1. مرجعيـــــات
ترى الرومانسية أن المهمة الجسيمة الملقاة على عاتق التربية تكمن في إدماج الطفل في عالم معين، والحال أن فكر الأنوار يصادر الأطروحة التي ترى أن التربية تجربة قائمة على التطبيع، وبالتالي فغايتها تتمثل في العمل الدؤوب من أجل إخراج كل الأطفال من العالم. كيف يمكن حل هذه المفارقة؟ لا شك أن حنا أراندت حاولت ذلك بأصالة وعمق نادرين.
تدخل نظرية التربية عند أراندت، عموما، في إطار الفلسفة السياسية الموروثة عن فكر الأنوار والرومانسية في آن واحد. فهي تقول، طبقا لفكر الأنوار، إن التربية تتبع خيطا ناظما تتمثل غايته النهائية في أن يتاحَ لكل فرد – مهما كان – أن يقتلع نفسه من التطبيع. بعبارات أخرى، تتيح التربية، في نهاية المطاف، لكل إنسان أن يخرج إلى حيز التطبيق قدرتَه على التفكير، وإصدار الأحكام وممارسة الأفعال بشكل ذاتي ومستقل.
فبفضل التربية التحرّرية يحقق الإنسان استقلاله الذاتي مستعملا عقله بحرية، مما يتيح له أن يـفلت من هيمنة التقليد، من عبودية التنشئة الاجتماعية ومن الأحكام القبلية. بذلك، وبذلك فقط، يمكن لكل إنسان أن يمنح وجوده الخاص معنى وشكلا. ترى أراندت، بإيجاز، أن ذلك هو الدرس العظيم الذي يمكن استضماره من عصر الأنوار.
مُتشبعة بالثقافة الرومانسية الألمانية ومتأثرة بعمق بالتجربة التراجيدية للمحرقة، تعود أراندت إلى النقد الرومانسي للذاتانية[1] الأنوارية نقطة بنقطة. يتمحور هذا النقد حَول مَسْألة القلب (renversement)، ويمكن صياغته على النحو التالي: إن الإنسانية الحديثة التي وضَّعتها الديكارتية[2] (أو اتخذتها موضوعة) وعضدّها فكر الأنوار، ترتكز أساسا على تأكيد جذري لقدرة الإنسان (القدرة على دحض الجهل بالعلم، والسيطرة على الطبيعة بالتقنية، وبناء المجتمع طبقا لفكرة الاستقلال الذاتي). غير أن هذا الإيمان المحتد بإرادة القوة لدى الإنسان، قاد مع ذلك إلى تجريد هذا الإنسان نفسه من إنسانيته، أي إلى فقدان القدرات الإنسانية الخالصة. لأن النزعة الذاتية الحديثة ترتكز على إنسانية مجرَّدة، فإنَّ تجريدَ الإنسان من إنسانيته يشكلُ أفقَ إمكانيتها الوحيد. ما أن ينطوي الفرد على نفسه حتى تنطفئ القدرات والطاقات البشرية على السَّواء، لأن هذا الانطواء لا يمكن أن يقود إلا إلى فقدان القدرة على التمييز بين المظهر والواقع، الوهم والحقيقة، ومن ثمة إلى فقدان حسّ الواقع. ومعنى ذلك أنَّ الإنسان لا يتفرد حقا (لا يقوى على التفكير، وإصدار الأحكام وممارسة الأفعال بشكل ذاتي مستقل) إلا إذا أثبت تعايشه مع الآخرين، وشارك في بناء عالم مشترك. بعبارة أخرى، لا يستطيع الإنسان أن يستقل ذاتيا إلا بفضل انخراطه من جديد في عالم طبيعي، في تقليد ما، في شكل اجتماعي خاص. لا يستطيع الإنسان أن يسبغ على وجوده معنى وشكلا إلا في إطار تعايش متقاسَم. ذلك هو النفس الرومانسي الذي يحرك، تارة ضمنيا وتارة بوضوح، فكرَ أراندت. هذا النداء للاندراج في تقليد جماعي، يجد تفسيره – وهذا طبيعي – عند أراندت، بتجربة الإبادة الجماعية التي تعرض لها اليهود.
2. الفعــل والتـربيـــة:
ترى أراندت أن التربية بمثابة شكل من الفعل ما لم تكن هي الفعل بامتياز. بيد أنه للإحاطة بخصوصية الفعل، لدى هذه الفيلسوفة، يجب تمييزه تمييزا صارما عن الصناعة (أو الفبركة). لنقل عموما إن الذي يصنع شيئا ما يكون له في الذهن مشروع ما، له نموذج أو فكرة. بهذا المعنى قد تكون الفبرَكة هي مجموع العمليات التي تتيح الوصول إلى المصنوع بشكله النهائي: مكتبة، أريكة، مِصباح، الخ…
ابتداء من اللحظة التي نفكر فيها بعبارات الفبركة، نفكر حتما بلغة الوسائل والغايات. وهذا التصور يقود إلى نتيجتين: من جهة، إذا كان الفعل يُتصَوَّرُ حسب نموذج الفبرَكة، فإنه يُختزل تلقائيا إلى تقنية، وبذلك يكون هو مجموع الوسائل التي تتيح الوصول إلى نتيجة. هناك بعض الباحثين ينتقلون بسهولة إلى القول بأن الغاية تبرر الوسيلة. لا يهم مبدأ الحفاظ على الأشياء، معيارُ الفعالية هو الذي يحظى بالهيمنة. من جهة أخرى، الفعلُ عملُُ عنيفُُ، على غرار الفبرَكة. فصانعُ المكتبة يحرِّفُ الخشبَ فاعلا فيه كي يَفرض شكل المكتبة، وكل شيء في يديه لا يعدو مجرَّد مواد ولوازم. والتفكير في التربية بهذه العبارات لا يمكن أن يؤدي إلا إلى تبرير العنف باسم الفعالية والنتائج.
ترى أراندت أن هذا التصور للفعل على نموذج الفبرَكة ينطوي على مشرورع كلياتي منحرف، لأنه يقود حتما إلى تصور المجموعة البشرية موضوع الفعل التربوي والسياسي باعتبارها نوعا من المواد واللوازم التي يستطيع رجل الدولة أن يصوغها ويشكلها تبعا للمشروع الذي يهمه.
وبذلك يُختَزَلُ المواطنون إلى مجرد مادة قابلة للمعالجة والسيطرة، بل أسوأ من ذلك يختَزلون إلى شبه حيوانات قابلة للاستغلال والتدجين.
تدرج أراندت تصورها للفعل (السياسي أو التربوي) ضمن مسعى يرمي إلى إرساء قطيعة مع فكرة الفبرَكة. فهي تدافع عن الأطروحة القائلة بأن الفعل السياسي أو التربوي ليس بأي حال من الأحوال مجموعة من التقنيات التي تتيح تحقيق مشروع ما. وبالمقابل فهو نمط للوجود له غايته في حدّ ذاته. بتعبير آخر، يُشكل الفعل السياسي أو التربوي طريقة خاصة في الوجود داخل العالم.
يرتكز هذا التعريف الأصيل على تصور نوعي للشرط البشري الذي يتميز في رأي أراندت بخاصيتين أساسيتين هما الولادة والتعدد.
أ – عـن الـولادة:
ترى أراندت أنَّ الوجود البشري وجُودُُ مُنتهٍ، بمعنى أن له بداية ونهاية، تحيط به ظاهرتا الولادة والموت. ومعلومُُ أنَّ أراندت كانت واحدة من تلاميذ هايدغر الذين يحظون بتقدير خاص، وأن هايدغر يرى أن الموتَ، الكائن من أجل الموت، هو الأفق الجوهري للوجود كما للفكر الأصيل. في حين ترى أراندت أنَّ الولادة هي الأخرى أساسية وتأسيسية مثل الموت. بتعبير آخر، إن الشرط البشري لا يطبعه الموت وحدَه، بل وتطبعه الولادة أيضا. ومن ثمة، فإن تأويلا خاصا للولادة يفرض نفسه.
إجمالا، يعني شرطُُ الولادة أنَّ الإنسان يجيء إلى العالم، أي يظهر طفلا في عالمٍ يكون دائما عالم أقدم منه، ثم يبدأ فيه شيئا ما[3]. بولادته، يُدخِل الإنسانُ الجدَّة والمبادَرة في عالمٍ تكسو وجهَه تجاعيد الشيخوخة. إنه كائن مفرَد، غير مكتمل، غير متوقَّع. لذلك فهو مُدرَكُُ وليسَ ظاهرة. لا يمكن للبالغين أن يتحكَّموا في وجهَة الطفل وقدرته علىالتجديد، رغمَ إمكان تعرضهما [الوجهة والقدرة] للتحطيم من قِبَل تربية سيئة التصور. وبذلك، يمكن القول إنَّ عالما يقيس كل شيء بمقاييس الفبرَكة، ويُرجع كل ظاهرة إنسانية أو طبيعية إلى «شيء» يمكن استنتاجه من مشروع ما، ويعتبر بكل وثوق بأنه بالإمكان التحكم في كل شيء… ذلك العالم هو حتما عالم يحيى داخل نسيان الولادة. إنه يجهَل شغف ظاهرة الولادة باعتبارها بداية مطلقة يفلت زمام التحكم في نتائجها (حياة الطفل ومستقبله) من أيدي الآبـاء[4].
ب – عـن التعـدّديـة:
ترى أراندت أن الشرط البشري هو مجال نشاط لظاهرة التعددية، أي ظاهرة كون الحياة البشرية هي أساسا حياة جماعية أو مشتَرَكة لأن المرء لا يمارس أفعاله بمعزل عن الآخرين. فإذا كان بإمكان الفنان أن يعتزل بأجهزته ومواد عمله، فإن الفعل السياسي أو التربوي يشترط دائما حضور الآخرين باعتبارهم طرفا فاعلا أو موضوعا لهذا الفعل. لذلك كان هذا الفعل يمر ضرورة عبر الكلمة. لا يمكنني أن أفعل ما لم أخاطب الآخرين. وبتواصلي معهم، على هذا النحو، أثير لديهم ردود فعل متعددة إلى ما لانهاية، تفلت مني كليا، ولو أني أتحمل مسؤوليتها. أنا مسؤولُُ ما دمتُ أبدأ شيئا ما. لكنني أيضا مُنفعل حليم، لأنني أتحمل النتائج السارة أو السيئة. أنا مسؤول عن شيء يحدُثُ («يجيء إلى العالم»، «يولد»).
3. جَوْهَــر التـربيـة:
تصوغُ أراندت بصرامة وعمق كبيرين نظرية للتربية تلتقي في أسسها وتوجهاتها مع تصورها للشرط البشري عامة ومع تحليلها للفعل على الخصوص. وعليه، فإن التربية والفعل يرتبطان بظاهرة مركزية واحدة هي الولادة: «جوهر التربية الولادة، ومعنى الولادة أن تزداد كائنات بشرية في هذا العالم»[5].
حول ماذا تدور هذه النظرية؟
يمكن أن نتخيل الأطفال وقد دُعُوا للمشاركة في الحياة السياسية. لقد نقلت الثورة الفرنسية مشروعا للتكوين يرمي إلى تحقيق هذا الهدف. وبناء على هذا التصور، يمكن اعتبار المدارس بمثابة أشكال للجمهورية منظمة ذاتيا، يمتلك الأطفال داخلها إمكانية التكوين الذاتي، ما لم يمتلكوا إمكانية الحكم الذاتي. (راجع مشروع ما يسمى بالبيداغوجيات اللاتوجيهية، وهو مشروع مغامِر وساذج بشكل يدعو للأسف).
تعترض أراندت بقوة شديدة على أنظمة «الحكم الذاتي»، وتصوغ في المقابل نظرية أصيلة إلى حد بعيد، لكنها تدعو للاستغراب. تعلن هذه النظرية عن نفسها على النحو التالي: التربية مُحافظـة بجوهرها، وكل تربية ليست محافظة هي رجعية بالتأكيد. غير أن بعض التوضيحات تفرض نفسها لإبعاد كل تلق مغلوط لعبارات ح. أراندت. في العمق، إن التربية لا يجب أن تكون محافظة بالمعنى الاجتماعي للكلمة، ووظيفتها لا تتمثل في تمتيع النخب بإمكانية الحفاظ عى سلطتها أو امتيازاتها.
ومع ذلك يجب على التربية أن تحافظ على إرث المعرفة والتجربة المنحدر من الماضي وتنقلـه إلى الأجيـال الجديـدة. ولتحقيـق
هذا يجب السهر على مراعاة المبدئين الأساسيين التاليين:
1. لا يجب أن يشكل الأطفال مجموعة معزولة، أي مُبعَدة عن البالغين، مدعوة بسذاجة إلى ممارسة الحكم الذاتي. حقا تتمثل الغاية الأساسية للتربية في جعل الأطفال يبلغون نضج الكائنات الفاعلة، غير أنه لا ينبغي اتخاذ هذه الغاية النبيلة ذريعة لإناطة الأطفال بمسؤوليات منذ سن مبكرة. عكس ذلك، ترى أراندت أنه يجب، بالأحرى، وقاية الأطفال من الدخول المبكر لمستلزمات الحياة «العامة». وهذه الوقاية لا تتحقق إلا عندما ننشيء الأطفال في جو منزلي آمِن، ونضمن لهم الانتقالَ التدريجي من الحياة (العائلية) الخاصة إلى الحياة (الاجتماعية) العامة – السياسية والاجتماعية – وسط المدرسة باعتبارها مؤسَّسة وسيطا. ولأن هذه الوسيلة محفوفة بأقل عدد من المخاطر والمزالق، فإنها تظل الطريقة المضمونة لـ احترام الطفل داخل الطفل من خلال تمتيعه بوَقتٍ ليكبُر: «ما من حياة – وليس الحياة النباتية فقط – إلا وتنبجس من الظلام. ومهما بلغت قوة ميلها الطبيعي إلى النور، فإنها تحتاج على الأقل إلى أمن الظلام لكي تنضج»[6].
أما خلقُ حياة سياسية زائفة داخل الفصل، من خلال تمتيع الأطفال بنوع من الحكم الذاتي، فهو طريقة في إجبارهم منذ طور مبكر على ممارسة أفعال على مرأى من الجميع. هو أيضا طريقة في حرمان الطفل من «حياته الخاصة» واعتباره راشدا صغيرا، الأمر الذي يشكل ظاهرة مفارقة في عصرنا هذا الذي تتعالى فيه أصوات المطالبة بمنح الطفولة وضعا اعتباريا خاصا. إدخال الطفل في الحياة السياسية هو تعريضه حتما لضغوطات لم يمتلك بعد القدرة على تحملها، ونعني بها إكراهات الجماعة، أي الأغلبية، علما بأنه يصعب على البالغين أنفسهم تحملها. هو أيضا نوع من العزل للطفل داخل مجموعته وحرمانه من الارتباط بعلاقتين طبيعيتين مع البالغين، وهما علاقتي التعليم والسلطة اللتين تتيحان له أن يكبر.
ينتابنا الانطباع بأن حنَّا أراندت تسائلنا عندما تدعونا إلى وقاية الطفل من الشيخوخة المبكرة التي يمكن أن تنشأ من اتصال بالحياة العمومية سابق لأوانه. يبدو أن ما تقوله أراندت لنا هو: الطفل كائن في صيرورة، فلنترك له وقتا ليكبر.
2. يجب على التربية أن تكون محافِظة بمعنى ثان. إنها محافظة لكونها ترتبط بالفعل. عليها أن تتيحَ للأجيال الجديدة العثورَ على مكانهم في العالم لكي يبدأوا فيه شيئا ما. لهذا، يجب على المربِّي أن يحس بأنه «مسؤولٌ عن العالم»، عليه أن يصفه كما هو، ويـضطلع بواقعه [العالم]. يجب عليه أن يعلم الأطفال، يَعرض عليهم، يصف لهم عالما هو دائما عالمٌ أكبر سنا منهم، ودائما أقدم منهم. مهمته الأساسية هي أن ينقل لهم معرفة وتقليدا يشكلان الميـراث الوحيد الذي تملكه الأجيال الجديدة.
لا يستمد المربِّي سلطته إلا من اضطلاعه بمهمة مزدوجة هي: أن يرجع إلى الماضي، ثم أن يكون مسؤولا عن العالم[7].
ومع ذلك فإن السؤال التالي يطـرَح نفسه: ألا نحرم الأطفال من قدراتهم على التجديد عندما ننهمك في مَدِّهم بمعرفة وتقليد موروثين من الماضي؟
ترى أراندت أن المربِّي، بتصرفه مع التلاميذ على هذا النحو، يصون القدرة على التجديد لأنه يعرض أمامهم حقل فعلهم المستقبَلي دون أن يدَّعي امتلاك ما يقول حول ما سَيكُونه هذا المستقبل ولا حول ما يجب أن يكون عليه. وعندما يقدِّمُ لهم العالم كما هو، أي كما صارَ، فإنه يتيح لهم أن يأخذوا مكانهم في هذا العالم نفسه. عندما لا يحشر المربّي نفسه في التجديد محلَّ التلاميذ مضطلعا بمسؤولية التقليد، فإنه لا ينوي الحفاظ على العالم كما هو وإنما يتيح للأطفال (للقادمين الجدد) أن يكملوا هذا العالـم.
4. خـلاصـــة:
يتأسَّسُ الفعلُ ومسؤولية التربية على إيصال ميراثٍ من المعرفة والعمل في آن واحد. لكن ماذا تفعل البيداغوجيا الحديثة؟ جواب أراندت هو أنها تخون تلك القدرة على التجديد التي تحملها الأجيال الجديدة لأنّ هذه البيداغوجيا مُصابة بـهوس التطابق مع الجدَّة، بهذا العشق المبدَى إزاء كل جديد، والمرتبط باحتقار ما هو تقليدي. وعندما ينظر المربي إلى الماضي باعتباره ميتا وينظر إلى كل تقليد باعتباره مُتجَاوَزا لمجرد أنه تقليد، فإنه يقترف خطأ مزدوجا:
فهو، من جهة، يرفض الاضطلاع بمسؤولية العالم، ويتصرف بموجب نفوره وتقززه الشخصيين أو شكوكاته الخاصة معرضا – على هذا النحو – للخطر حظوظَ الأطفال في أن يحتلوا مكانتهم الخاصة ويمارسوا أفعالهم بكامل الاستقلالية: «… يجري الأمر وكأن الآباء يخاطبون أبناءهم في كل يوم قائلين: “في هذا العالم نفسه لسنا في مأمَنٍ داخل بيتنا. كيف نقتات؟ ماذا نعرف؟ أي لغة نكتسب؟ تلك ألغازُُ بالنسبة لنا. حاولوا جُهد المستطاع أن تخرجوا سالمين، وفي جمع الأحوال ليس لديكم ما تحاسبوننا عليه. فنحن أبرياء، إننا نفض أيدينا مما ينتظركم»[8].
ومن جهة أخرى، عندما يزعم المربِّي بأنه دائما في مقدمة التجديد، فإنه يحل نفسَه محلَّ التلاميذ في التجديد. والحقيقة أن هذا المشروع مستحيل – تقول لنا أراندت – لأن المدرسة دئما متأخرة عما يدور في العالم (في جميع الميادين: العلمية، والسياسية، والثقافية…). كذلك، تصير التربية رجعية. والمربي الذي يحتقر الماضي مُقدِّسا الحداثة، جاعلا لها الكلمة الأولى والأخيرة، يفرض على الأطفال فكرته الشخصية حول التجديد، وهي فكرة تبقى على كل حال أشد قدما من الأطفال أنفسهم، لأن التجديد هو جوهر هؤلاء. ويؤول به الأمر إلى استحالة التدريس بالنسبة له، لأن كل المعارف تقليدية. كما أنه يحرم الأطفال من قدرتهم على التجديد لأنه يدعي ابتكار الجدة عوضا عنهم.
ترجمة: محمد أسليـم
***
ببليوغـرافيــا
1 – Sources:
– Arendt, H.,
1972, La crise de la culture, Gallimard, Folio ( La question éducative).
1972, Le système totalitaire, Seuil, Points (action politique et domination)
1994, Contribution de l’homme moderne, Pocket (Fondamental).
1996, La tradition cachée, Bourgeois (Judaïté et Lumières).
2 – Commentaires:
– Amiel, A.,
1996, Hanna Arendt: politique et événement, PUF.
– Canivez, P.,
1995, Eduquer le citoyen, Hatier.
– Estin, J.-C.,
1996, Hanna Arendt, l’obligée du monde, Michalon.
– «Hanna Arendt», 1985, Etudes phénoménologiques, T. 1, N° 2.
– «Politique et pensée», Colloque «Hanna Arendt», Payot, 1996.
– Roman, J.,
1990, «Hannah Arendt: l’éducation entre privé et public», in L’éducation: approches philosophiques, PUF., p. 211-225.
– Rosenberg, H., 1964, La tradition du nouveau, Minuit.
———
هوامـش
[1] مذهب فلسفي يقيِّم المعرفـة كلها على أساس الخبرة الذاتية. (م)
[2] فلسفـة ديكـارت وأتباعـه المسمـاة بالعقـلانيـة. (م).
[3] لابد من الإشارة إلى أن أراندت تحدد الفعل بالقدرة على مبادرة بدء شيء ما. وقد استلهمت هذا التحديد – للفعل باعتباره قدرة على البداية – من القديس أوغسطين الذي أكد في «مدينة الله»: «لكي تكون هناك بداية في العالم، فقد خلق الله الإنسان». راجع:
– Arendt, H., 1972, Le système totalitaire, Seuil, Points, p. 232.
[4] يعقد ليفيناس مقاربة فينومينولوجية مشابهة لتجربة الخصوبة ومغايرة الابن الجذرية، وذلك ليبين أن في هذه المغايرة من القوة والعمق ما يجعل من المستحيل على الأب أن يُخضع ابنـ (ه) لمقولتي القدرة (pouvoir) والامتلاك (avoir). راجع:
– Levinas, E., 1983, Le Temps et l’Autre, PUF, p. 85-89.
[5] Arendt, H., 1972, Crise de la culture, p. 224.
[6] Ibid., p. 239.
[7] في الاتجاه الفينومينولوجي نفسه يركز الفيلسوف جوناص على المسؤولية المشتركة بين الآباء والساسة تجاه الأبناء والمواطنين. راجع مؤلفه العميق:
– Jonas, H., 1998, Le principe responsabilité, Flammarion, p. 193-260.
[8] Ibid., p. 245.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الجمعة 14-09-2012 12:40 صباحا