قليلة هي الدراسات التي حاولت مساءلة ظاهرة السحر وتحليلها تحليلا دقيقا كممارسة اجتماعية لم يخل منها أي مجتمع من المجتمعات، وتأتي في هذا السياق الأبحاث التي ترجمها ذ. محمد أسليم[*] ضمن مشروع تحليلي ومعرفي سيخص مطاردة الساحرات في أوروبا، السحر في المغرب العربي، السحر واللغة. من هنا، فإن الهدف من هذا المشروع يتحدد في إظهار الطابع الكوني للممارسات السحرية وإمكان فهمها من منافذ متعددة بعيدا عن أحكام القيمة وإثارة الجانب الأنطولوجي لمسألة السحر، وبالتالي الوقوف على الوظائف النفسية والاجتماعية التي تؤديها الممارسة الخفية (ص. 3)، على أن الأبحاث المترجمة التي يتضمنها هذا المؤلف تتجاوز في تصوراتها العامة أية سلطة للرقابة الدينية أو الحداثية وتضع، بالتالي، نصب عينيها مصداقية الفعالية السحرية الكامنة أساسا في سلطة الكلمة (ص. 4).
من هذه الزاوية، فإن غاية هذا التوليف تقريب مضمون هذه الأبحاث للقارئ، أبحاث تضم المقاربات التالية:
بول جوريون وجنفييف دلبوس: ارتجالية مفهوم السحر في الخطاب الأنثروبولوجي
يحيل مفهوم السحر في هذه المقاربة، باعتباره أحد مفاهيم الخطاب الأنثروبولوجي المعاصر، على مجموعة من الممارسات والتمثلات التي نادرا ما يتم تحديدها. وقد تأسس استعمال هذا المصطلح، من باب التعريف، على نوع من الموضعة الخلافية حيث تمت مقارنة السحر بمجموعتين من الممارسات هما العلم والدين… ولذلك، فعند قراءة كتابات الأنثروبولوجيين نحس كأن طموحهم لا يتجاوز تحديد المسافة الفاصلة بين السحر والعلم، من جهة، والدين من جهة أخرى. من هنا تعتمد هذه المقاربة إبراز موضوعين أساسيين: الأول ضرورة معرفة السحر باعتباره نفاية لخطاب العلم، والثاني كون السحر يقبل هذا الإقصاء لاتصافه بسمتين لا يطيقهما العلم: الأولى تتمثل في كون الخطاب السحري خطاب نحو الشخص وممارسته تتعلق بقدر فردي، والثانية ف يكون النفسية الفردية هي مكان الفعالية السحرية المفضل. ومن البحث في بعض تجليات (العلم والسحر) إلى استخلاص (مبدأ العلية بين العلم والسحر). تمنح هذه المقاربة (للفعالية الرمزية) موقعا جوهريا في التحليل، وهي فعالية تعتبر ضمنها الكلمة أداة إعجازية قادرة على خلق تواصل بين حقول إن لم ينعدم لقاؤها فهو يظل غير محتمل تماما، من ثم تقتضي فعالية الكلمات وساطة إطار رمزي يجب أن يكون ما ينقله من يقين كافيا داخل نظام ثقافي محدد. إن تحليلا قائما على فهم خاصيات الخطاب المرجعي، الأنثروبولوجيا «الفيزيائية». مبدأ الفرز بين الأسطورة والمعرفة الموضوعية للعالم، مشروع المعرفة بتقدم العلم مع ضرورة إبعاد السحر عن الخصائص الجوهرية للفكر المتوحش.
ماك روكفيل: المحلل النفساني والساحر
في سياق إعادة مساءلة أطروحات الأنثروبولوجي كلود ليفي ستراوس، والذي كان قد اقترح هذه المقارنة بين المحلل النفساني والساحر، تأتي مقاربة ماك روكفيل، وهي مقاربة ذات طبيعة تحليلية تنطلق من (حكاية قصاليد) لتعمق تصورها حول مشكل الإيمان السحري من خلال حالة (قصاليد) الذي «لم يكن يؤمن بقدرة السحرة» والذي سيتابع أولا «تعليمهم» كي يفضحهم (بعد ذلك). ولذلك أيضا، فإن للتقنيات السحرية فعالية واقعية قابلة للتوضيع، كما أنه لا يمكن اختزال السحر على سذاجة أو سرعة تصديق، إلى متخيل للشعوب المتخلفة كما توحي بذلك الآراء المسبقة للأنثروبولوجيا المتمركزة على الذات العرقية. على أن القطب الآخر من الاعتقاد السحري تمظهره المجموعة الاجتماعية ومقتضياتها المتمثلة في ضرورة أن يتوفر الفرد على إجابات فطرية أو مكتسبة عن مقام غير عادي «كمقام المرض…». وتبدو الأسطورتان الفردية والاجتماعية متعارضتين، إلا أن هذا الاختلاف سرعان ما يتقلص حينما نلاحظ بين حشد التواريخ الفردية المحفورة في اللاشعور ضآلة عد البنيات النفسية للعثور عليها، الأمر الذي يوحي بوجود تشابه بينهما وبين عدد أنواع الأساطير وأنواع البنيات اللغوية. يمكن، غذن، أن نرى اللاشعور بمثابة التعبير عن البنية الرمزية نفسها. في ارتباط بما سبق، فإن المعرفة التي يتيح التحليل النفسي تحقيقها بشأن النفسية الإنسانية لا تنفصل عن مفهوم التصريف حيث تأتخذ بعدها الأسطوري، بعد حقيقة الذات المريضة في احترام السياق الفعلي والاجتماعي والتاريخي الذي ينخرط فيه المريض. وعليه، فالبعد السحري للمحلل النفساني يحيله على مجال المري ويعين له حدودا للتصديقية، ألا وهي حدود تصديقية الكلمة العلاجية…
كاترين-باكيس كليمون: الموضوع الرديء
يستند الأساس المعرفي العام لهذه المقاربة على جدوى إقامة نظرية جديدة للاجتماعي من دوركهايم إلى مارسيل موس، ومن موس إلى ليفي ستراوس. فبالتحليل البنيوي الأسطوري أنتجت روايات المسثولوجيات المتعاقبة ترابطات الشفرات المتوالية التي تحقق الربط بين مختلف مستويات الكل الاجتماعي. إن ما سعى إليه موس في دراستيه: «النظرية العامة في السحر» كما في «بحث في الهبة» هو عزل العنصر الذي يربط ويفرق – في الظاهرة الاجتماعية الكلية – بين الأفراد والمقولات والأشياء…، ولذلك أيضا، يرهن ليفي ستراوس في مؤلفه «الأنثروبولوجيا البنيوية» على القدرات العلاجية لما يسميه «الفعالية الرمزية»، أي استعمال اللغة استعمالا يولد تأثيرات في الواقع. وبالطريقة نفسها يضمن المحلل النفساني، من خلال تسخيره التحويل للتأثير في الزمنية، تولد التأثيرات المشوشة والشفائية من اللغة التي يستعملها المحلل في عملية العلاج. ويبرز في هذا السياق التمييز الذي أقامه ليفي ستراوس للتفريق بين نوعين من المجتمعات: مجتمعات أنثروبوفاجية وأخرى أنثروبويمية. فالمجتمعات الأنثروبوفاجية هي تلك التي ترى في ابتلاع بعض الأفراد الذين بحوزتهم قوى رهيبة الوسيلة الوحيدة لتحييد تلك القوى، بل وحتى الاستفادة منها، وفي هذا النوع من المجتمعات يُسَخر الأفراد لأداء وظائف «ذات نزعات» علاجية، سحرية، دينية أو سياسية… وعلى العكس، فالمجتمعات الأنثروبويمية هي تلك التي اختارت إزاء المشكل نفسه حلا مقلوبا يتمثل في طرد تلك الكائنات الرهيبة خارج الجسد الاجتماعي وإبقائها معزولة بكيفية مؤقتة في مؤسسات مسخرة لهذا الاستعمال…
هنري كولومب: السحر – الأنثروبوفاجيا والعلاقة الثنائية:
يسلم موضوع هذه المقاربة بوجود نسابة بين العلاقة الثنائية التي تأخذ شكلها المثالي في العلاقة أم-طفل، وبين السحر-الأنثروبوفاجيا الذي يعد ظاهرة مشتركة بين جميع الثقافات الإفريقية. السحر-الأنثروبوفاجيا هو في آن واحد نمط (بين أنماط أخرى) تفسيري للأمراض العقلية ومعيش ينظم علاقة الفرد مع نفسه على الأقل إلى حد ما. وفي بعض الظروف التي تياعد على انبثاق العدوانية. فالساحر الأنثروبوفاجي يفترس فريسته رمزيا أو خياليا. والنتيجة هي موت الشخص الضحية أو إصابته بالجنون. وتتخذ هذه المقاربة من خرافة مالينكية موضوعا لتحليلها لوضع الحكاية الأسطورة في الثقافة الإفريقية لتخلص إلى رصد بعض محددات نظام السحر-الأنثروبوفاجيا والمرض العقلي من خلال وضع الضحية والساحر والمطبب وطبيعة العلاقات الغامضة التي تربط بينها ضمن المتخيل الاجتماعي أو ذاك… فانطلاقا من المعيش الذي يعبر عنه المريض حسب السنن المجمعن الذي يتضمن مختلف أنواع تفسير الأمراض العقلية. أما التفسير النهائي الذي سيثبت تعرض المريض لهجوم ساحر أو ينفيه، فلا يتم إلا بعد اتفاق يتم بين الأطراف الثلاثة، أي المطبب والمريض والعائلة.
ويتم الحديث ضمن (العدوانية الفمية والعلاقة أم-طفل) عن تهمة السحر التي توجه عموما إلى فرد قريب نسبيا إلى المريض كأن يكون جارا له أو أحد أفراد عائلته، وخارج الحالات المرضية والذهانات النفاسية بشكل خاص، من الاستثنائي أن يتم اعتبار الأم ساحرة لأن النقل والإسقاط يعملان على موضعة المعتدي خارج الحقل العلائقي الأبوي.
في الثقافات الغربية، تخضع العلاقة أم-طفل لمزاج الأم ورغبتها كفرد بكل خصوصياته. فهي مشخصنة وستقل عن القانون بسبب تشخصنها هذا، وبذلك لا يمكن لتلك الثفافات إلا أن تفضل العلاقة الثنائية وتقويها… أما في الثقافات الإفريقية التي تعطي الأولوية للجماعة والتضامن وليس للمنافسة والتفرد، فإن أنماط الأمومة والتقنيات التربوية أو طقوس الانتقال أو التحول، كلها تهدف أساسا إلى تقليص الفرد وخصوصياته لتجعل منه كائنا من أجل الجماعة…
فرانسوا لابلانتين: المسلمات المشتركة بين مختلف الأنظمة العلاجية التقليدية بإفريقيا
إذا كانت هذه المقاربة تؤكد (نفسي الصدفة) و(منطق المصيبة) في حالة المرض، فإنها تبرز خصوصية التمييز بين الجسدي والنفسي في ثقافات مدينة للإغريق… إلا أن الثقافات الإفريقية نادرا ما تستعمل هذا التمييز معيارا مفرقا بين الأفراد. فكما أن المرض ينخرط في منطق كلي للشر والمصائب، فإنه لا يتم النظر إليه في الحقيقة أبدا باعتباره إصابة لعضو ما من الجسد. وبدفعنا البرهان إلى حده نكاد نقول أن فردا ما بكامله، وأكثر من ذلك أن الجماعة بكاملها التي ينتمي إليها هذا الفرد هي التي تصاب بقرحة في المعدة أو تجتاز فترة من الهذيان.
ولهذا السبب كانت جميع أشكال العلاج الإفريقية على التوالي علاجات نفسية وعلاجات اجتماعية.. في إفريقيا يتم إشراك تمثل المرض والعلاج بمفهوم الشخصنة، أي بمفهوم القوة والفعالية… ولا يحمل مفهوم القوة عند الأفارقة إطلاقا إلى تصور للعالم الفيزيائي وشبه ميكانيكي، يمكن دون كبير مجازفة تحليله على دراسة للمرض باعتباره علامة لفقدان توازن اجتماعي، والفعل العلاجي الجماعي باعتباره محاولة لإعادة التوازن المهدد، فلا يعاش المرض في إفريقيا باعتباره ظاهرة قابلة للعزل أتت لتصيب فردا معينا، بل يعايش دائما باعتباره تلاشيا للروابط الاجتماعية التي يعتبر المريض ضحيتها، أكثر من ذلك فهو علامة ونتيجة لفقدان توازن واضطراب للعلاقات التي ترتبط عبرها القرية بنفسها والتي تقع خارج المريض… لذلك يتألف المنطق – أو الطقس – العلاجي من سلسلة من اللحظات والمحطات والمراحل خلالها يجهد المجتمع نفسه لمعرفة المجهول ويسمى تدريجيا ما كان في الأصل غير قابل للتسمية معيدا بذلك التوازن للعلاقات المتوترة بين مختلف أقطاب النظام أو أزمنته القوية:
1) زمن المرض (الحدث المرضي)
2) زمن المجتمع (العرافة)
3) زمن المريض (الاعتراف العمومي)
4) زمن المطبب (الصرع)
5) زمن المقدس (الأضحية)
إضافة على ذلك، ما من شيء في إفريقيا إلا ويبدأ بالكلمة وينتهي بها. وينطلق بالخصوص بالكلمة لدرجة لا يمكن أن نتصورها في الغرب. ويرى الأفارقة أن الكلمة تدعى الإسم الآخر للـ «قوة» هي تحديدا القوة نفسها في سلطتها المحررة كما في سلطتها المحطمة. ولكي تكون اللغة العلاجية فعالة، يجب أن يتقاسمها مجموع أفراد القرية، وهي لغة طقوسية، لغة مقدسة، يخصبها ويتأثر بها هؤلاء وأولئك لأنهم يغترفون منها القيم والنماذج كما يغترفون منها أمثال القوة الذي يعتبر مثال المجتمعات الإفريقية التقليدية. وفي كل لحظات دينامية العلاج، تجعل هذه اللغة من نفسها حوارا، حوارا محملا بكل ثقل الثقافة، حوارا بين المريض والمجتمع العلاجي، بين هذا الجمع والجن، وأخيرا بين القرية كلها التي تستوعب الحدث الممرض للتعبير عن مقالقها ورغباتها المفصلة، وعما لا يسير على النحو الأفضل… وعلى هذا النحو، فإن ممارسات الطب العقلي التقليدية لا يمكن فهمها بمعزل عن الثقافة التي تمنحها معناها. فطب الأمراض العقلية، كسائر الممارسات في إفريقيا لا يمكن عزله عن العالم الرمزي الذي يستمد منه جميع عناصره. فهو يقتضي على الأقل نظرية ضمنية تهم ليس المرض فحسب، بل وكذلك علاقات البشر فيما بينهم، ثم علاقتهم بالمقدس…
كوليت بيولت ولاجوس ساغي: الاعترافات الشيطانيـة
في الاعتراف والتوبة دعوة لبض المرضى، بل أغلبهم في الواقع، على الاعتراف. الاعتراف أساسي في السيرورة العلاجية في بريغبو. ومن أجل التصريح بالاعتراف يتردد المرضى على الكتاب عدة مرات، يوميا أحيانا، وذلك طيلة شهر أو أكثر. والكتاب ينصتون للمريض ويساعدونه بأسئلتهم على عدم نسيان أي أمر، أو إخفاء أي أمر… ويتراوح زمن التوبة عموما بين أسبوع وشهر أو أكثر… للتوبة طقوس،ولمعاينة المرضى طقوس… ولذلك، فإن الغاية النهائية من كل حلقات الاعتراف الفردية أمام الكتاب هي إنجاز النقل الكتابي للتصريحات التي ستشكل بعد ذلك موضوع قراءة عمومية. والاعتراف العمومي وحده هو الذي سيمكن المريض من الشفاء…
وهذا ما يتيح إقامة نوعين من التصريحات: نوع عادي وآخر شيطاني. وتتضمن الاعترافات ثلاثة أنواع من المعلومات:
1) معلومات موضوعية حول الحالة الموضوعية لصاحب الاعتراف
2) أسماء الضحايا والشركاء
3) الأضرار والشرور التي تبرز هذه المقاربة أهم مرتكزاتها من خلال النصوص وعبر مواضيع: الجنس – الممارسة الفيتيشية – النشاط الشيطاني…، من ثم، فإن ما هو أساسي فيالاعترافات لا يكمن في ما يقال، وإنما في عملية القول ذاتها..
4) هذه إذن فقرات مركزة من أهم الأبحاث التي ترجمها محمد أسليم ضمن مؤلف (أبحاث في السحر)، أوردتاه بشكل مختزل. غايتي من ذلك إثارة الانتباه إلى أهمية ما تحتويه من أطروحات وفرضيات تحليلية تجعل منها مصدرا أساسيا من مصادر فهمنا لهذه الممارسة النفسية الاجتماعية.
(صدرت هذه الدراسة، في الأصل، ضمن العلم الثقافي الأسبوعي، ليوم 27 ماي 1995، العدد: السنة 26)
———
هوامــش
[*] (جماعة من الباحثين)، أبحاث في السحر، ترجمة: محمد أسليم، مكناس، مطبعة سندي، 1995.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: السبت 08-09-2012 10:48 مساء