يتيح التفريغ المنهجي للتقارير التي كانت تحررها يوميا البلدية لمدينة تونس استخراجَ فئات مختلفة من القضايا بحسب أنواع المخالفات أو أنواع المس بالمِلكية، بالنظام العام أو النظام الأخلاقي[1].
وبمتابعة القضايا، استطعنا ملاحظة تواتر القضايا التي تطلق فيها كلمة «عاهرة» على النساء المتهامات؛ ومعناها البغي في الخطاب الشائع آنذاك.
استطعنا أن نستخرج من التقارير نفسها معلومات عن أمكنة سكن المتهمات وكذلك عن موضوع الشكايات. استخرجنا أسماء النساء العموميات اللواتي كن معروفات عند الشرطة خلال سنوات 1861، و1864-1865. وبذلك نجحنا في تكوين عينة أولى تتألف من حوالي 200 عاهرة، غالبا بمكان السّكن، وموضوع الشكاية واسم المشتكي. كما استطعنا استخراج المبالغ المؤداة من قبل بعض الزبناء، في حالات توفر المعلومة، وهو أمر نادر.
تتيح القراءة السريعة لجدول هذه العينة الأولى معالجة الأصل الجغرافي أو العرقي للنساء العموميات بتونس انطلاقا من دراسة أسماء الأعلام[2]. وفي غياب معايير أخرى للتصنيف، فإن أسماء الأعلام، رغم حدودها وما يحف بها من شكوك، تتيحُ لنا بالتأكيد أن نتعرف على الأصل الحضري، القروي، القبيلي أو الجغرافي للمرأة، كلما أشار الإسم إليه.
والعينة تمثيلية بما فيه الكفاية لتتيح بعض الاستنتاجات. فهي، من جهة، تشكل حوالي 20 إلى 25% من مجموع مومسات المدينة؛ ومن جهة أخرى، إنها مأخوذة من حقبة زمنية واحدة ومن فضاء واحد[3].
يتيح الجدول استخراج خمس مجموعات حسب أصول واضحة:
في قمة الجدول، سجلنا المغاربيات من أصل جزائري أو مغربي المشار إليهن اسم غربي أو سُوسِي، وكذلك الطرابلسيات المشار إليهن باسم طرابلسي. 35 امرأة في المجموع، أي 5,17% على الأقل هنَّ أجنبيات عن المدينة والوصاية. وتفسَّر هذه النسبة الكبيرة من المغاربيات غير التونسيات بسهولة عندما نعلم أن الجماعات المستقرة في تونس والمنحدرات من الهجرات المغاربيات كانت تشكل الفئات الوضيعة في المجتمع الحضري التونسي.
وهذه الجماعات المنحطة التي كانت مُكدَّسة في وكالات أو فنادق الأحياء الضاحياتية لم تكن مندمجة جيدا في المهن الحضرية أو تعيش على حرف صغيرة بدون تأهيل محدَّد، تنحدر في الأصل من مناطق فقيرة كالجنوب المغربي أو الشوف الجزائري، وبذلك فهي كانت تشكل أوساطا مساعدة على الفساد والهامشية[4].
في هذا المستوى، يبدو أن الظروف الاجتماعية البئيسة للجماعات العرقية المنفصلة عن أوساطها الأصلية هي الأسباب الرئيسية للبغاء.
هناك مصدر آخر للبغاء شبيه بالأول، يهم العاهرات الزنجزيات اللواتي كن في الأصل إماء. تمثل العاهرة من أصل العبيد نسبة تبلغ حوالي 8% من العدد الإجمالي لأفراد العينة، وبذلك فهي ممثلة بما فيه الكفاية وتقدِّم تشكيلة من الألوان لعالم البغاء. يشير اسم شوشان إلى انحدار من عبيد معتَقين، ويرتبط اسم بورناوي بمملكة بيرنو، وهي منطقة إفريقية كانت تونس تستورد منها العبيد، كما يشير اسم كحلة إلى لون البشرة الأسود، ويشير الخادم إلى وظيفة خادمة منزلية، وهو وضع اعتباري عام تقريبا لقدماء عبيد الوصاية. غالبا ما تحتفظ العاهرة السوداء باسم أسيادها القدماء مثل شوشان بنت ابراهيم التركي[5].
لقد وجدنا في بعض وثائق الأرشيفات إشارة نفيسة تتعلق بدرب كانت تسكنه مومسات، يقع خارج أسوار المدينة، بجانب باب الجديد المعروف باسم درب بوسعدية. وبوسعدية هذا شخصية شعبية جدا في تونس، ترتبط بالتقاليد الإفريقية التي أدخلتها الأقليات السوداء. هذه الإشارة دالة على تجمّع فئة سكانية سوداء في هذا الدرب، لا سيما أنَّ أسماء أماكن تونس القديمة كانت ترتبط في أغلب الأحيان بوجود نشاط أو جماعة اجتماعية أو عرقية في المكان[6].
لقد حرَّرَ إلغاءُ العبودية في تونس، ابتداء من 1841، المدينة من حشود العبيد التي ذهبت لتعزز صفوف فئات المجتمع الدنيا[7]. ومن ثم، فقد كان بغاء السّود من إفراز هذه الأوساط، في علاقة بظرفية الإلغاء ونتائجه الاجتماعية.
علاوة على ذلك، من الصَّعب تقديرُ الوضع الاعتباري للعاهرات الزنجيات بتونس بين مجموع فئات المومسات. وهذا يفترض القيام ببحث دقيق حول الأذواق والميول الجنسية لذلك العصر. لكن التقليد الشفوي يمنح مكانة متميزة للنساء السوداوات، إذ يعتبر أنها تشفي من بعض الأمراض الجنسية شديدة الانتشار في ذلك العهد، وهو اعتقاد لا يستند على أي أساس علمي. قد يكون اختلاقا محضا نابعا من عبقرية العاهرة السوداء، وضعته لكي تجذب إليها الزبناء قليلي الميل إلى السوداوات.
يجب ربط هذا الوضع الاعتباري المنفصل للعاهرة السوداء في المتخيل الجمعي أيضا بتصور الأسود عموما في المجتمع التقليدي، حيث كان يُعزى له بصفة عامة وظيفة «الوقاية من الأمراض»، «والصرع»، التي تجعله يتكفل بالمصائب ويغير وجهتها نحو ذاته. وتتأكد هذه الصورة المتعارضة وجدانيا في كثرة حضور الأسود في طقوس الزواج كما في تفضيل خادمات البيوت السوداوات. وهي صورة تعكس في آن واحد موقفي الاحتقار والعطف، وقد غذاها أدبٌ غني ورسخها في نظر المجتمع المسلم الأبيض. «والمجتمع، مع إبقائه الأسودَ في وضع اعتباري ناقص، فهو يعترف له ببعض الصفات العملية: الأسود جسديا قوي وخصب. إنه أخلاقيا ليس بغيور، لا شرف له، لا شخصية له.. ومن الناحية الفكرية هو قليل الذكاء.. أما من الناحية الدينية، فهو ورع جدا وشديد الإيمان بالخرافات على الخصوص…»[8]. وعموما، يؤكد اشتهار الطوائف السوداء في تونس والمدن المغاربية بالوظيفتين العلاجية والتطبيبية، علاقة الأسود بإبعاد الشر والأمراض.
كانت البغايا من أصل أهالي طبعا تشكل أغلبية الحالات؛ وهذا يبدو عادٍ ويطرح علينا في الوقت نفسه مشكلة الأصل الاجتماعي والجغرافي للمومسات المحليات وكذلك لأسباب البغاء.
تفيدنا الأسماء المشيرة لأصل جغرافي أو عشائري، في آن واحد، بمعلومات حول حركة الهجرة القروية نحو المدن، وكذلك حول الآثار الثانوية التي تؤدي بالبنات القرويات المتمردات إلى التعاطي للبغاء. وتُعتبر أسماء مثل الفرشيشي، والورغمي، والحمامي والوسلاتي، الخ.، دالة في هذا الصَّدد[9].
لكن، قد لا يكفي في هذا المستوى الاقتصار على إثارة الأسباب العامة الصالحة لجميع الأزمنة والأمكنة. يتعين البحث عن الأسباب الخاصة بكل حالة بكيفية واضحة، دون إقصاء الأسباب العامة طبعا. ولكن هذه المهمة ليست سهلة دائما، إذ تشكل تونس ما قبل الاستعمارية إطارا شديد التقلب، يتميز في أغلب الأحيان بقطيعات عنيفة.
فسنوات الجفاف كانت ترافقها في الغالب حركاتُ هجرة واسعة نحو المناطق التي سودها رَخاء النسبي، متمثلة في المدن الساحلية بالخصوص. وكانت ظروف المجتمع التقليدي تتخللها دوريا سنوات جفاف مع ما يواكبها من مجاعات وأوبئة. ويقدم لنا المؤرخ التونسي ابن أبي ضياف شهادة دامغة في موضوع التحرك الواسع الذي قامت به القبائل المفقَرَة والجائعة نحو العاصمة في أعقاب عصيان عام 1864، إذ يقول: في هذا الشهر من عام 1248، أغرقت أمواج العربان (البدو، الرحالة) العاصمة بعد أن فقدوا كل شيء بما في ذلك خيامهم، فضاقت بهم أزقة الحاضرة، وكانت الصدقات دون أن تشبعهم، فكان مصيرهم اليومي هو الاستجداء، وطعامهم الأعشاب والنفايات…[10].
بذلك قد يكون من المفيد إعادة تكوين منحنى دورة الأزمات في البوادي التونسية وآثارها على تقدم الفقر والهجرة والبغاء. في السياق الذي يهمنا، وهو النصف الثاني من القرن 19، نحن في غمرة ظروف أزمة تمس على الخصوص القرى التي سحقتها الضرائب الثقيلة والسنوات العجاف، في آن، مما أفضى إلى انتفاضة 1864. ومن المؤكد أن النسبة القوية للعاهرات المنحدرات من أصل بدوي ليست مستقلة عن هذه الظروف. فالقرويات يمثلن نسبة 30% من مجموع المومسات اللواتي شملهن الإحصاء، وبذلك يأتين على رأس سائر جماعات هذه الفئة من النساء.
يقدم لنا التاريخ السياسي للوصاية، والصراعات القائمة بين الدولة الحسينية وبعض القبائل غير الخاضعة، مثل جبل وسلات، عناصر ذات دلالة عميقة. فقد تعرض الوسلاتيون حلفاءُ علي باشا خلال الحرب الأهلية التي اشتعلت عام 1728، فيما بعد، لعقاب الحسين بن علي والطرد من جبلهم-حصنهم؛ وهو ما وجد ترجمته في مأساة حقيقية جماعية ذكرها أغلب مؤرخو المرحلة، ومنهم الصغير بن يوسف مؤرخ القرن 18 الذي ساق حكايتها في جنس سردي أصيل يخبرنا فيه أن المحلة اضطهدت الوسلاتيين، وأذلتهم، وطردتهم، فأرغمتهم على النزول من أعالي جبالهم، فتشتتوا إلى أن باعوا بناتهم…[11].
تفيدنا هذه الشهادة البليغة بالمعنى العميق لبيع بنات قبيلة ما. فالحرب التي شنت على القبيلة والتنقل الإجباري لجميع السكان كسرا الروابط القبلية، وخلخلا الأنماط العائلية القديمة، وخلطا مختلف الفروع، في فضاءات جديدة، مدينية بالخصوص. وبذلك وجدت النساء أنفسهن بين عشية وضحاها «منبوذاتٍ»، بدون أزواج، ولا إخوان ولا آباء، فلم يكن أمامهن أي خيار آخر عدا التيه والتسكع وتعاطي البغاء.
كانت المأساة الاجتماعية-السياسية مصدرا للبؤس والبغاء. وهي تراجيديا لم يستطع الزمن محوها من الذاكرة الجمعية، إذ لا زال تراث الأغاني الشعبية يحفظ هذه الذكريات الحزينة في صياغات فنية داخل أشكال وتعابير تخفي أو تخرِّج شيطان هذا الواقع الحزين.
فأغاني المغنية الشعبية صليحة التي تعتبر ديوانا حقيقيا للذاكرة الجمعية، عرفت كيف تترجم في أنغام حزينة أحيانا لقطات مؤلمة من ذلك المعيش، مثل الأغنية الشهيرة «مع العزابة» التي لم تكن سوى الصدى المؤلم لتراجيديا بشرية يصعب نسيانها، ما دام موضوعها بالضبط هو إعادة رسم المغامرة الشقية لبنات القبيلة «الملعونة»[12].
لكن ألا يمكن أن يؤاخذ على تحليلنا للأسباب والأصول المحتملة لبغاء البنات القرويات المستقرات في الحاضرة، كونه بقي سجين خطاطة «عقلانية- موضوعانية» ترتكز على الحتمية الاجتماعية والاقتصاية؟
يبدو لنا أنه من غير المتصور، أو من الصعب على الأقل، فصل هذه الأشكال من الانحراف الجماعي عن سياقها؛ بتعبير آخر من الصعب فصلها عن أسبابها الاجتماعية الموضوعية التي تجعل الدعارة تبدو بمثابة منعطف فظ تفرضه على جماعات من النساء والبنات ظروفُ استئصالهن العنيف من وسطهن الطبيعي. إلا أن هذا لا ينفي إمكانية الوقوف على أشكال خاصة من البغاء انفردت بها بعض الجماعات أو بعض القبائل المغاربية، مُشكلة بذلك ظواهر ثقافية معزولة عن عوامل تقلب الظروف.
فقد وصف لنا إميل درمنغهاين بدقة شكلا من البغاء انفردت به نساء نيليات الجزائر وعزرياتها باعتباره ظاهرة ثقافية وليس تجل لأزمة ما، وهو شكل من الدعارة والممارسات المعترف بها والمندمَجة في قيم القبيلة التي كانت ترخص لبناتها بممارسة البغاء عددا من الأعوام، من خلال التيه في حواضر الجزائر والمغرب العربي، ليندمجن بعد ذلك في قراهن ويتزوجن[13].
رأينا أن مثل هذه السلوكات الفريدة كانت تشكل ظاهرة نادرة في تونس التي تعد بلدا إسلاميا أكثر تجانسا بشريا من الجزائر. بيد أن بعض فروع قبائل الوسط أو الشمال الغربي كانت معروفة بإسنادها لبعض النساء وظائف استثنائية. يتعلق الأمر بأولئك النساء اللواتي كن يَجُبن في فصل الصيف المدنَ والقرى لـ «قراءة طوالع» الرجال، واللواتي اشتهرن باسم الدكازات (العرافات/الشوافات). لقد ظل الشفهي والمعيش، إلى وقت حديث، يقدم هته البنات باعتبارهن جد متحررات جنسيا بحيث لا يجدن حرجا في غواية ومراودة أول من يعجبهن من الرجال.
ومع أن هذه الظواهر الخاصة لا يمكنها إلا أن تغني وتعمق معرفتنا بالبغاء النسوي من أصل بدوي، فإنه يصعب علينا تتبع تأثيرها على عالم البغاء عموما أو تقديم إحصائيات بصددها. سيكون من المفيد متابعة هذه الظواهر وتقييمها في إطار أنثروبولوجيا ثقافية لبعض المجتمعات البدوية، لا سيما أن هذا المجال يقتضي تحاشي كل تعميم.
علاوة على ذلك، ثمة ظاهرة أخرى يجب تسجيلها، وهي الأهمية العدَدية للنساء العموميات من أصل حضري اللواتي كن ينحدرن إما من إحدى مدن الوصاية كالقيروان أو صفاقس، أو من مدينة تونس نفسها، أو أحيانا من عائلات متميزة من أصل تركي أو بلدي.
ومع أن الوثائق لا تتضمن إشارات صريحة لأصل مجموعة من الحالات فقد تكمنا من الوقوف على أن الأمر يتعلق بأصل حضري، وذلك باعتماد معيارين:
الأول سهولة تمييز الأسماء الشخصية لنساء حضريات، مثل زليخة وفونة ودادو… الخ، عن نظيرتها الشائعة في العالم البدوي أو القروي كما عن نظيرتها الشائعة أو العامة، مثل فاطمة، خديجة، الصالحة، محبوبة، حليمة، الشلبية، الخ.
الثاني: من خلال الألقاب بالخصوص، توصلنا إلى إكمال تصنيفنا وتدقيقه. فأسماء عائلية مثل خباير، وحنفي، والتونسي، والقروي، والصفاقسي، والتركي، وبنرمضان، والموناستيري، وبلاَّغة، والشاهد، وجوادي، الخ. تشهد فعلا على الانتماء الحضري، وعلى انتماء إلى أوساط اجتماعية مختلفة، وفئات متوسطة أو حتى جد ميسورة في آن واحد.
كانت هذه الفئة تشكل حوالي 20% من مجموع عاهرات المدينة[14]، وهي نسبة تشكك كليا في الفكرة المنتشرة التي ترى أن البغاء في المدينة العربية التقليدية كان مقصورا على نساء من أصل بدوي أو أجنبي. فقد كان العالم الحضري هو الآخر يفرز بغاءه انطلاقا من تناقضاته وأزماته الخاصة. في هذا المستوى، تعتبر العوامل الاجتماعية واقعية ومؤثرة على نحو ما ستسنح لنا الفرصة التحقق منه مرات عديدة، بيد أنها لا تكفي وحدها لفهم وتفسير مجموع الظاهرة في تعقيدها. نرى أنه إلى جانب الأسباب البنيوية والاجتماعية يجب البحث في الحقل الميكو-اجتماعي بلويناته والدفع بالبحث في اتجاه من شأنه أن يتيح لنا الوقوف على مآسي الحياة العائلية والزوجية في الوسط الحضري. فقد كانت مآسي الحياة العائلية الحميمية في المدينة متعددة، تمضي من الترمل إلى الطلاق، مرورا بالمشاكل العاطفية التي سجلتها الحكايات والأغاني الشعبية بشكل جيد.
تقدم وثائق الأرشيف مومسات درب محروق الكائن بمقربة من سيدي بومنديل، باعتبارهن أرامل[15]. هل فقدن أزواجهن بعد الأوبئة التي اجتاحت القرن 19، وهو شرط كاف لدفعهنَّ إلى «المتاجرة بأجسادهن»؟ أم أنهن تجمَّعن هنالك في الحي، بعد تجارب من الحياة التعيسة شكل موتُ الزوج مبكرا، موتا مفاجئا أو طبيعيا، قاسمها المشترك؟
في مجتمع منغلق، حيث فارق الأعمار هو الذي يفصل غالبا بين جيلين، كانت أشكال المقاومة والتمرد تمضي من مجرد «مغازلة» تمارس خفية مع الجار والبائع المتجول إلى البغاء المفتوح بعد موت زوج غير مرغوب فيه أو طلاق يتم الحصول عليه بعد معانات طويلة عبر اللجوء إلى دار الجواد (منزل لتقويم النساء اللواتي لا تطعن أزواجهن وإعادة تربيتهن).
تمتلئ ملفات شرطة المدينة في ذلك العهد بقضايا تشهد على نهاية فقدان الأمل الذي اختارته العديد من نساء المدينة. ففي يوم 11 فبراير 1862، هربت فاطنة بنت أحمد العوني من بيت الزوجية لكي تحتمي عند مومسات[16]. أن تصل إلى حد البحث عن ملجأ في «الحي»، فذلك يقول الكثير عن بؤس حياتها الزوجية. وفي شهر شتنبر من السنة ذاتها، تعرضت العاهرة فاطمة بنت محمد الغربي لعقوبة السجن لأنها غررت بزوجة محمد الجزيري وأدخلتها في عالم البغاء[17].
يدعونا هذان المثالان وأمثلة أخرى عديدة إلى التفكير مجدَّدا في مسألة معرفة كيفة «توظيف» (recrutement) المومس حوالي منتصف القرن الماضي في المدينة.
حيثما تكون الإشارات والمعلومات صريحة، يتعلق الأمر في أغلب الأحيان بالمغرِّرات. ففي شهر يناير 1862، اعتقلت وسجنت العاهرتان خدوجة بنت محمد المنزلي وحليمة بنت عمور، على إثر شكاية مواطن اتهمهما بتشجيع ابنته على الفساد. تذكر الوثائق حالات أخرى شبيهة. في السنة نفسها، تم اعتقال ثلاث عاهرات بمدينة بتونس لأنهن غررن بفتاتين بكرتين وأدخلتهما في أوساط الفساد. وإذن كان هناك تعلم للبغاء يفترض الإغواء والإغراء.
لكن هذه الأشكال من القوادة ما كانت لتنجح لولا وجود تربة صالحة واستعدادات مسبقة للفساد لدى الأنثلا التي ستصير مومسا في المستقبل. فالمراهِقة، أو حتى العازب، لا تقع بهذه السهولة في البغاء ما لم تكن مهيأة له اجتماعيا ونفسيا. الفقر، واليتم، وانحلال الأطر العائلية للجماعات الشعبية داخل المدينة، كلها عوامل كان تشجع على القِوادة.
إضافة إلى ذلك، لاحظنا المومسات الحضريات كن في أغلب الأحيان لا يقطنَّ بالضرورة في الأحياء المخصصة أو الأزقة «الساخنة»، بل كن يسكنَّ في منازل معدَّة خصيصا للـ «المواعيد الغرامية». وبذلك، تشهد حالات عديدة على وجود شكل من البغاء نصف سري، من ذلك الدارُ التي تذكرها أرشيفاتنا، الكائنة في قلب الأسواق ذاتها، والتي أعدها «زبناء» كرماء؛ ومنزل امرأة تسمى شلبية الحنفي الذي تحول إلى وكر للفساد.
لكن هذه الحالات المعزولة لا تسمح إطلاقا باستنتاج أن عاهرات الفئة البلدية لم يكن يندمجن في الأحياء المخصصة. ذلك أنَّ اللواتي منهن كنَّ يصرن ملاكات، عن طريق الإرث مثلا، كن يتدبرن أمرهن لممارسة حياة الفساد داخل حميمية منازلهن.
لكن تواتر القضايا التي اضطرت فيها عاهرات أنفسهن على مغاردة مساكنهن، وكذلك السياسة المنظَّمَة لـ «تدبير مهتنهنَّ» خلال النصف الثاني من القرن 19، يشكلان مؤشرين يتعين علينا اتباعهما وهما يفضيان بالأحرى إلى اعتبار الأغلبية الساحقة من مومسات الحاضرة لم يكنَّ مالكات لمنازلهنَّ.
أما الفئة الأخيرة من مومسات عينتنا، فتمثلها النساء اليهوديات. وتشكل نسبة ضعيفة داخل مجتمع المومسات المشمولات بالإحصاء، إذ لا تمثل سوى نسبة حوالي 5%، وبذلك فهي تبدو أقلية في هذا العالم، مما يدعو إلى التعجب للوهلة الأولى في مدينة تعد فيها الجماعة اليهودية كبيرة العدد وبئيسة الوضع، وبالتالي يفترض أن تفرز «فسادا» أكبر.
تشهد الأسماء المسجَّلة على انتماء صاحباتها إلى المجموعة اليهودية المحلية التي كانت تشكل الأغلبية الساحقة المعدمة فيما كانت فئة أخرى – من اليهود – تحتل أعلى السلم الاجتماعي. وَأسماء مثل تيتة، وبنت حي، وكمونة اليهودية، وسلمى بنت حي، ويتسير بنت زيتون، وعزيزة اليهودية، تحمل بالتأكيد طابع «التونسة».
كان البغاء اليهودي يحترم تموقعا جغرافيا دقيقا، وهو ما كان نتيجة منطقية لحصر مجموع هذه الجماعة في الحارة (حي إقامة اليهود، معادل الملاح في المغرب). جميع البغيات التونسيات كن يسكن في حي سيدي عبد الله كرش الواقع في هوامش الحارة وعند مدخل الحي الإفرنجي بالمدينة السفلى.
يمكن لضعف نسبة البغيات اليهوديات أن تعطي الانطباع، كما سبق أن لمحنا به، بأنهن كن أقلية داخل عالم البغاء المتعدد الأعراق. بيد أن هذه الفرضية لا تصمد، إذ ورد في بعض شهادات ذلك العصر ما يفيد أنهن كن كثيرات العدد. ففي عام 1879، سجل ونرش فون مالزان، وهو رحالة ألماني، المعاينات التالية: «يُعوَّض النقص الظاهري للمومسات المسلمات في تونس، بالعدد الكبير من العاهرات اليهوديات، اللواتي يتردد عليهن المسلمون والمسيحيون واليهود على السواء…»[18]. ويؤكد المؤلف الأهمية العددية لليهوديات مرات عديدة من خلال شهادات أخرى أكثر تفصيلا يذكرها في سياق حديثه عن تيهه في الحي اليهودي بتونس.
لكن حكمه بخصوص الغياب الظاهري للمومسات المسلمات في المدينة لا يرتكز على أساس فضلا عن أنه يدل على تعذر ولوج المسيحيين لهذه الأزقة «الساخنة»، ما حال بين المؤلف، وهو الشديد الانتباه، وقياس حجم الظاهرة وأهميتها.
من خلال اتفاق ملاحظات أغلب شهود ذلك العصر حول «البؤس الأزرق» الذي كان يسود في الحي اليهود بتونس، يتأكد لنا أن المحدِّد الأساسي للبغاء في تلك الأوساط كان طبعا ذا طبيعة اجتماعية.
كان عالم البغاء يأخذ عموما شكل فسيفساء من الألوان والأعراق والجماعات؛ عالم متعدد رغم تجانسه. عالم كشاف عن عدة جوانب من حياة الفئات السفلى بالمدينة، وعاداتها، والنتائج الاجتماعية للهجرة، والاستئصال، وتفكك التضامنات القديمة تحت تأثير الإفقار الذي صعدته أزمة منتصف القرن الماضي.
وبذلك طرح تقدم الظاهرة في فضاء المدينة مشاكل جديدة على السلطة السياسية التي ظلت إلى ذلك الحين متعودة على مصادفة الاحترام الصارم للتراتبية والتقطيع الدقيق لفضاء المدينة.
ونحن نحاول الإحاطة بجغرافية البغاء المتحركة في المدينة وتتبعها، وجدنا أنفسنا مضطرين لاستخراج وحصر المظاهر الدالة الجديدة للأزمة الحادة التي شهدها المجتمع التقليدي حوالي نهاية الحقبة ما قبل الاستعمارية.
———–
هوامـــش
[1] A. N. Font Zaptiés.
[2] انظر الجدول في الملحق، ص. 81.
[3] لتقدير عدد عاهرات تونس حوالي 1860، رجعنا إلى عدد 500، المقدم في الجزائر حوالي 1830 بحسب دشين. لقد ضاعفنا هذا العدد، مرتكزين على كون تونس كانت مدينة أكثر تفتحا من الجزائر وأكثر peuplé.
[4] انظـر:
– A. N. Registre 3968. Recensement des algériens installés à Tunis 1876.
[5] A. N. fonds Zaptiés année 1278 / 1861-62: Doc 105.
[6] P. Pellegrin, Les noms de rues du vieux Tunis, Tunis.
[7] Viviane Plâaques, L’arbre cosmique, Paris, 1964, p. 205.
[8] Viviane Pâques, L’arbre cosmique, Paris 1964, p. 205.
[9] Cf. Fonds Zaptié, op. cit.
[10] ابن أبي ضياف، إتحاف…، ج. 3، ص. 262.
[11] الصغير بن يوسف، المشرع الملكي في سلاطين أولاد التركي، الخزانة الوطنية، مخطوطة رقم 3537.
[12] لقد طبعت المغنية الشعبية الكبيرة “صليحة» الأغنبية التونسية بعد الحرب العالمية الثانية بالخصوص. تشكل أغنياتها بموضوعاتها كما بالصوت الذي يغنيها، الروح العميقة لتونس بألوانها ولويناتها الجهوية، قصصها وذاكراتها. وأغنية «مع العزابة (الواردة في ملحق الكتاب، ص. 79)، التي تعيد رسم هروب فتاة مع جماعة من الرعاة الرحل [تلك الأغنية] مستوحاة من الملحمة التراجيدية لقبائل جبل «وسلات»؛ راجع بهذا الصدد: الرزكي، الأغاني التونسية، (بالفرنسية).
[13] Emile Dermenghem, Le pays d’Abel, Paris 1960, pp. 67-70.
[14] انظر: الجدول رقم 1، بالملحق.
[15] A. N. T., Dossier 634, carton 58, Doc. 1.2.3.4.5.
[16] A. N. T., Fonds Zaptiés, année 1861.
[17] A. N. T, Fonts Zaptiés, op. cit.
[18] Heinrich Von Malzar, Reize in den Regeschaften Tunis und Tripoli (Leipzig 1870), t. 1, p. 26-27.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الجمعة 14-09-2012 12:13 صباحا