|الرباط – من رضا الأعرجي
تتنوع أعمال الكاتب المغربي محمد أسليم لكنها تظل تدور حول اهتمامه الأثير: السحر، من منطلق تخصصه كباحث في إثنولوجي. وقد وضعته دراساته وترجماته في مقدمة المعنيين بهذا المجال، سواء في المغرب أو في العالم العربي.
حصل أسليم «مكناس 1960»،على الإجازة في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط عام 1983، وعلى الدكتوراه من مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس عام 1990، وكان موضوع أطروحة «السحر
في المغرب الراهن»، وعمل أستاذا باحثا في قسمي الترجمة واللغة العربية بـ «المدرسة العليا للأساتذة» بمكناس، قبل أن ينتقل للعمل في «المركز الوطني لتكوين مفتشي التعليم» في الرباط. والى جانب مؤلفاته الدراسية «ذاكرة الأدب في الشعر والرواية والمسرح» و«الكتابة والموت» و«الإسلام والسحر»، أصدر عددا من النصوص السردية منها «حديث الجثة» و«كتاب الفقدان» و«سفر المأثورات»، إضافة إلى ثلاث روايات هي «بالعنف تتجدد دماء الحب» و«قربانيـات» و«رقصة باخوس»، عدا ترجماته الغزيرة التي تناولت موضوعه الأثير: السحر، وقضايا الفرنكوفونية
والتعريب واللغة والتراث والحداثة
وغيرها من القضايا التي تشغل اهتمام الباحثين والمفكرين. التقت «الراي» محمد أسليم، وكان هذا الحوار:
• يصعب الإمساك بمحمد أسليم فهو باحث إثنولوجي وكاتب وروائي ومترجم وأحد أبرز المعنيين بالنشر الالكتروني في المغرب. كيف تصنف نفسك؟
أعمل خارج التصنيفات. الوصول إلى الإثنولوجيا كان من الأدب بغاية تعميق بحث في موضوع «ظاهرة السحر بالمغرب»، وتوظيف أدوات من خارج الحقل الأدبي، وفكرة الترجمة تولدت أثناء إعداد رسالة جامعية لتمكين قرائي المحتملين من الاستفادة من شطر ما استفدت منه، من جهة، ولتعميق تكويني من خلال العودة المتأنية لجملة من النصوص التي بدت لي مهمة، من جهة ثانية.
أما نشاط الكتابة، فتولد من حاجيات داخلية للتعبير عن الذات، لكن أيضا لتوظيف المقروء في حقول الجنون والموت والتحليل النفسي بالخصوص، في حين ترتب الانشغال بالثورة الرقمية وانعكاساتها على تدوين المعلومات ونقلها كما على الهوية والكتابة الأدبية، ترتب عن سعي لفهم التحولات الكبرى التي تجريها هذه الثورة المؤذنة بنهاية حضارة وبداية أخرى جديدة مختلفة كليا عن سابقاتها، هذه التحولات التي باتت تطال يوما عن يوم حياتنا اليومية في أدق تفاصيلها.
• ما هي الإضافات أو القيمة المضافة للبحوث الإثنولوجية المغربية والعربية؟ وهل تبلور حتى الآن مشروع في هذا المجال يمكن أن يصلنا بالمنجز العالمي؟
باعتبار الإثنولوجيا نشاطا معرفيا يتولد عن اللقاء بالآخر المختلف عن الذات في رؤيته للعالم وتنظيمه للمجتمع وقيمه الثقافية ومؤسساته الرمزية، فجذورها تمتد إلى المؤرخ الإغريقي هيرودوت والرحالة العرب المسلمين، ولكن نشأته كحقل معرفي علمي تبقى حديثة نسبيا وتقترن بالتوسع الأوروبي في الكوكب على إثر اكتشاف الآلة البخارية والفحم الحجري والمد الاستعماري المترتب بدوره عن الثورة الصناعية وما ولدته من حاجة لتسويق ليس البضائع فحسب، بل وكذلك الدين والقيم.
بصرف النظر عن الحمولات الايديولوجية والقبليات النظرية الممثلة لمرحلة من مراحل تطور الفكر الإثنولوجي والمهيمنة على كتابات الحقبة الكولونيالية حول المجال العربي الإسلامي وغيره، فتلك الأعمال تظل أهم ما تم إنجازه حول هذه المجتمعات؛ فقد عرف هذا الحقل المعرفي نكسة كبيرة في البلدان العربية بعد استقلالها بحيث لا جدوى من المقارنة بين الكتابات الإثنولوجية الكولونيالية ونظيرتها العربية، بسبب وجود العلوم الاجتماعية عموما في بلداننا في مرمى سهمين: سهم الدول التي تهمش هذه العلوم تهميشا مُضاعفا: تهمشها لعدم الرغبة في معرفة الذات (يقال عنا إننا شعوب لا ترد معرفة نفسها)، وتهمشها للقطيعة غير المبررة المرساة بين حقلي السياسة والبحث العلمي عموما.
أما السهم الثاني، فهو سهم فكر سلفي يُدرج العلوم الاجتماعية عامة ضمن ما يخرج عن الدين؛ هكذا نجد كلاما عن تحريم علم الاجتماع والتحليل النفسي والأنثروبولجيا، وفي المقابل يتم الحديث عن علم اجتماع إسلامي وإناسة إسلامية على غرار ما يجري الفصل في حقل الكتابة بين أدب إسلامي وآخر غيره.
ما سبق لا ينفي بتاتا وجود نخبة من الباحثين العرب الجامعيين أنجزت بحوثا إثنولوجية قيمة، ولكن هذه الأعمال تأتي ثمرة جهد فردي وتكوين غربي عموما، ومن ثمة فهي لا تخلف صدى يُذكر في محيطها. بهذا المعنى يصعب الحديث في الوقت الراهن على الأقل عن وجود مشروع إثنولوجي مغاربي أو عربي يُنادِدُ المنجز العالمي.
الإنسان الساحر
• كتبت وترجمت الكثير عن السحر، بماذا تفسر ظواهر مثل «شريف الصخيرات» في المغرب و«الدكتور الهاشمي» في الخليج وهذا الإقبال على السحرة ومن يتعاطى الطب الشعبي تحت مسميات مختلفة؟ وهل نحن في الطريق إلى ردة بدائية؟
مثل هذه الظواهر كانت موجودة على الدوام ولا شك في أنها ستدوم لوقت طويل لاعتبارين على الأقل: الأولُ كونُ السحر من الظواهر الكونية الملازمة للإنسان في كل زمان ومكان. في هذا الصدد، ثمة من لا يتردد في إدراج السحر ضمن المكونات التعريفية للإنسان نفسه، فيقول homo-magus (الإنسان الساحر) على غرار الـ homo-spiens (الإنسان العاقل، الإنسان المفكر)، والثاني عجزُ العلم والعقل عن تفسير الكثير من الظواهر وعجز الطب عن علاج العديد من الأمراض وفك لغز المرض والموت.
إذا كان أشخاص مثل هؤلاء قد أحرزوا على شهرة واسعة اليوم، فذلك يعود أساسا إلى الانفجار التواصلي الذي يطبع وقتنا الراهن بالإضافة إلى كثرة التنقلات وسهولتها. في الماضي كانت الوسيلة الوحيدة للدعاية لهذا الساحر ـ المطبب أو ذاك هي حكيُ أفعاله ومنجزاته عبر قناة «من فم لأذن». ووجود مثل هؤلاء الناس يجد تفسيره في تلبيتهم لحاجيات اجتماعية ونفسية؛ لا وجود لساحر أو مطبب تقليدي دون تزكية من المجموعة الاجتماعية وقبولها إياه.
الساحر، كما يقول مارسيل موس، هو الشخص الذي يظن أنه ساحر ويقدم نفسه للجماعة بهذه الصفة في الوقت الذي تصدقه الجماعة وتقبل منه أن يؤدي هذه الوظيفة. وإقبال الناس على هذا النوع من الممارسات يجد تفسيره في قبول السحر والخفي عموما التدخل، عبر التفسير والفعل، في ما لا يقبل العلم والعقل والطب العصري التدخل فيه. السحر ملاذ أخير للإنسان بصرف النظر عن دينه وبيئته وثقافته.
من الصعب جدا اعتبار إقبال الناس اليوم على السحر والخفي عموما نوعا من الردة أو العودة إلى الوثنية إذ لا يوجد خط دقيق فاصل بين الدين والسحر؛ في الدين دائما شيء من السحر وفي السحر شيء من الدين. ثم إن ما يمكن تسميته بـ «السحر العربي الإسلامي» الذي يمتح منه مجموع مزاولي السحر في الوطن العربي تقريبا، هذا السحر عرف جيدا كيف يستثمر جملة مكونات من الدين الإسلامي ليُشَرْعِنَ ممارساته ويُسبغ عليها حلة دينية، سواء على مستوى صياغة ما يُسمى بـ «أساطير الأصول» و«البنية المعرفية» لهذا السحر التي يفسر بها كيفية مجيئه إلى العالم ويبرر، من ثمة، وجوده وتدخلاته أو على صعيد الطقوس والتدخلات التي يُنجزها لتغيير مجريات الأمور لفائدة هذا الفرد أو ذاك ممن يلوذون به.
في هذه الأساطير يُقدم السحر باعتباره يتحدر من أصل مزدوج: شيطاني ورباني. لا ولن يزعم أي «ساحر» أنه يزاول أعمالا شيطانية، بل وعلى مستوى التسمية نفسها لا يتسمى أي مزاول للممارسات الخفية بـ «الساحر»؛ في المغرب يقدم نفسه باعتباره «فقيها» أو «طالبا» وفي المشرق يعرض نفسه باعتباره «شيخا». وعلى صعيد فروع السحر نجد: «سحر خواص حروف اللغة العربية»، و«خواص الآيات القرآنية»، و«خواص السور القرآنية»، و«علم الرمل» الذي ينسب نفسه للنبي إدريس عليه السلام، الخ.
هذه المكونات تعتبر بمثابة صرح كبير تعاون على بنائه، وعلى مدار قرون، أعلام كثر مثل البوني والمجريطي وإبراهيم بلحاج والديربي ونور الدين الزناتي والأنطاكي وغيرهم. ولولا حفظ هذا الميراث وتناقل الأجيال إياه لما كان للسحر وجود بيننا اليوم.
• تقودنا هذه الإجابة إلى الظواهر والبنيات والرموز التي مازالت تؤثر في مجتمعاتنا. ترى من يمسك بآليات التحكم بها وتثبيت استمراريتها؟
يجب الاحتراز من اعتبار شؤون الخفي ظواهر وبنيات ورموزا تختص بها مجتمعاتنا العربية دون غيرها؛ فهذه النظرة تنطوي على مجازفة مٌزدوجة: مُجازفة اختزال السحر إلى مظهر من مظاهر التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ثم مُجازفة الوقوع في أسر النظرة التطوّرية التي صاغها أوغيست كونت في حقل علم الاجتماع بقوانينه الثلاثة (اللاهوت، الفلسفة، العلم)، والتي لها مدرسة في الإثنولوجيا بالاسم نفسه، وترى أن المجتمعات والثقافات تسير في خط تطوري متماثل يمضي من البسيط إلى المعقد، من المتخلف إلى المتطور، حيث تمثل المجتمعات الغربية أعلى درجات التطور في حين يوجد غيرها ـ وضمنه مجتمعاتنا ـ في نقطة متخلفة.
القول إن هذه الظواهر والرموز «مازالت تؤثر في مجتمعاتنا» يُضمر ظنا في أنها لم تعد تؤثر في المجتمعات الأخرى (الغربية والمتقدمة عموما)، والحال أن هذه المجتمعات بدورها مازالت غارقة حتى النخاع في الإيمان بالمعتقدات السحرية والخفية التي تروج أموالا ضخمة وتشغل قطاعات كبيرة للإعلام والنشر. بل لا يُستبعد أن يكون لهذا الانتشار تأثير في المجتمعات العربية بحكم تقليد الغالب للمغلوب وتقليده إياه وتشبهه به على نحو ما أظهر ذلك ابن خلدون في مقدمته.
وما قيل أعلاه عن كونية السحر يصدق أيضا على الرموز التي يُدرجها إرنست كاسيرر ضمن المكونات التعريفية للإنسان نفسه حيث يعرفه باعتباره «حيوانا مُبتكرا للرموز». لا يخلو مجتمع واحد قديم أو حديث من السلوكات الرمزية. بل ثمة ميل لدى بعض العلماء أنفسهم على نحو ما أظهر ذلك جان لاسين في دراسة له تحت عنوان: «ما الرمز؟» إلى «تفسير نتائج علمهم حسب رمزية دينية (عندما يُفسَّر نظام الطبيعة الفيزيائية أو العضوية باعتباره علامة على كمال الألوهية الخلاقة».
سرَ تأثير الرموز يكمن في النفس البشرية، والساحر الجيد هو من ينجح في ترميز معاناة من يلوذ به. في هذا الصدد أظهر ليفي ستراوس في دراسته الشهيرة «الفعالية الرمزية» وجود تطابق شبه تام بين آليات اشتغال الرمز وقدراته العلاجية في التحليل النفسي، باعتباره علما وضعيا، وحصة علاجية سحرية لإحدى قبائل الهنود الحمر بأميركا الجنوبية.
عندما تلوذ بالفقيه أو العرافة فتاة مغربية أو جزائرية طالت عنوستها، فحل المشكلة يتم عبر تجسيد الشر «المسؤول» عن هذه العنوسة في قربان يتم ذبحه، أي استئصاله رمزيا، ثم عبر إجراء مجموعة من الطقوس، تمتد من الغسل فالحناء فالتزين فالتطيب، الخ.، تُنجز العرَّافة للعانس عُرسا رمزيا يمكن أن يقود إلى زواج فعلي.
صدر في صحيفة الرأي:
http://www.alraimedia.com/Alrai/Article.aspx?id=40318
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الثلاثاء 18-09-2012 08:53 مساء