تمهيــــــد:
اجتاز الإسلام في تعامله مع الشعر جملة مراحل أفضت إلى تحديد وضعٍ اعتباري جديد لهذا الجنس الخطابي، يتمثل في إباحة ما تماهى منه مع النصّ القرآني والسنَّة النبوية وتحريم ما تعارض معهما. وقد اصطلح الفقهاء على تسمية هذا الخروج بـ «الغواية» استنادا إلى الآية «والشعـراء يتبعهم الغاوون…» (الشعراء، 224)، ليدرجوا هذا الضرب من الشعر ضمن الأعمال التي تشكل مجالا لـ «اختصاصات الشيطان»؛ إذ «كل شيء سوى الله تعالى وسوى ما يتعلق به فيجوز أيضا أن يكون مجالا للشيطان»[2]، و«كل حال خرج صاحبه عن حكم الكتاب وما جاء به الرسول فهو شيطاني كائنا ما كان»[3] . كيف يمكن أن يكون الشعرُ غواية؟ لماذا اعتبره الإسلام غواية؟
وما معنى أن يعتبره كذلك؟ يكتسي هذا السؤال أهمية كبرى بالنظر إلى: أن اللغة الأولى أو «الكلام الأول – بحسب روسو – كان شعرا كله، ولم يـُحسَب حسابُُ للعقلنة إلا لاحقا»[4]؛ وأنَّ «الأدب في أول مراحله (…) ينشأ في ترانيم دينية وطلاسم سحرية، يتغنى بها الكهنة عادة، وتنقل بالرواية من ذاكرة إلى ذاكرة»[5]؛ وأن بعض الديانات قد صاغت تعاليمها شعرا[6].
1. فـي معنـى الغَـوايَـة:
يحدد صاحب اللسان معنى هذه الكلمة بـ «الانهماك في الغيّ»، أي في «الضّلال والخيبة والفساد»[7]. غير أنَّ الفقهاء لا يُعَرفون المصطلح نفسه إلا بجعله أحد قطبـي سلسلة من الثنائيات. وهكذا:
– فابن كثير[8] يميِّزُ بيـن الغاوي والضَّال معرفا الأول بـ «العالم بالحق العادل عنه قصدا إلى غيره»، والثاني بـ «الجاهل الذي يسلك على غير طريـق بغيـر علم»[9].
– وابن قيم الجوزية يجعل، من جهةٍ، الغواية مرادفا للضلال حيث يعرِّف الغاوي بـ «ضد الرَّاشد»[10] مركزا في ذلك على الآية «لا إكراه في الدّين قد تبيَّنَ الرُّشد من الغي» (البقرة، 256)، لكنه يميِّزُ بدوره، من جهة أخرى، بين الغيّ والضَّلال معرفا الأول بـ «اتباع الهوى والشهوات» والثاني بـ «اتباع الظنون والشبهات»[11]. وإذا أمكن اعتبار هذا التمييز يلتقي مع نظيره عند ابن كثير، فإنه يختلف معه في كونه يفرِّع الغيّ إلى ثنائية أخرى تتألف من نوعين من الأفعال المحظورة التي يمليها الشيطان على العبد:
الأول عشق الصُّور، وهو إقامة علاقة حب خارج مؤسسة الزواج عن طريق الاشتهاء الجنسي للمغاير أو المثيل، وعنه تتفرَّع مجموعة من السّلوكات المحرمة مثل القتل والسَّرقة والإعراض عن الصَّلاة وعن ذكر الله. وهذا النوع عند ابن قيم الجوزية أشدّ المحرَّمات إطلاقا. أما الثاني، فيتألف من إتيان أفعال كشرب الخمر ولعب الميسر اللذين يعتبرهما ابن قيم الجوزية أقل وطأة من عشق الصّور، لأن «العشق المحرم من أعظم الغي»[12]. ولندعه يقارن بين الاثنين:
«فالمعاصي كلها توجب ذلك [عشق الصور]، وتصدّ عن ذكر اللـه وعن الصَّلاة، وذكر ذلك في الخمر والميسر اللذين هما من أواخر المحرمات – تنبيه على ما في ذكرهما مما حرم من قبلهما، وهو أشد تحريما منهما. فإن ما يوقعه من قتل النفوس، وسرقة الأموال، وارتكاب الفواحش من ذلك، وما يصدّ به عن ذكر اللـه وعن الصَّلاة أضعافُ ما يقتضيه الخمر والميسر، والواقع شاهد بذلك. وكم وقع، وهو واقع بين الناس بسبب عشق الصور من العداوة والبغضاء، وزوال الألفة والمحبة وانقلابها عداوة. وأما صدّه عن ذكر اللـه، فقلب العاشق ليس فيه موضع لغير معشوقه…»[13].
من الأمثلة السابقة يتضح أنه، لتحديد المصطلح الذي يعنينا، كان يُعمَد في أغلب الأحيان إلى مقابلته بنقيضه. غير أن العملية كانت تفضي بدورها إلى انشطار في المفهوم الرئيسي (الغَواية) بكيفية تجعله يكاد يتصف بسمة طباق المعاني (sens opposés) التي خصها فرويد بوقفة قصيرة في أحد أبحاثه[14]: فالغواية باعتبارها ضلالا وعقلا وهوى واتباع المرء لما تلقيه عليه شياطين الإنس والجنّ في مجال المباح، هي فعلُُ إرادي ينتمي إلى مجال العقل والشعور، بل وربما الواقع. لكن باعتبارها ضلالا وغيا وهوى وشهوة واتباعا للشبهات والظنون تحت إغراء الشيطان المعنوي المحرض على الضَّلال، فهي أيضا فعلُُ غير إرادي، لا شعوري يندرج ضمن الرَّغبة. ومن ثمة تكون الغواية مجالا لتداخل الشعور واللاشعور، العقل والرغبة. وإذا كنا قد وضعنا المصطلح المعني في هذا الإطار، إطار تضاد المعاني، فذلك لكي نتجنب الانخراط في الجدل الذي يقتضيه – لا محالة – الأخذُ بمعنى دون آخر، إذ حالما نفعل ذلك نجد أنفسنا أمام السؤالين الميتافيزيقيين التاليين:
– إذا كانت سلطة الشيطان تقف وراء انتهاك الإنسان قانون العقيدة فأين نضع إرادة ابن آدم وحريته؟ وهو سؤال من شأنه أن ينسف الأخذ بالمعنى الأوَّل للغواية دون الثاني، أي كونها فعلا إراديا وشعوريا.
– لماذا سيعاقَبُ المرءُ على فعلٍ لا يتحمَّل مسؤوليته كليا؟ بل ما معنى أن «يكلف» اللـه إبليس بالإيقاع بالإنسان، ثم يعاقب الاثنين معا؟ سؤالُُ سيؤزِّمُ الأخذ بالمعنى الثاني للغواية وحده، أي اعتبارها فعلا غير إرادي ولا شعوري[15].
لاحظ فرويد في دراسته المذكورة أعلاه، على إثر الفيلولوجي كارل آبيل، أنَّ عددا كبيرا من الكلمات في لغات بدائية كالصينية والسامية والهند-أوروبية كانت تنزع إلى تجاهل التناقض وإلى التعبير بصياغة واحدة عن أشياء متناقضة، كأن تعني (sacer) في اللاتينية «قديس» و«ملعون» في آن واحد، وتدل (Gut) في المصرية القديمة على «صالح» و«طالح» في آن واحد[16]… وابتَهَجَ (فرويد) لهذا الاكتشاف معتقدا أنَّه قد عثر، وفي آن واحد، على تأكيدٍ، في الحقل اللغوي، للتصور الذي كوَّنه عن التعبير عن الفكر في الحلم، ومؤداه أن لهذا التعبير طابعا نكوصيا سحيقا، وعلى الوسيلة التي ستمكنه من فهم أفضل للغة الحلم وترجمتها[17]. غير أنَّ الدراسات اللغوية اللاحقة أظهرت أن الأمر يتعلق بظاهرة كونية وأنَّ فرويد إنما ذهب ضحية آبيل وفيلولوجيي عصره عموما، إذ «ما أن نعطي للظاهرة اللغوية التي انشده أمامها آبيل قيمة كونية حتى تفقد مناقشة هذه الجزئيات كل أهمية»[18]. وسنرى أسفله أن تأملات فرويد، وأهم منها تأويلات آبيل، وإن كانت لا تفيد في تأكيد طبيعة لغة الحلم وتفسيره، فهي تحتفظ بكل أهميتها من وجهة نظر أنطولوجية.
من جهة أخرى، أظهر فرويد في كتابه «الطوطم والحرام» أن سلوك الإنسان إزاء المحظور يتَّسم أساسا بالتعارض الوجداني: الخوف من الانتهاك والرغبة في الخرق: «الحرامُ حظرُُ سحيق القدم مفروض من الخارج (من قبل سلطة ما) وموجَّه ضدّ أقوى رغبات الإنسان. والميل إلى انتهاكه يظل قائما في لاشعوره؛ فالأشخاص الذين ينصاعون للحرام يقفون موقفا متعارضا وجدانيا إزاء ما هو حرامُُ. والقوة السِّحرية المعزوة للحرام لا تتعدَّى كونها القدرة المتاحة له على إيقاع الإنسان في الإغراء، وهي تسلك مسلك العدوى، لأن المثال مُعدٍ على الدَّوام، ولأن الرغبة المحظورة تتنقل في اللاشعور إلى موضوع آخر. والتكفير عن انتهاك الحرام بعزوف مَّا يثبت أن الأساس في الحرام هو عزوف ما»[19]. ثم رأى أنَّ هذا التعارض الوجداني، أي هذا المزيج من الحب والكراهية الذي حمله الفرد إزاء الموضوع الواحد، يكمن في أساس عدد كبير من التشكلات الاجتماعية، بيد أنه أقرّ بجهله المطلق بأصله، ولم يسعه إلا الافتراض بأن هذا التعارض يؤلف الظاهرة الأساسية في حياتنا الوجدانية، مع احتمال أنه كان غريبا في البداية عنها وأنَّ البشرية لم تكتسبه إلا من جرَّاء العقدة الأبوية[20].
بهذا المعنى، سيكون الطباق المعنوي لكلمة «غواية» يعكس تعارضا وجدانيا تجاه المحرَّم، أي تجاه ممنوعات الإسلام؛ فاعتبار الغواية فعلا إراديا يعكس خوفا من الخرق، واعتبارها فعلا لا إراديا يتضمن رغبة في هذا الانتهاك. وإذا كانت الغواية تجليا شيطانيا، فإن إبليس عندنا لا يعدو مجرَّد «شخصنة الحياة الغريزية اللاشعورية المكبوتة»[21]، أو «رغبات شريرة مستهجنة تنبع من دوافع مكبوتة»[22].
أخيرا، من وجهة نظر أنطولوجية، إن الشيء الواحد يكون غيره بمقدار ما لا يكون نفسه والعكس بالعكس؛ فـ «الوجود ليس هو الوجود، أو بالأحرى لا يوجد الوجود، إلا بمقدار ما لا يكون هو نفسه؛ فالأبيض لا يكون هو الأسود إلا بمقدار ما ليس هو [بالأسود]، أو إنه لا يكون أسودا إلا بقدر ما الأسود هو الأبيض بالضبط»[23].
بهذا المعنى سيكون كل واحد من معنيي الغواية وجها ثانيا للآخر، بل أكثر من ذلك قد يمكننا جعل المصطلح نفسه وجها آخر لنقيضه، أي للرّشد. أليس الضلال عن طريق اللـه هو اتباع لـ «رشد» الشيطان؟ أليس اتباع تعاليم اللـه «غواية» من «منطق» الشيطان؟[24]
أي طريق يمكن ولوجه لمعالجة مسألة الغواية والشعر في الإسلام؟ ثمة إغراء أول قد يكون من الصعب مقاومته، يتمثل في وضع القضية في إطار إشكال تقليدي، لكنه لازال يحتفظ بكل راهنيته، ويدور حول معرفة ما إذا كان الشاعر هو الذي يكتب الشعر أم أنَّ الشعر هو الذي «يكتب الشاعر». وقد صاغه جان بران على النحو التالي:
«ما نكاد ننكب على التجربة الشعرية حتى نجد أنفسنا أمام نظريتين كبيرتين بمساعدتهما يتمّ فهم مصدر الشعر: النظرية الأقدم تحدثنا عن هذيان مقدس يستحوذ على الشاعر ويجعل منه المعبّر عن لسان حال قوى غير مرئية. فهي التي تلهمه، وهي تشبه إلى حد ما الفيتي (Phytie) التي كانت تنقل في حالة ذهول رسالة ملغزة تحررها، ولا يُعرف من أين تأتي ولا كيف تنتهي إليها (…) لكن على هامش هذه الأفكار حول وحي ذي طبيعة روحية أو سحرية تستولي على الشاعر وتجتاحه، تقع منظورات مخالفة تماما تجعل من العمل [الشعري] نتيجة فعلٍ واعٍ، أي تجعل منه عملا يُصَاغُ بنضج، ونتيجة بحثٍ منظم»[25].
إذا كنا لا ننكر أهمية اتباع هذا المسلك من جهة، فإن لنا، من جهة أخرى، أكثر من داع لاجتنابه: فقد سبق أن تطرق لهذا الموضوع عدد كبير من الباحثين العرب قديما وحديثا على السَّواء. ثم إنه يقدِّم أجوبة شبه جاهزة ستجعل مهمتنا، إن نحن اتبعناه، تقتصر على حشد الشواهد الشعرية والنقدية التي تدلُّ على أن العرب قد عرفوا «النظريتين معا»: نظرية الوحي أو الإلهام ونظرية الفعل الواعي والعمل المنظم. أخيرا، إن هدفنا هو محاولة تحديد وتفسير وضع الشعر، والكلمة عموما، في الإسلام. فإذا كان «الأدب في أول مراحله (…) ينشأ في ترانيم دينية وطلاسم سحرية يتغنى بها الكهنة عادة وتنقل بالرواية من ذاكرة إلى ذاكرة»[26]، فكيف تبرأ الدين من الشعر أو من جزء منه على الأقل؟ ما معنى هذا التبرؤ؟ وتأخذ هذه الأسئلة أهمية قصوى عندما نعلم أن ديانات كالبراهماتيـة قـد صاغـت تعاليمها شعرا[27].
قبل التطرق إلى الآيات القرآنية المتعلقة بالشعر، والتي تربط مبدعيه أو متلقيه بقضية الشيطان والغواية، قد يكون من الملائم الوقوف عند هذا الموضوع كما يطرحه القرآن.
2. في إبليــس والغوايــة:
إذا كان التعامل الذري للفقهاء قديما وحديثا مع القرآن «يكسر داخل الشكل اللغوي وحدة النص»[28]، لكون هذا النمط من التفكير التجزيئي يقف عند وحدات دلالية معزولة دون ربطها بالشبكة الدلالية العامة للنص، فإن لنا مع ذلك ما يبرر تعاملنا مع النص القرآني بالطريقة نفسها: فموضوعنا ليس الشيطان والشعر في النص القرآني، وإنما هو إبليس والشعر في الثقافة الإسلامية التي لا يشكل القرآن سوى أحد مكوناتها. ومعنى ذلك أننا إذا سعينا إلى تجاوز القراءة الذرية استحال علينا بكل بساطة، الخروج من النص القرآني وكتب الفقه إلى دراسة امتدادات موقف الإسلام من الشعر في الأعمال الشعرية الإسلامية دون التضحية بهذه النصوص لفائدة بحث فقهي محض، وهو ما لا نزعم القيام به هنا. والحالة هذه، وحتى لا نضحي أيضا بالنص القرآني لفائدة دراسة أدبية محضة، وهو أمر شائع بين مختلف الباحثين العرب الذين تطرقوا حتى اليوم لموضوع الإسلام والشعر، فإننا سنسعى إلى التقليل – ما أمكن – من الأضرار بفتح موضوعنا على تيمات قرآنية متداخلة في العمق مع موضوعة الشيطان والشعر، كالخمر، والغناء أو السَّماع، والمرأة، والسِّحـر.
نقترح معالجة الغواية والشيطان والإنسان على شكل حكاية نؤلفها من المقاطع القرآنية التالية:
أ – «إذ قال ربّك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون، فإذا سويته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين، وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنَّة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ لكم في الأرض مستقر ومتاعُُ إلى حين» (البقرة، 34-36)؛
ب – «ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين، قال ما منعك ألا تسجد إذ َآمرتك قال أنا خيرُُ منه خلقتني من نار وخلقته من طين، قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبَّر فيها فاخرج إنك من الصَّاغرين» (الأعراف، 11-13)؛
ج – «وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون، فإذا سوَّيتُه ونفختُ فيه من روحي فقَعوا به ساجدين، فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع السَّاجدين، قال يا إبليس مالك ألا تكون مع السَّاجدين، قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون، قال فاخرج منها فإنك رجيم» (الحجر، 28-34).
بعد عرض هذه المقاطع التي تروي حكاية واحدة بروايات (versions) مختلفة – قد لا تخلو دراسة تنويعاتها وتكراراتها في النص القرآني من أهمية – يمكن اختصار أفعالها الأساسية في ما يلي:
أ – خلقُ الله كائنا جديدا، هو آدم، ورفض إبليس السُّجُودَ له خلافا لباقي الملائكة؛
ب – طردُ اللـه إبليسَ من الجنَّة وتوعُّد هذا الأخير بالانتقام من آدم وذريته؛
ج – إيقاع إبليس بآدم وحوَّاء ومعاقبة اللـه للجميع بإنزالهم إلى الأرض.
ما دلالة أفعال الشيطان وآدم وحوَّاء، التي اقتضت سقوطهم بإخراجهم من الجنَّة؟ ثم ما معنى السّقوط نفسه؟
في البدء كانت الجنَّة، وكانت إرادة الله. وكانت هذه الأخيرة تقتضي من المخلوقات امتثالا آليا لأوامر اللـه وفق قاعدة متعالية عن التفكير وعن قيم العلوية والدونية اللتين كانتا في حالة كمون أو موجودتين بالقوَّة دون أن تكون ثمة رغبة ولا نية في إظهارهما أو نقلهما إلى وجود بالفعل. وإبليس، برفضه السُّجود لآدم، إنما قام بهذا النقل، وهذا ما اقتضى إبعاده من الجنَّة. فهو «أحدث الرَّفض» في سياق لم يكن يوجد فيه رفضُُ ولا قبول[29]، وبالمقابل كان كل ما يوجد هو قبول للأوامر منتش ذاهل، وبَنى (إبليس] رفضه على «حجة»، بمعنى أنه عقلن موقفه، مفادُها أنَّ فعل السجود لآدم لا معنى له لأن المخلوق الجديد ليس «خيرا» من إبليس. وقد استوجبت هذه الحجَّة والعقلنة حجَّة وعقلنة مضادَّتين صدَرَتا عن اللـه، صار إبليسُ بموجبهما «من الصاغرين»، أي من الذين لحقهم من الله «الذل والمهانة»[30]، من «الذليلين الحقيرين»[31]، كما صار «مستكبرا». إنَّ هذين النعتين اللذين يعكسان تناقض نظامي تفكير اللـه وإبليس، حيث ما هو معقولُُ ومنطقي من وجهة نظر أحدهما غير معقول ولا منطقي من وجهة نظر الآخر، ينبهان إبليس إلى سوء تقديره وعدم كفاءته في استعمال التفكير والقيم. بعبارة أخرى، قد تمَّ كلُّ شيء وكأن اللـه، بعقابه إبليس، إنما قالَ له: إنني أدرى منك بالتَّعقل وما يستوجبه من أحكام. وإذا كنتُ جعلتُه في حالة كمون أو وجودٍ مستتر، فذلك ليس لجهلي به أو لاحتقاري إياه، بل فقط لتجنيبكم، أنتم معشر المخلوقات، من أضرار سوء استعماله. والآن وقد تجرأتَ على هذا التعقل، فانظر كيف وقعتَ ضحيَّته: لقد بنيتَ رفضَك السجود لآدم على نسيان، أو على استدلال خاطئ؛ بهذا المعنى نفهمُ كيف ولماذا اعتبر الفقهاء المسلمون إبليس أوَّل المجانين. يقول ابن الجوزي: «فأوَّل القوم [من العقلاء (الذين) صدرت عنهم أفعال الحمقى والمغفلين وأصروا عليها مستصوبين لها فصاروا بذلك الإصرار حمقى ومغفلين[32]] «إبليس». فإنه كان متعبدا ومؤذنا للملائكة فظهر منه من الحمق والغفلة ما يزيد على كل مغفل، فإنه لما رأى آدم مخلوقا من طين أضمر في نفسه لئن فضلت عليه لأهلكنَّه، ولئن فضِّل عليَّ لأعصينه (…) ومجموع المندرج في كلامه أني أحكم من الحكيم وأعلم من العليم وأنَّ الذي فعله من تقديم آدم ليس بصواب (…) فكأنه يقول: يا من علَّمني أنا أعلم منك، ويا من قدَّر تفضيل هذا عليَّ ما فعلت صوابا»[33].
وإذا تذكرنا أن الشعر عند الفقهاء المسلمين قرآن للشيطان[34]، اتضح أن الإسلام يربط ربطا قويا بين الجنون والشعر.
أما آدم وحوَّاء، بأكلهما من شجرة الخلد، فقد ولجَا هما الآخران نظام القيم فاستحييا من اللـه بحجب عورتيهما. وهذا العمل الذي يكشف عن ولوجهما لبُعد البصر ودخولهما مرحلة اكتشاف اختلاف الجنسين المدشنة للأوديب[35]، هو كذلك، شأنه شأن عمل إبليس، انتقال من الطبيعة إلى الثقافة، أو هو «اكتشاف خاصية الطبيعة، والوظيفة الجنسية إثر ذلك»[36].
لقد اقتضى هذا الانتقال من جانب اللـه عقابا لم يرد على شكل ردعٍ أو نكوص إلى المرحلة السَّابقة، مرحلة انتفاء الثنائيات أو وجودها في حالة كمون، بل أتى على شكل دفع الفعل المعاقَب عليه إلى حدوده القصوى: نقل آدم وحوَّاء وإبليس إلى مكان «بديل» عن الجنَّة كي يمارسوا ما عوقبوا عليه، لكن هذه المرَّة وفق قواعد جد محدَّدة. في هذا المستوى، يبدو أنَّ المعنى العميق للسقوط هو المرور من الطبيعة إلى الثقافة، من اللاشعور إلى الشعور، من اللذة إلى الواقع.
من هذه الزاوية يمكن إدراج الحكاية التي نحن بصددها ضمن هذا النوع من الأساطير الذي يدعى «أساطير الأصول»، والذي تعرفه كافة الثقافات، ويروي كيف جاء هذا الشيء أو ذاك إلى العالم[37]. حكاية إبليس والغَواية والسقوط أسطورة تروي كيف تم الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة. أو هي أسطورة في أصل الثقافة، تشرح هذا الأصل بإعادته إلى الفعل: في البدء كانت كل الموجودات وأنماط الوجود متساوية، لكن الفعل تدخَّل فشطرها إلى ثنائيات مانحا السيادة لقسم منها على الآخر: للـه على إبليس، للشعور على اللاشعور، للعقل على اللاعقل، للثقافة على الطبيعة. بهذا المعنى، نفهم أطروحة فرويد حول أسبقية العمل على الفكر واللغة عندما يقول: «في البدء كان الفعل، أما الكلمة، فلم تأت إلا فيما بعد…»[38]، وندرك لماذا وصَف الإسلام الشعراء سلبيا بكونهم «يقولون ما لا يفعلون».
مما سبق يتضح أنَّ الإسلامَ جعَل من الشعر جزءا لا يتجزأ من نظريته الكوزموغونية[39] بشقيها الفيزيقي والميتافيزيقي، ومنحه وضعا اعتباريا ضاربا في الأرض وممتدا في السَّماء في آن واحد، يمسُّ الجزءُ المرئيّ من الإنسان كما يمسُّ جزءه غير المرئي.
3. أسطـُورة أصـل الشعـر في الإسـلام:
يعود الفضل إلى الباحث المغربي عبد الفتاح كيليطو في إثارة الانتباه إلى ما أسماه القدماءُ «أقدم قصيدة في الدنيا». يتعلق الأمر بأبيات شعرية منسوبة لآدم، تواترت روايتها عند جملة من الباحثين القدماء[40] فقهاء ونقادا، اتخذها كيليطو مادة لإنجاز أربع دراسات (على التوالي: «أقدم قصيدة في الدنيا»؛ «شاعر أم نبي؟»؛ النبوة والنسيان»؛ «مصير قصيدة») سعى فيها إلى إثارة جملة من القضايا التي تطرحها القصيدة المزعومة. من ذلك، مثلا، قضية كون «الغرض الأصلي الذي تفرعت عنه الأغراض الأخرى، هو الرثاء»[41]، ومسائل صحة المرثية، واللغة التي نظمت بها (عربية أم سريانية؟)، ورواية هذه المرثية[42]، ليخلص من ذلك كله إلى أن «هذه الأبيات، أصيلة كانت أم منحولة، قد ارتبطت إلى الأبد بآدم، ارتباطه بالخطيئة الأصلية وبالطرد من الجنة»[43].
لا نروم تلخيص محتوى هذه الدراسات (وهل يمكن تلخيصها حقا؟)، لأنها موسومة بالخاصية نفسها التي تميز أغلب دراسات عبد الفتاح كيليطو السابقة، ونعني بها مقاربة موضوعات (بل وأحيانا حتى أحداث) تبدو للوهلة الأولى عديمة المعنى، لكن بتقدم التحليل يتم استخلاص دلالات بعيدا – بالأساس – عن استدعاء ما يحيط بالوقائع المدروسة من شروط فكرية وتاريخية واقتصادية. كأنها مقاربات تسعى إلى إعادتنا للحظة بدء ما؛ لحظة كان الإنسان في غمرة اللقاء الأول مع العالم، لا يملك شيئا عدا اللغة. إنها كتابات تحاول أن تنير موضوعا ما تجاه ما فعله الإنسان باللغة لمواجهة العالم. من هذه الزاوية لا نتردد في اعتبارها كتابة أنتروبولوجية.
بيد أننا نود الانطلاق من حيث انتهى كيليطو: إذا كانت هذه الأبيات قد «ارتبطت بآدم إلى الأبد ارتباطه بالخطيئة الأصلية وبالطرد من الجنة»، فأي سؤال كان من الإلحاح بحيث اقتضى الجواب عنه تأكيد – أو نفي – نسبة المرثية لآدم؟ تتيح قراءة المادة التي يسوقها كيليطو صياغة الفرضية التالية: كان جسد الثقافة العربية الإسلامية يتضمن، بصدد الشعر، بياضا في حاجة ماسة إلى ملء. هذا البياض عبارة عن غياب أجوبة عن سؤال كان طرحه – العلني أو الضمني – من الإلحاح بحيث وجدَ المعنيون بحقل الشعر قاطبة في وضعية بالغة التعقيد والإحراج؛ فبقدر ما كان الجوابُ في غاية الصعوبة – إن لم يكن متعذرا بالمرة – كانت الحاجة إليه ماسَّة بحيث لم يكن من الوارد عدمُ الإدْلاء بأيِّ اقتراح. هذا السؤال، يمكن صياغته على النحو التالي: إذا كان الشعر قرآنا للشيطان[44]، وكان للشعراء كل هذه الحظوة داخل القبيلة وخارجها، بما اقتضى مداراتهم وتقيتهم[45]، وكان الشعر يتمتع بوضع اعتباري ملتبس بما اقتضى ورود أحاديث نبوية متعارضة في صدده[46]، فمن أين جاء هذا الجنس الخطابي؟ من هو أول شاعر؟ ما هي أوَّل قصيدة؟
إذا استحضرنا بعضا من تعاريف الأسطورة – التي أوردناها أعلاه – أمكن القول بدون أدنى تردد إن الأمر يتعلق في «مرثية آدم»، وما أثارته من مواقف، بـ «أسطورة في أصل الشعر»، أي بواحدة من هذه الحكايات التي تسمى «أساطير الأصول»[47]، التي توجد في سائر الثقافات، ويكتسي وجودها صبغة الضرورة لأنها تقدم تفسيرات لما يتعذر تفسيره بالأدلة العقلانية أو الحجج الملموسة، وبالتالي فقيمتها لا تتمثل في صحة ما ترويه أو خطئه بقدر ما تكمن في ما تؤديه من وظائف، وما يترتب عنها من سلوكات…
لقد أفضت الإشكالية المثارة حول معرفة – أو عدم معرفة – آدم اللغة العربية إلى تقديم جوابين متعارضين: أحدهما يقول بنسبة الأبيات إلى أبي البشرية نفسه كما هي، والآخر يقول بأنها كانت في الأصل عبارة عن خواطر «أنتجها» آدم باللغة السريانية، ثم جاء يعرب بن قحطان فترجمها إلى العربية، وبالتالي يكون هذا الجدّ هو أول من نظم الشعر. ونظن أن ما يمكن استنتاجه من هذه الجزئية أمرُُ في غاية الأهمية: أن يكون آدم أول من نظم شعرا، وباللغة العربية، فذلك يُضفي على هذا الجنس الأدبي صبغة قدسية؛ فآدم يجمع بين الأبوة والنبوة. هو أبو البشرية ووسيط بين الله والبشر في آن واحد، والنبي والأبُ كلاهما يشكل مثالا يحتذى. إذا كان التماهي مع الأب يشكل مرحلة حاسمة في تشكل شخصية الطفل، أي مخرجا ضروريا لعقدة أوديب، فـ «النبي للأمة بمنزلة الوالد، كما ورد في الحديث (…) وفي قول بعض الصَّحابة والسَّلف: وهو أبُُ لهم»[48]. وعليه، فما يفعله الشعراء – من هذا المنظور – هو محاكاة الأب الأول، وبالتالي فالشعرُ ممارسة محللة، تدخل في التقليد لا البدعة. بتعبير آخر، إن هذه الرواية لأسطورة القصيدة الأولى تسير في خط توافقي مع الأحاديث النبوية الواردة عن الرسول من أنه كان يحب الشعر[49]… من هذا المنظور، يغدو من الطبيعي، بل ومن الضروري، القولُ إن آدم قد نظم هذه القصيدة باللغة العربية، وذلك لأسباب أهمها أن الوزن مكونُُ جوهري في الشعر القديم، ثم لو كان آدم قال «القصيدة» على شكل خواطر لما كان له من الشعر إلا المعنى، الأمر الذي يرفضه النقد القديم المرتكز على قولة الجاحظ الشهيرة: «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي…». ويأتي الرثاء موضوعا لهذه الأبيات ليعزز المقاصد النبيلة للشعر الأصلي أو القصيدة الأولى أو – على الأقل – النوايا الأولى للشاعر الأول. تلك المقاصد، فضلا عن كونها نبيلة أو قدسية، تعالج واحدة من القضايا التي أرقت الإنسان منذ القدم ولا زالت تقض مضجعه، ونعني بها مسألة الموت وما يترتب عنها من تفكير في معنى الحياة وغايتها. كما تنسجم هذه المقاصد ذاتها مع العقيدة. بناء على ذلك، سيكون شعر المجون واللهو والخمرة والغزل مُروقا عن الغاية الأولى التي «وُضع» النظم من أجلها، سيكون تمرُّدا على الأب وعدم تماهٍ معه. من هذا المنظور، يمكن فهم ذلك النوع من الأحاديث الواردة عن الرسول والتي تصف الشعر سلبا[50]. وبكلمة واحدة إننا هنا إزاء ما يمكن تسميته بـ «أصل ربَّاني للشعر»[51].
وبالمقابل، فإن تنزيه آدم من قول تلك الأبيات، ونسبتها إلى يعرب بن قحطان، هو تجريدُُ للشعر من كل أصل قدسي، ووضعُُ له في مستوى آخر من القداسة هو قداسة الأب الإثني لا غير. ذلك التنزيه سعيُُ إلى موضعة الشعر في العالم وليس في لحظات الخلق الأولى التي عاش آدم فيها. إنه محاولة لجعل الشعر نشاطا دنيويا خالصا. ولا شك أن هذه الرواية ستسوِّغ الأحاديث النبوية التي تصف الشعر سلبا[52]. أن يكون «يعرب بن قحطان أول من تكلم العربية وركب الخيل ونظم الشعر»[53]، وبالتالي ترجَم خواطر آدم من السريانية إلى العربية ناظما إياها في أبيات شعرية، معناه أنه يتوفر على صنعة أتاحت له نظم النثر أو القيام بوظيفة الكاتب على نحو ما يتصوره ابن الأثير عندما اعتبره من «ينطق على خاطرك بما لا تقدر أنت أن تنطق به»[54]. لقد قام يَعرُب بعمل معاكس لذلك الذي يقتضيه الشعر أو النظم. فهذا الأخير يتطلب أن يُحَلَّ، أي يحتاج لهذه العملية التي خصص لها ابن الأثير كتابا بكامله[55]. وأن يملك يعرب القدرة على ترجمة خواطر آدم ليس من لغة إلى أخرى فحسب، بل وكذلك من النثر إلى الشعر، معناه أنه كان يتوفر – كما هو الشأن مع أبطال الأزمنة الأسطورية – على معرفة كاملة بصنعة الشعر، دون أن يُعلمه إياها أيّ أحد؛ كان قادرا على نظم الشعر في كل الأغراض الشعرية التي سيرثها العرب عن الأولين. ليست «المصيبة» التي حلت بآدم واقتضت نظمها شعرا سوى مناسبة لإظهار تلك المقدرة. بهذا المعنى، فما يراد نقله عبر الرواية الثانية – للأسطورة نفسها – هو الرسالة التالية: الشعر مُنحدرُُ من أصل «دنيوي».
والتفكير في أصل الشعر لدى العرب المسلمين القدماء يشبه إلى حد بعيد تفكيرهم في أصل السحر، إذ انطلقوا في تحديد مصدر هذه الممارسة من مقطع قرآني واحد[56]، فقدموا في تفسيره جملة أساطير آلت في النهاية إلى تبين أصلين: أحدهما رباني والآخر شيطاني. الأول نسب السِّحر إلى الملكين هاروت وماروت[57]، وجعله شبه اختبار يتعرض له المؤمن. وفي هذا الصَّدد لم تتردد كتب التفسير القديمة في إيراد حكاية تروي كيف تعلمت امرأة عجوز السحرَ على يد الملكين، فتحولت على الفور إلى ساحرة كبيرة[58]. أما الثاني، فرد أصل السحر نفسه إلى الشيطان، مقدما أيضا أسطورة تروي كيف أوقع إبليس بالنبي سليمان مدة من الزمن، استطاعت الشياطين خلالها أن تدوِّن وصفات السحر في مصنفات ثم دفنتها تحت كرسي ابن داوود حتى إذا مات أخرجوها للناس وقالوا لهم: لم يكن سليمان نبيا، كان ساحرا[59]. ويندرج هذا التفسير المزدوج، لأصلي الشعر والسحر بردهما إلى مصدرين متنافرين، لدى الفقهاء المسلمين ضمن ظاهرة عامة تتمثل في التعارض الوجداني الناجم عن صعوبة تبرير بعض الأحكام.
4. الغـوايـــة والشعــــر:
إذا كان انبثاق الثقافة قـد أحدث قطيعة نهائية بينها وبين الطبيعة على مستوى الزمان والمكان، فإن الرهان في الأرض / الثقافة سيركز كليا على نمطٍ من التداخل يجب أن يتمَّ دائما بين الاثنين. هكذا، سيُطالَبُ الإنسانُ بالقيام بمجموعة أعمال غايتها النهائية هي العودة إلى المكان الذي أقصيَ منه، وسيُحظَر عليه أداء أفعال أخرى إن هو قام بها فسوف لن يُحرَم من تلك العودة الأبدية فحسب، بل وسيتلقى أيضا مكافأة سلبية تتمثل في الدخول إلى النار / الإقامة في اللامكان. بتعبير آخر، لما نزل الإنسانُ إلى الأرض صارَ ذا بُعدين إن على مستوى كينونته ككل أو على مستوى كل جزء من الأقسام المؤلفة لهذه الكينونة، وأمَرَته الشَّريعة بأن لا يستهلك بُعدَيه معا هنا في الأرض؛ أن يضع نُصبَ عينيه أنَّ له قسمة منه، أو أنا أخرى مودَعة بداخله، لا يجب عليه أن يمسَّها أو يُشغِّلَها إلا عند حلول أوان استخدامها، أي بعد دُخول الجنّة. هذه الأنا الأخرى بمثابة منطقة يجب أن تظلَّ بيضاء هنا في الأرض كي تملأ هناك في الجنة بمعظم المحظورات الدنيوية، كمُمَارسَة الجنس خارج مؤسسة الزواج، وشرب الخمر، والتلذذ بالنعيم، الخ[60]. بهذا الصدد يسوق ابن قيم الجوزية حديثا نبويا ورد فيه: «من ترك اللذة المحرمة لله استوفاها يوم القيامة أكمل ما تكون، ومن استوفاها هنا حُرمَها هناك»[61]. وهذا الأنا الغيري كان له هو الآخر، قبل السقوط، أنا غيري له هو أنانا الحالية. بتعبير آخر، فكما أنَّ الحياة هناك، في الجنة، إخراجُُ (mise en scène) للأنا الآخر القابع بداخلنا الآن، فإن الحياة هنا، في الأرض، هي إخراجُُ للأنا الغيري الذي كان كامنا بداخلنا لما كنَّا هناك، في الجنة، قبل السقوط.
أي وضع يأخذه الشعر في هذا الانشطار إلى بعدين، أحدهما أرضي والآخر سماوي؟
نقترح في ما يلي مجموعة من التأملات لا تعدو في حالتها الراهنة مجرَّد فرضيات عمل تقتصر على نقطٍ خمسٍ هي على التوالي: الشعر والكلام، مدخل الشيطان ومدخل الشعر، الشعر والسِّحر واللعب، الشعر وحدَّا الغواية، ثم الشعر والذِّكر.
5. الشعـر والكــلام:
يقتضي التأمل في الشعر باعتباره «كلاما موزونا ومقفَّى يدل على معنى»، على حدِّ تعريف قدامة بن جعفر، أن نستحضر جملة معطيات إسلامية مرتبطة باللغة: فقد ورَد في القرآن أن اللـه يخلق بالكلمة: «وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون» (آل عمران، 47)، كما جاء فيه أن اللـه «علم آدم الأسماء كلها» (البقرة، 31)، وقام إعجاز الرَّسول (ص) على اللغة أساسا، وذهب بعض المتصوفة إلى اعتبار الموجودات هي عين كلام الله[62]… ما دلالة ربط القانون الإلهي باللغة؟ وماذا يمكن للإبداع عموما، والشعر بوجه خاص، أن يمثل في هذا الضرب من السياقات؟
لقد خلص إريك فروم من تحليله لأسطورة الخلق البابلية التي تعدّ أوَّل حكاية ورد فيها إدراك قدرة الخلق المودَعة في الكلمة، إلى أن هذه الحكاية صياغة على مستوى الخرافة لذلك الانتقال الذي شهدته البشرية من النظام الأمومي، حيث كانت السلطة بيد المرأة وكانت الآلهة إناثا، إلى المجتمع الأبوي، حيث سينتقل الزمام إلى الرجل وتصير الآلهة ذكورا[63]. كما أورد فرويد، في سياق حديثه عن هذا الانتقال نفسه، أنَّ الفنون البصرية، كالزخارف والنقوش والنحت كانت تعرف ازدهارا كبيرا في ظل سلطة الأم. وبانتقال السلطة إلى الأب عرفت اللغة ازدهارا كبيرا، وصارت هي أداة الخلق والابتكار، وبالتالي طال تلك الفنون تحريمٌ[64]. الفكرة نفسها، تقريبا، نجدها عند باشفن عندما يقول: «فالحسب الأمومي يقترن بخلاف الحسب الأبوي مع تفضيل جهة الشمال على اليمين والليل على النهار، والقمر على الشمس والأخ الأصغر على البكر، حتى أن المفاهيم العامة مثل الحرية والمساواة تتفرع تلقائيا عن الأمومة»[65]، فيستخلص النتيجة التالية: «… وهكذا انتصرت الأبوة بوصفها مبدأ أسمى، محدثة ليس فقط تبدلا اجتماعيا، بل رؤية ثورية عن العالم: لقد ظفرت الفكرة السماوية الأبولونية على الفكرة الأرضية وطغت الميمنة على الميسرة وغلب النهار على الليل، وأخضعت الروح المادة»[66].
بهذا المعنى يمكن افتراض أن الشعر لا يمكن أن يكون في السياق الإسلامي سوى منافس لسلطة الأب وعودة للمكبوت الأمومي مقنَّعة بقناع اللغة. وفي المنحى التطرفي نفسه، يصير اللـه هو المتكلم بامتياز، ولا يصير الكلام الصادر عن العبد إلا تشويشا على كلام اللـه الحاضر في كل مكان. ولربما تتيح هذه النقطة تفسير جملة من المعطيات التي تقدمها بعض دراسات الباحث المغربي عبد الفتاح كيليطو:
أولها انتحال أسماء مؤلفين معروفين لتمرير مصنفات ربما ما كانت لتحظى بأي تلق لولا هذه المواربة، بحيث كان في متناول الجميع أن يولد كلاما، «ولكن شريطة وضع هذا الكلام على لسان مؤلف حجة» [67]، الأمر الذي يخلص معه الباحث إلى ما يلي: «وهكذا يمكن للكلام أن ينمو ويتزايد، بيد أنَّ عدد المؤلفين محدود وينبغي أن يظل كذلك. لكل نوع أعلام هي القادرة وحدها على أن تجعل الكلام مقبولا، ما دامت تتمتع بخلفية نصية معترف بها»[68].
والثانية ذلك التهيب الذي كان يستشعره المؤلفون القدماء أمام الكتابة، فيعمدون في افتتاحيات مصنفاتهم إلى ذكر أن فعل الكتابة لم يأت نتيجة قرار ذاتي بقدر ما كان نتيجة تكليف من قبل شخص ما، مما «يترك لدينا الانطباع بأنهم كانوا يعتبرون الكتابة أمرا جسيما خطيرا، وأنهم كانوا بحاجة إلى الاحتماء وراء سلطة للشروع في الكتابة»[69]، هذا التبرير ربما هو الأصل في الخلاصة التي انتهى إليها الباحث نفسه من دراسته المعنونة «العرب والكتاب»، إذ يقول: «… وفي نهاية المطاف، فإن غياب كتاب نموذجي يتطابق مع غياب نمـوذج. بالنسبـة لعـرب اليوم الكتاب هو ما لم يعد موجودا وما لم يوجد بعد»[70].
والثالثـة: مسألة ما يسميه بـ «أقدم قصيدة في الدنيا»، التي نسبها العرب القدماء للنبي آدم، وخصها الباحث بأربع دراسات هي على التوالي: «أقدم قصيدة في الدنيا»؛ «شاعر أم نبي؟»؛ «آدم والنسيان»؛ «مصير قصيدة»[71].
وإلى هذا يضاف أن النقطة نفسها قد تتيح (تفسير) عملية النحل الواسعة التي شهدها الحديث النبوي[72]. من هذه الزاوية تساءل الفقهاء: أيجب على الإنسان أن يصمت أم يجب عليه أن يتكلَّم؟ فاعتقد بعضهم بضرورة الصَّمت، وخلَّف أدبا امتداحيا لهذه الخصلة بناء على الكثير مما ورد في السنة والمأثور، كقول الرسول: «الصمت أرفع العبادة»[73]، وما جاء عن عيسى عليه السَّلام أنه سئل: «دلنا على عمل ندخل به الجنَّة، قال: لا تنطقوا أبدا»[74]، وما روي عن بعض الصحابة من أن «الذكر نفقة بناء الجنة»[75]، وعن وهيب بن الورد أنه قال: «بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت والعاشرة في عزلة الناس»[76].
يرى ابن عربي أن الكلام صفة «مشتقة من الكلم وهو الجرح»[77]، ويصفه الماوردي بأنه «لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على شوارده، فحق على العاقل أن يحترز من زلَـلِـه بالإمساك عنه أو الإقلال منه»[78]، لكن أليس الصمت في حد ذاته غواية بالنظر إلى أن «الغواية والصَّمت متآلفان منذ أصلهما الأسطوري»[79]؟
ولربما كان رواج الرأي القائل بوجود بداية ونهاية للشعر العربي تعبيرا رمزيا، في المجال النقدي، عن لا جدوى كلام المخلوق أمام الخالق، لا جدوى كلام الفرع أمام كلام الأصل؛ فقد حدد البعضُ بداية الشعر العربي في امرئ القيس ونهايته في أبي الطيب المتنبي معتبرين إياه «خاتمة الشعراء لا محالة»[80]، وقال آخرون: «بدئ الشعر بكندة – يعنون امرأ القيس – وختم بكندة – يعنون أبا الطيب -»[81]، وقال قوم: «بُدِئَ الشعر بملك وختم بملك، يعنون امرأ القيس وأبا فراس»[82]، وقال أبو عمرو بن العلاء: «ختم الشعر بذي الرمة»[83]، وكان أبو عبيدة يقول: «افتتح الشعر بامرئ القيس، وختم بابن هرمة»[84]، فيما كان الأصمعي يقول: «بشار خاتمة الشعراء»[85]، وكان ابن الأعرابي يقول: «ختمتُ الشعر بشعر أبي نواس فلم أدون بعده لأحد»[86]، كما كان ابن الأثير يستغني بالبحتري وأبي تمام وأبي الطيب المتنبي عن مجموع الشعر العربي الإسلامي[87].
6. مدخـل الشيطـان ومدخـل الشعـر:
يعرف ابن عربي الخاطر بأنه «سفير اللـه إلى قلب عبده»[88]، ثم يقسم الخواطر إلى رباني وملكي ونفسي وشيطاني[89]، معرفا (الخاطر) الشيطاني بما مضمونه أنه شيطانُُ معنوي يقود الإنسان، إن هو اتبعه، إلى الفطنة[90]، أي إلى أشياء تفضي به إلى البدعة واتباع الشبهات، وبالتالي الخروج عن الدين من حيث يعتقد أنه يتمسَّك به ويحسن إليه. لنتذكر أن الفطنة هي أحد معاني الشعر[91]، وأن ابن الأثير أجاب أحدهم عن سبب انكباب أهل مصر (في ق. 6 هـ) على المتنبي دون أبي نواس، بقوله: «إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس»[92].
يسوق الفقهاء أمثلة عديدة لهذا المدخل للشيطان، أشهرها حكاية برصيصا العابد الإسرائيلي التي يكثرون من إيرادها في سياق تفسيرهم للآية: «كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف ربَّ العالمين» (الحشر، 16)؛ فقد وقع الناسك في محظور جنسي، على إثر إيقاع الشيطان به، مع أنه لم يكن يريد في الأصل سوى الإحسان إلى التي سيغتصبها فيما بعد. تقول إحدى هذه الروايات:
«كان راهب من بني إسرائيل يعبد اللـه فيحسن عبادته، وكان يؤتى من كل أرضٍ فيُسألُ عن الفقه، وكان عالما، وإنَّ ثلاثة إخوة كان لهم أخت حسنة من أحسن الناس، وإنهم أرادوا أن يسافروا، فكبر عليهم أن يخلفوها ضائعة، فجعلوا يأتمرون ما يفعلون بها؛ فقال أحدهم: أدلكم على من تتركونها عنده؟ قالوا: من هو؟ قال: راهب بني إسرائيل، إن ماتت قام عليها، وإن عاشت حفظها حتى ترجعوا إليه؛ فعمدوا إليه فقالوا: إنا نريد السَّفر، ولا نجد أحدا أوثق في أنفسنا ولا أحفظ لما وُلِّيَ منكَ لما جعل عندك، فإن رأيت أن نجعل أختنا عندك فإنها ضائعة شديدة الوجع، فإن ماتت فقم عليها، وإن عاشت فاصلح إليها حتَّى نرجع، فقال: أكفيكم إن شاء اللـه؛ فانطلقوا فقام عليها فداواها حتَّى برئتْ، وعادَ إليها حسنها، فاطلع عليها فوجدها متصنعة، فلم يزل به الشيطان يزيِّن له أن يقع عليها حتَّى وقع عليها، فحملت، ثم ندَّمه الشيطان فزيَّن له قتلها؛ قال: إن لم تقتلها افتضحت وعرف شبهك في الولد، فلم يكن لك معذرة. فلم يزل به حتَّى قتلها؛ فلما قدم إخوتها سألوه ما فعلتَ؟ قال: ماتت فدفنتها، قالوا: قد أحسنتَ، ثم جعلوا يرون في المنام، ويُخبَرونَ أن الراهب هو قتلها، وأنها تحت شجرة كذا وكذا، فعمدوا إلى الشجرة فوجدوها تحتها قد قتلت، فعمدوا إليه فأخذوه، فقال له الشيطان: أنا زيَّنت لك الزنا وقتلها بعد الزِّنا، فهل لك أن أنجيك؟ قال: نعم، قال: أفتطيعني؟ قال: نعم، قال فاسجُد لي سجدة واحدة، فسَجَدَ له ثم قتِل»[93].
إن ما ينطبق على الخاطر الشيطاني يصدق أيضا على الشعر؛ فالشاعر مهما حسنت نواياه لا يضمن دائما المخرج الذي سينتهي به إليه شعره. وبهذا الصَّدد خصص ابن رشيق القيرواني في «عمدته» بابا لـ «منافع الشعر ومضاره»[94]، تحدث فيه عن «فوائد الشعر»، وعن «من رفعه شعره»، و«من ضره شعره»، الخ. وبقراءة هذه الفصول يبدو أنَّ الشعر، مثل إيحاءات الشيطان، يمكن أن يكون هبة أو تهلكة لصاحبه. بهذا المعنى نفهم قولة الماوردي سابقة الذكر: «الكلام لا يمكن استرجاع بوادره ولا يُقدَرُ على ردِّ شوارده…». في هذا المستوى يمكن أيضا القول إن للشعر سلطة علوية ما ورائية تتجاوز الشاعر، وإن النظم بحرُُ قد لا يملك داخله زمام الخروج منه.
مما يستوجب التفكير في هذه النقطة، أي مقارنة الشعر بالشيطان، كون الشاعر متَى كان يُقتَلُ أو يُعاقَب، فإن ذلك كان يتم بالتأكيد بسبب قوله. فماذا كان يمثل هذا الضَّرب من الشاعر الذي يقتضي عقاب صاحبه؟ لماذا لم يكن يُعمَدُ، بدلا من قتل الشعر، إلى إخلاء سبيله بعدم الاعتراف بما قاله، مثلا، أو بـأن يُطلَبَ منه أن يتبرَّأ مما قاله؟ لنشر، قبل محاولة الإجابة، إلى نصيحة الماوردي، لتجنب سوء عاقبة الكلام، بما مفاده: افعـل ما لا تقول ولا تقل ما لا تفعل[95]، وإلى نصيحة عمر بن عبد العزيز لرجل جاء يسأله: «متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت الصمت، قال: متى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت الكلام»[96].
7. الشعـر والسّحــرُ واللَّعِــب:
إذا كان «التنفيس عن النفس» بالشعر يعد واحدة من وظائف الشاعر العربي القديم[97]، فإن هذا التفريج نفسه يدخل في صلب تعريف ليفي ستروس للساحر إذ يقول: «الكاهن عبارة عن شخص يحترف التفريج عن الكرب»[98]. وقد فطن القدماء إلى ما بين الشعر والسحر من صلة، فصنفوا في الموضوع مؤلفات نقدية-بلاغية انطلاقا من الحديث النبوي الشهير «إن من البيان لسحرا»[99]. بيد أن ما يهمنا في هذا المقام ليس الجانب البلاغي في الخطابين الشعري والسحري[100]، وإنما التمثلات والممارسات التي تتيح إقامة التماثل بين الشعر والسحر.
لا يسمح المقام الحالي بعرض أوجه الشبه العميقة بين السبل التي يتعين على فردين أن يسلكاها كي يحصلا على وضع اعتباري جديد داخل المجتمع، هو وضع الـ «ساحر» في حالة ووضع الـ «شاعر» في أخرى[101]. لعل أحد سمات هذا الوضع الاعتباري الجديد تكمن في أن الفرد متى صار شاعرا ولج نمطا وجوديا جديدا يُترجَم عبر ما ينظمه من أشعار. وهو نمط يكاد يشبه ما نسميه اليوم بالممسوس (le possédé)، أي ذلك المرء الذي تسكنه أرواحُُ وتحوله، في لحظاتٍ ما إلى مجرد قناة لتمرير ما تريد هذه الأرواح نقله للأسوياء من محيط الممسوس. بتعبير آخر، لم يكن القدماء يقولون، على غرار ما يفعل بعضنا اليوم عندما يقول: «فلانُُ ليس شاعرا أو ما كان ليكون شاعرا كبيرا لولا أن أتيح له من الفرص ما أحسن انتهازه…»، وبالمقابل كانوا يؤكدون: «فلان رفعه الشعر»، «فلان أضر به الشعر». ومعنى ذلك أن تصورهم للشعر يضمر فكرة أن المرء لا يصير شاعرا بمحض إرادته. نعم يمكن أن يرغب في التحول إلى شاعر، ويخضع لمسارَّة ما، أو يتلقى تكوينا مَّا، لكنه متى ولج الوضع الاعتباري للشاعر، صار الشعر هو الذي يتحكم فيه، صار ذرة في مهب الشعر، أو قشة يذروها موج الشعر.
يبدو أنَّ معاقبة الشاعر على شعره كانت تقوم على اعتقاد ضمنيّ في استقلال الشعر عن صاحبه؛ فأبيات الشاعر التي يُغضَبُ منها دونَ أن يُغضب عليها، متى صَدَرتْ نَزَلت كقدَرٍ لا مفرَّ منه. إن كانت خيّرة جميلة فلا مردَّ لجمالها وإن كانت شريرة فلا مردَّ لشرِّها، لأنها تلج حقل التداول الشفهي والكتابي مشتغلة فيما نسميه بـ «ذاكرة الثقافة»[102]، متحولة إلى ذكرى ذات راهنية لا تنقطع. و«الذكرى، في الواقع، كأعمال السحر الأسود، لا تفعل إلا في الحاضر»[103]. وهذا يذكرنا بـ «المانا» التي توجد في أساس الإيمان بالسحر لدى البولينيزيين، أي بهذا «الحشد من الأفكار التي يطلق عليها اسم: قدرة الساحر، الخاصية السحرية لشيء ما، الشيء السحري، أن يكون المرء ساحرا، أن يتوفر على القدرة السحرية، أن ينشد عزائم سحرية، أن يؤثر سحريا»[104]. وقد التفت القدماء إلى هذا الجانب، فقالوا: «ومن هنا عظم الشعر، وتهيب أهله، خوفا من بيت سائر تـُحْدَى به الإبل، أو لفظة شاردة يضرب بها المثل، ورجاء في مثل ذلك؛ فقد رفع كثيرا من الناس ما قيل فيهم من الشعر بعد الخمول والاطراح، حتى فخروا بما كانوا يعيرون به ووضع جماعة من أهل السوابق والأقدار الشريفة حتى عيروا بما كانوا يفتخرون به»[105]. ولعل في هذا الجانب بالضبط يكمن تفسير الرهبة التي كان يحس بها العرب تجاه الشاعر، لدرجة شراء – إن جاز التعبير – صمته: فقد أفرج عمر بن الخطاب عن الحطيئة، بعدما سجنه بسبب أبيات شعر في الهجاء، ثم سلمه مبلغ 3000 درهم مقابل ألا يتعرض ثانية لهجاء المسلمين، وهو ما عبر عنه بأنه «اشترى منه أعراض المسلمين»[106]، ومدح شاعرُُ الحسين بن علي، فأحسن عطيته ولما عوتب على ذلك قال: «أترون أني خفت أن يقول إني لست ابن فاطمة بنت رسول اللـه (ص) ولا ابن علي بن أبي طالب؟ ولكن خفت أن يقول: لست كرسول اللـه (ص)، ولست كعلي، فيصدق ويحمل عنه ويبقى مخلدا في الكتب، ومحفوظا على ألسنة الرواة»[107]. والكلمة الشعرية تستمد سلطتها المتعالية من تركيبها وجمالها وقافيتها ووزنها، وكلها أمورُُ لا تتيسَّر لأي كان. فقد كان بعضهم يقول: «أنا عند الناس أشعر العرب، ولربما كان نزع ضرس أيسر علي من أن أقول بيت شعر» [108]، قول يذكر بما قاله أحد الشامان[109] السيبيريين لعالم زائر: «إن عمل الشامان مرهق جدا. إنه أشق من قطع الأشجار»[110]. من هذا الجانب يكون عقاب الشاعر في السياق الإسلامي قائما على المعتقد نفسه الذي يقوم عليه تطبيق الحد على الساحر، والذي يقضي بقتله[111]. فالسحر قوة علوية محايدة نوعا ما، يمكن تحريكها للخير كما يمكن تحريكها للشرّ، مشتغلة في استقلال عن السَّاحر، وهي تنبع في نهاية المطاف من قدرة اللـه. وعليه فالعقاب لا يجوز، بل لا يمكن أن ينصب على السِّحر. يجب أن يلحق بالساحر. ومعنى المعاقبة الجسدية لهذا الأخير هو «تأديبه» لكونه تجرَّأ فحرَّك السحر / قدرة اللـه في عمل شرير. والأمر نفسه ينطبق على الشعر: فهو لا يمكن «اغتياله» كما لا يمكن منعه باعتباره جنسا خطابيا، وكل ما يمكن القيام به هو تحييد مفعوله، أو إصلاح الشاعر لما أفسدَ من قوله، على حد تعبير ابن عبد ربه[112]، وذلك بأن يعمد الشاعر «الضنين» نفسه أو شاعر آخر إلى نظم قصيدة تبطل مفعول القصيدة المغضوب منها وتنخرط في دورة الرواية الشفهية باعتبارها معادلا لها (للقصيدة الأولى). بهذا المعنى، يكون هذا الضرب من الشعر (المهاجاة والنقائض) متصفا بكافة مقومات اللعب على نحو ما يعرفه ج. ويزينغا وروجيه كايوا [113]، لكن بين عمليتي الأخذ والرَّدّ وقعت خسائر وسقط ضحايا، فأخزيتْ أقوامُُ بأبيات شعر عجزت عن تحييد خزيها، وقتل شعراءُُ دون أن تترَكَ لهم فرصة إبطال مفعول ما قالوه، كما سُجِنَ آخرون… فما الذي كان يحوِّلُ هذا اللعب المقدَّس إلى جدّ في لحظاتٍ معيَّنة؟ قد يقتضي الجوابُ دراسة مسألة التلقي في الشعر القديم والمقارنة بين الشعر الذي قبل تحييده والشعر الذي لم يُقبَل إبطاله أو لم يفكر حتى في هذا الإبطال. ومع أننا لا نزعم القيام بهذا العمل في السياق الحالي، فإننا نورد بعض الأمثلة التي تبدو لنا دالة بهذا الصدَّد:
فمن النوع الأول، الذي تمَّ تحييده، القصائد التي كان كعب بن زهير قد هجا بها الرسول، فذلك الشعر كله تمَّ تحييده بقصيدة واحدة هي «بانت سعاد». حقا، إن استمرار تداول تلك الهجائيات بين رافضي الدعوة حتى بعد إسلام كعب بن زهير أمرُُ واردُُ، ولكن فعالية ذلك التحييد كانت من القوة والاشتغال في ذاكرة الثقافة بحيث آل الأمر إلى ما نحن عليه اليوم؛ لا نتوفر على بيت واحد مما هجا به كعبُُ الرسول قبل إسلامه، وبالمقابل نتوفر على قصيدته «البردة». ومن هذا النوع كذلك قصة الحطيئة مع الزبرقان: فقد هجاه بأبيات، فاستعدى عليه الزبرقان عمرا بن الخطاب وسجنه، فقال وهو محبوس أبيات شعر، فرق له عمر، وأخلى سبيله، وأخذ عليه ألا يهجو أحدا من المسلمين»[114]. ومنه أيضا الرد (الشعري) الذي خص به الأخطل الأنصار بسبب تشبيب أحد شعرائهم بامرأة منهم: «وهجا [الأخطل] الأنصار ليزيد بن معاوية، لما شبب عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بعمته فاطمة بنت أبي سفيان – قيل بل بأخته هند بنت معاوية (…). وقـد ردَّ على جريـر أقبح الرد وتناول من أعراض المسلمين وأشرافهم مـا لا ينجو مع مثله علوي فضلا عن نصراني»[115].
ومن النوع الثاني، أي الشعر الذي قاله شعراء وتسبب في قتلهم، الأبيات التالية التي كتبها ابن البريدي من السجن يستعطف فيها ساجنه:
إذ قادني نحـوك الإذعــان والنـدم
هبني أسأت فأين العفو والكـــرم
يا خير من مدَّت الأيدي إليه أمــا
تـرثي لصـب نهـاه عنـدك القلـم
بالغت في السخط فاصفح صفح مقتدر
إن الملوك إذا ما استرحمـوا رحموا
فلما قرأها المعني بها، قال: «يكتب إلي “هبني أسأت! وهو قد أساء! أما إنه لو قال:
فهبنا للكــرام الكـاتبينـا
ونحـن الكاتبـون وقـد أسأنا
لعفوت عنه!»، ثم أمر (…) به، فجعل في تابوت حتى مات»[116].
قد يقال إن هذه الأبيات لا تستوفي مجمل شروط الشعرية، وجوابنا هو أننا لا نهتم بمكونات الخطاب الشعري، وإنما نهتم بالتمثلات القائمة حول الشعر والتلقيات التي يصادفها كل قول يُقدَّم باعتباره نظما فيحظى بالقبول بهذه الصفة.
8. الشعــرُ وَسَــطٌ حـَدَّاه غوايــة:
لقد أرسل اللـه إلى الإنسان، عبر الإسلام، علامة دالها الشريعة / النص ومدلولها الكون[117]. ودال الإسلام يعلن نفسه «جنسا خطابيا» متعاليا، آية في الإحكام إن على مستوى الصياغة الجمالية أو على مستوى المضامين الفكرية والقيمية. إنه جنس لم يقلِّد ولن يقلَّد، ولذلك يستحيل على الإنسان محاكاته أو مضاهاته. إذا كان الأمر كذلك فماذا يتبقى للإنسان أن يقول؟ ما مجال القول الذي يجب على الشعر أن يحدده لنفسه؟ وما درجة الجمالية التي عليه ألا يتجاوزها؟ على الشعر، في الواقع، أن يلعب داخل مساحة ذات حدَّين، مقدس ودنيوي، كلاهما غواية: فإن هو اقترب من النص القرآني أكثر مما يجب وقع في الغواية، وإن هو ابتعد عن الكتاب أكثر مما ينبغي سقط أيضا في الضلال. وقد تجد هذه الأطروحة ما يؤكدها في مضامين الشعرين الصوفي والمجوني:
فمن فرط التماهي مع المقدس انتهى الصوفية عموما، والحلاج وابن عربي وابن الفارض بالخصوص، في رأي خصومهما، إلى الزندقة والكفر، فنفوا وجود اللـه[118]، وزعموا أنه إنسان كبير[119] وأنه امرأة[120]، الخ. ومن مظاهر محو الحدود بين المقدس و«نقيضه» في اتجاه للتصوف – بما هو تجربة شعرية في رأينا[121] – الأخبار والأشعار المأثورة عن الحلاج. منها قوله «الكفر والإيمان يفترقان من حيث الاسم، وأما من حيث الحقيقة فلا فرق بينهما»[122]، وقوله: «ليس على وجه الأرض كفر إلا وتحته إيمان، ولا طاعة إلا وتحتها معصية أعظم منها»[123]، وقوله: في رسالة إلى أحد تلاميذه: «إن ظاهر الشريعة شرك خفي، وحقيقة الكفر معرفة (…) أوصيك ألا تغتر بالله، ولا تيأس منه، ولا ترغب في محبته، ولا ترض أن تكون له غير محبّ، ولا تقل بإثباته، ولا تمل إلى نفيه، وإياك والتوحيد!»[124].
وبصرف النظر عن ملابسات المصير الذي لاقاه الحلاج بسبب تجربته الشعرية-الدينية، فإنه لمما يُلفت الانتباه هذا الانقسام بين أنصاره وخصومه بكيفية تذكر تماما بنظيره الذي أحدثه الرسول بين أهل مكة في بداية دعوته لعسر تسمية ما أحدثه فيهم، بل لقد نعت (الحلاج) ببعض الصفات التي أطلقت على الرسول نفسه في بداية دعوته، «فكان يقول قوم: إنه ساحر، وقوم يقولون: مجنون، وقوم يقولون: له الكرامات وإجابة السؤال»[125]. ثم فيما رآه البعض «حافظا للقرآن عالما به، ماهرا في الفقه، عالما بالحديث والأخبار والسنن صائما الدهر»[126]، قال آخر إنه كان «صفرا من القرآن وعلومه، ومن الفقه والحديث والشعر وعلوم العرب»[127]؛ بينما كان البعض يقول: «إن كان ما أنزل الله تعالى على نبيه عليه السلام حق وما جاء به حق، فما يقول الحلاج باطل»[128]، كان البعض الآخر يقول: «إن كان الذي رأيته منه [=الحلاج] في الحبس لم يكن توحيدا فليس في الدنيا توحيد»[129].
ومن فرط تكريس الشعر للغزل والخمرة وقع شعراء الاتجاه الثاني في ما أسميناه أعلاه بالعودة العجولة إلى الجنة واقتحام المساحة البيضاء في الإنسان. فعمر بن أبي ربيعة، مثلا لم يكتف بحصر نتاجه الشعري على التشبيب بقائمة طويلة من النساء، وإنما تجاوز ذلك إلى اتخاذ شعيرة الحج مناسبة للتعرف على النساء، ومحادثتهن وتبادل المناشدة معهن[130]، بل ولم يتحرج في اقتفاء أثر إحداهن «في أثناء ارتحالها إلى الشام مع زوجها»[131]، وأبو نواس والحسين بن الضحاك تناشدا خمرياتهما في موسم الحج، أثناء الطواف[132]، وابن هرمة بلغ منه حب الخمر ما جعله يرفض استلام مبلغ عشرة آلاف درهم من الخليفة المنصور – جزاء عن قصيدة مدحية – مقابل أن يحتال في إباحة الشراب له»[133]، وأبو دُلامة بلغ من الامتناع عن أداء الفرائض ما جعله يدمن الخمرة ويحجم عن الصيام ويرفض الصلاة، دون أن يتعرض لأذى الخليفة: «لم يصل إلى أحد من الشعراء ما وصل إلى أبي دلامة من المنصور خاصة، وكان فاسد الدين، رديء المذهب، مرتكبا للمحارم، مُضيِّعا للفروض، مجاهرا بذلك، وكان يُعلم منه هذا ويُعرَف به، فيُتجَافى عنه للطف محله»[134]. ولعل السلوك المتعي للخليفة الشاعر الوليد يقدم أفضل مثال لما أسميناه بالعودة العجولة إلى الجنة أو اقتحام المساحة البيضاء في الإنسان[135]…
لربما أمكن استخلاص أكثر من دلالة في تعامل ابن كثير – المؤرخ السني – مع علمين من الاتجاهين السالفين (الصوفي والغزلي الخمري)، وهما أبو نواس والحلاج:
فقد اعتبَر أبا نواس من رواة الحديث؛ «حدث عنه جماعة منهم الشافعي وأحمد بن حنبل وغندر ومشاهير العلماء»[136]، ثمَّ مهَّد لما لابد من ذكره مما اشتهر به الشاعر من تهتك وحب للغلمان، بسوق حديثين نبويين، برواية أبي نواس نفسه، هما: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله، فإن حسن الظن بالله ثمن الجنة»؛ «لكل نبي شفاعة وإني اختبأتْ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة»؛ ثم حَلِّ منظوم بعض أبياته بإيراد نص الحديثين النبويين المقابلين لهما، وهما: «القلوب جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»؛ «من عشق فعف فكتم فمات مات شهيدا»[137]، حتى إذا بلغ سياق الحديث عن طفولة الشاعر ومجونه وخمرياته وتشببه بالمردان والنسوان وزندقته اكتفى بوصفه بالفحش، ثم أودَع علم حقيقة ما تبقى إلى الله: «ذكروا له أمورا كثيرة، ومجونا وأشعارا منكرة، وله في الخمريات والقاذورات والتشبب بالمردان والنسوان أشياء بشعة شنيعة، فمن الناس من يفسقه ويرميه بالفاحشة، ومنهم من يرميه بالزندقة (…) فأما الزندقة فبعيدة عنه، ولكن كان فيه مجون وخلاعة كثيرة. وقد عزوا إليه في صغره وكبره أشياء منكرة الله أعلم بصحتها»[138].
وبالمقابل، أبدى المصنف تهيبا كبيرا قبيل الحديث عن الحلاج، وتنصل من كل مسؤولية شخصية، مستهلا ترجمة الحسين بن منصور بصيغة تضع في حكم الغيب حقيقة كل ما سيسوقه، إذ قال: «ونحن نعود بالله أن نتقول عليه ما لم يكن قاله، أو نتحمل عليه في أقواله وأفعاله»[139]. لكنه سيسخر جميع الوسائل لإقناع القارئ بزندقة الحلاج ومروقه عن الدين، وتبرير «قتله بسيف الشرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق»[140]. من ذلك، مثلا، إفراد مبحث لموضوع «حيل الحلاج»، ساق فيه من الأخبار ما يبدي الحسين بن منصور «متنبئا»، و«كذابا»، و«محتالا»، و«ساحرا»، و«مرتكبا لزنى المحارم»…
والخلاصة أن الإسلام حدَّد للشعر نقطة توازن بين المقدس والدنيوي، عليه ألا يحيد عنها يمينا ولا شمالا، لأنه متى فعل ذلك اصطدم حتما بالمحظور ببعديه الإلهي والشيطاني. لكنه طالب الشعر في الآن نفسه بالتماهي مع الكتاب. فكيف يمكن تحقيق ذلك؟
9. الشعـر والذكــر:
يستطيع الشعر أن يفعل ذلك بقول ما يقوله القرآن والسنة دون أن يجازف بالاختلاط بهما، بمعنى أن يقول ما يقولانه مع بقائه آخر أو بحيث يشكل آخر لهما. وهذا الوضع الاعتباري للآخر يتحقق مبدئيا للنظم من خلال:
أ) ارتباطه باسم صاحبه: في حين يتعدد هذا الاسم بالنسبة للشعر، يرتبط الكتاب والسنة باسمين لا غير، هما اللـه والرسول؛
ب) تقيده بقواعد خطابية محدَّدة، هي بنية الخطاب الشعري، فيما يتعالى القرآن والحديث عن هذه المعاييـر؛
ج) إعادة إنتاج القيم الدينية دون الامتزاج بصوت النص الديني بكيفية تؤدي إلى صيرورة القرآن شعرا والشعر قرآنا (لنتذكر أنه قرآن الشيطان). وهناك أكثر من داع لهذا الاحتراز:
– إذا كان للقرآن حفاظ فللشعر أيضا رواة؛ وإذا كانت قراءة القرآن لا تجوز دون طهارة، فقد كان الشاعر يتوضأ أحيانا قبل إنشاد قصيدته[141]؛
– وإذا كانت جميع السور القرآنية تستهل بصيغة «باسم اللـه الرحمن الرحيم» – عدا سورة واحدة -، فإن البعض ارتأى كتابة العبارة نفسها أمام الشعر[142]؛
– وفضلا عن ذلك فقد كان في جامع المنصور بغداد قبة تسمى قبة الشعراء[143]، كما كان في صحن مسجد دمشق قبة تدعى قبة أبي نواس[144].
إن الدور الأمثل الذي يجب على الشعر أن يضطلع به من المنظور الإسلامي هو الذكر؛ هو أن يتخذ موضوعاته مطية أو خطوة ضمن استراتيجية أكبر تسخر لإثبات وجود اللـه والدعوة إلى عبادته، لكن ألم تطلق هذه التسمية على القرآن نفسه: «إنا نحن أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون» (الحجر: 9)؟
ونقتصر في التمثيل لهذه الأطروحة على مثالي شعـر الوصف وشعـر الغـزل:
فالأول يجب ألا يكون تعرية (mise à nu) للأفعال والكائنات، بـل يجب النظر إليه بوصفه حجبا لها. إذا تعلـق الأمر بـوصف مشهـد طبيعي، مثلا، تعين على الشاعر المسلم أن يتصرف على نحو يجعله كأنه يقول بشعره: «انظروا، إن الطبيعة جميلة»، حتى إذا اطمأن إلى إنصات متلقيه عاد ثم قاله لهم: «ما قلت لكم انظروها في حد ذاتها، ما دعوتكم إلى التلذذ بجمالها، إنما دعوتكم لتعتبروا بها، لتعرفوا أن لها خالق…». وإذا كان موضوع القصيدة وصف معركة حربية أو خروجا للصيد، مثلا، وجب على الشاعر أن يُبدي الخالقَ حاضرا في النشاطين معا، إما بوصفه مانحَ النصر على الأعداء أو مُزودَ البشر بالحياة باعتبارها طاقة ومسرحا لممارسة الأفعال الموصوفة.
بهذا المعنى لا يمكن للشعر أن يكون إلا دينيا. ولربما كان في احتكار إبداعه، في المغرب قديما، من قبل الفقهاء دلالة رمزية: فبمقدار ابتعاد هذا البلد جغرافيا عن المركز / الشرق / الأب صار تعبيرا عن الحنين إليه من خلال التماهي القوي معه. وبكلمة واحدة، لا يمكن لشعر الوصف أن يصف إلا بعدم الوصف. ويترتب عن ذلك أن الوظيفة الجمالية لهذا الغرض كانت تغيب لفائدة وظيفته العملية أو الاستعمالية. بكلمة واحدة إننا إزاء غياب لما يسمى بـ «الفن للفـن»[145].
وهنا نقف على أحد جوانب الإكراه المزدوج (double contrainte) أو الوضع الإشكالي للشعر في الإسلام: فلكي يكون يجب أن يصف الأشياء، لكنه متى فعل جازف بالانقلاب إلى ضده، ودَنا من الغواية. ويكاد الأمر هنا يشبه السياقات المولدة للشيزوفرينيا، على نحو ما أظهرته مُقاربة تواصلية لهذا «العرَض»: يوضع الفرد في مقام يجعله مهما يفعلْ لا يتلقى إلا مكافأة سلبية على ما فعله؛ إذ يؤمر بالقيام بشيء ما (الرسالة الأولى: يجب أن تفعل كذا)، لكنه إذا امتثل للأمر عوقب على هذا الامتثال، ليجد نفسه آنذاك إزاء أمر مناقض للأول (الرسالة الثانية: لا تفعل كذا [= مضمون الرسالة الأولى])، بيد أنه متى استجاب له تلقى عقابا أيضا[146]. لكن أليس للفن صلة وطيدة بالذهانات، وضمنها الفصام؟[147] ألا تعرض الكائنات المحبوة بمخيلة – ونعني بها الشعراء والفنانين – على الدوام خليطا من السِّمات الذهانية؟[148]
والأمر نفسه ينطبق على الشعر الغزَلي. فهذا الغرض يقتضي أن تتخذ المرأة الأرضية موضوعا أساسيا له، إما بالتغني بمفاتنها أو بتخليد ملذات الاختلاء بها. بيد أنه مرَّ معنا أن مجرد وجود المرأة البشرية هنا، في الأرض، يضع في أزمةٍ المرأة الأخرى، السماوية، الموجودة في الجنة[149]، فأحرى اتخاذها محورا للاستمتاع الجسدي والقول الشعري. أليس من شأن ذلك أن يفرغ وجود الحور العين من كامل معناه؟
يدرج ابن قيم الجوزية العشقَ ضمن أخطر الأفعال التي يمليها الشيطان على الإنسان. يستوي في ذلك أن يحب الرجل امرأة واحدة أو نساء عديدات: ففي الحالة الأولى يجازف العاشق بتفضيل المعشوق على الخالق[150]، وفي الثانية يخاطر العاشق بنشر «فلسفة» متعية خالصة سيشكل شعره لسان حالها، وهو ما يحظره الدين حظرا صارما:
فالجسد، عموما، هو حقل الاشتغال المفضل لدى الشيطان الذي «سينحاز نهائيا إلى الجسد ضد اللغة بتدليس، بهوس من نزع الترميز»[151]. وقد قال الإمام الغزالي: «إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله» أو «ثلث دينه»[152]، و«من تعود على أفخاذ النساء لم يجئ منه شيء»[153]، أي جازف بتعريض أساس المجتمع نفسه للتقويض على نحو ما يستخلصه ليفي ستروس من مسلك آخر: «… إن شهر العسل يشكل مصدر خطر على النظام إذا ما سُمحَ للعروسين بأن يطيلا لعبتهما الخاصة إلى ما لانهاية وأن يتجاهلا واجباتهما إزاء المجتمع»[154]. كما تمَّ النظر إلى المرأة باعتبارها «عورة إذا خرجت استشرفها الشيطان»[155]، بل إن الشيطان يتربص بالجنسين معا حيثما اجتمعا، إذ «سواء أكانت الجنسانية مباحة أم مُعَلقة، ممنوعة أم مُتقبَّلة، يجب أن تـُعـَرَّى في مشهد غوايَة. لكي يُفرَضَ القانون وتـُعَلقَ الرغبة، فالأمر يحتاج إلى حيل الغواية، يحتاج إلى انحراف، إلى طرف ثالث مُنحَرف، إلى إرادةٍ لا أخلاقية ولا تستحيي: إرادة فاحشة. هذا هو معنى حضور الشيطان بين الرجل والمرأة»[156]. وهذا ما أدى بالبعض إلى تجريد فعل الجماع من اللذة، وإدراجه ضمن أعمال الجهاد وملاحقة الشيطان[157]… وهي أمور وجدت ترجمتها العملية في المجال الإسلامي، ومن ثمة كثافة الحجب الهندسية والجسدية واللغوية الموضوعة على الأنثى، وهذه الطبيعة الاستيهامية للجنس في الثقافة نفسها، حيث عمدت إلى تجنيس الفضاء، أي تقطيعه بحسب اختلاف الجنسين، وإفراد كل قسم منه لجنس محدَّد: الخارج / الفضاء العمومي للذكور، والداخل / الفضاء المنزلي للنساء[158].
وبصرف النظر عن دلالة تهافت المسلمين القدماء على الجنس عبر ظاهرة تعدد النساء[159]، وفيما وراء النقاش الدائر حول المكانة الحقيقية للمرأة في المجتمعات التقليدية، هل كانت مصبَّ احتقارٍ أم مقام تعظيم[160]، فقد احتل الغزل حيزا كبيرا ضمن الأغراض الشعرية العربية. فأي تفسير يمكن تقديمه لهذه الظاهرة؟ أي وضع اعتباري ينبغي منحه ليس للغزلين العفيف والفاحش فحسب، بل وكذلك لما يمكن تسميته بـ «الغزل الهجائي»، ونعني به تلك القصائد التي كان يتعمد الشاعر فيها التشبيبَ بقريبةِ شخص ما، سعيا لإدخال أبياته في دائرة الرواية وإكثار القيل والقال في الموضوع؟ بتعبير آخر، أي شيء تمثله المرأة الأرضية بحيث تصير رهانا للقول الشعري؟
في هذا المستوى يمكن اعتبار البذخ الجمالي والجنسي الذي يميز كتابات الفقهاء الذين وصفوا الجنة، في مصنفات ما يمكن تسميته بـ «الأدب النعيمي»، بمثابة درع واق، على صعيد المتخيل الديني، يضاعف ويعضد الدرعين الاجتماعي والسياسي كما يقابل خطورة الشعر في هذا الباب. ويبدو أن هذه الكتابات بقدر ما تحارب الشعر إنما تقترح نفسها لاشعوريا بمثابة بديل عنه. وكونها كذلك يجعلها في نهاية المطاف تصريفا أو تلطيفا لسلطة الشعـر أو خطورته واستحالة التخلي عنـه[161].
——
هوامـــش
[1] هذه الدراسة، في الأصل، نص مداخلة تم المشاركة بها في الملتقى الأول للشعراء الشباب، نظمته جمعية الشعلة (فرع سلا)، بمدينة سلا، في أواخر مارس 1990.
[2] الإمام أبو حامـد الغزالي، إحياء علـوم الديـن، بيروت، دار القلم، (د. ت.)، ج 3، ص. 28.
[3] ابن قيم الجوزيـة، الـروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من الكتاب والسنة والآثار وأقوال العلماء، بيروت، دار الكتب العلمية، 1975، ص. 266.
[4] روسو، مقالة في أصـل اللغات، نقلا عن: إدموند ليتش، كلود ليفي ستروس. البنيوية ومشروعها الأنثروبولوجي، ترجمة: ثائر ديب، (د. م)، د. ت)، ص. 54.
[5] ول ديورانت، قصـة الحضـارة، ترجمة: د. زكي نجيب محمود، تونس-بيروت، دار الجيل، 1988، ج. 1، ص. 132.
[6] نفكر بالخصوص في أسفار اليوبانشاد التي تعتَبَـر صياغة لتعاليم الديانة البراهمانية، والتي قال فيها شوبنهاور: «إنك لن تجد في الدنيا كلها دراسة تفيدك وتعلو بك أكثر مما تفيدك دراسة أسفار يوبانشاد؛ لقد كانت سلواي في حياتي – وستكون سلواي في موتي». والكلمة مؤلفة من مقطعين هما: «يوبا» = بالقرب، و«شاد» = يجلس؛ أي الجلوس بالقرب من المعلم. انظر: ول ديورانت، قصـة الحضـارة، م. س.، ج. 3، ص. 43. في الموضوع نفسه، يمكن الرجوع إلى:
– Anne-Marie Esnoule, «Upanisad», in Encyclopaedia Universalis, 1995, t. 23, p. 175.
[7] ابن منظور، لسان العـرب، بيروت، دار صادر، (د. ت.)، ج. 15، (مادة غـويَ).
[8] لا نراعي عنصر التسلسل الزمني في عرض التعريفين التاليين، لأن البعد الكرونولوجي لا يعنينا في هذا المقام. ومعلوم أن ابن قيم الجوزية توفي عام 751 هـ بينما توفى ابن كثير سنـة 778 هـ.
[9] ابن كثيـر، تفسيــر القرآن العظيـم، بيروت، دار المعرفة، 1981، ج. 4، ص. 246.
[10] ابن قيم الجـوزيـة، إغاثـة اللهفـان مـن مصايـد الشيطـان ، بيـروت، دار المعرفة، 1975، ج. 2، ص. 151.
[11] نفســه، الصفحـة ذاتها.
[12] نفســه، ص. 150.
[13] نفسـه، ص. 155. وفي المعنى نفسه، يقول: «فأصحاب العشق الشيطاني (…) فيهم نصيب من اتخاذ الأنداد، ولهذا ترى كثيرا منهم عبدا لذلك المعشوق، متيما فيه. يصرخ في حضوره ومغيبه: أنا عبده. فهو أعظم ذكرا له من ربه، وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه، وكفى به شاهدا بذلك على نفسه (…) فلو خير بين رضاه ورضا الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربه، وهربه من سخطه أشد عليه من هربه من سخط ربه. يسخط ربَّه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه. فإن فضل من وقته فضلة، وكان عنده قليل من الإيمان، صرف تلك الفضلة في طاعة ربه. وإن استغرق الزمان حوائجُ معشوقه ومصالحه صرف الزمان كله فيها، وأهمل أمر الله تعالى، يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس، ويجعل لربه من ماله – إن جعل له – كل رذيلة وخسيس. فلمعشوقه لبه وقلبه، وهمه ووقته، وخالص ماله، وربه على الفضلة قد اتخذه وراءه ظهريا، وصار لذكره نسيا، وإن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجي ربه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق. ينفر من خدمة ربه حتَّى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه، وتكلفه لفعلها. فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحا بها، ناصحا فيها، خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها». نفســه، ص. 151-152.
[14] Sigmund Freud, «Des sens opposés dans les mots primitifs», in S. Freud, Essais de psychanalyse appliquée, trad. Marie Bonaparte et Mme E. Marty, Paris, Gallimard, Idées, 1933, pp. 59-67.
[15] بهذا الصَّدد، يقول عبد الكبير الخطيبي: «… هكذا، يتهم الله إبليس بإلهام الشعراء، الممسوسين، والكهان: فهؤلاء وأولئك يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يقولون. ومن ثم فهم غير مسؤولين. وهي لا مسؤولية ينسبها إبليس لنفسه…». انظر:
– Abdelkébir Khatibi, «Possession d’Iblis», in A. Khatibi, Par-dessus l’épaule, Aubier, 1988, pp. 89-111.
[16] نفســـه.
[17] نفســه.
[18] Octave Mannoni, Clefs pour l’Imaginaire ou l’Autre scène, Paris, Editions du Seuil, Points, 1967, p. 66.
[19] Sigmund Freud, Totem et tabou, Paris, Payot, P.B.P., 1972, p. 46-47.
أو: س. فرويد، الطوطـم والحرام، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة، ط. I / 1983، ص. 51، وعنه سقنا ترجمة نص الإحالـة.
[20] نفســه، ص. 180، بالنسبة للأصل الفرنسي، أو ترجمته العربية، م. س.، ص. 205.
[21] S. Freud, «Caractère et érotisme anal», in Névrose psychose et perversion, Paris, P.U.F, 1973, p. 147.
[22] S. Freud, Essais de psychanalyse appliquée, op. cit., p. 213.
أو: س. فرويد، إبليس في. التحليل النفسي، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة، ط. I / 1980، ص. 6.
[23]Clément Rosset, Le réel et ses doubles, Paris, Gallimard, nrf, 1978, p. 77.
[24] واضح أن هذه الأطروحة – التي لا نتبعها إلا انخراطا في الرأي السائد في العالم الإسلامي بخصوص ثنائية الله-إبليس – تقف على الطرف النقيض من أطروحة الحلاج القائلة بأن رفض إبليس السجود لآدم ليس تمردا على الخالق بقدر ما هو تفان في توحيده. يقول: «وما كان في السماء موحد مثل إبليس (…) ولعن حين وصل إلى التفريد، وطرد حين طلب المزيد، فقال له: “اسجد”، قال: “لا غير”، قال له: {وإن عليك لعنتي}، قال: لا ضير، مالي إلى غيرك سبيل، وإني محب ذليل»… د. سعدي ضناوي (جمع وتقديم)، ديوان الحلاج ويليه أخباره وطواسينه، بيروت، دار صادر، ط. I / 1998، ص. 156. في الموضوع نفسه، يمكن الرجوع إلى: عفت الشرقاوي، «الخير والشر في التراث الإسلامي»، مجلة إبداع (المصرية)، العدد: 2، فبراير 1998 (الدين والأسطورة – 3)، صص. 46-54، حيث يَرد: «وقد كان إبليس في رأي الحلاج النموذج الأعلى لقدسية التقوى والفناء الذاتي في سبيلهما، شأنه في ذلك شأن المسيح: لقد رفض أن يسجد لآدم، وكان ذلك سرّ اللعنة التي حاقت به، لأنه رأى في هذا السجود شركا بالله (…) هذا هو مجد الشيطان عند الحلاج، إنه مجد العابد المتفاني في معبوده، المتمسك بحقيقة التوحيد».
[25] Jean Brun, L’homme et le langage, Paris, P.U.F., 1985, p. 169-170.
[26] ول ديورانت، قصـة الحضـارة، م. س.، ج. 1، ص. 132.
[27] راجع الهامش رقم 5 بالدراسة الحالية.
[28] Mohammed Arkoun, Lectures du Coran, Paris, Maisonnoeuve & Larose, 1982, p. 134.
يرى أركون أن هذه الوحدة يُحافظ عليها في ممارسة الشعائر الدينية: طقوس، ترتيل القرآن… وقد أثار محمد عابد الجابري هذه المسألة، فرأى أن تصور القدماء للمكان والحركة والزمان تصورُُ جزيئي، وفسر هذا المنظور الذري بالبيئة الصحراوية المتقلبة على الدوام التي عاش فيها العربي القديم . بخصوص الزمان، مثلا، يقول: «تصوروا الزمان مؤلفا من أجزاء صغيرة منفصلة متعاقبة لا تقبل القسمة، فهو يقوم على الانفصال وليس على الاتصال». في سياق كتابه، نقد العقل العربي، بنية العقل العربي 2. دراسة تحليلية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، البيضاء-بيروت، المركز الثقافي العربي، ط. III / 1993، ص. 191. في الموضوع نفسه، يورد أوليغ كرابار – وإن من منحى آخر، وزاوية اهتمام مخالفة – أن النظرية الذرية أول من قدمها «لوي ماسينيون في مقال بارز نشر في بداية السنوات العشرون في مجلة Syria وأعيد من طرف عديد من المختصين إلى حدود السنوات الأخيرة، و يتعلق الأمر بالنظرية الذرية التي تقول بأن الإرادة الإلهية هي التي تركب وتعيد تركيب في كل حين، الذرات المقومة لكل شيء حتى تظل الطبيعة على هويتها، ويمكن لهذه الذرات أن تجمع بطريقة مختلفة مقدمة تأليفات تخييلية، ولا يمكن للفنان في هذه الحالة أن ينافس الله، لأنه لا يخلق شيئا جديدا كما هو الحال في إرادة الله، لكنه ببساطة، يقدم لعبة من الممكنات انطلاقا من العناصر الموجودة المتفرقة». أوليغ كرابار، كيف نفكر في الفن الإسلامي، ترجمة: عبد الجليل ناظم وسعيد الحنصالي، البيضاء، دار توبقال للنشر، ط. I / 1996، ص. 35-36.
[29] قريبا من هذا المعنى، راجع: عباس محمود العقاد، إبليــس، بيروت-صيدا، منشورات المكتبة العصرية، (د.ت.)، ص. 24 وما بعدها.
[30] ابن جرير الطبري، تفسير الطبري المسمى جامع البيان في تأويل القرآن، بيروت، دار الكتب العلمية، ط. I / 1992، ج. 5، ص. 442.
[31] ابن كثيـر، تفسيـر القــرآن العظيــم، م. س.، ج. 1، ص. 204.
[32] ما بين معقوفين هو عنوان الفصل الذي يدرج فيه ابن الجوزي إبلـيسَ ضمن كتابه الآتي ذكره.
[33] ابن الجوزي، أخبار الحمقـى والمغفليـن، نقحه واعتنى بنشره د. محمد أمين فرشـوخ، بيروت، دار الفكر العربي، ط. I / 1990، ص. 57. وفي السياق نفسه، يقول الغزالي: «روي أن إبليس كان اسمه في السماء الدنيا العابد وفي الثانية الزاهد وفي الثالثة العارف وفي الرابعة الولي وفي الخامسة التقي وفي السادسة الخازن وفي السابعة عزازيل وفي اللوح المحفوظ إبليس، وهو غافل عن عاقبة أمره، فأمره الله أن يسجد لأدم، فقال أتفضله عليَّ وأنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، فقال تعالى: أنا أفعل ما أشاء، فرأى لنفسه شرفا، فولى آدم ظهره أنفة وكبرا وانتصب قائما إلى أن سجدت الملائكة المدة المارة، فلما رفعوا رؤوسهم ورأوه لم يسجد وهم قد وقفوا للسجود سجدوا ثانية شكرا وهو قائم يرى مُعرضا عنهم غير عازم على الاتباع ولا نادم على الامتناع، فمسخه الله من الصورة البهية، فنكسه كالخنزير وجعل رأسه كالبعير، وصدره كسنام الجمل الكبير ووجهه كوجه القردة وعينيه مشقوقتين في طول وجهه ومنخريه مفتوحتين ككوز الحجام وشفتيه كشفتي الثور وأنيابه كأنياب الخنزير وفي لحيته سبع شعرات وطرده من الجنة، بل من السماء بل من الأرض إلى الجزائر فلا يدخل الأرض إلا خفية ولعنه إلى يوم الدين…»، الإمام الغـزالي، مكاشفة القلوب المقرب إلى حضرة علام الغيوب، خرج آياته وراجعه وصححه ذ. بهيج غزاوي، بيروت، دار إحياء العلوم، ط. III / 1987، ص. 61-62.
[34] يروى أن إبليس «لما نزَل إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني وجعلتني شيطانا رجيما فاجعل لي بيتا، قال: الحمَّام، قال: فاجعل لي مجلسا، قال: الأسواق ومجامع الطرق، قال: فاجعل لي طعاما، قال: ما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فاجعل لي شرابا، قال: كل مسكر، قال: فاجعل لي مؤذنا، قال: المزامير، قال: فاجعل لي قرآنا، قال: الشعر، قال: فاجعل لي حديثا، قال: الكذب، قال: فاجعل لي مصايد، قال: النساء». انظر: أحمد الثعلبـي، قصص الأنبيـاء المسمَّى بالعرائـس، بيروت، دار الرشاد الحديثة، د. ت.، ص. 25، والإمام أبو حامد الغزالي، مكاشفة القلوب…، م. س.، ص. 62-63، وزكريا القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، تحقيق فاروق سعد، بيروت، دار الآفاق الجديدة، 1973، ص. 388…
[35] يمضي جاك لاكان بأصل الأوديب إلى مرحلة أبعد، تتمثل في أن الطفل، فيما بين 6 أشهر إلى 18 شهرا، يجتاز تجربة تفضي به إلى التعرُّف على نفسه باعتباره جسدا مُحَدَّدا في المكان، يمكن اختصارها كالتالي: أ) عندما يشاهد الطفل صورتَه لأول مرَّة في المرآة يعتقد أن الأمر يتعلق بشخص آخر له وجود واقعي؛ ب) في مرحلة ثانية يكتشف أن الصورة، صورته في المرآة، لا تعدو مجرَّد صورة؛ ج) في مرحلة أخيرة، تقع بين السن 16 و18 شهرا، يكتشف الطفل لأول مرّة أن الأمر يتعلق بصورته هو، فيتماهى معها ليسدَّ بذلك الفراغَ الذي ظل قائما إلى ذلك الحين بين جسده وصورته. وهذه المرحلة الثالثة للمرآة التي يتم فيها ما يُدعَى بالتَّماهي الأوَّلي تُشكِّلُ أيضا أوَّل مرحلة للأوديب، حيث يجتاز الطفل ثلاث مراحل نختصرها في: أ) رغبة الطفل في امتلاك الأم؛ ب) اصطدام هذه الرغبة بواقع كون الأم مِلكا للأب، أي بقاعدة منع غشيان المَحَارم، باستحالة تحقُّقها، وحمل الطفل شعورا متعارضا وجدانيا تجاه الأب، أي كراهيته ومحبته في آن واحد؛ ج) تماهي الطفل مع الأب، أي قبوله الخصَاءَ بمعنى التَّنازل عن الأم والإذعان لقانـون الجماعـة، وبالتالـي نيـل عضويـة فيها. عن:
– Jean-Baptiste Fages, Comprendre Jacques Lacan, Toulouse, Privat, Psychiatrie/Psychanalyse, 1990, pp. 13-19.
[36] إبراهيم محمود، الجنس في القرآن، لندن، رياض الريس للكتب والنشر، ط. I / 1994، ص. 87.
[37] من تعاريف الأسطورة كونها حكاية تروي كيف جاء واقع ما إلى الوجود، تعلم اللغة الوصفات الطقوسية القادرة على التحكم في القوى المقنعة، ومن ثم، تشكل، بمحتواها، بنية دائمة ترتبط بالماضي والحاضر والمستقبل على حد سواء. راجع:
– Claude Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, Paris, Plon, 1958, 1973, t. 1, p. 231; Mircea Eliade, Le sacré et le profane, Paris, Gallimard, idées, 1967, pp. 67-82; Jean Brun, L’Homme et le langage, op. cit., p. 86.
[38] عن:
– Jean-Jacques Wunenburger, Sigmund Freud, op. cit., p. 282.
[39] (Cosmogonie) (أو الأسطورة الكوزموغونية): حكاية تروي البدايات الأولى للكون، وكيفية خلق الإنسان والنباتات والحيوانات. وهذه الأسطورة بقدر ما توجد في جميع الثقافات، تلعبُ دور النموذج الذي تتفرع عنه كافة الأساطير. انظـر:
– Mircea Eliade, «Création – Les Mythes de la création», in Encyclopaedia Universalis, 1995, t. 6, p. 727.
[40] انظر الملحق الذي أثبت فيه المؤلف كافة روايات المرثية في المصادر التي وقف عليهـا، لسـان آدم، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، م. س.، صص. 55-57.
[41] نفســه، ص. 31.
[42] نفسـه، ص. 37.
[43] نفســه، ص. 54.
[44] انظر الهامش رقم 32، في الدراسة الحالية، وهو ما لم يغب عن كيليطو، إذ ينقل عن المعري أن الشعر «قرآن إبليس»، لسان آدم، م. س.، ص. 38.
[45] أفرد ابن عبد ربه مبحثا لهذا الموضوع بالعنوان نفسه. انظر: العقد الفريد، تحقيق: د. عبد المجيد الترحيني، بيروت، دار الكتب العلمية، ط. III / 1987، ج. 6، صص. 153-156. كما أشار ابن قيم الجوزية إلى إحجام بعض السَّاسة عن معاقبة شعراء تغزلوا بقريبات لهم: «ألا ترى أن الحجاج بن يوسف في عتوه لم يتعرض لابن نمير في تشبيبه بزينب أخته مخافة أن يكون ذلك سببا للخوض في ذكرها، فيزيد زائد، ويكثر مكثر وكذلك معاوية بن أبي سفيان لم يتعرض لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت وكان يتشبب بابنته»، انظر: ابن قيم الجوزية، أخبار النساء، تحقيق وشرح: د. نزار رضا، بيروت، منشورات دار مكتبة الحياة، 1988، ص. 89.
[46] للوقـوف على نمـاذج من تلـك الأحاديث النبويـة، راجـع الدراسة الأولـى في هـذا الكتاب. يسوق كيليطو حديثا نبويا يؤكد أن «من قال إن آدم قال الشعر فقد كذب»، ثم يردفه بمجموعة من الآيات القرآنية التي نفت أن يكون النبي (محمد) شاعرا. لسان آدم، م. س ، 37-38.
[47] في هذا الصَّدد جمع جيمس جورج فريزر أساطير العديد من الشعوب حول أصل النار، ونشرها في كتاب بالعنوان نفسه:
– James G. Frazer, Mythes sur l’origine du feu, Paris, Payot, P.B.P., 1969.
[48] ابن كثيـر، قصص الأنبياء، بيروت، دار الفكر، ط. I / 1992، ص. 232.
[49] للوقوف على نماذج من هذه الأحاديث، راجع الدراسة الأولى ضمن الكتاب الحالي. علما بأن كيليطو لا يورد أيا من هذه الأحاديث.
[50] أوردنا نماذج من هذه الأحاديث في الدراسـة الأولى بالكتاب الحـالي.
[51] يمكن الوصول إلى هذا الاستنتاج من طريق آخر: فالشعر، كما مر معنا (في الدراسة الأولى من هذا الكتاب)، يعني في الأصل المعرفة والفطنة، وهناك من يقول: كان للعرب إله اسمه “أيا” مختص بالعلم والذكاء والفطنة (هل يمكن القول إنه كان مختصا بالشعر؟)، ثم يمضي إلى حد اعتباره خالق آدم وحواء: «إذن كما تذكر النصوص البابلية كان “أيا” خالق الزوجين الشابين آدم وحواء كما ورد في النصوص التكوينية البابلية العربية التي تؤكد على إعلاء شأنهما فوق كل المخلوقات، كما تذكر أيضا النصوص الكنعانية البحرينية القديمة». انظر: عدنان العطار، تقاليد الزواج الدمشقي البدوي والريفي والحضري، دمشق، دار سعد الدين، (د.ت.)، ص. 9.
[52] أوردنا نماذج من هذه الأحاديث في الدراسـة الأولى ضمن الكتاب الحـالي.
[53] عبد الفتاح كيليطو، لسـان آدم، م. س.، ص. 41.
[54] ابن الأثيـر، الوشي المرقوم في حـل المنظـوم، تحقيق الشيخ عبد اللـه الشعـار، بيروت، دار الفكر اللبناني، ط. I / 1992، ص. 15.
[55] هو الوشي المرقوم في حـل المنظـوم، م. س.
[56] النص هو: «واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان به من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاص ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون» (البقرة: 102).
[57] الطبـري، جامع البيان…، م. س.، ج. 1، ص. 506؛ أبو بكر بن العربي، أحكام القرآن، القاهرة، دار الفكر، 1972، ج. 1، ص. 29؛ فخر الدين الرازي، قصة السحر والسحرة في القرآن الكريم، حققه وقدم له وعلق عليه: محمد إبراهيم سليم، القاهرة، مكتبة القرآن، 1985، ص. 179-180؛ زكريا القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، م. س.، ص. 95-96؛ ابن كثيـر، تفسير القرآن العظيم، م. س.، ج. 1، 136-137.
[58] انظر كتب التفسير السابقة ذاتها.
[59] الطبـري، جامع البيان…، م. س.، ج. 1، صص. 493-496؛ أبو بكر بن العربي، أحكام القرآن، م. س.، ج. 1، ص. 27؛ فخر الدين الرازي، قصة السحر والسحرة في القرآن الكريم، م. س.، ص. 167؛ ابن كثيـر، تفسير القرآن العظيم، م. س.، ج. 1، 134.
[60] خصص القدماء مصنفات بكاملها لما لا نتردد في تسميته بـ «الأدب النعيمي». ويتعلق الأمر بمؤلفات تصف طوبوغرافيا الجنة، وضروب الممارسات التي سينعم بها المؤمن جزاء عزوفه عن المحظورات الدنيوية. وبدل إثقال النص بأمثلة من تلك الأوصاف، ارتأينا أن نكتفي بالإشارة إلى نماذج من هذه المؤلفات على أن نخصص في المستقبل دراسة مستقلة لهذا الموضوع:
– ابن أبي الدنيا، من عاش بعد الموت، تحقيق: علي أحمد علي جاب الله، بيروت، دار الكتب العلمية، ط. I / 1987؛ أبو بكر بن حسين البيهقي، عذاب القبر وسؤال الملكين، حققه وعلق عليه: المكتب السلفي لتحقيق التراث، عابدين (مصر)، مكتبة التراث الإسلامي، 1986؛ عبد الحق الإشبيلي، العاقبة أو الموت والحشر والنشور، حققه وعلق عليه: أبو عبد الرحمن المصري الأثري، طنطا، دار الصحابة للتراث، ط. I / 1990؛ الإمام شمس الدين بن فرح الأنصاري القرطبي، التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، تحقيق وشرح وتعليق: الدكتور السيد الجميلي، بيروت-القاهرة، دار ابن زيدون-مكتبة مدبولي، ط. I / 1986؛ ابن قيم الجوزية، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، بيروت، دار الفكر، (د.ت.)؛ أبو الفرج بن رجب الحنبلي، أهوال القبور وأحوال أهل النشور، تحقيق: محمد السعيد بن بسيوني زغلول، بيروت، دار الكتب العلمية، ط. I / 1985؛ زين الدين ابن علي المعبري، الاستعداد للموت وسؤال القبر، بيروت-القاهرة، دار الجيل-مكتبة التراث الإسلامي، ط. I / 1987، الإمام عبد الرحيم بن أحمد القاضي، دقائق الأخبار في ذكر الـجنة والنار وبهامشه كتاب الدرر الحسان في البعث ونعيم الجنان للسيوطي، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (د.ت.).
[61] ابن قيم الجوزية، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، م. س.، ص. 166. وستفضي مشاهدة الحور العين، في الحلم ليس إلا، أو الإنصات إلى أوصاف الفقهاء إياهن، إلى سلوكات خاصة من ذلك، مثلا، عزوف البعض نهائيا عن نساء الدنيا في انتظار اللقاء بحور الآخرة أو موته لمجرد سماع بعض أوصافهن: «رأى عتبة الغلام حوراء في المنام على صورة حسنة، فقالت له: يا عتبة أنا لك عاشقة، فانظر أن لا تعمل من الأعمال شيئا يحول بيني وبينك، فقال عتبة: طلقت الدنيا ثلاثا لا رجعة لي عليها حتى ألقاك»، عبد الكريم القشيري، الرسالة القشيرية، تحقيق وإعداد: معروف زريق ود. علي عبد الحميد بلطه جي، بيروت، دار الجيل، ط. II / 1990، ص. 371-372؛ «(…) رأيت شيخا في بلاد الشام كبير الشأن، وكان الغالب عليه الانقباض، فقيل لي: إن أردتَ أن ينبسط هذا الشيخ معك فسلم عليه، وقل: رزقك الله الحور العين، فإنه يرضى منك بهذا الدعاء، فسألت عن سببه، فقيل: إنه رأى من الحور في منامه، فبقي في قلبه شيء من ذلك، فمضيت وسلمت عليه، وقلت: رزقك الله الحور العين، فانبسط الشيخ معي»، نفسه، ص. 372؛ «(…) بلغني أن نورا سطع في الجنة لم يبق موضع من الجنة إلا دخل من ذلك النور فيه. فقيل ما هذا؟ قال حوراء ضحكت في وجه زوجها (…) فشهق رجل من ناحية المجلس فلم يزل يشهق حتى مات»، ابن قيم الجوزية، حادي الأرواح، م. س.، ص. 163…
[62] محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، بيروت، دار صادر (د. ت)، ج. 2، ص. 123-124؛ برهان الدين البقاعي، مصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، بيروت، دار الكتب العلمية، 1980، ص. 63؛ 105-106.
[63] Erich Fromm, Le langage oublié, Paris, Payot, P.B.P., 1980, pp. 159-185.
أو: إريش فروم، الحكايات والأساطير والأحلام، مدخل إلى فهم لغة منسية، ترجمة: صلاح حاتم، اللاذقية، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط. I / 1990، صص. 146-176، أو: إريك فروم، اللغـة المنسيـة، مدخل إلى فهم الأحلام والحكايات والأساطير، ترجمة: حسن قبيسي، البيضاء-بيروت، المركز الثقافي العربي، ط. I / 1992، صص. 177-208.
[64] S. Freud, L’homme Moïse et la religion monothéiste, Paris, Gallimard, Connaissance de l’inconscient, 1986, pp. 211-213.
أو: س. فرويد، موسى والتوحيد، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة، ط. IV / 1986، ص. 156-158. يقول فرويد في هذا الصدد: «… ولكن لهذا الانقلاب، لهذا الانتقال من الأم إلى الأب معنى آخر أيضا: فهو بمثابة علامة انتصار للروحانية على الحسية، وبالتالي علامة تقدم على درب الحضارة. وبالفعل، تتجلى الأمومة في الحواس، في حين أن الأبوة مصادفة ترتكز إلى استنباطات وفرضيات. وهكذا كان تقديم العملية التفكيرية على الإدراك الحسي مثقلا بالنتائج»، نفسـه، ص. 213 بالنسبة للأصل بالفرنسية، أو ص. 157-158 بالنسبة للترجمة العربية التي نقلنا منها نص الإحالة. وفيما وراء الأطروحة القائلة بأن الإسلام والمسلمين صاغوا، انطلاقا من القرآن والسنة والسياقات الاجتماعية والثقافية، حول الفنون البصرية موقفا يتميز بـ «نوع من الحذر والتردد» يتيح «تفسير كيفية نشوء فن نسميه عن صواب أو عن خطأ فنا إسلاميا» (أوليغ كرابار، كيف نفكر في الفن الإسلامي، ترجمة: عبد الجليل ناظم وسعيد الحنصالي، البيضاء، دار توبقال للنشر، ط. I / 1996، ص. 39)، يؤكد البعض أن اندحار الصورة أمام الكلمة يعد سمة جوهرية للإسلام: «وهكذا يصبح السؤال الحقيقي، إذن، هو الآتي: مَ الأسباب التي جعلت ثقافات الإسلام الكبيرة (سواء ثقافة العالم الإيراني أو ثقافة العالم السامي الذي تعرب تدريجيا في القرون الإسلامية الأولى، وفيما بعد تركيا والهند الإسلامية) لم تمجد أبدا الله كملك للكون من خلال الصورة مثلما فعلت ذلك من خلال الكلمة؟ إن سبب هذا الرفض مرتبط بجوهر الإسلام نفسه». انظر: أسد الله شيرفاني، «الكلمة والصورة في الإسلام»، ضمن مجلة مـواقف، العدد 64، صيف 1991، (خاص باللغة التشكيلية العربية – الأنوثة في الإسلام)، صص. 89-114. بعيدا عن الإسلام. في المنحى نفسه، تقريبا، نقرأ في أطروحة أخرى: «الفن الإسلامي يركز على هندسة الحرف والزخرفة أكثر مما يركز على إبراز مفاتن الجسد الإنساني وخفاياه. وإذا برز الجسد في العمل الفني، فإنما يبرز بوضع تشكيلي يشبه الرسم الإيقوني مشددا على رموزية الصورة أكثر من جمالها». انظر: فؤاد إسحق الخوري، إيديولوجيا الجسد. رموزية الطهارة والنجاسة، لندن، دار الساقي، ط. I / 1997، ص. 31. واستنادا إلى أطروحة فرويد التي نحن بصددها، يمكن التساؤل عما إذا كان الاندحار الحالي للغة أمام الصورة (هيمنة السمعي-البصري)، ولشعر الوزن والقافية أمام شعر الذهن والصورة، عودة لقانون الأم. علما بأن ما يميز العصر الحالي هو غياب الأب (أو موته). بصدد هذا الغياب، راجع: فتحي بنسلامة، «الأب لغة الأم»، ضمن مواقف، العدد 70-71، شتاء/ربيع 1993، (خاص بالنظام الأبوي في المجتمع العربي…)، صص. 33-37.
[65] Robert Lowie, Histoire de l’ethnologie classique des origines à la deuxième guerre mondiale, Paris, Payot, P.B.P., p. 42-43
أو: ر. لوي، تاريخ الإثنولوجيا من البدايات حتى الحرب العالمية الثانية، ترجمة: نظيـر جاهـل، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط. I / 1992، ص. 36، ومنه نقلنا المقطع المحال إليه.
[66] نفســه، ص. 43-44، بالنسبة للأصل الفرنسي، أو ترجمته العربية، م. س.، ص. 37، وعنه أخذنا ترجمة الإحالـة.
[67] في هذا الصدد راجع الدراسة الممتازة لعبد الفتاح كيليطو:
– Abdelfettah Kilito, L’auteur et son double, Essai sur la culture arabe classique, Paris, ةditions du Seuil, Poétique, 1988, p. 71.
أو: ع. كيليطو، الكتابة والتناسخ. مفهوم المؤلف في الثقافة العربيـة، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي، بيروت، بيروت – البيضاء، دار التنوير – المركز الثقافي العربي، ط. I / 1985، ص. 77.
[68] نفسـه (الأصل بالفرنسية)، ص. 71، أو ترجمته العربية، م. س.، ص. 77، ومنها نقلنا نص الإحالة.
[69] عبد الفتاح كيليطـو، «المنزلـة بين المنزلتيـن»، ضمن فكـر ونقــد، العدد 5، يناير 1998، صص. 89-98.
[70] Abdelfettah Kilito, La langue d’Adam et autres essais, Casablanca, Les Editions Toubkal, 1995, p. 72.
أو: عبد الفتاح كيليطو، لسـان آدم، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، البيضاء، دار توبقال للنشـر، 1995، ص. 76، ومنه نقلنا المقطع السابق.
[71] على التوالي: صص. 29-36، صص. 37-44، صص. 45-50، صص. 51-54 بالنسبة للأصل الفرنسي، وصص. 29-36، صص. 37-44، صص. 45-50، 51-54، في الترجمة العربية.
[72] ندرك حجم هذا الاتساع إذا استحضرنا أنه في زمن البخاري كان عدد الأحاديث «النبوية» المتداولة هو 596725 حديثا كاذبـا. انظــر:
– Fatima Mernissi, Le Harem Politique, Le prophète et les femmes, Paris, Albin Michel, 1987, p. 60
أو: فاطمة المرنيسي، الحريم السياسي، النبي والنساء، ترجمة: عبد الهادي عباس، بيروت، دار الحصاد، ط. II / 1993، ص. 58.
[73] السيوطـي، السمت في حسن الصمت، تحقيق أبو هاجر محمد السعيد بنبيسوني زغلول، بيروت، دار الكتب العلمية، 1987، ص. 8.
[74] نفســـه، ص. 23.
[75] شمس الدين القرطبي، التذكـرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، م. س.، ج. 2، ص. 650. يقول المؤلف نقلا عن الطبري: «بلغني أن الجنة تبنى بالذكر فإذا حبسوا الذكر كفوا عن البناء. فيقال لهم في ذلك فيقولون: حتى يجيئنا نفقة».
[76] الحافظ أبي سليمان محمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستى، العزلــة، تحقيق د. عبد الغفار سليمان البنداري، بيروت، دار الكتب العلمية، 1985، ص. 24-25، أورده أيضا السيوطي، حسن السمت في الصمت، م. س.، ص. 13-14. وفي الصمت أيضا، يمكن الرجوع إلى الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي، ط. IV / 1975، ج. 1، ص. 194 وما بعدها؛ ص. 245 وما بعدها؛ ابن عبد ربه، العقد الفريد، م. س.، ج. 2، صص. 302-304؛ ج. 3، ص. 18. بيد أن الجاحظ يجعل من البلاغة سبيل الوصول إلى الجنة، إذ يروي: «قيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بلغ بك الجنة، وعدل بك عن النار»، نفسـه، ج. 1، ص. 114.
[77] محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكيـــة، بيروت، دار صادر، د. ت.، ج. 1، ص. 181.
[78] أبو الحسـن الماوردي، أدب الدنيا والدين، حققه وعلق عليه: مصطفى السقا، بيروت، المكتبة الثقافية، ط. III / 1955، ص. 266.
[79] Malek Chebel, Le livre des séductions, Paris, Lieu Commun, 1986, p. 48.
[80] ابن رشيق القيروانـي، العمـدة…، م. س.، ج. 1، ص. 89.
[81] نفســه، الصفحـة ذاتها.
[82] نفســه، الصفحـة ذاتها.
[83] نفســه، الصفحـة ذاتها.
[84] نفســه، ص. 90.
[85] أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، شرحه وكتب هوامشه: الأستاذ سمير جابر، بيروت، دار الفكر، ط. I / 1987، ج. 20، ص. 135.
[86] ابن منظور، أخبار أبي نواس، (ملحق كتاب الأغاني، م. س.، ج. 25)، ص. 5.
[87] ابن الأثيـر،م. س.، ص. 14-15.
[88] محيي الدين بن عربي، م. س.، ج.1، ص. 281 وما بعدها.
[89] نفســه، ص. 281؛ عبد الكريم القشيري، الرسالة القشيرية، م. س.، ص. 83؛ عبد الرزاق الكاشاني، معجم اصطلاحات الصوفية، تحقيق د. عبد العال شاهين، القاهرة، دار المنار للطبع والنشر، ط. I / 1992، ص. 177.
[90] محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، م. س.، ج. 1، ص. 282.
[91] ابن منظـور، لســان العـرب، بيـروت، دار صادر، (د. ت.)، ج. 4، (مادة: شعـر).
[92] ابن الأثيـر، الوشـي المرقـوم في حـل المنظـوم، م. س.، ص. 15.
[93] الطبري، تفسير الطبري…، م. س.، مج. 12، ص. 48. يورد المؤلف روايتين أخريين للحكاية ذاتها في ص. 47 وص. 48 من الكتاب نفسه. يمكن الوقوف على روايات للقصة نفسها، بتلوينات متباينة بهذا القدر أو ذاك، في: الإمام الغزالي، مكاشفة القلوب، م. س.، ويورد روايتين لها منسوبتين إلى الرسول، إحداهما في ص. 75 والأخرى بالصفحة 402؛ ابن الجوزي، تلبيس إبليس، بيروت، دار الكتب العلمية، (د. ت.)، صص. 26-29؛ زكريا القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، م. س.، ص. 388-389؛ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، م. س.، ج. 1، 341؛ البداية والنهاية، م. س.، ج. 2، ص. 125-126؛ علي عفيفي، مكائد الشيطان، القاهرة، دار الاعتصام، (د.ت.)، صص. 63-66؛ عمر سليمان الأشقر، عالم الجن والشياطين، بيروت، دار الجيل، 1986، صص. 66-68… ومع أننا لا ننكر أهمية التساؤل عن السر في كثرة إيراد هذه الحكاية قديما وحديثا، وأهمية إفراد دراسة خاصة لهذه «الأسطورة»، بكافة تلويناتها، فإننا نعتقد أنها في نهاية المطاف لا تعدو مجرد «تحريف» طال حكاية أخرى تساق في تفسير أحد الأحاديث النبوية. يتعلق الأمر بما يلي: «روى أبو هريرة عن النبي (ص)، قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصبي في زمن جريج، وصبي آخر. فأما جريج فكان عابدا في بني إسرائيل، وكانت له أم، فكان يوما يصلي، إذ اشتاقت إليه أمه، فقالت: يا جريج، فقال: يارب، الصلاة خير أم آتيها؟، ثم صلى، فدعَته، فقال مثل ذلك، ثم صلى، فاشتد الأمر على أمه، فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات. وكانت هناك امرأة زانية في بني إسرائيل، فقالت لهم: أنا أفتن جريجا حتى يزني، فأتته، فلم تستطع إغواءه. وكان هناك راع يأوي بالليل إلى أصل صومعته، فلما أعياها جريج، راودت الراعي على نفسها فأتاها، فحملت، وعندما ولدت سألها الناس عن ولدها هذا، فقالت: ولدي هذا من جريج، فأتاه بنو إسرائيل وكسروا صومعته، وشتموه. ثم إنه صلى ودعا ربه، ثم نخس الغلام، وقال: يا غلام، من أبوك؟ فقال الطفل: والدي هو الراعي فندم القوم على ما كان منهم، واعتذروا لجريج، وقالوا له: نبني صومعتك، فأبى عليهم وبناها كما كانت». ومن الملفت للانتباه التشابه بين النصين (حكاية برصيصا وحكاية جريج) في جملة من العناصر: الشخصيات (الراهب، امرأة، الجماعة الاجتماعية… ) والأفعال (الإيواء، ممارسة الجنس، الحبل، انتقام المجموعة الاجتماعية من الراهب…). أخذنا نص الحكاية الثانية من: عبد الكريم القشيري، الرسالة القشيرية، م. س.، ص. 257-258.
[94] ابن رشيق القيرواني، العمـدة، م. س.، ج. 1، صص. 69-75.
[95] «لأن يفعَل ما لم يقل، أجمل من أن يقول ما لم يفعل». المارودي، أدب الدنيا والدِّين، م.س.، ص. 274.
[96] الإمام الغزالـي، إحيـاء علوم الديـن، م. س.، ج 3، ص. 64؛ ابن عبد ربه، م. س.، ج. 2، ص. 304. ويورده ابن عبد ربه على النحو التالي: «قال رجل لعمر بن عبد العزيز: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت أن تصمت. قال: فمتى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت أن تتكلم»، العقد الفريد، م. س.، ج. 2، ص. 304.
[97] د. الشاهد البوشيخي، مصطلحات النقد العربي لدى الشعراء الجاهليين والإسلاميين. قضايا ونماذج، (د.م.)، منشورات القلم، ط. I / 1993، ص. 107-108.
[98] Anthropologie structurale, op. cit., p. 198.
[99] أشهر هذه المؤلفات: لسان ابن الخطيب، السحر والشعر، تحقيق: محمد مفتاح، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في الأدب العربي، كلية الآداب، فاس، 1981-1982؛ أبو منصور الثعالبي، رسالة سحر البلاغة وسر البراعة؛ رشيد الدين والوطواط، حدائق السحر في دمائث الشعر؛ أبو عثمان سعيد بن ليون التجيبي، لمح السحر من روح الشعر وروح السحر. وقد استقينا هذه المعلومات من ذ. علي الغزيوي، «مفهوم الشعر وعلاقته بالمصطلح النقدي عند ابن الخطيب بين النظرية والتطبيق»، ضمن مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس (خاص: ندوة المصطلح النقدي وعلاقته بمختلف العلوم)، عدد: 4، السنة 1988، صص. 210-230.
[100] أفرد تودوروف دراسة هامة للخطاب السحري من منظور البلاغة العامة:
– Tzevztan. Todorov, «Discours de la magie», in T. Todorov, Les genres du discours, Paris, Seuil, Poétique, 1978, pp. 246-282.
[101] في هذا الصدد، يمكن الرجوع إلى الدراسة القيمة لمبروك المناعي، «في صلة الشعر بالسحر»، حوليات الجامعة التونسية، كلية الآداب (جامعة تونس)، العدد: 31، السنة 1990، صص. 39-77. وقد أعيد نشرها بالعنوان نفسه ضمن مجلـة فصـول، المجلد العاشر، العدد: 1/2، يوليو – أغسطس 1991، صص. 24-36.
[102] سنعود إلى هذه النقطة بشيء من التفصيل في الدراسة اللاحقة ضمن الكتاب الحالي.
[103] Fatima Mernissi, Le Harem politique, op. cit., p. 18.
أو: فاطمة المرنيسي، الحريم السياسي، النبي والنساء، م. س.، ص. 20.
[104] Marcel Mauss, «Esquisse d’une théorie générale de la magie», in M. Mauss, Sociologie et Anthropologie, Paris, P.U.F., Quadrige, 1950, pp. 3-145.
[105] ابـن رشيــق القيـروانـي، العمـــدة…، م. س.، ج 1، ص. 48.
[106] الشعر والشعراء، نقلا عن: د. محمد سعد فشوان، الدين والأخلاق في الشعر. النظرة الإسلامية والرؤية الجمالية، القاهرة، كتبة الكليات الأزهرية،. 130-131.
[107] ابـن رشيـق القيـروانـي، العمــدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت، دار الجيل، ط. IV / 1974، ج 2، ص. 172.
[108] الجاحظ، البيان والتبيين، م. س.، ج. 1، ص. 130؛ ابن رشيق القيرواني، العمدة، م. س.، ج 1، ص. 204.
[109] خلافا لاقتراح البعض ترجمة مصطلح chaman)) بكاهن (انظر ترجمة: حسن قبيسي لكتاب ليفي ستروس، الإناسة البنيانية، بيروت-البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط. I / 1995، الفصلين 9-10، على التوالي: الساحر وسحره، والفعالية الرمزية، صص. 183-223) نفضل تعريبها كما هي، الأمر الذي فعله مترجم الكتاب الآتي ذكره: «يكاد لا تخلو حضارة في العالم مما يدعى بصورة الشامانية. الشامان (الكلمة مشتقة من السنسكريتية سراماناس، وتعني الناسك) هو السلف المشترك للدجال، المعالج بالإيمان، الوسيط والقائد الكاريزمي. إنه (…) “فني ما هو مقدس”، ولديه ما يقوم به من الأعمال الكثير. يجب أن يتحكم بالطقس، ويحدد مصادر الغذاء، ويشفي من الأمراض ويعمل كمستشار نفسي للفرد والمجموعة على حد سواء. يترتب عليه أن يضع “قدما في الحاضر والأخرى في الأبدية”». انظر: غاي ليون بيلفير، ثلاثية الطب والعقل والسحر. السحر والمعجزة، ترجمة: عيسى سمعان، اللاذقية، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط. I / 1990، ص. 48.
[110] م. س.، الصفحة ذاتها.
[111] هذا رأي المالكية والحنبلية، وهو يرتكز على الحديث النبوي: «حد الساحر ضربه بالسيف»: شمس الدين الذهبي، كتاب الكبائـر، بيروت، دار الكتب الشعبية، (د. ت.)، ص. 15، كما (يرتكز) على سنة الرسول (ص) الذي قدم المثال شخصيا لما أمر بقتل امرأة ساحرة وشاعرة: الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، بيروت، دار الكتب العلمية، 1986، ج. 5، ص. 426، و(يرتكز كذلك) على الأخبار المتواترة حول أم حفصة التي قتلت خادما بسبب سحر ألقته عليها، كما على خبر أمر عمر بن الخطاب بقتل ثلاث ساحرات: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، م. س.، ج. 1، ص. 147. أما الحنفية والشافعية، فكان لها رأي مخالف، إذ رأوا أن حد القتل لا ينبغي أن يطبق إلا على من تعلم سحر الكواكب وسحر بابل (في إشارة إلى حكاية الملكين هاروت وماروت). المصادر السابقة ذاتها.
[112] ابن عبد ربه، العقد الفريد، م. س.، ج. 6، ص. 155. وهذا التحييد لا يطال الواقع (ما نظمه الشاعر) فحسب، بل يمتد أيضا إلى المحتمل (ما يمكن أن ينظمه): «قال الرسول (ص) لما مدحه عباس بن مرداس: اقطعوا عني لسانه. قالوا: بماذا يا رسول الله؟ فأمر له بحلة قطع بها لسانه»، نفسـه، الصفحة ذاتها.
[113] يعرف الأول اللعب كالتالي: «من زاوية الشكل، يمكننا أن نعرف اللعب، باختصار، باعتباره فعلا حرا، يمنح الإحساس بأنه خيالي ويقع خارج الحياة العادية، قادر مع ذلك على امتصاص اللاعب كليا؛ هو فعل مجرد من أي منفعة مادية ومن كل فائدة، يتم في زمن وفضاء محصورين بوضوح، يجري بنظام تبعا لقواعد محدَّدة ويثير في الحياة علاقات بين جماعات تحيط نفسها إراديا بألغاز وأسرار أو تصعد – عبر التقنع – غرابتها تجاه العالم المعتاد»، فيما يحدد ر. كايوا اللعب باعتباره نشاطا: 1) حرا: يمارسه الفرد بحرية؛ 2) معزولا: يجري في فضاء وزمان محدَّدين مسبقا؛ 3) ومريب: لا يمكن تحديد مجراه ولا امتلاك نتيجته مسبقا؛ 4) غير منتج: لا يخلق ممتلكات ولا ثروات؛ 5) منظما: يخضع لاتفاقيات تعلق مؤقتا القوانين المعتادة لإرساء أخرى مؤقتة؛ 6) خياليا: مرفوقا بإدراك ثان للواقع أو بلاواقعية صريحة بالمقارنة مع الحياة العادية. انظر على التوالي:
– J. Huizinga, Homo-ludens, Paris, Gallimard, Tel, 1951, p. 34-35; Roger Caillois, Les Jeux et les hommes, le masque et le vertige, Paris, Gallimard, idées, 1967, p. 42-43.
كما يمكن الرجوع إلى الدراستين الهامتين:
– Eugen Fink, Le jeu comme symbole du monde, Traduit de l’Allemand par H. Hildenberg et A. Lindenberg, Paris, Les Editions de Minuit, Arguments, 1966.
– francis wy Brands، «اللعب والكلام»،ترجمة: الحسين سب=حبان، ضمن فكـر ونقـد، العدد 15، يناير 1999، صص. 149-154.
[114] نقلا عن: د. محمد سعد فشوان، الدين والأخلاق في الشعر…، م. س.، ص. 129-130.
[115] العمـدة، ج. 1، ص. 44.
[116] ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق ومراجعة: ج. س. كولان وإ. ليفي بروفنسال، بيـروت، دار الثقافة، ط. III / 1983، ج. 1، ص. 131-132.
[117] في الصدد نفسه يقول أدونيس: «النص القرآني، كما ترى إليه التجربة الصوفية، دال لغوي لمدلول هو الوجود. الأول رمز والثاني مرموز إليه…». انظر: أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة، بيروت، دار الآداب، ط. I / 1993، ص. 30. والتأكيد نفسه يأتي بقلم باحث غربي، من زاوية مغايرة تماما، تعنى بالدرجة الأولى بإثبات وجود حياة بعد الموت، إذ يقول: «إن الكون هو اللغة التي يتحدث فيها الخالق معنا. ولكن وكما أن الطفل يجب أن يتعلم لغة والديه لكي يعرف ماذا يريدان منه، وماذا يتحتم عليه أن يفعل، كذلك يتحتم على الإنسان أن يجاهد لفهم لغة الكون». انظر: ريتشارد شتاينباخ، معنى الحياة والموت. هل يفنى الإنسان بالموت أم ينتقل إلى حياة جديدة؟، ترجمة: هدى موسـى، اللاذقية، دار الحوار للتوزيع والنشر، ط. II / 1996، ص. 38.
[118] برهان الدين البقاعي، مصرع التصوف، م. س.، ص. 112-113.
[119] نفســه، ص. 38-39.
[120] نفســـه، ص. 143-146.
[121] حول نص النفري، يقول أدونيس ما يشبه هذا: «إنه نص يلغي المسافة بين الإنسان والمقدس؛ إنه أنسنة للمقدس، وتقديس لهذه “القصبة المفكرة” الشاعرة: الإنسان». انظر: أدونيـس، الشعـرية العـربية، بيروت، دار الآداب، ط. II / 1989، ص. 68، وإن كان أدونيس يخرج الكتابة الصوفية من دائرة الأدب المتعارف عليه: «هكذا نرى كيف أن الكتابة الشعرية الصوفية ليست أدبا بالمعنى المصطلح عليه، وإنما هي نوع آخر يصعب تحديده وتقعيده. فهذه الكتابة حركة دائمة من اكتشاف ما لا ينتهي، تتضمن هدما مستمرا للأشكال. فهي لا تستقر في شكل»، نفسـه، ص. 78.
[122] الحلاج، الديوان والأخبار والطواسين، م. س.، ص. 122.
[123] نفســه، ص. 132.
[124] نفســـه، ص. 36.
[125] الحلاج، الديوان والأخبار والطواسين، م. س.، ص. 175. أوردنا بعضا من النعوت التي أطلقت على الرسول في بداية دعوته ضمن الدراسة الأولى بالكتاب الحالي.
[126] الحـلاج، الديـوان والأخبـار والطواسيـن، م. س.، ص. 137.
[127] نفســه، ص. 189.
[128] نفســه، ص. 178.
[129] نفســه، ص. 179.
[130] أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، م. س.، ج. 1، ص. 181.
[131] نفســه، ص. 238-241.
[132] ابن منظور، أخبار أبي نواس (ملحق كتاب الأغاني، ج. 25)، م. س.، ص. 193-194.
[133] نفســه، ج. 4، ص. 268-269.
[134] أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، م. س.، ج. 10، ص. 281.
[135] انظر أخباره في السابق، ج. 7، صص. 5-97.
[136] ابن كثير، البداية والنهاية، م. س.، ج. 10، ص. 237.
[137] نفســه، ص. 238.
[138] نفســه، ص. 241.
[139] ابن كثير، البداية والنهايـة، م. س.، ج. 11، ص. 141.
[140] نفسـه، ص. 145.
[141] مع أنني موقن يقينا تاما بأنه سبق لي أن قرأت هذه الإشارة في مصدر ما (ربما الأغاني أو العمدة)، فإني عاجز الآن تماما عن العثور على نص إحالتها. يورد صاحب العمدة أن أبا نواس كان، لاستحضار الشعر، يدخل بيتا مصهرجا غسل بالماء، ثم يتقلب فيه يمينا وشمالا»، نفسه، ج.1، ص. 209؛ 211. وتحيلنا هذه الممارسة على ما كان يفعله الإمام البخاري قبل تدوين أحاديث الرسول (ص)، إذ يقول عن كتابه «كتبت عن ألف وثمانين رجلا (…) وما وضعتُ فيه – أي في كتابه الصحيح – حديثا إلا اغتسلتُ وصليت ركعتين». الإمام البخاري، متن البخاري بحاشية السندي، بيروت، دار الفكر، (د. ت)، ج. 1، ص. 3.
[142] ابن رشيق، العمـدة، م. س.، ج. 2، ص. 309، حيث يورد المؤلف آراء من جوز ذلك ومن كرهه.
[143] ابن الجوزي، تلبيس إبليـس، م. س.، ص. 360. ومعلوم «أن النبي (ص) بنى لحسان بن ثابت في المسجد منبرا ينشد عليه الشعر». ابن رشيق القيرواني، العمـدة، م. س.، ج. 1، ص. 27.
[144] ابن كثير، البداية والنهاية، م. س.، ج. 10، ص. 238.
[145] مع أن الشعر العربي يلتقي في هذا الجانب – بالإضافة إلى أغراض أخرى على رأسها الرثاء والغزل – مع الفن الإفريقي التقليدي، فإنه يختلف عن ذلك الفن في زاويته النفعية التي يشكل المديح مثالا أساسيا عنها، حيث كان الشاعر يتلقى مقابلا ماديا عن قصائده، لدرجة مكنت بعض شعراء ما قبل النصف الثاني من القرن الثالث الهجري من الارتقاء إلى مصاف أثرياء عصرهم: «… المؤكد هو أن الشعراء كانوا يستطيعون أن يبلغوا قدرا كبيرا جدا من الرخاء بل الثراء. إن سلم الخاسر يخلف، بالإضافة إلى الثروات العقارية 50000 دينار و1500000 درهم. وكان يتقدم إلى باب المهدي على بغلة يقدر ثمنها بـ 10000 درهم ذات راحلة وزمام مرصعين، لابسا الحرير والأثواب المشجرة، والأثواب المرتفعة الثمن، ومعطرا بالمسك والغالية. وإذا كان مروان بن حفصة، المعروف ببخل منفر، يصل لابسا معطفا من جلد الخروف ومن الأثواب الخشنة، فإنه كان يتقاضى ألف درهم على البيت، وكان البحتري يدير ثروته بحرص، وينتقل في موكب من العبيد وقد اتخذ له كتابا ومقتصدين…» انظـر:
– Jamel Eddine Bencheikh, Poétique arabe précédée de: discours critique, Paris, Gallimard, Tel, 1989, p. 33.
أو: جمال الدين بن الشيخ، الشعرية العربية، ترجمة: مبارك حنون، محمد الوالي، محمد أوراغ، البيضاء، دار توبقال للنشر، 1996، ص. 76. ومنه أخذنا الإحالة. أما ما ذكرناه حول «الفن للفن» في الإبداع الإفريقي، فقد استقيناه من:
– R. Richard et J. Seury, «Sociocritique et littératures africaines», in L’Afrique Littéraire et Artistique, (Critique et réception des littératures Négro-Africaines), N° 50, 1979, pp. 69-76.
[146] Gregory Bateson, Vers une écologie de l’esprit, Paris, Seuil, 1977, t. II, pp. 18-31; Bateson (et autres), La nouvelle communication, textes recueillis et présentés par Yves Winkin, Traduction de A. Cardoen et autres), Paris, ةditions du Seuil, Points, 1981, p. 42-43.
[147] حول صلة الشيزوفرينيا بالأدب والفن، يمكن العودة إلى:
-Harold Searles, L’effort pour rendre l’autre fou, traduit de l’anglais par: Brigitte Bost, Paris, Gallimard, Connaissance de l’inconscient, 1965, ch. V: «La communication schizophrénique», pp. 185-234; Léo Navratil, Schizophrénie et art, traduit de l’allemand par: Evelyne Sznycer, Bruxelles, ةditions Complexe, 1978.
وحول الخطاب الذهاني في صلته بالأدب، راجع:
– T. Todorov, «Le discours psychotique», in T. Todorov, Les genres du discours, op. cit., pp. 78-85.
يشير تودوروف إلى أن العلاقات بين الجنون والأدب، أي بين الخطاب الذهاني والخطاب الشعري، مسألة تثير الكثير من النقاش، وأن «مؤلفات عديدة حاولت إقامة مقارنات بين الاثنين (ما لم تحاول البرهنة على أن الشعراء مجانين أو المجانين شعراء)»، نفسه، ص. 84، فيما اتخذ بايدزن من الإكراه المزدوج «مبدأ تجريديا يطبق على الفن والفكاهة والحلم كما على الشيزوفرينيا. ومدار هذه الفكرة (…) النظر في مختلف هذه الأنشطة باعتبارها عملية للإبداع ترتكز على قلب مستويات الرسائل (messages): يصير الشرح نصا والعكس بالعكس. والفرق الوحيد الذي يراه بايدزن بين شخص شيزوفريني وآخر فنان، يتمثل في الوعي النسبي الذي يملكه الثاني عن فعله. لكن الإثنين معا يبينان عن إبداعية في تكيفهما مع وضعية خاصة». انظر:
– G. Bateson (et autres), La nouvelle communication, op. cit., p. 42.
وإذا كان حضور الوعي – أو غيابه – هو الفرق الوحيد بين الذهاني والمبدع، في نظر بايدزن، فإن الفرق نفسه (لكن هذه المرة بين الخطابين الذهاني والعادي) يكمن في رأي تودوروف في الحقيقة الواقعية للمرجعيات التي يثيرها كل طرف: «يشبه خطاب البارانويا، بما هو خطاب، إلى حد بعيد، ما يسمى بالخطاب العادي؛ والفرق الوحيد الهام بينهما يكمن في كون المرجعيات المثـارة ليست بـالضرورة موجودة فعليـا في نظـرنا». تودوروف، les genres…, op. cit, p. 79.
[148] Dr Karl Abraham, Psychanalyse et culture, Paris, Payot, P.B.P., 1969, p. 137.
[149] بهذا الصدد يسوق ابن قيم الجوزية الحديثين النبويين التاليين: «ا«لا تؤدي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا»؛ «إن الحور العين لأكثر منكن يدعون لأزواجهن يقلن اللهم أعنه على دينك، وأقبل بقلبه على طاعتك، وبلغه بعزتك يا أرحم الراحمين». انظر، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.، م. س.، ص. 162.
[150] انظر ما ورد في الإحالة رقم 12 ضمن الدراسة الحالية.
[151] Abdelkébir Khatibi, «Possession d’Iblis», op. cit.
[152] الغزالي، إحياء علوم الدين، م. س.، ج 2، ص. 27.
[153] نفســـه، ص. 32.
[154] ليفي ستروس، أسطوريات III، عن إدموند ليتش، كلود ليفي ستروس. البنيوية ومشروعها الأنثروبولوجي، م. س.، ص. 100-101.
[155] رواه الترمذي، نقلا عن الغزالي، إحياء علوم الدين، م. س.، ج 2، ص. 53. في الموضوع نفسه، راجع، على سبيل المثال، فؤاد إسحق الخوري، إيديولوجيا الجسد. رموزية الطهارة والنجاسة، م. س.، ص. 23 وما بعدها.
[156] Abdelkébir Khatibi, «La sexualité selon le Coran», in A. Khatibi, Maghreb pluriel, Paris, Denoël, 1983, pp. 147-176.
ولا شك أن في هذا إحالة إلى الحديث النبوي القائل: «لا يخلون رجل بامرأة، إلا وكان ثالثهما الشيطان»، رواه الترمذي في سننه، «باب ما جاء في الرجل يرى المرأة تعجبه».
[157] إبراهيـم محمـود، الجنـس في القـرآن، لندن، رياض الريس للكتب والنشر، ط. I / 1994، ص. 106؛ 125. في هذا الصدد، خصص الإمام الغزالي أحد مباحث كتاب النكاح (ضمن الإحياء) لموضوع آداب الجماع، يبين فيه ما ينبغي على المؤمن مراعاته في كافة أطوار عملية الجماع. فأوصى بتجنب استقبال القبلة، وتغطية الرأس، وتسمية الله، وقراءة قل هو الله أحد، وتلاوة دعوات بعضها في بداية الجماع، لطرد الشيطان، وأخرى أثناء الإنزال لمباركة النسل… ثم ساق مثال أحد أصحاب الحديث الذي كان قبل الوطء «يكبر حتى يسمع أهل الدار صوته، ثم ينحرف عن القبلة ولا يستقبل بالوقاع إكراما للقبلة»، إحياء علوم الدين، م. س.، ج. 2، ص. 46.
[158] Germaine Taillon, Le Harem et les cousins, Paris, Seuil, Points, 1966; Fatima Zerdoumi, Enfants d’hier, l’éducation de l’enfant en milieu traditionnel algérien, Paris, Maspéro, 1970; Pierre Bourdieu, Le sens pratique, Paris, Minuit, 1980, pp. 441 – 446; Fatima Mernissi, Sexe, Idéologie, Islam, Paris, Tierce, 1983.
ومن الأوصاف المقدمة في هذا الصدد: «إن تصميم وهندسة البيت العربي التقليدي يكاد يكون كله من أجل حجب جسد المرأة وتأمينه وحصره داخل هذا الفضاء (…) الأسوار العالية، البوابات الموصدة (…) كل ذلك للمباعدة بين العالم الخارجي والعالم الداخلي (…) يتـركب البيت التقليدي كذلك من وسط الدار وهو فضاء مكشوف تحيط به غرف عديدة شبابيكها كلها تفتح على الداخل بحيث لا ترى المرأة وهي داخل بيتها من العالم الخارجي إلا السماء إذا رفعت بصرها لتذكرها بكل القوانين الفوقية». . حياة الرايس، جسـد المرأة من سلطة الإنس إلى سلطـة الجـان، القاهرة، سينا للنشر، ط. I / 1995، ص. 33.
[159] هذا دون الحديث عن الجواري والإماء. بصدد تعدد الزوجات لدى القدماء، أورد الإمام الغزالي ما نصه: «يقال إن الحسن بن علي كان منكاحا حتى نكح زيادة على مائتي امرأة وكان ربما عقد على أربع في وقت واحد، وربما طلق أربعا في وقت واحد، وقال (ص): ‘حسن مني وحسين من علي’، فقال: ‘إن كثرة نكاحه أحد ما أشبه به خلق رسول الله (ص)، وتزوج المغيرة بن شعبة بثمانين امرأة، وكان في الصحابة من له الثلاث والأربع، ومن كان له اثنتان لا يحصى». الإمام الغزالـي، إحياء علوم الدين، م. س.، ج. 2، ص. 28.
[160] خلصت دراسة لغوية محضة حديثة إلى أن وضع المرأة عند العرب ربما كان أحط وضع، إذ عمدوا إلى مماثلتها بظواهر الطبيعة وبالحيوانات، وأطلقوا عليها أقبح النعوت. إذن النسوة في نظر اليعربيين! لا هن منتجات ولا محاربات ومصدر عار (…). فهن العواني مرة والأسيرات أخرى ولا وظيفة لهن إلا تقديم المتعة للرجال وخدمتهم وإنجاب الأولاد الذين يحفظون ذكراهم وتربيتهم»؛ «كان من المفروض أن تلقى المرأة الكبيرة في السن (المسنة) التوقير والاحترام (…) ولكن هذه القاعدة الأخلاقية لم يطبقها أحفاد يشجب. فقد سخروا منها واستهزؤوا بها». خليل عبد الكريم، العرب والمرأة. حفرية في الإسطيـر المخيم، لندن-القاهرة، الانتشار العربي-سينا للنشر، ط. I / 1998. على التوالي، ص. 122؛ 146. وللوقوف على بعض من الأمثلة التي بنى عليها هذا المؤلف استنتاجاته، انظر الصفحات: 50؛ 85؛ 102؛ 134؛ 148. بيد أنه يمكن تفنيد هذه الأطروحة من كتابات القدماء أنفسهم. فالجاحظ، مثلا، يقول في هذا الباب: «ولم نر الرجال يهبون للرجال إلا ما لا بال له في جنب ما يهبون للنساء حتى كان العطر والصبغ والخضاب والكحل (…) وحتى كان الحيطان الرفيعة والأبواب الوثيقة والستور الكثيفة والخصيان (…) والحواضن لم تتخذ إلا للصون لهن والاحتفاظ بما يجب من حفظ النعمة فيهن»، رسائل الجاحـظ، بيروت، دار النهضة الحديثة، 1972، ص. 148-149؛ «والمرأة أيضا أرفع حالا من الرجل في أمور، منها أنها التي تـُخطب وتراد وتعشق وتطلب وهي التي تفدى وتحمى…»، نفسـه، ص. 150؛ «ومما يستدل به على تعظيم شأن النساء أن الرجل يستحلف بالله الذي لا شيء أعظم منه وبالمشي إلى بيت الله وبصدقة ماله وعتـق رقيقـه فيسهل ذلك عليه ولا يأنف منه، فإن استحلف بطلاق امرأته تربد وجهه وطار الغضب في دماغه ويمنع ويعصى ويغضب ويأبى وإن كان المحلف سلطانا مهيبا ولم يكن يحبها ولا يستكثر منها وكانت نفسها قبيحة المنظر دقيقة الحسب خفيفة الصداق…»، نفسه، ص. 151.
[161] ثمة افتراض أساسي يقول «بأن الأدب عصف بالأصل»، وكونه كذلك هو ما يجعله «خطرا أشد الخطر». فتحي بنسلامة، تخييل الأصول. الإسلام وكتابة الحداثة، ترجمة: شكري المبخوت، تونس، دار الجنوب للنشر، معالم الحداثة، 1995، ص. 21، وفي مكان غير بعيد يؤكد المؤلف أن «الذي ينبغي لنا أن نتأمله هو الأدب باعتباره عملا ينتزع ملكية الأصول ويعيد توزيعها»، نفســه، ص. 41
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الثلاثاء 04-09-2012 05:05 صباحا