صدر للباحث حميد الدليمي كتاب «الدولة، الأخلاق والسياسة في السياق العربي الإسلامي». وقد نقله إلى اللغة العربية الأستاذ محمد أسليم. وهو، في الأصل، أطروحة حول تشكل العلم السياسي الإسلامي تقدم بها الباحث لنيل الدكتوراه في الحقوق من جامعة باريس العاشرة.
والكتاب، في المجمل يتحرك في دائرة الانشغال السياسي عند ابن المقفع، من خلال محاولة الإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي ترتبط بالتفاعلات القائمة في الحقل السياسي الإسلامي، بين سلطة الدين والمجتمع في سياق الإيديولوجيا بشكل عام. وبعبارة أخرى، إنه يحاول أن يقدم معرفة بتصورات ابن المقفع حول السياسة، أو العلم السياسي الذي يراهن العقل بدل المراهنة على القنوات الدينية في التعاطي مع الشأن السياسي. «لقد وضع ابن المقفع يده على عدد من الانحرافات داخل المجتمع، فصاغ هذا التصور للحكم النافع، حكم حاضر مرتكز على العقل، لكن أيضا على النظام والضرورة».
ينقسم الكتاب إلى اقسمين:
القسم الأول بعنوان «نظرية السلطان»، ويتكون من فصلين: الفصل الأول بعنوان «في عقلانية السلطة والسلطان». في هذا الفصل يعرض الباحث للمرتكز العقلاني للسلطة السياسية النابع من طبيعة المجتمع القائم على ثنائية الحاكم والمحكوم. «إنها فكرة جديدة في المجتمع الإسلامي وغريبة عن الإيديولوجيا المهيمنة». ومن ثم، يهتم بمعرفة التمثل الذي يقيمه ابن المقفع حول علاقة العقل والدولة بشرعنة تأسيس السلطان على العقل. ها هنا يعتبر أن السلطة السياسية ضرورية للاجتماع وتحقيق رخاء العامة التي تبقى، في نهاية الأمر، غير قادرة على الحكم. فابن المقفع يربط غياب «السعادة«بغياب سلطة سياسية قادرة على استتباب الأمن. ثم إن شرعية الأمير تنبني، في تصوره، على وجوب الطاعة. «بيد أن الطاعة لا يمكن أن تقدم إلا لمن أسماهم بـ «الملوك العظام». لا يستحق الأمير الطاعة إلا إذا استجاب لتطلعات العامة والمهام المرتبطة بمرتبته». فأجل ما يخشى هو أن تقوم العامة بالأمر، لأن هذه الفئات عنوان عريض لكل أشكال الانحطاط: «يبدأ الانحطاط عندما يباح للرعايا أن يشغلوا أنفسهم بأشياء أخرى غير أشغالهم التقليدية وأنشطتهم المألوفة. العامة شديدة الحساسية إزاء المعتقدات، وهي تتبعها تقريبا دون تفكير في طبيعتها». فالعامة إذن، حسب ابن المقفع، مجبولة على التقلب والاحتكام إلى الدين وجلب أسباب الخراب والفتنة. أما النخبة فتتمتع بتفوق أخلاقي يضعها في قمة المجتمع، وهي تتفوق نتيجة تألف ثلاث وظائف اجتماعية تجعل حضورها أساسيا لتقويم الحكم وتنظيمه وإصلاحه».
في ما يخص سؤال السلطة (أو السلطان) عند ابن المقفع، فهو موضوع للصراع دائما، لأن الكل يسعى إلى حيازته والتمتع بامتيازاته. ثم إن السلطان يتميز بالتقلب، لأنه محط أطماع كل القوى المتربصة. وهو إلى جانب ذلك مرتبط بمفهوم الزمن. لذلك، فإنه ينقسم إلى قسمين: السلطان الدائم: نميز فيه بين صفتين: ملك الدين وملك الحزم، ثم سلطان الهوى، وهو شر غير نافع، لأنه يزرع العطالة بين العامة وحاشية الأمير.
في الفصل الثاني من القسم الأول، يستعرض الباحث «مأسسة المجتمع أو تأسيس الدولة، من خلال تعيين الدولة، ليس كقوة فكرية، بل كتعبير فاعل وملموس في حياة الناس. ومن ثم، فابن المقفع يجرد الدولة من طابعها الروحي، حيث يعتبرها قوة وسيدة السلم والحياة الاجتماعية. وبهذا المنظور، فهو يميل إلى الموضوعية السياسية، بالإضافة إلى فكرة التخليق السياسي التي تعتبر خاصية ملتصقة بالفكر السياسي عموما. والدولة باعتبارها قوة لها وظيفتان: وظيفة دفاعية، وأخرى بانية للشأن العام. وتعمل في إطار نظامين ينبنيان على العصبية والتحالف وتنظيم الجيش وإثبات السلم بواسطة تنظيم مصالح الاستخبارات. ثم إن الدولة، في علاقتها بالفضاء العمومي، حاضرة من خلال لا مركزية الموارد الجبائية من أجل ضمان عائدات دائمة للخزينة. و«تعتبر “اللامركزية”، ف يمنظور ابن المقفع، تقنية للتخفيف من حدة الاضطرابات». ويسوق الباحث أمثلة على هذا الفكر المتقدم لابن المقفع من خلال استعراضه لأساليب تحكم الدولة في المجال الترابي وجباية الضرائب وتدبير الموارد وعلاقة النشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
أما القسم الثاني من الكتاب، عنوانه «الأخلاق والسياسة. مشروع ابن المقفع»، فيضم فصلين: الفصل الأول يعرض لـ «الملكية باعتبارها نظاما وحيدا»، حيث يرى ابن المقفع أن «الشكل الملكي للحكم ترتب، من جهة، عن أوضاع تاريخية قديمة جدا عندما أدرك الناس ضرورة وجود ملك قوي وحكيم يحميهم من الفتن واضطرابات الفوضى، و(ترتب) من جهة أخرى عن طبيعة السلطة السياسية نفسها». وبعد استعراضه لوظيفة الملكية ونموذجها وصفات الأمير النموذجي والمحيط الذي ينبغي أن تمارس فيه، ينتقل الباحث إلى الفصل الثاني، وعنوانه ««تنظيم الحكومة»، انطلاقا من مبدأ الفضيلة وأخلاق صحابة الأمير. ثم يعرض للمبادئ المفسدة للحكومة كالحرمان والفتنة والهوى والفظاظة والزمان ثم الخرق. وحين يصل إلى الحاكم المستبد أو الظلم، يطرح مبدأ نظرية الحكيم الرادع وأساليب مقاومة الجور.
(صدر هذا العرض، في الأصل، ضمن جريدة الاتحاد الاشتراكي ليوم 25 يناير 2000.)
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: السبت 08-09-2012 10:41 مساء