Notice: Function _load_textdomain_just_in_time was called incorrectly. Translation loading for the all-in-one-wp-security-and-firewall domain was triggered too early. This is usually an indicator for some code in the plugin or theme running too early. Translations should be loaded at the init action or later. Please see Debugging in WordPress for more information. (This message was added in version 6.7.0.) in /home/aslim/public_html/wp-includes/functions.php on line 6114
أشباه قصص – مراقبة الهــلال – محمد أسليـم

أشباه قصص – مراقبة الهــلال

1303 views
أشباه قصص – مراقبة الهــلال

ليلة البارحة، قبيل النوم، شغلني كثيرا موضوع سفر اليوم إلى الرباط، جراء تأخيرات القطار التي تواترت في الآونة الأخيرة بحيث كادت أن تدخل في باب العادات، فقررتُ عن سبق إصرار وترصد اجتناب قطار الثامنة، ولو كلفني الأمر البقاء نائما حتى منتصف النهار؛ فهو صار يتأخر دائما بنصف ساعة على الأقل!
استيقظتُ في الصباح الباكر، لكني تناومتُ… لما حان موعد الخروج، وجدتُني أبحثُ عن جلبابٍ أبيض، وطاقية بيضاء، ونظارتين شمسيتين سوداويتين، وعُكاز، بغرض أن أخرج بهيأة أعمى، تحاشيا لمجيء نص ما إليَّ، على عادة الأسفار السابقة؛ قلتُ:
– في هذه المرة، سيظنني النص أعمى، ويتفاداني.
لكني لم أجد جلبابا ولا عكازا ولا نظارتين شمسيتين ولا طربوشا، ولا هم يحزنون، رغم أني صرفتُ زهاء ساعة في تقليب البيت رأسا على عقب، الشيء الذي أثار دهشتي واستغرابي، بل ساورتني شكوك كبيرة في أن يكون أحدهم قد استنسخ مفتاح البيت، في غفلة مني، فواظب على المجيء إليه دون علمي، ثم سطا على الجلباب والعكاز والنظارتين الشمسيتين السوداويتين وطربوش الحجاج الأبيض، لكن لماذا سيختار هذه الأشياء دون غيرها؟ ففي البيت ما هو أغلى وأنفس… تذكرت أني، جراء انشغالي قبيل النوم ليلة أمس بحكاية سفر اليوم، رأيتُ في المنام الحلم التالي:
«قبل الخروج إلى محطة القطار، لبستُ جلبابا أبيض، وقبعة بيضاء، ونظارتين شمسيتين سوداوتين، وأمسكتُ عكازا في يدي، وتوكلت على الله، ثم غادرتُ البيتَ بهيأة أعمى لكيلا أرى شيئا ولا أكتب عن شيء»..
لعنتُ هذا الحلم التافه، وما أضاعه عليَّ من وقت، فهرولتُ إلى المحطة، واشتريتُ تذكرتي ذهاب وإيابٍ كالعادة، على الساعة 12 و15 دقيقة، على أساس أن أسافر في قطار الساعة 12 و30 دقيقة، وأعود متى قضيتُ أشغالي في الرباط، فدقت الساعة الموعودة، وتلتها خمس دقائق، فخمسٌ أخرى، فخمسٌ، ثم خمسٌ، وها هي لوحات الرصيف الإلكترونية تقول إن موعد انطلاق القطار المقبل هو الواحدة بعد الزوال، وأن وجهته هي مراكش وليست الدار البيضاء الميناء، كما كتب في تذكرتي… عرضت اللوحات ذلك دون أن تكلف نفسها عناء تشنيف مسامع المسافرين بالأغنية المعتادة، باللغتين العربية والفرنسية:
«سيداتي، سادتي، انتباه من فضلكم! القطار القادم من مدينة كذا والموجه إلى محطة الدار البيضاء الميناء، سيتأخر عن موعده بنصف ساعة، نشكـركم على حسن تفهمكم».
«Mes dames et messieurs! Votre attention s’il vous plait! Le train en provenance de (…) et à destination de Casa – port, aura un retard de 30 mn, nous vous prions de nous en excuser. Merci!…»
اجتَنَبت المحطة عزف هذه الأغنية، ففرضت الأمر الواقع، وخرجت من الباب الواسع!
ركبتُ قطار الواحدة، تحاشيتُ عربة المقصُورات، صعدتُ عربة الكراسي المصطفة بطريقة اصطفاء الكراسي في الحافلات، جلست بجانبي فتاة في سن ابنتي، ارتدت سروال دجين أنيق وقميص ثوب أبيض، وطلت وجهها بماكياج محتشم، استغرقت في معالجة شاشة هاتفها الذكي، في حين استغرقتُ في قراءة كتاب «الثورة الرابعة». في حوالي منتصف الطريق سألتني:
– سيل فو بلي مسيو (s’il vous plait monsieur)، هل يتوقف هذا القطار في الرباط أم لا؟
– نعم.
– ميرسي.
ثم استغرق كلانا في شأنه…
لم أعرف لماذا سألتني بالفرنسية مع أني كنتُ أقرأ كتابا بالعربية! خمنتُ أن تكون سبطة لـ «الحاجة الفاسية العرنساوية» ، هممتُ بسؤالها:
– هل أنت قادمة من فاس؟
– هل أنت سبطة «الحاجة الفاسية العرنساوية»؟
لكني تراجعتُ.
في محطة الرباط المدينة، خرج النص من قمقمه كالعفريت: أثناء الصعود في الدرج الكهربائي الذي يقع على يمين نظيره الإسمنتي المكتظ بالمسافرين الخارجين، لاحت امرأة، أغلب الظن أنها أعجمية، وهي تصعد الدرج الإسمنتي مهرولة. ربما اختارت الصعود على القدمين، بدل الصعود في الدرج الكهربائي، تفاديا للزحام وربحا للوقت أو لأن القطار تأخر عن موعد الوصول. إلى هنا لا مشكلة، ولكن الست نفسها نسيت أنها كانت ترتدي تنورة قصيرة جدا، تسلقت نصف فخذيها، وأنها بصعودها المهرول قد وضعت سرَّها في مرمى عيون زهاء نصف راكبي الدرج الكهربائي الذين كانوا يرونها من الأسفل! وحيثُ أن المغاربة والعرب عموما حاذقون في هذا أكثر من أي شيء آخر، إذ لا شغل لمعظمهم غيره، فقد صوَّب أغلب الذين كانوا صاعدين في الدرج الكهربائي «تلسكوباتهم» صوب ما تحت كسوة المرأة، كأنهم يترقبون ظهور هلال رمضان أدرتُ «تلسكوبي» صوبَ الراكبين، فإذا بهم كلهم تقريبا شبه خاشعين، وبأفواه فاغرة يترقبون ظهور الهلال العجيب…
بعد الصعود، راودتني فكرة أن أقوم بأحد شيئين:
أن أصرخ في وجه مراقبي هلال رمضان:
– أرأيتم الهلال أم لا؟ هو هلال ماذا: شعبان أم رمضان؟
أو أن أتجه إلى تلك السيدة، وأقول لها:
– سيدتي! عندما صعدتِ الدرج الإسمنتي مسرعة كنتِ في مرمى عيون كل هؤلاء! كلهم راقبوا هلالك! ومن المحتمل جدا أن يكون أحدهم قد التقط صورة لك بهاتفه. تدبري ما تفعلي معهم…
لكني خشيتُ أن تتحول بقية الحكاية إلى رواية؛ فقد تحضر الشرطة، وتسوق جميع المسافرين إلى أقرب مخفر، وتصرف ساعات طويلة في تفريغ ذاكرات الهواتف المحمولة، وأصحابها معتقلون، بمن فيهم أنا طبعا باعتباري الشاهد الوحيد في النازلة. وقد تعثر الشرطة على صور للمرأة وقد لا تعثر. وفي هذه الحالة قد يتابعني جميع الذين اعتقلتهم الشرطة باعتباري ارتكبتُ جنحة وشاية كاذبة، وما إلى ذلك، فيُحكم عليَّ طبقا للفصل 445 من القانون الجنائي المغربي بـ «الحبس من ستة أشهر إلى خمس سنوات، وغرامة من مائتين إلى ألف درهم»، علاوة على جواز أن تأمر المحكمة «بنشر حكمها كله أو بعضه في صحيفة أو أكثر» على نفقتي، فتصبح الرواية روايتين:
واحدة تدور أحداثها حول مراقبة الهلال وأخرى حول تجربة السجن… خشيتُ على نفسي، فتراجعتُ، لاسيما أني لم أكن مستعدا اليوم للاستجابة لنداء أي نص، لكيلا تؤجل هذه الاستجابة كتابة نصين لازالا في ذمتي، هما: الجزء الرابع من منتخب سيرتي، وعنوانه: «من التخوانجيت إلى التشيوعيت»، ثم حكاية «قدمٌ في الرحمان وأخرى في الشيطان» . قلتُ:
– أمرُهم بينهم!
ثم نجوتُ بجلدي

*
*     *

محوتُ الحادثة من ذاكرتي «محوا تاما»، ثم خرجتُ مسرعا. لاحقا، صادفت هذه الذكرى أخريات شبيهات لها، بتنويعات مختلفة، فأفضت إلى التدوينة التالية:
يبدو أن مشكلة السواد الأعظم من المغاربة هي مشكلة «لحمية» في المقام الأول. اللحم لحوم، كما هو معلوم، لكن الشغل الشاغل لسوادنا الأعظم لحمان: لحمٌ يُحرم الناسُ منه فلا يصلون إليه إلا في العيد الأضحى، ولحمٌ يحرمون أنفسهم منه مع أنه في متناولهم على مدار العام!

*
*     *

ركبتُ سيارة أجرة صغيرة، حصلتُ في أقل من ثلاث دقائق على الوثيقة الإدارية التي سافرتُ من أجلها، نزلتُ إلى وسط المدينة، تناولتُ وجبة الغذاء، عرجت على السوق المركزي لشراء لحم فرس مفروم لقططي، خشية أن تصاب هي الأخرى ببعض أمراض القلب والشرايين، فيتحول المنزل إلى جناح لأمراض القلب والشرايين…
عُدتُ إلى البيت.
أدت لي القطط تحية الاستقبال، ثم استغرقتْ في دس خياشيمها في حقيبتي اليدوية، بحثا عن الجديد. أخرجتُ المفاجأة، ناولتها قسطا من اللحم، أكلته بنهم شديد، ثم شكرتني، فجلستُ هنا (في صفحتي بالفايسبوك) لأشْعِرَ باحتمال تأجيل كتابة نص «من التخوانجيت إلى التشيوعيت» ليوم أو يومين آخرين مادام لي موعدٌ يوم غد مع شغل سوف يلتهم وقتا أطول مما أكله سفر اليوم…

*
*    *

لاحقا، سأفطن إلى أنني ربما ما كنتُ لأنشغل أو أفطن لحكاية مراقبة المسافرين لـ «هلال» المرأة التي دونتها في الإدراج أعلاه لو أني لم أتطرق للوضع الاعتباري للجنس في مجتمعنا، في إدراج آخر نشرته قبل حوالي أسبوعين، كان نصه:
الجنسُ… ذلك الوحش المفترس!
تنويه: هذا المقطع خلاصة لما يُمكن بسطه في إدراج أطول، يسعى لإظهار وجوه التقاطع بين أشكال الممارسات الجنسية في مجتمعاتنا: «سويها»، و«منحرفها»… وقد خطرت أفكاره بمناسبة تأمل حالة الشيخ الداعية المغربي المعروف التي أجدها لا تختلف عن سائر أشكال الممارسات الجنسية عندنا، بسبب غياب الاعتراف بالجنس أولا، ثم بعدم الاعتراف بحقوق الجسد ثانيا، ومُحاصرته ثالثا، ومن ثمة فقدر هذه الوظيفة البيولوجية في مجتمعنا أنها تكون دائما سلوكا منحرفا، بما في ذلك أثناء مزاولتها داخل القفص الذهبي، ولو غابت فيه الخيانة الجنسية، مع اختلاف في درجات الانحراف، إذ يمكن افتراض وجود انحراف سوي معترف به يُعاقبُ صاحبه على سوايته داخل انحرافه، وانحراف غير سوي يُعاقب صاحبه على انحرافه داخل سوايته…
الجنسُ في مجتمعاتنا وحشٌ مفترسٌ خطيرٌ، لا ينفع الفرار منه وتحاشي مواجهته، بالإعراض عنه والزهد فيه، لأنَّه قادرٌ على أن يخرج من أقرب مقبعٍ، ويثب على المختفي الزاهد، ويفترسه أبشع افتراس، بأشكال شتى: حرمان، كبت، إنجاب عدد كبير من الأبناء، اغتصاب، زنا المحارم، وما إلى ذلك، كما من غير المجدي مواجهته، والانقضاض عليه، بالمطالبة به، أو ممارسته جهارا، فأحرى الإفراط فيه، لأنَّه يهزم الشخص الذي يجرؤ على ذلك، مهما بلغت قوته وشجاعته، بل وحتى وقاحته، يهزمه بوجوه عديدة: انحراف، مضايقات اجتماعية، وقوع في الدعارة، ارتكاب جرائم جنسية، التعرض لسَيفي الفقه والقانون المسلَّطين على الجميع، وما إلى ذلك، كما لا ينفع التفاوض معه ومهادنته في سبيل إقامة علاقة ودية وسلمية ومتوازنة معه؛ فهو مكروه ومطرود، لا يُمكن مقابلته، لأنه غائب تماما، بل حتى مجرد الكلام فيه ممنوع أصلا: في المدرسة، في البيت، في المسجد، في وسائل الإعلام…، لأنه غير مُعترفٍ به أصلا…
ولكن فرط غيابه ليس سوى الوجه الآخر لكلية حضوره؛ فهو الشغل الشاغل للجميع. والدليل على ذلك أن الكل مهووس به، بالرغبة فيه أو الخوف منه. من لم يتكالب ويتهافت عليه حمل عصا ومارس «مطاردة السحرة» لإخراج روحه الشريرة من كل من جرأ على الدنو منه أو المطالبة به أو الحديث فيه. والغريب – الذي ليس هو بغريب في الحقيقة ما دام الجنسُ يفترسُ الجميع – هو أن لا أحد من الأصناف الثلاثة ينجو من هذا الوحش المفترس:
– الكوميسيرُ الحاج الذي انتشر خبر غزواته الجنسية كالنار في الهشيم، في ربوع مغرب منتصف تسعينيات القرن الماضي، هو الشخصية النموذجية العليا لصنف من يفترسه وحشُ الجنس جراء تهافته عليه، إذ بلغ عددُ اللواتي نازلهنَّ هذا «البطل» في الفراش مئات الضحايا، برضاهنَّ أو بالتهديد والإكراه، فكان ثمنُ انغماسه في الجنس حتى الأذنين، وحرصه على توثيق غزواته بالصوت والصورة قبل أن يظهر الهاتف الذكي وتُصبح كاميرات التجسس في متناول من هبَّ ودبَّ، كان ثمنه أن اعتقل وحوكمَ وسُجنَ وأعدمَ؛
– الداعي والداعية المشهوران اللذان ضُبطا متلبسين بممارسة «الفاحشة» داخل سيارة في أحد شواطئ المحمدية، بعد أدائهما صلاة الفجر، هما الشخصيتان النموذجيتان للصنف الذي يزهد المنتمي إليه في الوحش الجنسي ويتحاشاه إلى أن يُحاربه، فإذا به يخرج من تحت جلباب مرتديه، حيثُ كان قابعا. يخرج دون أن يفطن إليه الزاهد فيه، ويثب عليه ويفترسه شر افتراس؛ لاكت الألسن ووسائل الإعلام الورقية والرقمية، المقروءة والمسموعة، قصة الداعي والداعية على امتداد أسابيع، فكان أن اختفيا وغابا الغياب الأبدي، فلم يصعد أحدهما منذئذ منبرا قطّ، ولا أقام مجلسا للوعظ والإرشاد، ولا أمر بمعروف ولا نهى عن مُنكر جراء تعرضهما لافتراس الوحش الذي كان قابعا تحت جلبابيهما أيام كانا يعظان الناس ويرشداهم ويحذراهم منه!؛
– أما الصنف الثالث الذي ينجح في إقامة علاقة متوازنة مع الجنس في الظاهر، من خلال ولوج مؤسسة الزواج، فنموذجه الأعلى أولئك الأزواج الذين يرددون عبارة «اللحم تخاوى [ = تآخى اللحم]» في إشارة إلى أن زوجاتهم لم يعدن يثرن فيهم الرغبة الجنسية على الإطلاق، فصارت ربة بيت الواحد منهم بمثابة شقيقته الخارجة من رحم أمه، ما يفيد أنَّ الارتباط الشرعي بامرأة واحدة لم يحقق الإشباع الجنسي الذهني والوجداني طبعا لا الجسدي والعضوي! وأنَّ الرغبة قد انتقلت إلى أمكنة أخرى، في الواقع أو المتخيل أو حتى الاستيهام!

*
*     *

لاحقا، بمناسبة رواج العديد من الصور والنكت ذات الإيحاء الجنسي إبان عيد الأضحى، كتبتُ الإدراج التالي:
«يبدو أن مشكلة السواد الأعظم من المغاربة هي مشكلة «لحمية» في المقام الأول. اللحم لحوم، كما هو معلوم، لكن الشغل الشاغل لسوادنا الأعظم لحمان: لحمٌ يُحرم الناسُ منه فلا يصلون إليه إلا في العيد الأضحى، ولحمٌ يحرمون أنفسهم منه مع أنه في متناولهم على مدار العام!».

Breaking News