يوم
أصبحتُ كسونونـو
أعطاني رجال الله الدواء
ثبتونـي في المركـز
يا مستشفى س
نظمت فيه قصيدة
أمَّك، سأمضي إلى أن أصل إليها
كان الجميع يبكي
سألتُ سيدي علي موسى
من الله يأتي دواؤه
أنا الآن أمسك المسبحَـة،
وبفضل الله نفسه أنطق [بالنبوءات]
أواهٍ يا شجرة دائمة الخضـرة
الآن انتهت سعادتي
استيقظتُ ذات فجـر
وأبوايَ عليّ يبكيــان
وحتَّى زوجي أتـى
ماذا بوسعي أن أفعل من أجلك يا أختي؟
مشيتُ في الجبال،
ذلك هو الدواء!
من الخميس إلى الجمعـة
الصَّـلاةُ دائما هنا،
أبنائـي مرضـى
في المستشفى نحـنُ
أخرجـوا حبيبي من قلبي
مولاي عمـر وفيٌّ للعادة!
[كم] ناشدتُ ك…[12]
احمني يا ولدي الحبيب!
قال: يا ابنة بلـدي
لا تخافي يا أختـي.
أنا مع الحليم الحبيب الرؤوف
عالي المقام (في تراتبية الأولياء)
لما هرع هـ[13] إلـيَّ،
لا تخافي يا أختي
ابنك، منحنـاه أدوية
هو الآن بخيـر
اللـه، اللـه، شجـرة الحيـاة
همومـي كثيـرة
فليضع الله حدا للبؤس والشقـاء.
لما كانت للا فاضمة تنشد قصيدتها هذه، كانت بضع نساء حاضراتٍ، فلاقَينَ صعوبة في إخفاء تأثرهن. هل كان ذلك هو سبب توقفها مدة قصيرة عن الإنشاد لتستأنف بعد ذلك عرض شعرها بلا ترنُّم؟
انتظرن يا أخـواتي
لما كنتُ مريضة طوال 18 سنة
مات 12 من أولادي.
ما من أحد إلا وقال قولا
وفي تلك الأقاويل ساهمت حماتي
وأضافت لي ضرَّة
لما جاء زوجـي
قال: لا تخافي يا أختي
رجال الله أعطوني الذكر والأنثى،
ولكن الآن، هو المَـسُّ
أمسك السُّبحة
كثرت الأقاويل من حولي
أخالُ أنني مجنونة
لم أجد دوائي عند أي طبيب
تعلمتُ الأدوية جميعا
من الأعشاب تعلمتها
رجال الله أعطوني إياها
أداوي الرّضّع، وأولِّدُ
لقد جاء [الملوك/الأرواح]، فصرتُ للمسلمين طبيبا
في منزلي، هنا يا أخواتي
أنا، جاءني هذا من السلطات
أنا ابنة عائلة كريمة
أحبُّ أن يكون الشرف عادة.
صـار بيتـي سوقا
أخواتي يزرنني؛
الوُطانيَّة أكلمها
أرفعها عاليا كالذهب والفضَّة.
من أحببتهم فهم إخوتي
لما أجلس معهم حول مائدة واحدة
أحدهم، م.، [يكون] عاملا
والآخر، ل.، مفوّض
عند العرب، وليس هنا[14]
والآخر، ك.، يتكفل بشؤوننا
بكيت على أخواتي
على أبويّ اللذين هجراني اليوم
لي زوجة أب
لم أكن أحسب أنها ستفعل بي كل ما فعلت
أصبت إخوتي
وحتى أبنائي
ها أنا الآن في مكان منعزل
فيه أسكن عادة
ليلة الخميس لا أقضيها هنا
ما من ولي إلا زرته
حتَّى بلغ عددهم 35 وليا، يا أخواتي
أرى من تأتي من الشرق والغرب
تزورني، هنا
أذرف دموع الشفقة
أتوكَّل على الله
إنه ما يليق
لا أعتقد،
المـوت موجـود
سنكون رفاق الشرف
ذلك هو الـ «بخير»
كل شيء إلى الله، إلى العالي، يعود
نحنُ، سنمضي مع الهوة
ذلك أن الخوف يوجد، يا إخوان الهنا،
لأن من لم تعد الحياة راغبة فيه،
لم يتصدق.
نحن، سنعود، سنعود
حتى وإن كان الأمر هكذا.
قليلٌ من الخديعة
لم نحمِلَه هنا.
أنجزتُ هذه الترجمة بعد تفريغ التسجيل الصوتي، كما سعيتُ إلى جعلها قريبة جدا من النص القبائلي لإيقاف اللغة العربية على صعوبة تفسير هذا النوع من الإبداع الشعري الذي يعتم معنى أبياته كل من طبيعته الباطنية وكثرة رموزه وعمل المتخيل. غير أن ذلك لا يمنع من استخراج الأحداث الآتية بفضل بعض العناصر البارزة في النص: مساء ذات خميس؛ ذهبتْ إلى العالم المتوحش؛ مرضتْ طوال 18 عاما؛ لم يجد الطبيب أي دواء لمرضها؛ جميع ليالي الخلوة في العالم البري كانت مخصصة لمسارَّة معرفة الأعشاب؛ كان الأولياء (الأرواح) يرشدونها دائما؛ قلقها الحالي على ابنها الذي دخل المستشفى. وهذه النقطة لا تروي حدثا ماضيا متزامنا مع بداية مرضها، وإنما تصف حالة راهنة. بوضوح متناه تقيم للا فاضمة رابطا سيكولوجيا يُوَحِّد – بواسطة التداعي[15] – مرَضَها مع مرض ابنها، والحال أن بين المرضين مسافة زمنية تقارب 35 سنة.
ومن الجزء الثاني من القصيدة، ولم تنشده، نعلم أنها فقدت 12 ولدا؛ أن أباها تزوج ثانية بامرأة كانت بالنسبة إليها أما شرسة، وأنها اليوم بدون والدين. كما يخبرنا هذا القسم أيضا عن حالة إخوانها الجيدة اجتماعيا واقتصاديا. فضلا عن ذلك، لقد قالت لي إنها زارت 35 مكانا مقدسا. ومع أنها لم تهتم بالتسلسل الزمني لزيارتها مختلف هذه الأضرحة، فقد ذكرت أسماءها جميعا كما كانت تتواردُ في ذهنها[16]. كما أولت عناية خاصة بثلاثة أولياء منهم: سيدي محمد أمزيان[17]، وهو أول من زارته، ثم مولاي علي موسى[18] الذي يعتبر معلمها، وأخيرا سيدي محمد بن مرجة[19] الذي جعل منها مطببة.
إذا كانت للا فاضمة تدَّعي أنها مرتبطة بكل هذا العـدد من الأوليـاء، فذلك يرجع لكونها تعتقد أن هذه هي الوسيلة المؤكدة لإظهار اتساع معرفتها وبركتها، وتنوعهما ومشروعيتهما. فهما واسعتان لكونهما تنحدران من جميع أولياء القبائل وما وراء القبائل. وهما مشروعتان لأن جوهرهما معا ديني.
تحمـل المعلومـات السابقـة على الاعتقاد بأن مرض للا فاضمة يشكـل
نموذجا للسلوك السيء، منظَّما اجتماعيا، قادها إلى الاعتزال. لقد صارت عرافة – مطببة بعد تجربة داخلية تعتبر علاماتها المسارّية الأكيدة، علامات نوعية لهذه الطريقة الاختيارية. هذه العلامات هي:
1 – هذيان هلوسي مع رؤية و/أو سماع روح أو عدة أرواح؛
2 – سفر مُسَارِّي يتضمن:
أ – خلوة في الجبـل،
ب – حـوارٌ مـع الأرواح،
ج – مُسـارَّة للتـداوي بالأعشـاب.
3 – عودة إلى الجماعـة بوضع اعتباري جديـد؛
4 – التكفل بوضـع حـد لمعانـاة الآخريـن.
وهذا المرض المسارِّي لا يبرر قدر المرشحة للتحول إلى عرافة فحسب، بل ويستعبدها أيضا. فهي ملزمة بالتصالح والتعاهد مع الأرواح التي التقت بهم، وإلا فقد يكبدونها معاناة أسوأ ما لم يقتلوها.
ثمة شبه ملحوظ بين جميع هذه السمات وسمات الشامان[20] المعروفة في العالم الآسيوي. وهي تظل متميزة في مجتمع لم تثبت فيه بعدُ مسألة وجود ظاهرة دينية شامانية قديمة. بيد أنه مع استحالة الحديث هنا عن شامانية محققة، يمكن الكلام عن مجرد سمات أو عناصر شامانية موازية. فالخلوة في العالم البري (رمز الموت) مع اجتياز اختبارات فيزيولوجية (حرمان جنسي وغذائي) تذكر بالموت المساري لدى الشامانيين الجدُد. بالإضافة إلى ذلك، ليست حكاية للا فاضمة شيئا آخر غير الرحلة الداخلية التي يعرفها كل شامان، والتي يمكن أن نذكر منها ثلاث نقط على الأقل:
– الغنـاء
– التعرض لـ «مصيبة إلهية».
– التماهي مع طائر السونونو والطيور المهاجرة، الذي يدعم فكرة الروح الرحالة.
لكـن إذا أقمنا التمييز الكلاسيكي بين الشامـان أو الممسـوس بالأرواح واعتبرنا الأول يستمد خاصيته من قدرة روحه على السفر إلى عالم الأرواح والثاني يستمدها من جسمه المسكون، وصلنا إلى نتيجة أن للا فاضمة امرأة ممسوسة أكثر منها شامانة. ذلك أن الأدرويش القبائلي هو، قبل كل شيء، شخص «يركبه» روحٌ. والمركوب لا يغير عالمه وإنما يغير هويته، أما الشامان فيسافر ويغير العالم، لكنه يحافظ على هويته. وللا فاضمة تجمع بين عناصر مكونة للحالتين. فهل يمكننا بذلك أن نعتبرها شامانة ممسوسة؟ إذا كان هذا السؤال ممكن الطرح، فإن الإجابة عنه تظل مستحيلة.
تتضمن تجربة الشامان الشطحية – التي تؤدي إلى انتقائه – تعذيبات وتفسخات للجسد ثم بعثا، كما تتضمن تعليمات تستكمل فيما بعد على يد الشامانيين الكهول. ويرى م. إلياد أن هذا الموت – الانبعاث المسارِّي يعادل الشفاء. فالشامان مريض أفلح في استرجاع صحته، «داوى نفسه بنفسه». وعلى العكس، لا يعتقد ج. دوفرو أن الشامان يُشفى. فهذا الأخير، بحسب رأيه، هو «عنصر اجتماعي مخل بالنظام». أن يكون الشامان كائنا يعاني من عُصابٍ خطير أو حتى من ذُُهان، فذلك لا ينجيه من قبضة المجتمع الذي يعتبره مريضا في حالة شفاء مؤقت. ولهذا السبب، بلا شك، تستعمل بعض اللغات اسما واحدا لتعيين المجنون والشامان. وفي ما يخص اللغة القبائلية، لا زالت كلمة تادرويشت التي تُطلق على المجنونة تطلق أيضا على الساحرة، لأن الجميع يعرف جيدا أنها لا تشفى أبدا بشكل نهائي. ومما يعزز هذا التصور الأزماتُ التي تعيشها تلك التادرويشت دوريا، ثم كونها هي نفسها تشعر بضرورة زيارة أحد المطببين الذي يعلوها تراتبيا، ويكون في أغلب الأحيان رئيس جمعية دينية. ويتجلى اضطراب الساحرة تجاه الثقافة ذاتها من خلال الأقاويل الرائجة حولها؛ فهي امرأة مجنونة، تشكل خطرا على أقاربها وعلى الآخرين، تفرض هبات وأعطيات مهمة في أغلب الأحيان فتسلـب بعـض العائـلات الفقيـرة، ثـم إنهـا لا تعامـل جميع زبوناتها بطريقـة متساوية[21].
يشهد كلٌّ من الوعي الحاد بكـون العرافة امرأة مريضة، وإطلاق اسـم التامرابطت (ولية) عليها، وهو مجرد مراوغة كلامية لا أحد من السذاجة بحيث يغترّ بها، والإحساس بالخوف منها، يشهد كل ذلك على وضعها المتفرد. ويرى ج. دوفرو أن الحالة الشامانية تشكل، بالنسبة للجماعة، جنونا بالتفويض؛ فالشامان «مجنون» باسم أعضاء الجماعة ولحسابهم مادام جنونه يتيح لهم الحفاظ على «شبه توازن سيكولوجي» (دوفرو، 1977: 1-83). ويرى ليفي ستراوس أن المركب الشاماني يتكوَّن من ثلاثة عناصر: «تجربة الشامان نفسه الذي يعاني من حالات خاصة ذات طبيعة نفسية جسدية، وتجربة المريض الذي يشعر – أو لا يشعر – بتحسن، وأخيرا تجربة الجمهور الذي يشارك هو الآخر في العلاج» (ليفي ستراوس، 1974: 197).
تزاول للا فاضمة مهمتها منذ عشر سنوات. وقد بدأ مرضها بعد انصرام بضعة أيام على وضعها لمولودها الثالث. وتتميز مسارّتها أساسا بالطول، حيثُ إذا أجرينا حسابا بسيطا بين سنها في بداية مرضها (20 عاما) وعمرها لما بدأت ممارستها (45 عاما) توصلنا إلى أنها قد اجتازت مدة مسارية استغرقت حوالي 25 سنة. وهذا يجد تفسيره في كون وظيفة الساحرة لا يمكن أن تمارسها امرأة حديثة السن. كان عليها، إذن، أن تنتظر سنوات عديدة قبل أن تزاولها.
بحسب قول للا فاضمة، لا تنتهي المسارة أبدا. ولذلك فهي لازالت تواصل زياراتها لمسؤولي الزوايا الدينية النائية جدا في بعض الأحيان. وكلما بعُدت وجهة زيارتها تمَّ تعليق أهمية كبيرة على ما تتعلمه فيها، ذلك أن ما من بعيد في الزمان والمكان إلا ويشتمل – بحسب الاعتقاد السائد – على جميع الأسرار والخفايا، وبالتالي على جميع الممكنات. وقد رأيتها مرّة تحكي بافتخار لزبوناتها ما قاله لها رئيس إحدى زوايا مدينة الجزائر الذي كانت قد التقت به منذ بضعة أيام. وبصفة عامة، فهي تتردَّد على الأماكن المقدسة شديدة القرب، لكنها خلال الأعياد الدينية تختار التوجه إلى أمكنة بعيدة جدا. هكذا فهي تقضي غالبا أول يوم من السنة الهجرية، وهو تاعاشورت [عاشوراء]، في ضريح جدي مانكلاَّت الكائن بمنطقة عين الحمام. وأحيانا يُملى عليها في الحلم اختيارُ المكان الذي يجب أن تقصده. وبطبيعة الحال، فإنها تقضي عشية هذه الزيارات وهي على وضوء.
وهي تشعر بضرورة التوجه إلى الزواية ليس لمواصلة تلقي معرفة الأولياء وبركتهم فحسب، بل أيضا – وأساسا – لممارسة الجذبة، وهي ممارسة ضرورية لحفظ توازنها النفسي، بحسب قولها. وتتجلى هذه الحاجة في الانتفاخ المفرط الذي يحصل في بطنها ولا ينتهي إلا بعد الجذبة. ولا تحتاج العلاقة بين الجذبة والجنس إلى برهنة. وتتمثل هذه العلاقة عند للا فاضمة في استحالة لباسها للسّليب، وحتى السروال الفضفاض الذي يُرتَدى تحت الفستان، والذي يغطي العضو الجنسي والفخذين حتى الركبتين. فهي تحتاج أثناء الجذبة إلى الإحساس بتحرر جسدها كاملا، سيما أنّ كل لباس يمسّ فرجها يثير فيها الشعور بالحصر والتعرض للتسمم.
[1] سبق أن نشرنا هذه الدراسة في مجلة العرب والفكر العالمي، ع: 13 / 14، (1. من نص البلاغة والبيان؛ 2. من نص السحر والإثنولوجيا)، ربيع 1991، صص. 177-197. (م). ونشير إلى أننا آثرنا ضم هوامش هذه الدراسة ومراجعها إلى القائمة المثبتة في نهاية الدراسة الموالية.
[2] المقصود بالقبائل هنا الإثنية البربرية في الجزائر، وهي موضوع البحث الراهن. (م).
[3] بحسب الاعتقاد المحلي، ستدخل بعض النساء استثناء (1 في 100) الجنة، بينما يقول القرآن إن المرأة لا تملك روحا، ومن ثمة فليس لها أن تطالب بالدخول إلى الجنة (كذا في الأصل، ونترجمه حرفيا [م]).
[4] نسبة إلى مُسارَّة (initiation): سبق شرحها في الهامش رقم 3 من دراسة جان بران «الرمز والسحر» المنشورة ضمن الكتاب الحالي. (م).
[5] ما من مريض إلا ويركبه روحٌ «irekeb-it». وفكرة الركوب هذه، الملازمة للملك، توجد أيضا في إفريقيا السَّوداء حيث تربط بالجماع، إذ تشكل المرأة مطية للرجل. انظر: ن. إشارد، 1981: 343-355.
[6] في العصور القديمة، كان للآباء سلطة قاهرة على البشر. ويذكر تيرتيليان أرواح الموتى باعتبارها قوى تعمل داخل الملك: (Tertullien, De Anima, 57, 3).
[7] للمقارنة مع المثال الذي يعطيه أبولي: «تحولت بافيل إلى بومة، جربت شكلها الجديد وهي ترسل صراخا أجش، ثم قفزت عدة مراتٍ على الأرض؛ وبسرعة، ارتفعت في الأجواء وطارت بعيدا برفرفات كبيرة»، انظر: أبوليوس، 1975، ج 3: 85.
[8] رأيتُ للا فاضمة، ذات يوم، وهي في حالة غضب شديد لدرجة أن امرأة نعتتها بتادرويشت، غير أن للا فاضمة ردت عليها قائلة إنها ليست «مجنونة»، وإنما هي «ولية».
[9] من الملفت للملاحظة أن مجموع هذه الكلمات تقريبا ينحدر من جذر عربي. وتلجأ اللغة القبائلية إلى استعارة مفرداتٍ من العربية، بصفة خاصَّة، عندما يتعلق الأمر بالتعبير عن أشياء ذات حمولة عاطفية قوية (جنس، موت، سحر). وبذلك فالأمر يتعلق بتصرف لغوي يدخل ضمن المجاز التلطيفي.
[10] لقد أوَّلت ساحرةٌ، زرتُها في الضاحية الباريسية، موتَ شاب عمره 17 سنة لقي مصرعه على الفور في حادثة سير وهو يمتطي دراجة نارية، فقالت لزبوناتها: إنها هي التي تمنَّت تلك الحادثة للشاب عقابا لأمه التي رفضت أن تقدم لها بعض الخادمات أياما قبيل الحادثة.
[11] علامة ثقافية لبداية الجنـون.
[12] طبيبٌ بمستشفى X.
[13] أحد إخوانها.
[14] لا يتعلق الأمر هنا ببلدة وإنما بمنطقة في الجزائر غير قبائلية.
[15] التداعي (association): مصطلح يعني «كل ارتباط ما بين عنصرين نفسيين أو أكثر تشكل سلسلتهما رابطة من التداعيات. (و) يستخدم هذا المصطلح أحيانا للدلالة على العناصر التي تترابط على هذا النسق. هذا المعنى الأخير هو المقصود حين نكون بصدد العلاج، إذ نتكلم، على سبيل المثال، عن “تداعيات حلم ما” للدلالة على ما له صلة ترابطية في كلام الشخص مع هذا الحلم. وقد يدل مصطلح “التداعي” في حده الأقصى على مجمل المادة المنطوقة خلال جلسة التحليل النفسي». عن: لابلانش وبونتاليس، معجم مصطلحات التحليل النفسي، ترجمة د. مصطفى حجازي، بيروت، الدار العربية للدراسات والنشر والتوزيع، ط. 2، 1987، (مادة: تداعي، ترابط). (م).
[16] سيدي بلوى، بلقاسم أولحاج، علي بوناب، للا سعيدة، سيدي عكاد، سيدي محمد أمزيان، سيدي علي موسى، تالا أوفاناس، الشيخ أحمد بودربالة، الشيخ أزرقي، سيدي أحمد بودومة، الشيخ العموري، سيدي بومديان، سيدي امحمد، سيدي عبد الرحمان، سيدي محمد بن مرجة، سيدي بوبكر، سيدي عامر الشريف، سيدي حند إزمورن، سيدي خالص المرسى، سيدي محمد بن يوسف، سيدي أودريس، سيدي محند أولحسين، سيدي الحاج إخلويين، عكال أبركان، آت الحاج، الشيخ الحامل، الشيخ مبارك، الشيخ بن عرب لاربعا، بورمضان، آت آتلي، علي أو طاير، سيدي أحمد أومالك، سيدي بوكدور.
[17] سيدي محند أمزيان: رئيس فعال للزاوية «الرمضانية» في سنوات 1850، ومقدَّم زاوية صدوق.
[18] سيدي علي موسى: زاوية المعاتقة التي نزح مؤسسها من الساقية الحمراء في القرن XVIII، وهي زاوية أحرقها الجنرال Pélissier، ثم أعيد بناؤها في السنة الموالية: راجع م. ما ميري، 1980.
[19] سيدي محمد بن مرجة: زاوية يحتمل أن تكون موجودة في منطقة الخ.ضارية (الباليصطو سابقا).
[20] للإحاطة بمعنى هذا المصطلح يمكن المبادرة بقراءة دراسة ألفرد مترو «الشامانية عند هنود الشاكو الأكبر» المنشورة ضمن الكتاب الحالي. على أن ذلك لا يمنع من تعريفه، باقتضاب شديد، باعتباره «طريقة في العلاج سحرية دينية، يتولاها شخص من رجال الديـن أو المطببين تكمن قدراته فوق الطبيعية في كونه يتمكن من تقنيتي الشطح والملك أو المس (Possession) بواسطة سفـر إلى السماء، يحارب (هذا الشخص) خلاله الآلهة أو يفتنهم. عن:
– Michel Panoff et Michel Perrin, Dictionnaire de l’ethnologie, Paris, Payot, 1973. (م).
[21] تكّات تُومَادْوِينْ: تعبير يتردد كثيرا ويعني بالتحديد: «إنها تلعب برأس زبونها».