في المطعم، قبل قليل، بينما كنتُ مستغرقا في معالجة طبق كسكسي الأسبوعي وأنا جالسٌ كالعادة في المائدة المركونة في أقصى اليمين، والتي أختارها دائما لأنها تمنح شعورا بشبه الانزواء، فضلا عن كونها تقع بمحاذاة شبه سور قصير جدا من مزهريات أعشاب، غالبا ما تجلس فيها قططٌ منتظرة أقل إشارة من هذا الزبون أو ذاك، فتلبي نداءه بمنتهى السرعة. الجوعُ غلاَّبٌ!… بينما كنتُ كذلك، إذا بأحدهم يتسلل من الزاوية المقابلة، أتى الشيب على رأسه كاملا، ارتدى القادمُ جلبابا قصيرا بنيا مال إلى الصفرة جراء الغبار أو كثرة الاستعمال، تحته سروال دجين أزرق، وحذاءان عُقدَ خيطاهما بشكل «ملخبط»… لم أفطن إلى ذلك كله إلا عندما سمعتُ عزف كمان فوق رأسي، اتضح أنَّ الغريبَ متسولٌ وأنه هو من كان يعزف، وأن العزفَ كان مطلع إحدى أغاني العيطة العربية الشهيرة. قام بذلك دون أن يفطن (أو يكترث) إلى أنَّ مُوسيقى هادئة كانت تنبعث من مكبرات الصوت الصغيرة المثبتة في سقف ساحة المطعم وداخله، وأنَّه بعزفه قد أحدث تشويشا حال دون الاستماع الواضح لأي من النغمين… مع ذلك، وحتى لا يمضي عزفُ الغريب هباء، أرسلتُ إليه بيدي إشارة مُبهمة بألا ينتظر مني أن أعطيه شيئا. كان بودي أن أتركه يكمل أداء المدخل الآلاتي ويغني بعض أبيات القصيدة، ثم أمنحه ما تيسر ليس بنية التصدق، بل بنية أداء مستحق ما سمعتُ، لأنَّ أكثر أشكال التسول إزعاجا هو هذا النوع الذي يُحاصرُ فيه المتسولون المتصدقين المحتملين، كأن يباغتوا المرءَ وهو جالسٌ في مطعم أو وسيلة نقل عمومية، أو بصدد أداء ما تسوق في دكان أو محل تجاري، أو مستغرق في سحب النقود من صراف آلي، فيكون ذلك منتهى الإحراج الذي لا يترك للمرء أي مجال للتملص أو المراوغة…
كان عُذري في إرسال الإشارة المبهمة لصاحبنا أني كنتُ مستغرقا في الأكل، وإطعام قطة كانت بجانبي الأيمن، وحرصي على عدم نسيان شرب الدواء في منتصف الوجبة. أكثر من هذا وذاك، كانت يدي مبللة بحساء الطعام، فلم يكن بإمكاني دسها في الجيب لإخراج قطعة نقود ما لم أقم إلى بيت النظافة لغسل اليدين أو أسكب ماء عليهما من زجاجة الشرب الموضوعة فوق المائدة، ثم مسحهما بالورق المنشف، ما كان سيؤدي إلى توسيخ أرضية المطعم… وبالجملة، فقد كان سوء حظ صاحبنا أو جرأته مماثلين لذلك الصنف من المتسولين الذين يستوقفك أحدهم في الطريق، وأنت سائر بخطو مهرول، ويداك مشغولتان بحملين ثقيلين، ثم يطلب منك صدقة مع أنه يدرك تماما – أو يتجاهل – أن الاستجابة لطلبه ستقتضي منك أن تتوقف عن المسير، وتضع الأثقال، وتدسّ اليد في الجيب، وما إلى ذلك… أو الصنف الآخر الذي ينزوي قرب الصراف الآلي، ويحاصر الزبائن بالاستجداء. لا ينفع أن تعيد لازمة أنه ليس في جيبك قطعة نقدية معدنية واحدة، وأنَّ الصراف لا يعطي سوى أوراقٍ…، إذ يُواصل المتسول إصراره، بل قد يملي عليك ما يجب عليك أن تفعله، فيأمرك قائلا:
– اسحب النقود، ثم اذهب إلى تلك المحلبة أو ذلك المقهى، واطلب كأس عصير ليمون، ثم صرِّف، وتصدق عليَّ!…
لقسم كبير من هؤلاء أعذارهم، لكن المستنقع كبيرٌ عميقٌ، واسعٌ شاسعٌ، لا يتسع المقام للخوض فيه. فلولا المستنقع لكان هذا الفيلسوف يلقي الآن دروس فلسفة في مدرجات إحدى الجامعات، أو مستغرقا في تأليف مصنفات في محبة الحكمة بدل تأبط هذا الكمان المهترئ وجَوب المطاعم والحانات والملاهي نظير أن يستلَّ ما يقتات به من جيوب من شاء عبث الأقدار ولا مبالاة مسؤولي البلد أن يضعاه هو بالذات في هذا الموضع… ولكن للمتصدقين في مثل هذه المواقف بدورهم أعذارهم الأخرى التي يستدركونها مع متسولين آخرين في سياقات أخرى مناسبة، تتأتى بسرعة البرق؛ يستحيل أن تعود إلى بيتك دون أن تصادف متسولا أو متسولة آخرين. البلاد تعج بجيوش عرمرم من الشحاذين، ربما باستثناء العاصمة التي كانت من النرجسية بحيثُ زعمت – أو توهمتْ – أنها وصلت إلى عصر التنوير، فتسمت بـ «مدينة الأنوار» تاركة شقيقاتها وراءها في عصور أخرى: هذه في النهضة، وتلك في القرون الوسطى، هذه فيما قبل التاريخ، وتلك في العصر النيوليتي، بل ومنها ما تُركَتْ في العصر الحجري، حيثُ لازال من يعيشُ في الكهوف!… وما لم تمنحه لهذا المتسول أو تلك سيكون دائما بإمكانك إعطاءه لآخر وأخرى، في لمح البصر، بسرعة الضوء؛ وأسرع من «خير البر عاجله»…
مثل قِردٍ، كرَّر إشارتي المبهمة الزبونُ الذي كان جالسا عن يساري مستغرقا في أكل دجاج وبطاطس مقلي، ومثلُهُ ومِثْلي أعاد الإشارة ذاتَها الزبونُ الثالثُ الذي كان عن يسار جاري. لم يفاجئني ذلك، لأن التقليد متأصل في الثدييات، قططا كانت أو أرانب أو بشرا أو قردة…
أوقف المغني عزفه، ثم خاطبنا مبتسما بنبرة ساخرة:
– كلكم «لا»؟!
– و«اللاَّ» هي «اللاَّ»؟!
ما يفيد أنَّه خبيرٌ بـ «حرفته»، يمارسُ عن وعي ما أسميتُه للتو بـتقنية «المحاصرة» و«الإحراج»، بل وأنه، بخلاف معظم من يزاولونها، قادرٌ أيضا على إفهام مخاطبيه أنه قد أدرك ما حسبوا أنه لم يفهمه!، بمعنى أنه يجيد الحديث أيضا بـ / وفي «الميتا لغة»، بل يمكن المضي أبعد واحتمال أنه قادر على فهم درجات عليا من التجريد:
فبتأمل قوله: «كلكم «لا»؟! و«لا» هي «لا»؟!» يتضح أنه ربما يدرك جيدا وجود مستويات من الـ «لا» ومستويات من الـ «نعم»، إذ قد تفيد «لا» معنى «لا» فعلا، كما قد تفيد معنى «نعم»، أي عكسَ منطوقها، وقد تعني «لا»، و«نعم»، ومثلها هذه الأخيرة، كما في حالة الحياد الذي توجد فيه مستويات لا يُدركها إلا النبهاء، إذ هناك الحياد المحايد والحياد المنحاز، والحياد الإيجابي والحياد السلبي، والحياد الإيجابي المائل إلى السلب والحياد السلبي المائل إلى الإيجاب، وما إلى ذلك، مما يكون للسياق وإشارات اليد وملامح الوجه فيه الكلمة الفصل.
ومن يدري؟ فقد يكون المغني، من خلال سؤاله السابق، كان يريد استدراجَ زبون أو أكثر إلى ضرب موعد في حانة أو ملهى ليلي للاستمتاع بأجود أغانيه في فضاء أنسب، فينال من صاحب الموعد هناكَ أضعاف ما يُمكن أن يعطيه هنا، وما إلى ذلك، لأن الخمرة يمكن أن تحول جُحا البُخلاء إلى حاتم الطائي بمجرد أن يتوغل في الشراب مسافة ميل أو ميلين… إذا صحَّ هذا الاحتمال، لم يكن مُرور صاحبنا بالمطاعم والمقاهي في هذه الساعة «المبكرة» سوى عملية تسخين أولية تمهيدا للعب مباراة في هذه الحانة أو تلك، أو تزجية للوقت في انتظار أن يحل الليل فتمتلئ الخمارات عن آخرها بسكانها الحقيقيين الذين لا تشرق شمسهم إلا بعد غروب شمس سكان المدينة الآخرين…
*
* *
فطنَ نادل المطعم إلى وجود المغني المتسول، هرول نحوه، ثم طرده وهو يوبخه بنبرة ساخرة:
– أما استحييتَ؟! اليوم يوم جمعة. بدل أن تذهب إلى المسجد وتصلي، أمسكت كمانا وجئتَ إلى هنا تعزف؟!
تبين من قسمات الوجه أنَّ النادل لم يكن جادا في مؤاخذته للمغني. اتضح ذلك من نبرة كلامه وملامح وجهه ولا معقولية هذه المؤاخذة. وهذا طبيعي جدا: فلو كان جادا لكان ينهى غيره عما يأتيه هو نفسه، ولحقّ أن يُوجَّه إليه ما يلي:
– أما استحييتَ أيها النادل؟! اليوم يوم جمعة، بدل أن تذهب إلى المسجد وتصلي، جئت إلى المطعم لتشتغل؟!
ثم لو كان جادا في لومه، لاستاء كل زبائن المطعم؛ إذ سيجدون أنفسهم معنيين بتلك المؤاخذة، لأنهم سيكونوا هم الآخرون «لم يستحيوا، وجاؤوا إلى المطعم بدل أن يذهبوا المسجد لأداء صلاة الجمعة»… ثم من خلال ابتسامة النادل وحركات يديه وإشارات وجهه التي رافقت كلامه، كان واضحا أنَّ الأمر لا يتجاوز ما يدخل في باب الاستهزاء بالمقدس، وهو استهزاء شاسع بين الناس قديما وحديثا، ويمر عبر نكت وطرائف لم تتورع في إثباتها الكثير من كتب التراث الجادة، بل وحتى الفقهية والدينية، وتنَاطُ «بطولة» تلك الحكايات والنوادر غالبا إلى أعراب أو حُمقى ومغفلين. من ذلك ما تعج به مواقع في شبكة الأنترنت وصفحات في بعض شبكات التواصل الاجتماعي، مثل:
«صلى أعرابي خلف إمام فقرأ «إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه»، ثم وقف وجعل يرددها، فقال الأعرابي: «أرسل غيره يرحمك الله، وأرحنا وأرح نفسك»، ودخلت أعرابية على قوم يصلون فقرأ الإمام «فانكحوا ما طاب لكم من النساء»، وجعل يرددها فجعلت، الأعرابية تعدو وهي هاربة حتى جاءت لأختها، فقالت: «يا أختاه ما زال الإمام يأمرهم أن ينكحونا حتى خشيت أن يقعوا علي»، وقيل لأعرابي: ما يمنعك أن تَغْزو؟ قال: «واللّه إني لأبْغِضُ الموتَ على فِرَاشي، فكيف أمضي إليه رَكْضاً!»، وغزا أعرابيٌّ مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ما رَأيتَ مع رسول اللهّ في غَزاتك هذه؟ قال: «وضع عنا نصفَ الصلاة، وأرجو في الغَزاة الأخرى أن يضع النصفَ الباقي»…
أدركَ المغني أن النادل كان يمازحه، فبادله الفكاهة بأخرى، أجابه بنبرة ساخرة مبتسمة:
– أو ظننتني لا أصلي؟! لقد أديتُ صلوات الفجر، والصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، مجتمعة في منزلي قبل أن أخرج. جمعتُ الصلوات كلها في واحدة، ثم جئتُ!
قال ذلك، ثم انصرف. اجتاز الطريق، اتجه صوبَ حانة تقع قبالة المطعم، ثم أمسك كمانه استعدادا للعزف. قبل أن تطأ قدمه عتبة البار، التفتَ إلى الوراء، دون أن يُعرف أكان من خلال التفاتته تلك يتحدى النادل أم كان يتأكد مما إذا كان هذا الأخير هو الآخر يُتابعه بنظراته، فيتصرف (الشحاذ العازف) في المرة المقبلة بناء على نتيجة «تحرياته» أو تقصي أخباره….