يكفي أن يضع منتجو هذه الأعمال وغيرها التي تيطلق عليها اسم «فلاشات إسلامية»، مما تعج به ساحة النت الانشغالَ الأدبيَّ نُصب أعينهم، وهم يتوفرون سلفا على اتجاه في الأدب العربي له اسمه، بل وهيأته العالمية، هي رابطة الأدب العالمي الإسلامية، فيتحقق زخمٌ، بل وربما فوران من الأعمال الأدبية الرقمية التي ستدخل بالتأكيد في هذه الخانة التي تُدعى بـ «الأدب الإسلامي»، فيترسخ بالتالي الواقع الذي كنتُ رصدته منذ بضعة أعوام في ورقة تحت عنوان: «المشهد العربي الثقافي بالأنترنت. قراءة أولية»، وصفت الدخول العربي إلى العالم الافتراضي بأنه دخول سلفي ديني تقليدي.
هذه مجرد إشارة أكتفي بوضعها، خارج أي حكم قيمة، بين المبدعين والمثقفين العرب للتأمل. إن كان لابد من المضي قليلا إلى الأمام وجب صياغة ما قد يشق فهمه، وهو أن ثمة تبادلا للمواقع يجري الآن بين تقليديي الأمس وحداثييه:
هناك نزوح جماعي للمثقفين والمبدعين العرب إلى مكان التقليد. هذا النزوح يجعلهم يؤدون الآن وظيفة ما يمكن تسميته بـ «الإنتاج المضاعَف للتقليد»؛ إلى الصروح الشاهقة التي يسعى السلفيون عبرها لتأبيد الماضي، من خلال النشر العملي لجميع المنتوجات التراثية، يضيف المثقفون والمبدعون ترسيخ تقليد الثقافة الورقية ومؤسسة الأدب التقليدي.
رجال الدين المسلمون العرب بسائر تياراتهم هم الآخرون الآن بصدد إجراء نزوح جماعي لكن إلى مكان الحداثة، بل و إلى ما بعدها، متمثلا في العالم الافتراضي. هذه الهجرة تتيح لهم أن يواصلوا، من موقع مريح جدا، مواصلة تأبيد التراث، لكن هذه المرة بآخر الأدوات والمنجزات التقنية. مقارنة بسيطة بين عدد المنتديات الإسلامية والمكتبات والخزانات الرقمية الإسلامية ونظيرتها التي لا تضع الهاجس الديني نصب عينها كفيلة بالوقوف على هذا الواقع: واقع تبادل المواقع…
ومن وراء هذا التبادل للأماكن يمكن استخلاص النتيجة المحزنة التالية، وهي ألا دخول من الجهتين إلى العصر قد تمت بعدُ. نحن إزاء ما يُشبه وجها مشروخا يشبه صورة وجه الصديق كما وصفه نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت» ـه. وراء نبذ هذا الطرف لذاك، لا يمكن نُكران حقيقة الانتماء المشترك إلى جسد واحد. كأننا ملازمون وضع مجتمعات «الأخوين العدوين»…
الانتماء إلى جسد واحد مشترك (اللغة العربية) هو الأصل في تخصيص ركن مستقل لاحتضان أعمال هذا النوع: ركن «الفلاشيات الإسلامية». في تقديري، سيكون مما يجانب الصواب صمت النقد الرقمي العربي عن هذه النصوص وإخراجها من حيز انشغاله لأسباب أقلها أنها تضعنا بمواجهة قضايا تقع في صُلب اهتمام الكتابة الرقمية. من ذلك:
– قضية موت المؤلف: يبدو أن الفلاشات الإسلامية تقدم جوابا للمسألة، بل ربما تجسيدا لهذه المقولة التي ظهرت عند فوكو ورولان بارث في ستينيات القرن الماضي، واستعادها منظرون للنص التشعبي، مثل جورج لاندو. الفلاشيات تنحاز إلى هذا الموت، ولكنها تصل إليه من طريق آخر سبق أن عرضت خلفياته، دون المضي إلى حد استخلاص مقولة «موت المؤلف»، في دراسة لي تحت عنوان: «الشعر والغواية»؛
– قضية تسمية هذا النوع من الأعمال: «فلاشيات» تواري المؤلف بمفهومه التقليدي إلى الوراء (ربما هذا سبب آخر في إخفاء أسماء المبدعين يُضاف إلى الأسباب الدينية)، وفي المقابل تُعطي الأولوية للبرنامج الذي أتاح صُنع هذه المشاهد، وهو الفلاش ماكروميديا. رأي له وجاهته ضمن المقاربات النقدية الرقمية التي ترى وجوب إدراج الأعمال في شبكة تحليلية أوسع بحيث لا تعدو الكتابة، بل وعمل الكاتب / المخرج بكاملها سوى مكون من مكونات العمل المتعدد. ماذا يبقى من هذه الأعمال لو حدفنا الفلاش؟ بل هل كانت ستوجد أصلا؟؟ من ثمة، يكون للبرنامج نصيب في العملية الإبداعية، وبالتالي ما وجاهة اعتلاء اسم هذا الشاعر أو ذاك، هذا الروائي أو ذاك واجهة العمل وإخفاء صناع البرامج التي أتاحت هذا الابتكار؟؟
– حدود التعامل مع برامج إنتاج الأعمال الرقمية: في صلة بالنقطة السابقة، لكن أيضا بالتالية (التعامل مع رسم الحروف)، يرتسم حقل كامل للنقد الرقمي مهمته موجودة سلفا وما ينتظر سوى مباشرة العمل، وهو البحث في مجموع الإمكانيات التي تقدمها برامج، مثل السويتش والفلاش ولم لا الجافا سركيبت أيضا(لم تستغل حتى الآن في الإبداعات العربية بخلاف لغات أخرى) لمستخدميها عامة وما يستثمره المبدعون ضمن هذه الإمكانيات. في الحالة الأولى يجب على البحث أن ينكب على البرامج، أن يكون معلوماتيا، مجاله هنا هو الاحتمال، جميع الإمكانيات التي يتيحها البرنامج المعتمد في هذه الكتابة الأدبية أو تلك، في الثانية يتعين على الدراسة أن تتناول الأعمال، أن تكون أدبية ومعلوماتية وربما حتى ثقافية في آن. مجال البحث هنا عالم الإنجاز. يجب تشخيص ورصد الإمكانيات المستغلة دون غيرها، ثم طرح أسئلة من نوع: لماذا تم استغلال هذا الجانب من البرنامج دون ذاك؟ ضمن أي إمكانيات البرنامج تشتغل الفلاشيات الإسلامية وضمن أي إمكانيات للبرنامج نفسه تشتغل السرديات والقصائد الرقمية العربية؟ كيف نفسر هذا الاختلاف؟؟، الخ. ثم ما هي حدود أو ضمن أي دائرة في البرنامج تتعامل الإبداعات الأخرى الغربية (فرنسية، أنجليزية، الخ)؟ تمهيدا للوصول إلى مقارنات، أي إلى حقل الأدب المقارن…
– مسألة التعامل مع رسم الحروف: في حدود ما اطلعتُ عليه لحد الآن، وأتوقع أن يشمل ذلك معظم الفلاشيات الإسلامية إن لم ينطبق على جميعا، لا يتم بتاتا تفجير الكلمات والحروف. قد تهتز الكلة أو الجملة وقد ترقص في الشاشة ولكنها لا تتشظى ولا تتلاشى، لا تتحول إلى رموز مبهمة أو أجساد محتشدة مثل الذباب أو الرسوم الأثرية السحيقة، على نحو ما نجد في مجموعة كبيرة من الإبدعات الرقمية الغربية. في المقابل، نجد حرصا شديدا على بقاء الكلمة والجملة واضحة مقروءة. هل تكون الخلفية القدسية للغة حاجزا يمنع الفلاشيات الإسلامية من دخول في هذا النوع من التجارب و«المغامرات»؟
– مسألة التعامل مع الصوت: إذا كان النشر الرقمي يتيح المزج في آن واحد بين الخط والصورة والصوت، فأول ما يتبادر لأذهاننا هو الموسيقى والغناء. وحيث لهذا الفن وضع اعتباري خاص ناتج عن القاشات الفقهية الطويلة في الموضوع، يجب إيلاء هذه المسألة أهمية كبرى أثناء قراءة الفلاشات الإسلامية. اختزال الصوت في سور قرآنية وخطب دينية ومحاضرات للوعظ والإرشاد وأناشيد هو ما يجب انتظاره عموما. وأي تجاوز لهذه العناصر الصوتية إلى موسيقى سينتظر منا تفسيرا. في المقابل، سنجد السرديات الرقمية والشعريات الرقمية العربية لا تقف أمام هذا الخط.. غياب هذا الممنوع هنا وحضوره هناك سيضع في المشهد أعمالا بنكهتين: الإسلاميون يعوضون الحاجة إلى الصوت بالاشتغال على برامج التسجيل، ومن ثم ستحضر الأناشيد وأصوات «المبدعين» والزعماء الروحيين، والأدباء الرقميون، أمام غياب «ممنوع الصوت»، سيخلدون إلى «الراحة والكسل». لا عمل واحد حتى الآن، في حدود ما أعلم، يعرض صوت مؤلفه حتى وإن كان شاعرا، والشعر في الأصل إنشاد… مقابل ذلك، يتم تعويض هذا النقص «اللاشعوري» بالغرف من فيض الأغاني والمعزوفات الموسيقية..
– قضية الصورة: ما يقال عن الصوت يصدق على الصورة أيضا. هي الأخرى شكلت مجال نقاش بين الفقهاء، فطالها عند بعضهم التحريمُ، ومن ثمة ولجت الوضع الاعتباري للشيء المزعج، الشيء الذي كان من الأفضل ألا يوجد أصلا. وحيث الرقمية تقتضي الصورة، سنجد الفلاشيات الإسلامية تعوض هذا النقص بمستويات في التعامل:
– الأبطال والزعماء الإسلاميون والشهداء والضحايا تُنشر صورهم الحقيقية (خطاب، بن لادن، الشيخ ياسين، الخ.)
– زعماء الأعداء (ما يعادل الشيطان) تُنشر صورهم الحقيقية ايضا (بوش، بلير، شارون، الخ.).
كأننا هنا أمام تقابل: إلهي / رباني / قدسي وشيطاني / دنيوي / مدنس؛
– الطبيعة تخرج عن هذا التصنيف، والباقي يتم تعويضه برسوم متحركة…
– غياب الخطوط والكتابة نهائيا في مجموعة من الأعمال: بما أن الحديث عند منظرين للثقافة الشبكية والعوالم الافتراضية، أمثال بيير ليفي، يجري عن عودة لولبية إلى عصور المشافهة الأولى، هل يمكن اعتبار غياب الكتابة في هذه الأعمال يمثل رجوعا بالشعر إلى عصوره الأولى؛ عصور الإنشاد والمشافهة؟؟ وحيث إن هذه العودة لولبية – على حد تعبير بيير ليفي – تأتي الصورة والحركة والموسيقى لتجنيب هذا الرجوع من السقوط في أن يكون حرفيا، أي نكوصيا (وهو متعذر مع الرقمية على كل حال). هذه قراءة ممكنة.. سيكون مفيدا استحضار مثل هذه المعطيات أثناء قراءة الأعمال الرقمية العربية.
وددت من هذه الأمثلة التنبيه إلى أن هذه الأعمال تضعنا في طرق خصبة للتأمل والتفكير في الأعمال الإبداعية الرقمية من داخل الحقل النقدي الرقمي نفسه.
محمد أسليـم
———–
تنويه: وردت هذه الأفكار في البداية تعقيبا على موضوع: «أعمال رقمية إسلامية» (منتديات ميدوزا)، ثم تم إغناؤها بأفكار لا توجد في التعقيب السابق، تتمهيدا لإعادة صياغتها على شكل دراسة)
يمكن تصفح مجموعة من الفلاشيات الإسلامية انطلاقا من الرابط:
http://www.midouza.net/vb/forumdisplay.php?f=211
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الإثنين 27-08-2012 03:37 صباحا