“تكاد الطوباوية تكون دائما خطأ” (ر. روبير)
“لأن الصهيونية إيديولوجية للرجعية والضغينة بمعناها عند نيتشه، فقد زعمت أنها تمتلك الوجه الوحيد الأصيل لليهودية، الكلمة الحقة الوحيدة التي يمكن أن تنبثق منها (اليهودية)” (إدموند عمران المليح)
رغبة الشرعية والشعور بالذنب:
احتفلت إسرائيل مؤخرا، على دقات الطبول، بعيد ميلادها الخمسين، كل وسائل الإعلام الدولية، أو تقريبا، رددت الصدى عبر النقل مباشرة، وأشرطة وثائقية، وأفلام بطولية، ونشرات خاصة وأمسيات أخرى أفردت للموضوع نفسه. لم يسبق أبدا لدولة مماثلة بهذا القدر أو ذاك، في أعين التاريخ، أن حظيت في عيد ميلادها بمثل هذا الاهتمام الدولي. سيقول المتسرعون في إبداء الرأي، مرة أخرى، كعادتهم: هو الكيل بمكيالين. بيد أن هناك ما هو أكثر: وراء الملحمة الخمسينية التي يصرون على ترديدها على مسامعنا ثمة شيء لا تاريخي يرتسم بين الثنايا. هناك نوع من ال”باطوس” في عبير الزمن. نهاية هذا القرن – يجب أجهاد النفس في قراءته وتفسيره باعتباره علامة عرضية. لقد صرف القرن XIX وقته في تفسير أسطورة المعجزة الإغريقية، فلماذا لا يجهد القرن العشرين نفسه في المحاولة ذاتها، لكن هذه المرة مع المعجزة الإسرائيلية ؟
يترك هذا التخليد – الإجماعي، وآه كم هم المجمعون عليه ! –شكا يحوم: ماذا لو كان فيما وراء هذا الإجماع الدولي في الواجهة، يسعى بالأحرى إلى إغراق السمكة، إلى تجميل مبالغ فيه لصورة الشجرة التي تخفي ليس الغابة (لأن مثل هذه الاستعارة ستكون روائية وغزلية بشكل ساذج)، وإنما غابة مقلقة.
كان عقودا خمسة لوحدها كانت كافية لخلق حدث مع ضمان ديمومته عبر إدخاله في التاريخ الكوني للأمم من الباب الواسع الذي يظل، للأسف، موصدا في وجه آخرين.
هكذا يجري السعي بهذه الضجة إلى شرعنة وجود دولة تأسست، منذ الإعلان عن قيامها التي تحوم حوله الكثير من الأسئلة، على العنف والإقصاء وسياسة الأرض المحروقة (لبنان) والأرض المحتلة و/أو المستعمرة (الجولان، الضفتين، القدس).
خمسون سنة إذن مضت على وجود مضطرب، موقع بالحرب، والعنف وازدراء الآخرين، جميع الآخرين: الغوييم (1)، وغير اليهود الذين يجسد الفلسطينيون ويبلورون في آن واحد صورتهم النمطية في أعين المحتلين. ليؤسس الإسرائيليون دولتهم، ويغذونها ويضمنون استمراريتها وديمومتها، فقد اضطروا، بجميع حساسياتهم وفي غمرة انتشاء الصهيونية المنتصرة، إلى فتح جبهة مشتركة متحدة يلحمها الانتماء العرقي وترسخها المرجعية الدينية. وبما أن الغرب كان قد خرج بالكاد من الكابوس النازي –مع بقائه موسوما دائما بأحاسيس الندم على ذنبه في عملية تصفية يهود أوربا- فقد ترك نفسه ينساق، لأسباب عيادية وعلاجية واضحة (ليست الجيو-استراتيجية في الحقيقة سوى استيهام للعمل السياسي)، مع موجة التعاطف التقارب- الصهيوني التي كانت تنتشر في العالم آنذاك. وهذا الانسياق كان تارة فاعلا وتارة منفعلا، لكن دائما بدون ضمير.
هكذا، كانت الرعاية التي شملت بها إسرائيل من القوة والرسوخ بحيث لم يتردد البعض منذ بضع سنوات في القول بأن الدولة العربية ليست شيئا آخر غير قلب الغرب مزروعا في جسد من الشرق، ليس شيئا آخر غير الحضارة وقد انبثقت من محيط همجي، ليس شيئا آخر غير الديمقراطية، وقد ظهرت فجأة –وبأية طريقة!- في فيافي الاستبداد الشاسعة. وعصارة القول: إن اسرائيل هي تجسيد الحداثة المنقذ داخل عالم عربي مستعبد، يتداعى تحت عبودية النزعة التسلطية وتقليد القديم والتخلف. ويرى البعض أن هذه الكليشيهات لم تعد تشكل سوى لغو عام يستدعي تحليلا نقديا بدون تنازل ولا محاباة.
ضـد النسيـان:
لا تريد هذه الأسطر إعادة مجموعة من الترسيمات المقبولة التي طالما زخرفت الخطاب العربي التقليدي حول المسألة الشائكة المتعلقة بشرعية الدولة الإسرائيلية. فمن شأن ذلك أن يلقي على مقاربتنا بظلال الشك السابق نفسه، وهو شك المسلك الأناني المتمركز عرقيا الذي يؤاخذ عليه الآخرون، منذ عهد قريب، ودائما. لنكف عن ترديد نفس الأحكام المسبقة ولنضع حدا لهذا الهوس الخسيس الذي تجيد صياغته جميع أشكال التعصب على نحو عجيب، ومداره توحيش الخصم، مهما كلف الثمن، لا لشيء سوى لكونه لا يشاطرنا نفس نظرتنا للعالم، ولا يسبغ على الأشياء المعاني ذاتها التي نسبغها عليه… بدل ذلك، يجب علينا أن نقدم الدليل على النضج الفكري والأخلاقي والتفنن في الإقناع والاقتناع بكل ما يقوم على الاستدلالات المتماسكة والبراهين المؤيدة بالوقائع. فليأت إذن عصر العقل ! في هذا الحقل الملغوم بالشكوك، بسوء التفاهمات وبما لا يقال، يجب كل لبس. على الرغم من كل الاعتراضات التي يمكن تقديمها على الصهيونية، يجب تذكر أن مناهضة السامية هي أيضا قابلة للإدانة وممقوتة مثل الميز العنصري. نزعة النفي جريمة دنيئة بما أنها ترمي إفراغ ذاكرة العالم من ذكرى الجريمة المطلقة مهيئة، بذلك، الظروف والإمكانيات للاقتراف الدائم لجرائم مماثلة.
الحداثة: ديالكتيك المعيار المزدوج:
تتيح التوضيحات السابقة مقاربة الموضوع الذي يشغلنا، وهو حداثة دولة إسرائيل، بعيدا عن كل خلط. وسأقوم بذلك انطلاقا من مفهومين أساسين هما: العلمانية والديمقراطية باعتبارهما الثديين المغذيين لكل دولة حديثة بالمعنى الحق للكلمة. والفرضية التي أود التأكد منها هي أن إسرائيل ليست دولة حديثة إذا تمسكنا بمعايير وخطاطات فكر الحداثة على نحو ما صاغتها به الفلسفة السياسية ابتداء من القرن XIII. ولدعم موقفي، الذي يمضي ضد تيار فكرة شائعة، سأرجع إلى نصين نشرتهما الصحافة الإسرائيلية نفسها (2). بتعبير آخر، سأترك الإسرائيليين أنفسهم يؤكدون التناقض الذي أود التدليل عليه في هذا المقام. وللوصول إلى هذا الاستنتاج، سيروم الاستدلال الحالي التحقق من الفرضيتين التاليتين:
– “إسرائيل ليست علمانية” (القضية الأولى)؛
– “ليست ديمقراطية كذلك” (القضية الثانية)؛
– و”إذن فهي ليست حديثة” (النتيجة).
قد يعترض على ذلك بأن إسرائيل دولة فتية، وليدة أمس، بيد أن ذلك قيام ديمقراطية في إسرائيل أمر غير ممكن ولا مرغوب فيه. بتعبير آخر، وحده تحديث على كل الأصعدة سيثير فضائح غل تقليد القديم وسيتيح، من ثمة، الخروج من الحلقة المفرغة.
معيار العلمانية:
بصدد ما نسميه عن حق “وعي إسرائيل” لم يتردد البروفيسور يشياهو ليبوفتز LEIBOVITZ Yeshayahou في التصريح ذات يوم لجريدة لومند (13 أكتوبر 1992) بما يلي: “إن الوضعية الرسمية للمؤسسة الحاخامية حاليا بالمقارنة مع دولة إسرائيل هي تماما وضعية معاشرة حرة سياسية، على نحو ما كان عليه وضع الكنيسة الفرنسية بالمقارنة مع الإمبراطورية ابتداء من الاتفاقية التي عقدها نابليون. إن كومب Combes عندكم هو الذي فصل الدين عن الدولة، فأنقذ الكاثوليكية الفرنسية، واضعا الدولة –بفعله هذا- في مأمن من خطر الفساد. أما عندنا، فإرادة الحاخامات في إدخال طقوس دينية مزيفة في الممارسة الاجتماعية والسياسة العلمانية، أمر لا يساهم سوى في تفاقم التزييف، والغش والكذب”.
من أين يأتي هذا الزواج أو على الأقل هذه المعاشرة الحرة بين المؤسسة الدينية والدولة ؟ هل يمكن القول أنه بإمكان الدولة التي تستمد مشروعيتها من “دعوة” تبشيرية – أخروية، أت “مر”. باعتبارها دولة حديثة دون أن تسقط في تناقض ؟ إن هذا التناقض قائم، ولا يمكن الدفاع عنه، باعتراف “مواطنين” إسرائيليين أنفسهم، والتمسك به لا يفعل سوى تأجيج الصراع بين العلمانيين ورجال الدين، متيحا للعالم أجمع أن يلقي نظرة جديدة على طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي في شموليته. أسوأ من ذلك، إن الزعم القائل بأن إسرائيل تشكل أفقا مثاليا لكل بناء سياسي في المنطقة، لم يعد يصمد أمام التحليل النقدي المعمق. ذلك أن السجال حول السؤال التالي: أينبغي على الدولة العبرية أن تكون دولة يهودية أم يتعين عليها أن تكون دولة يهودية أم يتعين عليها أن تكون علمانية ؟ لم يحسم منذ الأصل، منذ إعلان الاستقلال، بيد أن مناقشة هذه المسألة معناه التشكيك في طبيعة العبرية نفسها التي غالبا ما تجد تتأصل أساطيرها التأسيسية في الديانة اليهودية. هكذا، مثلا، تفسر موجات هجرة الدياسبورا (3) روحيا باعتبارها علامات للـ Aliyah، الصعود، صعود الشعب المختار إلى الأرض الموعودة، وإذن فليس ثمة ما ينبغي إعادة قوله، وإذا أعدنا قول شيء ما، فإن البناء بكامله ينهار كما يتداعى قصر الرمال.
ومع ذلك، فمن الغريب أن نموذج الحداثة السياسية الشرق – أوسطي لا “يستفيد” حتى اليوم من مؤسسة برلمانية. فمنذ فبراير 1949، تاريخ أول اجتماع بالكنيسيت للجمعية التأسيسية والتشريعية، لم تنشئ إسرائيل بعد برلمانا طبقا للأصول الواجبة. فمنذ 1955، أوضح أ. شوراكي هذا النقص دون أن ينزعج له –فيما يبدو- إذ قال: “اقتضى الأمر دائما ارتجال كل شيء انطلاقا من الظواهر، بالارتكاز على قرارات الأمم المتحدة، على التقاليد الدينية والدنيوية لإسرائيل، وعلى التنظيمات الصهيونية الموجودة الدولة” (4)، ثم يضيف في فقرة لاحقة: “ينجز الكنسيت ، حيث تقتسم المقاعد خمسة أحزاب سياسية، عملا تشريعيا هائلا: احتذى المثال البريطاني، فتبنى القوانين الأساسية للدولة، بدلا من برلمان طبقا للأصول، وهو ما يعتبر سابقا لأوانه بالنسبة لدولة في طور التشكيل” (5).
خمسون سنة بعد ذلك، لا زالت الدولة في طور التشكل وتبني البرلمان ليس في جدول الأعمال. في غضون ذلك، استحوذ الربانية (6) على المجتمع المدني بحيث يتدخلون في أقل ظواهر وحركات الحياة اليومية.
هكذا، وحده الزواج الديني هو الموجود في الدولة العبرية، وتورد الصحيفة اليومية المستقلة هاريتز في عددها الصادر يوم 3 أبريل 1998 أنه “في كل أسبوع يسافر إلى نيقوسيا عشرات الأزواج الذين لا يرغبون في الزواج أمام الحاخام”. الصحيفة نفسها أوردت آراء عالم الاجتماع زيفا صطرنهل Ziva Sternhell فيما يتعلق بمسألة فشل النظام التربوي الإسرائيلي وعملية التأطير المذهبي التي تخضع لها مؤسسة الحاخامية الأجيال الفتية. ولا يبدو بالإمكان العثور على تفسير أوضح من التشخيص الذي يقدمه هذا الباحث: “إن خيبة آمال الإيديولوجيا الصهيونية – التي تترك اليوم مكانا فارغا، سرعان ما استعاده مناضلو السلام بواسطة الدين. هكذا، يسبب فشل النظام التربوي، نجد أنفسنا اليوم إزاء أجيال من المراهقين الذين يعيشون في عالم ضيق كعالم النمل، لم يسمعوا أبدا بأفلاطون ولا كانط، ويستسلمون لسحر أول حاخام قادر على أن يفسر لهم ثلاث آيات من التلمود، مقدما لهم الإشباع الفكري الذي لم يعرفوه أبدا في المدرسة العلمانية” (7).
معيار الديمقراطية:
ترتكز فكرة المواطنة في إسرائيل على مبدء “التمييز التعويضي” لفائدة اليهود الذين قاسوا الإبادة العرقية النازية في المقام الأول، يليهم اليهود الذين قاسوا أشكال التعذيب والتشتيت. وهذا المبدأ يقوض واحدا من المرتكزات الأساسية للديمقراطية، ونعني به تساوي المواطنين أمام التعليم، والعدالة، والشغل، والحريات الفردية والجماعية. حقا إن حرية الرأي، والإبداع، وحتى الاعتراض السياسي موجودة بالتأكيد في إسرائيل، لكنها محفوظة للإسرائيليين العريقين، أي لليهود فقط، وتعريف “اليهودي” هنا ديني ضيق، بمعنى أن الشخص لا يعتبر يهوديا إلا –وفقط إلا- إذا ولد من أم يهودية، أو اعتنق اليهودية بشكل رسمي بعد اجتياز الطقوس الدينية الخاصة بهذا الغرض.
إن هذا الإطار اللاهوتي – الحقوقي يحرم عرب إسرائيل من حقوقهم ويجعلهم مواطنين من المنطقة الثانية: فعلى المستوى التربوي، مثلا، نجد وزارة التربية الإسرائيلية “صادرت تقريرا حول التمدرس في الوسط القروي. والنص الذي نشرته في الموضوع، يورد أن 21 % من الشباب القرويين يصلون إلى الباكلوريا، في حين لم يحص التقرير الأولي منهم سوى نسبة 6 %، فضلا عن إشارته إلى أن نسبة الأطفال القرويين المتسربين دراسيا قبل أن يبلغوا 16 سنة وصل نسبة 67 %” (8).
والميز لا يتم على صعيد الدولة فحسب، بل كذلك على صعيد المجتمع، تلاحظ صحيفة حائير Ha’ir الصادرة في تل أبيب: “لأن مدرسة شباب يهود من حيفا (وهو حي يهودي عربي فقير بتل أبيب) كانت “مكتظة بالعرب”، فقد تدبروا أمرهم في إعداديـة Wizo – France التي تقع في الأحياء الجميلة بشمال المدينة. لكنهم ما إن وصلوا إليها حتى أخذ تلاميذ هذه الثانوية الأنيقة بدورهم يسعون إلى مغادرتها”، “لأن يهود جنوب المدينة قذرين وجهلة مثل العرب” (9).
وقد بلغ هذا الميز أوجه إبان الأزمة العراقية الأخيرة، عندما “أخبرت وزارة الدفاع. -وهي التي كانت توزع الأقنعة الواقية من الغازات- وزارة الشغل بأنها لا تملك الإمكانيات المالية لإمداد العمال المهاجرين بتلك الأقنعة” (10)، وهذا يتنافى مع دولة الحق الحقيقية التي تحمي جميع المقيمين في أراضيها، وبدون تمييز، لأن ذلك يتماشى مع إنسيتها.
شبـح أيــوب:
“نعم” أسلمني الله إلى مظالم،
بين أيدي القساة ألقى بي
كنت أعيش في هناء لما رجني،
ماسكا إياي من العنق كي
يكسرني
اتخذني مرمى لقوسه:
يحاصرني بخطوطه،
ينفذ في أحشائي بلا شفقة
وينشر في الأرض مرارتي
يفتح في جرحا على جرح،
ينفذ في كمحارب” (11)
وما يجسد اليوم شدة النبي “الملعون” إلا الشعب الفلسطيني في تشتته في أنحاء العالم، في مخيمات اللاجئين، في الأحياء البئيسة داخل إسرائيل. مثل أيوب، يتذمر هذا الشعب ويصرخ ببراءته. مثله، جرحه فاغر ما دام لا يتوصل إلى تركيب هاتين الحقيقتين المتناقضتين: “أغاني”؛ و”مع ذلك فأنا بريء”.
واليوم، في غزة، عندما لا تحاصر الأراضي، ينطلق الرجال قبل الفجر إلى إسرائيل لبناء اقتصاد بلد يحتقرهم ويسيطر عليهم. أما عندما تغلق الحدود لسبب أو لآخر –والأسباب لا تنعدم دائما- فإنه يحكم عليهم، بمزاج منافق وقاسي، بالشقاء والبؤس، والفقر والعطالة. ليس أمامهم إلا البحر، لكن هيهات والمغامرة ! فالفرقاطات الإسرائيلية تحرس الشواطئ بمنتهى اليقظة، وفي الوراء، يذكرهم ملتحو المستوطنات ومسدسات الجيش بأنهم لن يستطيعوا الإلات من الحجز الذي يعيشونه داخل الأحياء دون أن يعرضوا أنفسهم لمخاطر جسام.
أما عن الذكرى الخمسينية، فالشهب الاصطناعية تنير بشظاياها وأنوارها، سماء الأرض المقدسة المائلة إلى الزرقة. والأطفال الذين لم يذوقوا أبدا طعم النوم الهادئ واللذيذ، فتحملق عيونهم في فزع ودهشة وهم يتساءلون: كيف أمكن لمتفجر صنع أصلا ليستعمل في الحرب، أن يستخدم في تخليد احتفال ؟
الإنسانية دائما وأبدا
يمكن القيام بكل شيء إلا تجريد الإنسان –بغض النظر عن لونه وثقافته- من إنسانيته. ذلك أن ما من كائن بشري إلا وفيه شيء غير قابل للاستيعاب، شيء غير مرئي يحيلنا إلى لغز وجوده فوق الأرض. وهذه القسمة من اللغز الثابت هي ما يجعل بمستطاع كل واحد منا أن يحفظ ويخفى في قرارة نفسه إحساسا ما أو فكرة ما، بمنأى عن كل أشكال التأطير المذهبي والتدجين أو الاستعباد. هذه القسمة هي ما يؤسس المقاومة، وعنها يتحدث روبرت أنتيلم – Robert ANTELME، أحد كبار مؤلفي القرن XX،، وهو نفسه سبق أن اعتقل لأسباب سياسية، ونجا من المعتقل الألماني بوشنوالد Buchenwald عندما يقول “لو ذهبنا لزيارة شخص يدعى س.س وأريناه جاك، فبإمكاننا أن نقول للأول: انظره، قد جعلت منه إنسانا قذرا، أصفر اللون، أي ما يشبه أفضل ما تعتقد أنه إياه بالطبيعة: جعلته نفاية، سقطا. وقد نجحت في ذلك، طيب، سنقول لك ما يلي، وهو ما سيغبطك كثيرا لو كان “الخطأ” يقتل: لقد أتحت له أن يجعل من نفسه الإنسان الأكثر اكتمالا، الأكثر يقينا من قدراته، من مصادر وعيه وثمار أفعاله، أتحت له أن يجعل من نفسه الأقوى (…) مع جاك، لم تربح أبدا. أردت له أن يسرق، لم يسرق، أردت له أن يلحس مؤخرة حارس سجن الرفاق في المعتقل النازي كي يحصل على ما يقتات به، لم يفعل ذلك. أردت أن يضحك كي يتظاهر بأنه على ما يرام عندما كان الجلاد يهوي بضرباته على ظهر صديق لم يضحك. أردت له بالخصوص أن يشك في الإيمان بقضيته كي ينجو من التفكك على هذا النحو، لم يشك في قضية” (12).
بـريق أمــل:
لا أود أن أختم هذا النص دون استشراف بريق من الأمل يلوح في الأفق بعيدا عن الدسائس الديبلوماسية للمحافل السياسية. فقد برزت لدى مفكري اليسار، وفي المجتمع المدني، أصوات عادلة وشجاعة تتساءل اليوم، داخل إسرائيل نفسها، وتطالب بإنصاف الفلسطينيين. أفكر بالخصوص في العمل الضخم الذي أخرجه المؤرخون الجدد، وفي الحركة السليمة.
“السلام الآن”، وفيلميات (13) أسي دايان Assi DAYAN، كما في المواقف الصائبة التي اتخذها أساتذة أمثال الراحل إ.ليبوفتز U.LEIBOVITZ.
المطفى شباك / ترجمة: م. أسليـم
نشرت هذه الترجمة بجريدة الأحداث المغربية يوم 6 يناير 1999
_______________________
هوامش:
(1) الغوييم: اسم يطلقه اليهود على الشعوب غير اليهودية وبخاصة على المسيحيين.
(2) نصوص الصحافة الإسرائيلية نأخذها من: Courrier international وجريدة القدس العربي.
(3) الدياسبورا (أو الشتات): تشتت اليهود في العالم القديم.
(4) A.CHOURAQUI, L’Etat d’Israel, Paris, P.U.F., 1955, p. 53 et sq.
(5) نفسه، ص: 54.
(6) منصب الحاخام (م).
(7) صحيفة هاريتز، 28 فبراير 1997.
(8) هاريتز، 26 مارس 1998.
(9) هاريتز 14 نونبر 1997.
(10) معاريف، 5 فبراير 1998.
(11) Bible de Jérusalem, Le livre de Job, 16,11,14.
(12) R.Antelme, L’espèce humaine, Paris, Gallimard, 1957, p. 94.
(13) فيلميات (Filmographie): لائحة أفلاح مؤلف أو أفلام من نوع معين. (م).
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأربعاء 05-09-2012 04:49 مساء