قال المصنف رحمه الله:
هذا بابٌ أسميته «كشْف الغُمَّة في بعض مفسدي الأمة»، وفيه سأذكر بعضا ممن وصَلُوا في العبادة درجات، وارتقوا في مَدارج الصَّلاح مقامات، إلى أن أشرفوا على الولايات، لكن الله ابتلاهم بالانقلاب إلى الفساد والشهوات بما لم يقووا على التصبر له. فمنهم من اشتهر في بداية أمره بالاستقامة، والاستغراق في العبادة، لكنه انصاع لتلبيسات إبليس – لعنات الله عليه – إلى أن أفلت منه زمام القيادة، فانقلب إلى شبه زنديق…
ونحن نعوذ بالله أن نقول على الذين سنذكرهم في هذا الباب ما لم يكونوا قالوه، أو نتحمَّل عليهم في أقوالهم وأفعالهم، فنقول: هم حمدون بن العاصي بن أمّ يمامة بني حامد الملقب بالعلاف ذي الوجهين، و أبو عيسى بن مرو أبي نبيل الفاسِدِي الملقب بالعقيد، وأحمد المنافقي بن سعيد الباهتي الملقب بهاشماني مُقعر الهواء (وهو البارابول)، وزيد بن سعيد الخاجلاَّني الملقب بأحمر الخدين، وأبو عيسى الجراح الملقب بأبي الفطور، وعيسى بن محمد بن أحمد القرماني الملقب بصاحب الكتاب، ونعيمة بنت أبي زيد المِكنَسِي الملقبة بأم النعلين، وأبو عيسى بن الرشا عاشق الصور الملقب بصاحب دي ترو، وأبو الأسود زياد بن أبيه الملقب بذي الشقتين…
قال الأستـاذ: ولقد اعترتني حيرة في تصنيف هؤلاء المفسدين، فنويتُ في البداية أن أجعلهم أصنافا، بأن أخصص بابا لفساد «مشايخ شيوخ» الفاقهان الكبير الذين تشبهوا برجالات السياسة وتسموا «رؤساء الشعب» وهم في الحقيقة مجرد «منسقين» للمقامات، وبابا لفساد «أقطاب الفاقهانات» الذين ما إن يقع مفتاح فاقهان في يد أحدهم حتَّى يصير أغنى العباد ويعب من بحور الشهوات ما حرِّم منها وما حلِّلَ على السَّواء، وبابا لـ «مجان المشايخ» الذين تدور أعينهم في محاجرها لرؤية المريدات المحصنات، فيراودوهن عن أنفسهن غير خائفين في ذلك عقاب الله، أحرى أن يخشوا لومة لائم، وبابا لـ «للمشايخ الذين ظاهرهم علم وعدل وباطنهم جهل وظلم»، وهم المشايخ الذين يتسلطون على الفاقهانات تسلطا فيغتصبون التخصصات من أهلها اغتصابا دون أن يستحيوا لأن وجوههم هي أقفاؤهم، جعلهم الله أجسادا بشرية بوجوه قردة وهم لا يفطنون… لكن تبين لي – والله أعلم – أنَّ هذا الترتيب لن يستوعب مشايخ أمثال: وحيد القرن القزلباشي، والمشايخ الثلاثة الذين كانوا يفرضون على المريدين أتاوات للالتحاق بفاقهان العلوم الأكبر بالقنيطرة والشيخة أم النعلين وأمثالهم كثير… ولما تبين لي ذلك وقع في خاطري أن أسوق لك الأخبار على نحو ما أنت قارؤه. أسأل الله التوفيق، فأبدأ وأقول:
فصــل منهم العـلاَّف:
قال المصنف رحمه الله: هو حمدون بن العاصي بن أمّ يمامة بني حامد الملقب بالعلاف ذي الوجهين، وهو الروائي المعـروف.
أخبرنا سعيد العاصي عن أبي الثائر عن زيد العالم أنه قال: كنتُ في مجلس، فقرأتُ على قوم من كتاب القصاص المذكرين لأبي الفرج بن الجوزي القرشي البغدادي رحمه الله ما نرويه بوجه من التصرف:
«لكل قول زيّ، وكما لا يحسن الغناء إلا من الجَواري الخُرَّد، ولا الغزل إلا من عاشق، ولا النوح إلا من ثاكل، ولا ذكر الأوطان إلا من غريب، فكذلك لا تحسَن كتابة الرواية إلا من مُتقشف، متزهِّد، متورِّع، من وراء بذلة عادية، ونظافة جسم، وتقليل قوت، اشتغالا عن البدن بفضائل النفس كالطبيب الظاهر الحمية. فأما من يخرج بطينا فاخر الثياب مكثرا الجلوس في الديارات صارفا ثمين وقته في احتساء الخمور والتهام الوجبات، مداخلا لمرتزقة النقاد ومستقيميهم على السواء ابتغاء أن يكتبوا مقالات عما نشر من روايات، فكيف تستجيب له القلوب. إنما يقرأ القراء لهؤلاء الروائيين على سبيل الفرجة كسماع الأسمار من السمار. ولربما كانت الصّوَر والسمات تؤثر أكثر من الألفاظ، وقد قيل: من لم تنفعكَ رؤيته لا تنفعكَ روايته».
قلتُ: لما قرأت عليهم ذلك تناظروا فيه طويلا، فانقسموا إلى فريقين: الأول يقول لا علاقة للكتابة بالسلوك، والآخر إنما الكتابة السلوك. فتردَّد كثيرا اسم حمدون بن العاصي بن أم يمامة بني حامد، فاحتج بعضهم له، واحتج بعضهم عليه. ولما لم ينكر أحدٌ من الفريقين كثرة أكله وملازمته الديارات، أجمع الفريقان على أنه علاَّفٌ، ومنذ ذلك اليوم جرى عليه هذا الاسم.
قال الأستاذ: ومن طريف أخبار العلاف ما جرى له مع الولي شهاب الدين بن الصالح المصوِّر. أخبرنا أبو يوسف المعافري عن الحرَّاق عن حامد النبطي عن شهاب الدين المصوِّر أنه قال: لما حفظتُ القرآن واطلعتُ على ما تيسير لي من الفقه والحديث وسلكتُ في مدارج التصوف إلى أن بلغتُ مقام نيل أم إجازات مشايخ الفاقهان الأكبر، نصحني بعض المعارف بالذهاب إلى العلاَّف، لما سمعَ عنه من استقامة خلق وجليل علم وطول إقامة في فاقهانات الصوفية، فتهيبت نفسي تهيبا شديدا، فوقع عليَّ أن تمهَّل، فدخلتُ خلوة تسعة أشهر أطالع فيها ما تيسَّر من كتب علم الكلام وسيرة بني هلال والمنطق وسير الأولياء إلى أن فتحَ الله عليَّ بكتابة رقعة، فشددت الرحال إلى مكناسة الزيتون بغية لقاء العلاف. قال لي: من أين الفتى؟ قلتُ من البيضاء، قال لك أن تعودَ إليَّ يوم غد فأنا الآن عنك مشغول، فاستغربتُ أن يصدر ذلك منه، إلا أن بعضهم دلني على قصده. فلما كان الغد، اشتريتُ حملا مشويا وخبزا وسميدا وفالوذجا بسكر مع ثلجية ونبيذا بولعوانيا وأشنانا، ثم قصدتُ منزل الولي أبي عبد الله الصالح.
فلما طاب للعلاف الأكل والشَراب، قالي: هاتِ رقعتكَ، ثم نادى في الحين أن تعالي يا قبيحة لتستفيدي من علوم المشايخ، وكان هذا اسم زوجة الولي عبد الله الصالح، فوقع في قلبي شبهة، لكني اجتهدتُ في طردها… قال الشيخ: اِقرأ، فما أكملتُ الجملة الأولى حتى استوقفني قائلا: اعلم يا تلميذ أنك ارتكبتَ ثلاثة أخطاء دفعة واحدة وأنت لم تنشر شراع سفينتك بعد! نصبتَ المبتدأ ورفعتَ الخاطر وكسرتَ الحال، فاستغربتُ أن يصدُرَ ذلك من الشيخ، فتعوذت بالله، ثم قلتُ قد يدخل كلامه في باب إشاراتهم التي تستوجبُ التأويل، فأعدتُ القراءة، لكنه أعاد الملاحظة نفسها. خيل إلي أنني لم أسمع جيدا، فأعدتُ القراءَة رافعا المبتدأ، ناصبا الخاطر والحال، لكنه أصرَّ على ما قال من قبل، فما كان مني إلا أن استجبت لمزاجه، فنصبتُ المبتدأ وكسرتُ الحال ورفعتُ الخاطر، وواصلتُ القراءة على ذلك النحو، وهو يستطيب مني ذلك ويستزيد إلى أن أخذه وجده. فما كان مني إلا أن استغفلته، فسحبتُ الرقعة، وأعدتها للمحفظة، وأنا ألوم نفسي. وقد أقسمتُ منذ ذلك اليوم ألا أريها لابن امرأة كائنا من كان. اهـ.
قلتُ: هذا من قبيح الأفعال، ثم استعظمت أن يدرجه الأستاذ في باب الطرائف، بيد أني لم أستعظم صدوره من العلاف، إذ قال بكسر الحال، وهو يمر على الوراقين صباح مساء ويشاهد فيها كتبا للشيخ محمد مفتاح نصِبت فيها الخواطر في الأغلفة نفسها؟! تقول في اللغة وقد اعترف أمام حشد من المشايخ والمريدين، ذات مجلس، أنه يسلم كنانيشه لمجان الشعراء بغاية التصحيح!
لما كنت شيخا بالفاقهان الكبير طلبني العلاف يوما، ثم قال لي:
اعلم – حفظك الله – أن لي بنتا أجازها مشايخ مقام الأدب العربي بالفاقهان الأكبر بمكناسة، غير أنها لم تجد شغلا، وهي في كل يوم تمزِّقُ دست ثياب حزنا وغمَّا، واليوم تريد أن تقصد مجالسكم كي تقولوا في تسليتها شيئا يضمن لها عيشا كريما ويغنيها عن وصايتي… فهللا قدمتَ لي نصيحة؟
قلت: اعلم – رفع الله شأنك – أن مشايخ الفاقهان الكبير يستوحشونني، غير أني أدلك على ما تنال به مبتغاك بأيسر السبل. عليكَ بشيخ مشايخ مقام اللغة العربية بالفاقهان الكبير، وهو العقيد، وما أظنه مخيبا آمالك ولا راغبا عن الاستجابة لرغباتك. فهو من خيرة مشايخ الفاقهان، زهد وجاهد النفس، وارتقى في مدارج التصوف إلى أن ظهرت منه الكرامات: يخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمد يده إلى الهواء ويعيدها مملوءة دراهم، ويخبر الناس بما يأكلون وما يصنعون في بيوتهم، ويتكلم بما في ضمائرهم، ويقنط المريد من ولوج الفاقهان لارتباكه يوم المباراة، بسبب من خجل أو قلة علم، فيقصد العقيد، فيقول له:
«صم يومك واصعد في آخر النهار إلى السطح، وقم على الرماد، واجعل فطرك عليه وعلى ملح جريش، واستقبلني بوجهك، واذكر لي حاجتك، فإني أقضيها لك، لأني أسمع وأرى»
فيفعل المرشَّح ذلك، فما يفطن لنفسه إلا وهو في إحدى حلقات الفاقهان، دون أن يجتاز مباراة الالتحاق…. وبالجملة، فقد أخبرته بطائفة من كرامات العقيد التي سيلي ذكرها في هذا الكتاب…
فصـل ومنهـم الَعقيـد:
قال المصنف رحمه الله: هو الحاجب أبو الأسود الفاطمي بن نبيل الفاسدي الملقب بالعقيد. كان يفسد باسم السّلطان ووالي المدينة إلى أن انكشف أمره وانكسرت شوكته وصار كالبعير الأجرب.
أخبرنا زين الدين مروان عن محمد بن علي عن الشيخ الصادق أنه قال: ما سمى العقيد عقيدا إلا اثنان: جلال الحكيم ومحمد أسليم في رسالتهما المسماة «عندما ينام العقيد في قبعة الصَّرد»، والسبب في ذلك أنه أساء إلى كليهما إساءة فيها كلام طويلٌ، فردَّا له الصَّاعَ بصاعين. قلتُ: وهذا باطل من ثلاثة وجوه:
الأول أن لقبَ العقيد جرى على صاحبه منذ أمدٍ بعيد:
أخبرنا زين الدين مروان بن محمد بن علي الشيخ الصادق، قال:
«أوَّل ما ظهر الحاجب أبا نبيل الفاسدي ظهرَ في فاقهان مكناس. خرجَ متشبها برجالات الجيش في لباسه، ولم يكن أسليم والحكيم قد نزلا بمكناسة بعدُ. ظهر ثم قال: «لن يحل ما عقده الله في نفسي من رغبات إلا الله»، فجرى عليه اللقب منذ ذلك الحين»؛
الثاني أن رسالة جلال الحكيم ومحمد أسليم محاولة في العقيدة لا العقيد:
حدثنا زين الأخبار أن صاحب الراية قال:
«عندما ينام العقيد في قبعة الصرد» رسالة صرح فيها اللعينان أسليم والحكيم – قبحهما الله وسلط عليهما سيف الشرع – بكفر وزندقة ما بعدهما كفر وزندقة.» انتهى قوله والله أعلم.
قلت: ولولا الخوف من أن يعصف ما فيها من كفر بقلوب ضعاف الإيمان لأوردتها لك كاملة الآن. على أني سقتها في مكان آخر من هذا المقام، مرفقة بالرَّد الذي خصَّه بهما أحد الغيورين على الملة.
الثالث أنهما كتبا نصهما في عقيد بإحدى الحاميات العسكرية، أي في عقيد جيش لا عقيد فاقهان:
حدثنا زين الأخبار قال:
«أيام كان أسليم والحكيم مريدين بفاقهان مكناس الكبير، كانا يدمنان الخمر، ويترددان يوميا على ديارات المدينة ومواخيرها، وكان لهما فيها شجارات مع الخاصة والعامة من سكيري الحاضرة إلى أن كثر فيهما القيل والقال وربصا بنفسيهما الدوائر. وحدث يوما أن اختصما مع عقيدٍ، فسعى بهما إلى الشرطة، فأدخلتهما السِّجنَ، ومن داخل السِّجن توعَّداه قائلين: ما إن نخرج من الحبس ونغادر مكناسة حتَّى نشهر بك أي تشهير!»
وذاك ما كان، إذ صنفا رسالة «عندما ينام العقيد في قبعة الصرد»، وصرفا أموالا طائلة في استنساخها عند الوراقين، ثم وزعاها على العامة والخاصة من سكان الحاضرة الإسماعيلية، ولما ظهرت الأنترنيت دَوًّل أسليم الأزمة، فمكن قراء العربية جميعا من الكتاب.
قال الأستاذ:
وقد سمعتُ سعيدا العاصي يقول سمعتُ أبا الثائر يقول سمعتُ زيدا العالم يقول:
«كنتُ في مجلس العقيد، فقال لمريديه: «لن يحل ما عقده الله في نفسي من رغبات إلا الله»، فأنكروا عليه ذلك، إلا أنه تمادى في قوله، فقال فريق لنسمه العقاد، وقال فريق إن نسمه العقاد نكون قد زدناه نياشين على نيشنه ووضعنا على كتفيته درجات فوق درجته، فيلتبس أمره على الناس. لنسمه عقيدا، فجرى عليه لقب العقيد منذ ذلك اليوم.»
وهذا عندي أنسب لأنه يتشبه برجـال الجيش ويخالط التجَـار وأهل العقـار.
أنبأنا سعيد العاصي عن أبي الثائر عن زيـد العالم قال:
«كان العقيد في بداية أمره بالأوقات يلبس المسوح، وبالأوقات يمشي بخرقتين، مصبغ، ويلبس بالأوقات الدُّرَّاعَة والعَمَامَة، ويمشي بالأوقات بالقَبَاء أيضا على زيّ الجند، وأظهر ورَعا حسَدهُ عليه أغلبُ المشايخ.»
وقد حكى زين الأخبار أن العقيد كان قبل فساده يأخذ حوالته في نهاية كل شهر، فيلقيها في صهريج السواني وهو يقول: «ما أعزَّكِ أحدٌ إلا أذله الله».
سمعتُ زين الأخبار يقول:
«كنتُ أردُّ هذه الكرامات إلى أن حدثني الثقات عن الشيخ حامد بن أدرار السُّلّسي يقول: كذا كان. قال: كنت مع العقيد في بيته ذات ليلة، فقال له أبناؤه وزوجته: أخرج لنا سيارة مرسديس 250 سوداء اللون، من الطراز الحديث، فحرك شفتيه، وغمغم بكلمات، فإذا هي سيارة مرسديس 250 سوداء اللون واقفة أمام باب المنزل، من غير أن يكون فيها سائق، أبوابها مفتوحة، وورقتها الرمادية مسجلة باسم زوجته. فقيل للعقيد: سألناك بالله إلا أخبرتنا بماذا دعوت، فقال:
«قلتُ وعزَّتكَ – أنت تعلم أني الآن شيخا للمشايخ – لئن لم تحضر الآن مرسديس سوداء اللون، موديل 1998، لأغرقنَّ الفاقهان في الفسَـاد، فأضاجع الحرمات، وأقبض الرشوة، وأحرض المريدات على الزنى وشرب الخمر، وأصول وأجول في مقام رئاستي، وآتي ما لا يقوى إبليس على الإتيان به».»
قلتُ: يستحيل أن يدخل هذا في باب الكرامات. إنما هو سحر أو عمل من أعمال الشيطان. تشبه – لعنات الله عليه- بالحسين النوري.
قال المصنف رحمه الله: سمعتُ الشيخ حامد بن أدرار السُّلَّسي يقول:
«ما وراء دخول المريدين إلى الفاقهان دون اجتياز المباراة إلا حلاوة يقبضها العقيد»
فأنكرتُ ذلك، لأن الحلاوة إنما يعطيها الشيخ للمريدين لا العكس، وسُقت له دليل ذلك في حكايتين. ابتسم السُّلَّسي وقال:
«ذاك زمنٌ وهذا زَمَنٌ، وللتصوف مدارج يرتقيها المريد بحسب شريعة عصره، وشريعة عصر العقيد ليست هي شريعة عصر الحلاج. وإن شئتَ فسمِّها رشاوة بدل حلاوة.»
قلتُ: إذا كان الأمر على ما تقول، فنحن لم نخرج من القرن السادس الهجري بعد. قال ابن الجوزي في تلبيس إبليسه:
«عبرت الصوفية عن الحرام بعبارات غيروا لها الأسماء مع حصول المعنى، فقالوا في الاجتماع على الطيبة والغناء والخنكرة، أوقات. وقالوا في المردان شبّ وفي المعشوقة أخت، وفي المحبة مريدة، وفي الرقص والطرب وجد، وفي مناخ الالهعود (كذا) والبطالة رباط. وهذا التغيير لا يباح للأسماء» .»
وافق السلسي، ثم زاد:
«كنتُ ألقي مقام التعديل والتجريح في علم نظم السلوك، فجسستُ رأس مريدين، فوجدتهما أفرغ من الهواء، فحيرني ذلك، وأردتُ أن أعرف سرَّ وصولهما إلى الفاقهان، فسألتهما، وأمنتهما، فقالا: ما دخلنا إلى الفاقهان إلا بعد أداء مُكسٍ للعقيد، قلتُ: كم؟ قالا: 000 30 درهم للواحد.»
قال المصنَّف رحمه الله:
والخطأ في ذلك كله لا يرجع للعقيد. فهو معذور لأنه ينشب في قلبه فلا يقوى على المقاومة بمجاهدة النفس الأمَّارة بالسّوء، لاسيما أن زمَن الزهد في أيامنا هذه قد ولَّى، فما يحيط بالعباد إلا ما يشهيهم في الدنيا وينسيهم الآخرة، صارفا إياهم عن تقوى الله والقيام بالعبادات… الخطأ خطأ المرسوم الحالي المنظم للفاقهانات العليا إذ ينصّ في أحدِ بنوده على أنَّ قطب الفاقهان الأعلى هو الذي يعيِّنُ شيخا يتولى التنسيق بين مشايخ كل مقام، والنظر في صلاح أحوالهم بما يضمن جودة التكوين… وذلك بخلاف المرسوم المنظم للفاقهانات العظمى الذي ينص أحد بنوده على انتخاب مشايخ كل مقام من يتولى رئاستهم، والكلام باسمهم وإبلاغ مطالبهم وتظلماتهم إلى قطب الفاقهان الأعظم…
ووجه الخطأ أن أغلب شيوخ الفاقهان الكبير ما إن تناط بالواحد منهم مهمة «التنسيق» بين مشايخ المقام حتَّى يظهر بقاء انتمائه للمشيَخة، ويسرُّ انتماءه لإدارة الفاقهان، فيصير يتردَّدُ يوميا على الفاقهان لسبب أو لغير سبب، ويطلق على نفسه اسم «رئيس المقام»، متشبها برجال السياسة، متناسيا أن اسمه الحقيقي هو «منسق المقام».»
أخبرنا زين الأخبار قال:
«ما يطلق شيوخ مشايخ الفاقهان الكبير على أنفسهم صفة «رئيس» إلا تشبها بشيوخ مشايخ الفاقهان الأكبر الذين يسميهم المرسوم المنظم لهذا النوع من الفاقهانات «رؤساء المقامات».»
والله أعلم.
فصـل ومنهـم أبو عيسى بن الرشا عاشق الصور الملقب بصاحب دِي تـرُو:
قال المصنف رحمه الله:
هو أحمد بن محمد أبو عيسى بن الرشا الملقب بصاحب دي ترو (قيل إنها أعجمية وإن ترجمتها «صاحب الشقة» أو «صاحب الشقق» والله أعلم)، وهو ناقد الشعر المعروف…
أخبرنا سعيد العاصي عن أبي الثائر عن زيد العالم عن أبي عيسى الجراح أنه قال:
«ما لقب أبو عيسى بن الرشا بصاحب دي ترو إلا لاستغراقه في عبادة الصور وفنائه في عشق المردان والصبيان.»
قلتُ: ودي ترو هذا وحشٌ بلجيكي كان يختطف الأطفال الصغار، فيفعل فيهم ما حرم الله، ويأخذ لهم صورا خليعة وأشرطة فيديو، يصدرها إلى كافة أنحاء أوروبا، ثم يقتلهم بعد ذلك. وقد جمع اللعين من تجارته أموالا طائلة قبل أن ينكشف أمره ويأفل نجمه وتكسر شوكته.
أخبرنا زين الدين مروان عن ابن محمد بن علي عن الشيخ الصادق أنه قال:
«بلغ من الصحبة بيني وبين أبي عيسى بن الرشا أننا كنا نتبادل الزيارات دون استئذان ولا سابق إعلام. بل كان سلمني مفتاح بيته ليتسنى لي زيارته كلما استغلق علي أمر من أمور الشعر ونظمه. فهو له باع طويل في القريض وأهله… فكنتُ أفتح الباب ثم أدخل وأتجه مباشرة لخزانته، إن وجدته سألته عما أردت وإن لم أجده جلست أانتظر عودته… وبينما دخلتُ بيته مرة، سمعتُ صراخ طفل صغير، فاستغربتُ لأن ابنيه كانا في المدرسة، وزوجته خارج البيت. وما إن دخلتُ مكتبه حتَّى بُهت: وجدته قد اختلى بطفل الجيران، وخلع السّروايل، وهَمّ بإدخال قلمه في دواة الصبي! وبما أن صحف العالم لم تكن يومئذ تتحدث سوى عن اللعين دي ترو، فإنني لم أجد لقبا أنسب لأبي عيسى بن الرشا من «صاحب دو ترو»، فأطلقته عليه، فجرى على ألسنة الناس منذ ذلك اليوم…»
أخبرنا زين الأخبار عن أبي الثائر عن العالم أنه قال:
«قبل أن يفتح الله – جل جلاله – علي باب التوبة ويهديني سواء السبيل، كنتُ أكتري وجماعة من الأصدقاء المتزوجين محلا بحي الزيتون. وكان لكل واحد منا نسخة من قفل المنزل، وبذلك كان يتأتى لنا أن نعاقر الخمرة ونزني ونرقص ونغني ونلعب ونلهو بعيدا عن عيون الأهل والأحباب… وذات يوم، فتحت باب المحل، فإذا بأبي الرشا مختل بغلام في إحدى غرف المنزل، متجردا من الملابس، موشك على غمس قلمه في دواة الغلام.»
قال الشيخ رحمه الله:
كنتُ يوم فاتح محرم من عام 1418ه جالسا بمقهى الإيليزيه الكائن على مقربة من سينما كاميرا رفقة جماعة من مشايخ الفاقهان الأصغر، وإذا بزين الأخبار يلتحق بنا فجرى الكلام في أبي الرشا، قال زين الأخبار: رأيته لتوي وافقا قبالة مقهى الأوبيرا مع غلام مقصوص شعر الرأس على طريقة الجواري الروميات، فاستغربتُ ذلك، لأنه لا يعقل أن يكون غلام في تلك السن وبتلك الهيأة مريدا في الفاقهان، ثم قلت إن بعض الظن إثم، لكن ظني سرعان ما تأكد إذ شاهدتُ الغلام ينظر إلى أبي الرشا بعينين غنجاوتين، على نحو لم أقف عليه إلا في ديوان أبي نواس، ويحدثه بحميمية لا يمكن أن تقع إلا بين حبيب وحبيبه، ثم افترق الاثنان بعد تبادل قبلات من الخدين والعينين.
قال المصنف رحمه الله:
وما أنهى زين الأخبار حديثه حتَّى اتفق الحاضرون جميعا على كون أبي الرشا لوطي… وتناظروا في أسباب ذلك طويلا، فأجمعوا بصوت واحد:
«إننا وإن كنا ننكر على أبي الرشا أن يكثر معاشرة الغلمان، فإننا لن نفهم انحرافه ذاك إلا بكونه تعرض في صباه لاغتصاب، وهو يفعل بالصغار الآن ما فعِلَ به – أو كان يُفعل به – لما كان صغيرا.»
ثم تواصل السَّمر، فانقلب الحديث إلى شيوع اللواط، بما اتضح معه أن أبا الرشا ينتمي لمذهب راسخ:
قال أحد الحاضرين:
«على افتراض أنَّ أبا الرشا كان يُغتصَب في صغره، فذلك لا يبرر شنيع جرمه. لو فتح الله عليه بقسط من الذكاء لفعل ما فعل الصبي الذي أرسله أبواه إلى دكان خياط ليتعلم الخياطة، وكان المعلم الخياط لوطيا، فهمَّ بالطفل، وهيأه على نحو فريد: أعطاه دنانير، ثم قال له: إيتني بدلاحة، حمراء اللون، مرمَّلة، و«جاهزة لأن يُفعَل بها»، فاتجه الصبي إلى فاكهاني وعاد بدلاحة، فأخلى المعلم المكان، ثم استلم الفاكهة من الطفل وقال له: أما الحمرة فهي حمراء، وأما الرمل فهي مرملة، وأما الحلاوة فهي حلوة، لكنها ليست جاهزة لأن يُفعَل بها، وآنذاك ثار الصبي في وجه الخياط قائلا: كلا، تالله إنها لجاهزة لذلك، قال المعلم: وكيف عرفت ذلك؟ قال الطفل: مذ وقعت يدي عليها وأيري منتصب واقف، وهنا أيقن المعلم فطنة الطفل، فيئس من بلوغ مراده، وقال: قم لعنك الله، لا تأتني بدلاحة بعد اليوم.»
قال الأستاذ:
حدثني سعيد العاصي عن أبي الثائر عن زيد العالم أنه قال: ما اختلف الناس في مفسد من مفسدي هذه الأمة مثلما اختلفوا في أبي عيسى بن الرشا: لبُّس على المشايخ بدوام صمته وقلة حضوره في الفاقهان إلى أن تضاربت الأقوال فيه، فحسبه قوم ارتقى في مدارج التصوف وأشرف على مقام الولاية، لكن عندما افتضح أمره ظهر أنه لا يصمت إلا لعشقه الصور، وحسبه قوم من أشياع الحلاج، يتغيب عن الفاقهان احتجاجا على اجتماعات المشايخ الفارغة، لكن لما افتضح أمره ظهر أن غيابه عائد لاستغراقه في عبادة مغارات الصبيان، وحسبه قوم غارقا في تصنيف كتب في نظم الشعر ونقده، لكن لما افتضح أمره ظهر أنه يحرف النص والحديث عملا بالمذهب القائل: «وللعلماء بالله سر لو أظهروه لبطلت الأحكام»..
قال المصنف رحمه الله:
صليتُ صلاة العشاء، ذات ليلة، وآويت الفراش، وبي غم شديد من إمهاله تعالى عقاب أبي الرشا، فوقع في قلبي ما سطَّره الخالق بما لا محيد عنه:
حدثني قلبي عن ربي قال:
«سيكون عقاب أبي الرَّشا قدرا مسطورا أمرا مأمورا، سيلقى عليه القبضُ ويُحاكم بحضور قضاة مكناسة الأجلاء على نحو ما نحن لك إياه واصفون».
سيق أبو الرَّشا إلى مجلس القضاة وسلاسل الأغلال تصل ركبتيه، وتم تقريره على النحو التالي:
سأله قاضي القضاة:
– أما تخشى عقاب الله؟ أنت شيخ بالفاقهان الكبير وتأتي الصبيان؟
قال أبو الرَّشا:
– معاذ الله أن أفعل مثل هذا. هو محض افتراء علي. قال القاضي: أو ترى أنهم كذبوا عليك عندما ساقوا إلينا أحاديث متواترة تصفك في كل مرة وقد اختليت بصبي وغمست – أو هممت بغمس – قلمك في دواته؟!
قال أبو الرَّشا:
– تالله لم أفعل ذلك…
وظل القضاة يسألونه واحدا واحدا، فيما كان أخبرني به زين الأخبار والصادق والثائر وغيرهم من المشايخ الأجلاء، لكنه أنكر ذلك جملة وتفصيلا، وأصرَّ على الإنكار بما لم ينفع فيه تهديد ولا وقع سياط حتى كاد اليأس أن يستحوذ على القضاة، بل تعاطف بعضهم معه وألح في الدعوة إلى إطلاق سراحه، وإذا بأحد القضاة يقوم وفي يده شريط فيديو، فشغله، وإذا بأبي الرَّشا يظهر عاريا وأبواب شقته مشرعة على السماء، غامسا قلمه في دواة صبي… وآنذاك بهت أبو الرَّشا، ولم يجد بدَّا من الإقرار بما نسب إليه.
قال القاضي:
– من أين لك هذه العادة الشنيعة؟
– قال: وجدتها في مصنفات رولان بارت.
قال القاضي:
– كذبت يا عدو الله، مشايخ فاقهانات البلاد قاطبة، أصغرها وأعلاها وأكبرها وكبارها، قرأوا كتب بارث وما صدر من أحدهم ما يصدر منك..
قال أبو الرَّشا:
– كان يُفعل بي عندما كنتُ صغيرا.
قال القاضي:
– وهذا يبطل ادعاءك بأنك لقطت عدوى اللواط من كتب عالم بلاد العجم!!
ثم وقع لجاج بين أبي الرَّشا والقاضي. وفجأة نشر بعضهم رقعة، تعود إلى أيام كان أبو الرشا أستاذا بأحد فاقهانات البيضاء الصغرى، هي عبارة عن بطاقة تحضير إحدى قصائد أبي نواس، ذيلها اللعين بقوله:
«وحاصل القول في القصيدة أنه بما أنَّ الأمرد حبيب الله والملتحي عدو الله، وهو المراد بالحديث النبوي الشريف «إذا أحب الله العبد نادى يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه – الحديث» ، فإنه«يجوز ترجيح وطء المردان على نكاح النسوان».
ثم ذيَّـل ذلك كله بقوله: [من البحـر الوافــر]:
علـى ديـن اللواط يكـون موتـي *** فـلا الـزوج أريـدُ ولا الخليلـة
وزاد عليه بيتا نسبه إلى زوجته [من البحر الوافر]:
علـى ديـن السحاق يكون موتي *** فـلا الـزوج أريد ولا الخليـلَ
قال القاضي:
– ألستَ صاحب هذه الرقعة؟
قال أبو الرَّشا:
– بلى.
قال القاضي:
– ومن أين لك هذا؟
قال: ذلك عين الجمع عندنا!
قال القاضي:
– كذبت يا حلال الدَّم، قرأنا كتاب مالك وما وجدنا فيه هذا، فقد علم أنه كان «من أشد الناس وأسدِّهم مذهبا في هذا الباب، حتَّى إنه يوجب قتل اللوطي حدّا، بكرا كان أو ثيبا.»
وآنذاك أيقن أبو الرَّشا أنه لا محالة مقتول، فصرخ في وجه القضاة:
«ظهري حمى ودمي حرامٌ وما يحلّ لكم أن تتأولوا عليَّ بما يبيحه، وأنا اعتقادي نقد الشعر ومذهبي البنيوية وتفضيل الأقطاب الأربعة، ميشال فوكو وبول ريكور وكلود بريمون ورولان بارث، وبقية النقاد التابعين، رضوان الله عليهم أجمعين، ولي كتب في نقد الشعر ونظمه في الوراقين. فالله الله في دمي»
ولم يزل يردد هذا القول وهم يكتبون خطوطهم إلى أن استكملوا ما احتاجوا إليه ونهضوا، وحُمل أبو الرَّشا إلى ساحة الفاقهان ليُصلَب.