وإن كنت تدَّعي العزم على خوض هذا الميدان، فعليك أن تسلـم رأسك للريـح»
فريد الدين العطـار النيسابوري، منطق الطيـر،
دراسة وترجمـة: بديع محمـد جمعـة، ص. 265.
1. غبطـة التوقيـــع:
«قل كلامك ثم انكسـر». عبر المدارات التي تختطها هذه الشذرة الصاعقة بانفتاحها على التخوم القصوى للهاوية يجدر بنا أن نتحرك نحو ملاقاة الموت باعتباره شرطا رئيسيا للكتابة داخل متن «حديث الجثة السردي». نقترب من الموت كقوس داخله نتوتر، ومعنا تتوتر سهام الكلمات وهي تغالب لتكون. وهي تجالد الغياب ثم الغياب كيما تستوي ابتهاجا يسعَدُ بمحو آثاره المنذورة للتلاشي والتبدد. كما لو كانت أصداء صرخة صاعدة من عمق ليل قصي.
«قل كلامك، ثم انكسر». هذا قدرٌ أولٌ وأخيرٌ. ورطة صموتة في انتسابها لما يَشهَدُ للكتابة أو عليها. القولٌ: حشاشة أنفاسٍ ثكلى، إمضاءٌ شخصي لن يفرح أحد باقتسامه أو تملكه. أما الانكسار، هذا الفعل الكينوني الأصعب، فأبدا لن يكون سوى شرطٍ وجودي حارق، عذابات تتجمهر بآلامها لحظة الانجذاب نحو وجيف البداية، نحو خطر الكتابة وهي تستدرج اندلاع اللهب، وهي تبارك شُبَّةَ الانشطار الفادح، قبل أن تزج بنا داخل وهاد الموت ومفازاته. داخل «ساعات الاحتضار» الحكيمة، هناك حيث كل شيء مهيأ لاجتراح ممكنات الذوبان في هسيس الصمت وفراغ السديم المطلق.
«حديث الجثة»، بهذا الأفق، سؤالٌ لنا جميعا أن نفكِّرَه، لأنَّ به يمكن المراهنة على محاذاة الدخيلة وتسييد جمرتها المتهججة. لكن ماذا بعد اشتعال القول والانكسار؟ ماذا بعد أن نتحول جميعا إلى شتيت دائم الترحل بين قطبين لا يتواشجان إلا لينخرطا معا في مشهد العودة الدائمة صوب كتابة لا تنفك تحضر في استحالتها الخالصة، في موتها المرجأ وقد بات احتفالا داخله تزهو اللغة بفتنتها والكلمة بغوايتها؟ هل نكتفي بما نظنه حياة؟ لكن «ما نسميه حياة لا يعدو مجرد وهم يحمله كلٌّ منا بطريقته الخاصة، وينتهي بانتهائه»[1]. هل نتعلق بأهداب الموت ونتجذَّر داخل مساحاته المفارقة لكل مدار بشري؟ لكن الموت «محطة بين حياتين: حياة ما قبل الولادة، وحياة ما بعد الموت. وبما أن الموت يقع داخل الحياة، فالحياة تقع خارج نفسها»[2]. وإذن، فقد لا يكون هناك خيار آخر عدا إيقاظ «الطفل الزبير» الذي يرقد بداخلنا[3]، هذا الذي رقص بنشوة فائقة انذَهَلَ أمامها حدُّ المدية الفاصلة بين ما كان وما سيأتي. «الزبير» في لعبته المجنونة تمادى ليستبدل تعاظم الهزل بجد أكبر. تلك خطوته الأولى والأخيرة. فهل نجرؤ نحن على اقتراف هذه اللعبة الهوجاء؟ هل لنا من الشجاعة ما يكفي لقبول هذه المساومة الأبعد من كل تعقل؟
2. مكائـد الحكـي ومجـازات التجــول
لن نتعجل الجواب. فالسارد أكثر مكرا مما قد يُظَنَّ، وحكيه أبعد من أن تحتجزه بروتوكولات القراءة ومراسيمها الملتئمة. وحده الإنصات يؤاخي بيننا وبين النص، يؤالف بيننا دونما تشطيـب على مساحات الاختلاف المرتسمة داخل صوت السارد نفسه، حالما يعلن هذا الصوت وحْدَةَ الموت داخل تعدد الأشكال:
«ما الأحياء في قيامهم وقعودهم وممشاهم وسكونهم سوى جثث ممددة تحتضر كما أحتضر الآن، ما يفرق بيننا سوى الشكل الذي تمدَّدَ به كل منَّا: هم يحتضرون ما شين ومتكلمين وعاملين… وأنا أحتضر طريحا مهشَّمَ الرأس والأضلع»[4].
لا تفاضل ولا خيار، إذن، داخل حركة الموت الدورية، لأنه التكرار الذي لا يكف عن تحيين ذاته وترهين صيغه وواجهاته. التكرار الذي يطال الجسد والعالم بوصفه غورا بعيد القرار، داخله يتلاشى كل حدث أو حد متفرد، وتبيد كل هوية قابلة للعد كانت أم غير قابلة له[5]. لذلك لن يباغثنا السارد لحظة إعلانه عن أسئلة القلق ومفارقات التردد البليغة أمام قبضة الرعب هذه التي لا تتوانى في هندسة مشاهد الحتف الأكيدة:
«بيني وبين الموت مسافة ساعتين. أترقبه كما يترقب المرء مفاجأة أو اكتشافا حاسمين وأنا أتساءل: ”إلى أين أنا ذاهب؟ كيف سينقض علي الموت؟ بم سأحس عندما سأكون بصدد المحو؟ إلى ماذا سأؤول بعد انسحابي من الحياة؟…”»[6].
لن يفاجئنا التردد أمام المجازفة القاسية لأنه سيعثر حتما على دلالته العميقة داخل نسق النص ومداه المُبَنْيَن وفقا لأسئلة مُشْرَعَة على تقويض سلطات الحس المشترك ونسف اشتراطاته المؤسِّسَة ليس فقط لأن هذه السلطات وهذه الاشتراطات تعطِّلُ ملاحقة الإنسان لما لا غور له، للحد غير القابل للبلوغ، بل لأنها تحجب مضمرات الإنسان وممكناته، تحجب هويته التي لا يمكن أبدا أن يتشكل داخلها كإنسان إلا لأنه «ينجذب إلى هذا الذي ينسحب، ويكون في حركة صوبَه. ومن خلال هذا نفسه يشير إلى الانسحاب. فماهيته [الإنسان] هي أن يكون مشيرا من هذا النوع»[7]. يلج السارد، إذن، وعلى مدار نصوص «حديث الجثـة»، مغامرة البحث عمَّا به ترتجُّ أنساق الميتافيزيقا وثنائياتها المغلقة، في الوقت ذاته الذي يغادر فيه الموتُ تمظهراته بوصفه واجهة مقابلة للحياة، يغادرها لا ليتقولب داخل وثوقيات جاهزة بيقينياتها المتكلسة، ولكن ليطأ عتبات حريته الأولى، ليلتحق بأرضه الخلاء، هناك حيث يغدو بمقدوره أن يتحدد باعتباره شرطا ممكنا لكل حياة واقعية أو متخيلة. حتى الجثة: هذا الشيء الذي يلاقي في التحلل والتآكل مجاله الحيوي ستشرع هي نفسها، وبدءا من هذه الأرض، في تحديد هويتها كفدية بها تواصل الحياة استمرارها، وقربانٍ يتعهَّد بصيانة تماسك خطاب الأحياء، وتأمين سيولته:
«إن ما يفعله كل واحد ممن يحيطون بي، عبر هذه الإجراءات الطقوسية، إنما هو الاحتفال بكونه ليس هو الذي سيموت وإنما آخر [هو أنا]. أنا الآن ذريعة يُتَقَرَّبُ بها إلى الموت»[8].
يموت شخص واحد فيقوى التضامن بين الأحياء، لا لأن جثة الميت تجسد اللحظات القصوى لاكتمال القسوة، وبالتالي اكتمال المحو الذي يطال صيغ العنف، أي سلسلة الأشكال التي من خلالها يعبر العنف نحو اقتحام حشود الأحياء، واختراق صفوفهم، بل لأن الميت «الذي تم عزله يبدو وكأنه بشكل بالغ الغموض، جزية يتم دفعها من أجل استمرار الحياة الجماعية»[9]. لكن هذه الجزية المنتقاة وفق ضرورة عمياء، والمنساقة وراء آتٍ تجهل مداه، تحتاج لكي تستكمل مواصفاتها إلى تقطيع من المشاهد الطقوسية المنضوية تحت ما يمكن تسميته بـ«فعل الدفن»، أي هذا الإجراء الشعائري الدال بفعل مزاوجته داخل بنيته نفسها بين إمكانيتين دلاليتين اثنتين: تنفتح أولاهما على تأجيج وهمنا في تلافي الموت، أي الانتصار على الموت داخل معتركه الشخصي (القبر)، وبالتالي مواجهته دون مواربة، فيما تنشغل ثانيتهما باستدراجنا نحو الاعتقاد في إمكان تحقيق حلم لن يكون سوى سراب هارب: أن نطوح بالموت داخل سراديب النسيان، أن نغيبه دون أن نتجشم عناء مواجهته.
تأكيدا إن حضارات عديدة، وخاصة منها الحضارات الزراعية التي استوطنت حوض المتوسط، أبانت ميلها للاحتفاظ بجسد الميت أطول مدة ممكنة، مثلما أوضحت اعتقاداتها في إمكانية حياة أبدية خفية. لذلك مارست الدفن على نحو يرشحها لأن تضاعف «حماية تلك الحياة في سكينة الجثة وهدأة المثوى»، أي أن تعتني بها «وتحيطها بالأطعمة والقرابين وتدفنها في أغلب الأحيان داخل منازل الأحياء نفسها»[10]. غير أن هذه الذاكرة الموغلة في القدم، هذا الإجراء الطقوسي والحضاري المتوالد على هيأة ضمير أخلاقي سارٍ عبر أجيال بشرية متعاقبة، هو ما سيتعرض للاختبار داخل نصوص «حديث الجثة»، هو ما سينبري السارد لقياس حجم مشروعيته وحدود صلاحياته:
«جُمِعَ رماد الجثة بعدما عُزِلَ بعناية متناهية عن رماد الكتب والفراش والخشب والملابس ثم وُضِعَ في كيس طاهر معطَّر أنيق أُجْرِيَت عليه كافة ترتيبات الطقوس الجنائزية، ووري داخل قبر كبير… أثناء دفنه، كان الرماد داخل الكيس مهووسا برغبة النهوض وإشباع الدافنين لكما وركلا وهو يعنفهم قائلا: ”ما معنى ما أنتم فاعلونه بي الآن؟ أما علمتم أنني الآن ممحو داخل حياد مطلق، وأنني سأظل على ما أنا عليه الآن حتى وإن نثرتموني في الهواء أو غبرتم بي النبات؟!”»[11]؛
«ألا ما أغبى الأحياء! لماذا يعجلون بدفن الأموات؟ أن يدفنوا فردا معناه أنهم قد أيقنوا موته، لكن أي يقين يطمئنهم إلى أنه لن يحي بعد دفنه؟ لماذا لا يتركونه إلى مرحلة بداية التفسخ ليتحققوا آنذاك من أنه قد مات فعلا، فيجنبونه احتمال القتل اختناقا داخل قبر أو ثلاجة لحفظ جثث الموتى؟»[12].
سيعثر الدفن، إذن، داخل «حديث الجثة» على ما به يعانق فشله في تسييج حدود الموت ومراوغة خطواته الحاسمة، سيعثر على ما به يصافح هويته باعتباره «أبلد تعبير عن كوميديا الوجود البشري» (ص. 17). لكن هل سينفرد الدفن لوحده، باستحقاق هذا الإخفاق الذريع في إنجاز طموح البشرية؟
حتما ستكون المعرفة معنية، هي أيضا، بسؤال الإخفاق هذا، مادامت حدودها هي التي ستنفرط، وخطاباتها هي التي ستتصدع في كل مرة ستغامر فيها باحتواء الموت رغم سلسلة تنكراته المتواصلة: «سرعان ما سيفطن إلى أن تلك الكتب كانت تقول كل شيء إلا الموت، ذلك أنه انتهى أخيرا إلى أن الموت ليس هو سلوك الأحياء إزاء شخص ميت، ولا كلامهم عن الموت المجرد. الموت سؤال ضخم يستحيل الإجابة عنه بأي خطاب لأنه انتفاء الخطاب نفسه» (ص. 27). لأجل هذا يبدو السارد، وبفعل تواشجه مع سلسلة من الدوال النصية المتعالقة فيما بينها (الشخوص، الأحداث، الفضاءات…)، حاملا لوعيٍ ممزق أنهكه البحث عن «يقين» ضال. وعي لن يسعفه في الاضطلاع بمهامه كمنظم للبرنامج السردي إلا الانخراط في فضاء حركة الحكي الجوالة، هذه الممارسة التي لا محالة، ستفضي به إلى الانقلاب على نفسه، فيما هي ستقوده إلى مواصلة الانفتاح على تحويل مواقعه ومنظوراته تماما كما لو كان يستنزف نفسه في عراكٍ قاسٍ، لا يملك فيه، بعد، ما به يقيس حجم الهول الذي يمكن أن يلاقيه:
«أن يفكر المرءُ الموتَ، فذلك لا معنى له، أما أن «يعيشهُ» خلال ”اللحظة الأخيرة من حياته” فذاك احتمالٌ مفارقٌ: إذ كيـف يمكـن تحقيـق معرفـةٍ أمبريقيـةٍ بالسيرورة التي تحْـذِفُ – وإلى الأبد – شـروط كل معرفة؟»[13].
3. تناسخات الجسد: من لذة الإقامة في المـوت إلى تحرقات دال الكتابة:
صحيح قد تضيء هذه الوضعية الاستثنائية دينامية الكتابة داخل ردهات المتن السردي. لكنها لن تضيئها إلا بقدر ما ستنصبها كتجربة تأويلية لا تركن لمنطق المصالحة والهدنة، لأن مداها الذي تروم الإقامة داخله هو ما يظل دوما قيد التشكل والإتيان. من داخل التصدعات التي تشرط انشقاق النص وتشظي دواله يجيءُ، لا من موقع القناعة المزهوة بكل معنى أُحْكِمَتِ الميتافيزيقا حشوَهُ بوهم الامتلاء.
إن الكتابة في «حديث الجثة» لا تتورع عن اختبار ما يمنحها شكل الاستراتيجية التخييلية المنذورة لمصادقة الموت ومصاحبة مناخاته، تبتني سؤالها لتوغل به في استقصاء شروط الجسد الإنساني واستنطاق تفاصيله، الجسد لا باعتباره تمظهرا عضويا لشيئية معزولة داخل العالم فحسب (الجثة)، ولكن أيضا كنسق رمزي من الدلالات المتشابكة على نحو يجعل منه صيغة تأويلية للعالم وظواهره، أي ممارسة هيرمنيوطيقية يؤطرها إشكال أنطولوجي بامتياز: الرغبة في الوجود، والمجهود من أجل البقاء حتى داخل مدارات الموت المبهمة. لكن هل ينال الجسد كامل استحقاقاته في أن يحكي الموت، في أن يؤشر على استحالته هو كجسد دون أن يجتاز مسالك اللذة ويعبر دروبها دون أن يعانـق جسد اللذة الأكبر، ويلملم أطرافه؟ يبدو أن لخيار العبور – عبور اللذة – ما يسوغ حضوره كمرتكز صريح في نزوعه نحو تفعيل نسق النص وبلورة أسئلته داخل أفق لا يحجم عن تقديم اللذة كانشغال محايث ومتعال في الآن نفسه. محايث لأنه يصاحب وجودنا ويؤثث خفاياه في غفلة منـه، ومتعـال لأنـه يتجاوزنـا فـي محاولة مستديمة لإبقائنا، حتى بعد الموت، داخل حدوده وسياجاته. وبالفعل، فإذا كانت اللذة تتبطَّنُ الجثة وتحجب حقيقتها، إلى الحد الذي لا يغدو معه «الجسد الأكثر إثارة للشهوة سوى هيكل عظمي أُحْكِمَ تقنيعه»[14]، فليس ذلك إلا لأن اللذة، هذا الكائن الخلاسي الصاخب، هي ما يسكن اللغة ويقيم في جوفها لكي يمارس، وبدءا من هذه الإقامة نفسها، لعبته بسذاجة تجبر العقل على مراجعة أدواته وحساباته. قد تكون الكتابة مدعوة لأن تخترق الجثة، وتعيد ترميمها من أقصاها إلى أقصاها. لكن اللذة هي ما يؤمن هذا الخيار لأنها مناط الدلالة، لحمتها وسداها. لذلك كان تفكيك حيلها ومخاتلاتها شرطا أوليا لتَكَشُّفِ حقيقتها كأساس لكل معنى. إن لقاء اللذة والكتابة لا يملك إلا أن يطوح بنا داخل مشاهد تستأسد فيها صعقة الموت العصيبة. فالموت وحده يتوج هذا اللقاء ويمجد انعقاده:
«أجساد تنزلق فوق الدم المتخثر، فتسقط جارة معها أجسادا أخرى إلى الهاوية، يتكوم الجمع فيصير كتلة لحم هائلة، أخطبوطا عملاقا من الأيدي والأرجل والرؤوس البشرية، وخلال ذلك كله تتعالى أصوات الصراخ والترنح والنجدة والضحك والزغاريد والإنعاض وأنا جالس على العرش تعصرني لذة منتشية ذاهلة»[15]
لكن هذا التوالج الحميمي بين اللذة والكتابة والموت لا يكتفي بتأطيـر السيـرورة السردية لدوال النص، بل يستقطبها، أيضا، نحو اشتغال لغوي متوتر، مشروخ ولاهب، لأنه دائم التأهب لاختراق «اليقين» و«الحقيقة»، دائم الاستعداد لمصادرة الفهم الجاهز. همه الآكد الإعلان عن إبدالات نصية تستضمر اللذة كأفق لكتابة الموت وقراءته، لأنه بها يرسـخ انتسابـه لممارسة سردية مشروطة بإرغامات جمالية يحايث فيها الفلسفي الأدبي (التخييلي)، ويتاخـم عبرها النظري النصي، وذاك تحديدا ما يبلور جدارته في صياغة حكي تلتبس فيه الحياة بالموت: «أن يحي المرء هو أن يكون داخل نفسه، وأن يموت هو أن يغادرها مغادرا فيها عقله وإحساسه. بتعبير آخر: الحي ميت في حياته، والميت حي في موته» (ص. 61). إن هذه المعادلة الصارخة ببلاغة المفارقة والالتباس هي ما يذهب داخل نصوص «حديث الجثة» حتى الحدود التي تغدو معها الكتابة أثرا مختلجا بجراحه وجنونه، آسرا بعنفه ونزيفه، لأنه أثر المستحيل نفسه، ينكتب مع – وضد – الرغبة التي لا قاهر لها، الرغبة في الحقيقة والحضور، هذه التي تدفع دوما بالإنسان في اتجاه البحث عن عمق ما، عن مرتكز صلب يضع حـدا لدوار «أعالي البحر» على حد تعبير كلود ليفيسك، نعم، قد تنكسر هذه الرغبة أمام انهدام الجسور وتراجع الأفق وتواري العمق، لكن انكسارها وتراجعها لا يملك، بعد، أن يحدَّ من هدير الكتابة، من اندفاع الأثر باتجاه التجربة – الحد «هذا اللامكان الذي تنقلب فيه كل معرفة وتتحول إلى لا معرفة، حيث تصبح السلطة استحالة، والإرادة قدرا، حيث ينفتح الكشف على هاوية كل كشف»[16]. من هنا كانت إقامة الكتابة داخل هذا الأفق موصولة بحكي الموت، لا باعتباره طارئا يطال الخارج ويمحو أشكاله، ولكن بوصفه دالاًّ يسكن عمق الكتابة نفسها، يرغمها على الالتفات إلى نفسها لكي تقول غرابتها، وتشرِّعَ لهيجانها الذي يرفعنا ككل هيجان «لتخيل الغبطة في السكون والمكان النائي»[17].
4. نــــداء الأقاصــي
يأتي حديث الجثة، إذن لا ليوقع حضوره وكفى، ولكن ليؤشر على ترحل لا يقر له قرار، لأنه ترحَّل المسكونين برعب الموت وعذابات السؤال. يأتي «حديث الجثة» لا فقط لينضاف كتجربة أساسية داخل مشهديات المسلسل السردي الراهن، ولكن أيضا لينادي على رأس البعد أصوات من عبروا حدود الخطر داخل ليل الوجود، أصوات أنطونان آرطو الذي سافر بين الرغبة والألم؛ الرغبة في «عدم الموت في الموت، وعدم السماح للإله السارق بأن يجرده من حياته»[18]، والألم الفادح وهو يشق صرخته المدوية: «لفرط ما متُّ، فإنني قد انتهيتُ إلى حيازة خلود حقيقي»[19]. أصوات جورج باطاي هذا الذي انقادت تجربة الكتابة لديه، عبر مسارات متعددة، وبكيفيات مختلفة، نحو التمزق المطلق، نحو الإسراف الذي لا حدَّ له، نحو اللامعنى، والفقدان الكامل، نحو الموت»[20]. أصوات أبي حيان في إشاراته، والعطار في منطق طيره»، وجلال الدين الرومي في مثنويه، هناك حيث يُجَنُّ الموتُ ويتكَشَّفُ خواؤه الجليل.
ألا أيها المـوت السيَّار، ألا فلتُبْحِــرْ
إنَّا قد أضَعْنَـا الشِّــرَاع
——–
هوامـــــش
[1] حـديث الجثة، ص. 61.
[2] حديث الجثـة، ص. 64.
[3] حديث الجثـة، ص. 73.
[4] حديث الجثـة، ص. 93.
[5] Claude Lةvesque, L’étrangeté du texte, 1978, U.G.E. (10/18), Paris, p. 70.
[6] حديث الجثـة، ص. 12.
[7] مارتن هيدجـر، التقنية. الحقيقة. الوجـود، ترجمة محمـد سبيلا وعبد الهادي عباس، الطبعة الأولى، 1995، المركز الثقافي العربي، البيضاء، ص. 195.
[8] حديث الجثـة، ص. 10.
[9] René Girard, La violance et le sacré, 1972, éditons Grasset (Pluriel), p. 381.
كما يمكن العودة للترجمة العربية: رينيه جيرار، العنف والمقـدس، ترجمة جهاد هواش وعبد الهادي عباس، الطبعة الأولى، 1992، دار الحصاد للنشر والتوزيع، دمشق، ص. 278.
[10] Gilbert Durant, Les structures anthropologiques de l’imaginaire, 10ème édition, 1984, Dunot, Paris, p. 271-272, et Ruth Menahem, La mort apprivoisée, 1973, Editions Universitaires, Paris, p. 130.
وبالنسبة للترجمة العربية لمقطع جلبير ديران، راجع: جلبير دوران، الأنثروبولوجيا، رموزها، أساطيرها، أنساقها، ترجمة: مصباح الصمد، الطبعة الثانية، 1993، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ص.216-217.
[11] حديث الجثــة، ص. 20.
[12] حديث الجثــة، ص. 57.
[13] Robert Sasso, Georges Bataille: le système du non-savoir. Une antologie du jeux, 1978, Les Editions de Minuit (Arguments), p. 125.
[14] حديث الجثـة، ص. 60.
[15] حديث الجثـة، ص. 55.
[16] Claude Levesque, L’étrangeté du texte, op. cit., p. 35.
[17] Friedrich. Nietzsche, Le gai savoir, 1950, Editions Gallimard, (Idées), p. 101.
بخصوص الترجمة العربية، انظر: فريديرك نيتشه، العلـم المـرح، ترجمة وتقديم: حسان بورقية ومحمد الناجي، الطبعة الأولى، 1993، إفريقيا الشرق، البيضـاء، ص. 90.
[18] Jacques Derrida, L’écriture et la différence, 1967, Editions du Seuil,(Points), Paris, p. 342.
بخصوص الترجمة العربية، انظر: جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ترجمة جهاد كاظم، تقديم محمد علال سيناصـر، الطبعة الأولى 1988، دار توبقال للنشر، البيضـاء، ص. 76.
[19] المرجـع السابـق، الصفحـة نفسهـا.
[20] Claude Levesque, L’étrangeté du texte, op. cit., p. 96.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأربعاء 19-09-2012 09:19 مساء