تمهيـــد:
0. 1. يتيح تأمل الإنتاج الفكري الذي أصدره الأستاذ حسن المنيعي إلى اليوم تبين الموقع الذي يطلق منه هذا الإسهام، وهو: بدل السّعي إلى بناء مشروع نقدي ما أو الانخراط في مدرسة محدَّدة في معالجة مجالات اهتمامه التي لا يشكل الإنتاج الأدبي بمختلف أجناسه سوى أحد واجهاتها، بدل ذلك اختار أستاذنا موقعا أفضى بكتاباته إلى الانفتاح على واجهتين، سيكون هاما في يوم من الأيام تناولهما بالدراسة الكمية والكيفية. تتمثل الواجهة الأولى في الإنتاج الشخصي، أي في المؤلفات التي تتضمن دراسات يوقعها باسمه[1]. أما الثانية التي يمكن تسميتها بـ «العمل الوثائقي»، الذي يشكل – كما هو معلوم – مرحلة لا غنى عنها لكل إنتاج فكري، فهي عبارة عن ترجمات وتلخيصات يتخللها إسهام شخصي. وقد صار يدرجها مؤخرا ضمن ما يسميه بـ «الإعداد والترجمة»[2].
وإذا استحضرنا أن مجموعة من كبار النقاد والمفكرين المشارقة، بل وربما حتى بعض المغاربة، قد مارسوا هذا العمل الوثائقي، مجسَّدا في الترجمة أساسا، في مستهل حياتهم الثقافية، ثم عزفوا عنه نهائيا للاقتصار على الإنتاج الشخصي، إذا استحضرنا ذلك، فإننا لا نملك سوى التساؤل عن سبب إصرار أستاذنا على ملازمة هذا الموقع رغم أنه تحول إلى أحد معالم النقد المغربي المعاصر التي لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزها في أي تأريخ للنقد المغربي المعاصر، في شقه المسرحي على الأقل. ما سبب هذا الإصرار؟ أيضمر وعيا بأن الشرط لم يحن بعد لإرساء بناء نظري مغربي خالص أم يترجم اختيارا لملازمة الموقع الخلفي الذي لا غنى لكل واجهة عن إمداداته؟ ذلك ما لا تتأتى الإجابة عنه إلا بدراسة تقتصر على الموضوع نفسه، وتنصب على دراسة إنتاج الرجل، والخطاب الذي يصوغه حول هذا الإنتاج، والرؤية التي يحملها تجاه المشهد النقدي بالمغرب، وأخيرا دراسة إنتاج الذين تتلمذوا على يديه وصاروا من أكبر الفاعلين في الساحة النقدية الآن.
1. 1. ضمن القسم الثاني (العمل الوثائقي) يندرج كتابه ما قبل الأخير، الذي أصدره تحت عنوان «عن الفن التشكيلي»[3]. وهو امتداد لكتابات سابقة في الموضوع نفسه، نشرها المؤلف منذ مستهل الستينيات، وأخرى أصدرها في بداية الثمانينيات[4]، وتدور كلها – فضلا عن متابعة معارض بعض الفنانين التشكيليين الجمياعة والفردية – (تدور) حول نشأة الفن التشكيلي بالمغرب في علاقته بالمثاقفة، وتتناول بالنقد والتأريخ أعمال الفنان المغربي محمد القاسمي بمراحله الأربعة – الواقعية التعبيرية، والتجريدية المطلقة، والمسيرات، ثم ما بعد المسيرات (والتحقيب لحسن المنيعي طبعا)- ، كما تتطرق للكتابة والنقد التشكيلين، وتعالج مسألة الفن الساذج بالمغرب.
ولو أدرجت هذه الدراسات ضمن مواد الكتاب الحالي لتضاعف حجمه ولصار يتألف من قسمين متينين، أحدهما نظري، يعالج الفنون التشكيلية في بعدها العالمي، والآخر تطبيقي ينصب على أحد التحققات الجهوية – إن جاز التعبير – لهذه الفنون.
يتألف الكتاب الحالي من قسمين:
– الأول عبارة عن إسهام شخصي يتمثل في دراستين، الأولى تحت عنوان «مدارس الفن التشكيلي الحديثة»، والثانية تحت عنوان: «مجرد كلمة عن الفن التشكيلي».
– أما القسم الثاني، فهو عبارة عن دراسات قصيرة جدا في معظمها، يمكن تصنيفها، بحسب مواضيعها، إلى أربعة أنواع:
– نصوص نظرية في الفن.
– نصوص تتناول مدارس فنية بعينها.
– نصوص تنصب على جوانب جد محدّدة في الفن التشكيلي.
– نصوص بقلم فنانين تشكيليين.
1. 2. مما سبق يتضح أن:
أ) الكتاب الذي بين ايدينا – على صغر حجمه – نجح في تنويع مادته، بما جعله يطرح قضايا عديدة ومتشعبة لا تهم حقل الفنون التشكيلية وحدها، بل وكذلك قضايا النقد الفني، والعلاقة بين الشعر والتشكيل، وتاريخ الفن، وربما فلسفة الفن ذاتها.
ب) من الصعب جدا تلخيص محتوى هذه النصوص، لا سيما أنها عبارة عن مقاطع قصيرة، ربما تعمَّد المؤلف اجتزاءها من كتب ودراسات لتتَّخذَ مادَّة للتحليل، ذلك أنه استهدف بمؤلفه هذا فئة محدَّدة من المتلقين، في المقام الأول، وهم تلاميذ الباكالوريا (شعبة الفنون التشكيلية) وطلبة مراكز التكوين المهني المتخصصين في الشعبة ذاتها.
ج) لتسمية محتوى الكتاب تمَّ استخدام مصطلح واحد بصيغتين، الأولى مفردة، وهي «الفن التشكيلي»، كما في العنوان، والثانية بصيغة الجمع، وهي «الفنون التشكيلية»، كما في خاتمة الكتاب. ومعلوم أن لهذا المصطلح معنيين:
أحدهما شائع ربما يتأصل في خطاطة التقليد النقدي الذي جمع منذ عصر النهضة كلا من الرسم والهندسة والنحت والصباغة والحفر في مصطلح واحد، هو: l’arte del designo.
والآخر ضيق يقتضي مقابلة مصطلح «فنون تشكيلية» نفسه «بالفنون الخطية، وبالتالي التمييز داخله بين فني الحجم، وهما النحت والهندسة، وفنون المساحة وهي الرسم، والصباغة، الحفر.
ومع أن قراءة المادة التي يتضمنها الكتاب تعطي الانطباع بأن التركيز فيه واقع أساسا على الرسم والصباغة، إذ تحاشى المؤلف ترجمة نصوص تتطرق كليا للنحت والحفر والهندسة المعمارية، فإن المصطلح مستعمَلُُ بدلالته الضيقة، إذ يرد الحديث في ثنايا مجموعة من النصوص عن النحت والهندسة المعمارية.
2. 0. المدارس التشكيلية الحديثة والنقد التشكيلي:
2. 1.. المدارس التشكيلية الحديثـة:
تطرح مسألة الحديث عن المدارس الفنية أسئلة عديدة منها: أي معيار يجب اعتماده للحديث عن مفهوم المدرسة؟ هل المدرسة حركة تضم جماعة من الفنانين لهم آراء نظرية في الفن، يعبرون عنها في بيانات (على نحو ما فعلت حركة «دادا» أو «البروكا Brücke»، أو «السوريالية») تجد ترجمتها في إنتاجاتهم الفنية أم أن المدرسة إنتاج يستمد وحدته من مجموعة من الخصائص يكشف عنها نقاد الفن آنيا أو لاحقا على نحو ما تمَّ مع حركتي الـ «بوب-آرت» أو «الصباغة الميتافيزيقة»، مثلا؟ كيف نعرض المدارس التشكيلية؟ أنعرضها في تسلسلها الكرونولوجي، في اتصالها وانفصالها عن المدارس السابقة، في توالدها – إن جاز التعبير – من خلال تبادل التـأثير فيما بينها أم نؤرخ لها بحسب انتماءاتها الجغرافية والقطرية؟
لقد تعامل الكتاب الحالي مع المسألة بشكل أصيل، يتمثل في اعتماد قطبين، هما الفنان والطبيعة، ثم عرض المدارس التشكيلية تبعا لنوعية العلاقة التي يقيمها الفنانون مع الواقع، الأمر الذي أفضى إلى إدخال المدارس ذاتها، ضمن أربع مجموعات كبرى، هي:
– الواقعيون: وهم الذين يعبرون عن الطبيعة بإخلاص
– السذج: وهم الذين يستوحون مشاهد الطفولة وبيئة تربيتهم الأولى خارج أي انشغال بالقواعد الفنية.
– الذين ينظرون إلى الطبيعة بغرابة، وهم ينقسمون إلى أربع مدارس، هي:
أ) الدادية (1616-1923): بشقيها: مدرسة زوريخ ومدرسة نيويورك. وقد رفض أصحاب هذا الاتجاه الانصياع لجميع التقاليد والقواعد الفنية السابقة عنهم، بل مضوا إلى حد الدعوة إلى قتل الفن والإنسان نفسه، مرتكزين في ذلك على التيارات الفكرية الفوضوية.
ب) السوريالية: سعت إلى إبراز الجميل في ما هو تافه.
ج) البوب-آرت: ظهرت في إنجلترا، ثم انتقلت إلى أمريكا، وأدرج أصحابها في لوحاتهم نفايات وعناصر من الحضارة الاستهلاكية.
– الذين يشوهون الطبيعة:
أ) الوحشية: وتهدف أساسا إلى إبراز اللون دون خجل ولا ضلال أو توهيمات.
ب) التكعيبية: وعمدت إلى نقل الصور الطبيعية منكسرة ومطابقة لإحساس الفنان وعواطفه اثناء المشاهدة.
ج) المستقبلية الإيطالية: جعلت من إنتاجها أنشودة لتفوق الآلية والتقنية.
د) التعبيرية: يأخذ أصحابها مادتهم من الواقع، ثم يغيرونها ويصبغون عليها صورا شخصية تعبر عن سخطهم واحتجاجهم أو مواساتهم للمخلوقات المظلومة.
هـ) التعبيرية الجديدة: وتتردد بين الواقع والتجريد، إنتاجهم يبدو تجريديا أثناء الوقوف عليه لأول وهلة، على أن الناظر المتفحص يكشف فيه ألوان الطبيعة.
و) التجريديـة: ترفض الواقع استنادا إلى رؤية تجعل للفن ميدانا حقيقيا ينفرد عن ميدان الطبيعة ويخضع لقوانين الطبيعة. وينقسم هذا التيار إلى قسمين:
– التجريد اللاشكلي: يرفض أصحابها كل ضغط خارجي، ويباشرون عملهم بمنتهى الحرية، وينقسمون بدورهم إلى ثلاث مدارس، هي: أصحاب العنف، وأصحاب التنميق، ثم الغنائيون.
– التجريد الهندسي: اتخذوا من الهندسة طريقة للتخلص من القلق، ونبذ الغموض، ودحر الخوف.
وإذا كان هذا العرض لا يستوفي جميع المدارس التي تعرضها الموسوعات، فإن المؤلف يترك المجال مفتوحا لتصنيف هذه المدرسة أو تلك عندما يعرض معيارا آخر للتصنيف، وهوأن جميع المدارس تنحدر من حركتين متعارضتين ظهرتا في العشرينيات الأولى من هذا القرن، وهما: المستقبلية الروسية التي ترى أن للفن وظيفة اجتماعية، ثم الدادية التي تسخف وظيفة الفن. ومن هذا المنظور يكتفي «المؤلف» في عرضه بالإشارة إلى مجموعة من المدارس مثل: «الفن الفقير»، «اللاندت آرت»، «الهابننغ»، و«الفورتسية»، على أن مجموعة من النصوص المترجمَة ستنصب أساسا على عدد كبير من المدارس، فيها ما تمَّ ذكره في التصنيف السابق وفيها ما لم يرد ذكره.
3. .النقد التشكيلي:
تشكل الدراسة التي تحمل عنوان «مجرد كلمة عن الفن التشكيلي»، وهي شبه خاتمة تعرض تأملات في قضايا التأريخ للفن التشكيلي، والنقد في الفن التشكيلي، ثم علاقة الفن التشكيلي بالشعر، تشكل جانبا أصيلا في الكتاب.
بخصوص تاريخ الفن، يرى المؤلف أن هذا النشاط ملازم للكائن البشري باعتباره إنسانا صانعا (Homo-Faber)، ومن ثمة فالبدائي والمتحضر يقفان على قدم المساواة في هذا الباب، الأمر الذي يطرح إشكالية مقاربة الفن: هل يقارب باعتباره مقولة متعالية أم يدرس في اقترانه بالبعدين المكاني والزماني؟ لكل وجهة نظر أنصار، والذين أرخوا للفن صادفوا صعوبات جمع المادة، وراعوا اعتبارات نظرية أدت إلى إقصاء تيارات فنية بكاملها من مصنفاتهم التاريخية (أقصى الناقد هربرت ريد، مثلا، الفن الساذج من كتابه).
أما الخطاب النقدي حول التشكيل ، فهو الآخر يتوزعه تياران، أحدهما صحفي بسيط يقوم على الانفعال، والآخر أكاديمي جمالي يعالج التشكيل في شموليته أو يتخصص في مدرسة محدَّدة. وإذا كان النقد التشكيلي ليس بالممارسة البيسطة، فإن المساهمة الفعالة فيه ستأتي من حقل مجاور، وهو الأدب. وفي هذا الصدد يعرض المؤلف إساهمات كل من ديدرو وأبولينير، والشاعر الإيطالي مارينيتي، وإزرا باوند… ثم يخرج بالخلاصة التالية: «إذا كان الأدباء الرواد قد ربطوا علاقات متينة مع الفن التشكيلي تدعمها قيم ومبادئ فنية، فإن النقد التشكيلي (من خلال نموذجه الفرنسي مثلا) سيعرف مغامرة يقوم أغلبها على حرية لا حدود لها في سلوكات النقاد».
وتكمن أصالة هذا القسم من الكتاب في كونه يتجاوز مقاصد مؤلفه المعلنة إلى جانبين أساسيين، هما:
– فتح جسور بين الفن التشكيلي والإبداع الأدبي (الشعري منه على الخصوص)، إذ لا غنى للشعراء عن التشكيل كما لاغنى للتشكيليين عن الشعراء. وفي هذا المستوى يكون الكتـاب بمثابـة دعـوة لمواصلة وترسيخ هذا التقليـد في المغـرب الذي لم يشهد حتى اليوم سوى ثلاثة لقاءات منه [2].
– الدعوة إلى قيام نقد تشكيلي متخصص مبني على تعدد المعارف والاهتمامات.
ونرى أن المؤلف نفسه قد قدم المثالَ في هذا الصَّدد عندما تحاشى اختزال خطابه إلى الجانب التقني في التشكيل، وزاوج في المادة المعروضة بين أصوات الفنانين التشكيليين أنفسهم، وشعراء / نقاد تشكيليين وربما حتى فلاسفة.
3. 0. عـن الفـــن عمومـا:
3. 1. يرى ميرسيا إلياد أن أهم ما اكتشفه الإنسان الحديث هو تاريخيته وموته الحتمي. وفي المنحى نفسه يطرح مالرو أن من اكتشافات الإنسان الحديث كون الانتصار على الموت يتحقق، والطريق إلى ذلك هو النبوغ، أي الفن. والفن يعتمد على ثلاثة عناصر هي: الحلم والخيال والشكل. يحقق الإنسان بقاءه من خلال الشكل الذي تصبح عليه صفة العالم من خلال الإنسان. وبموت الإنسان يبدأ الشكل حياته اللامتوقعة. فمآثر المصريين ولوحات ميكل أنج ورسوم الكهوف، لم يكن أصحابها بالتأكيد يرونها بالشكل الذي نراه بها اليوم.
فتلك المنتوجات تنتمي إلى الأزمنة القديمة، وتؤدي وظائف محدَّدة في سياق تهيمن فيه رؤية دينية للكون والمجتمع، ستقلبها الحداثة رأسا على عقب، الأمر الذي سيكون له انعكاس قوي على الفن ذاته من حيث المفهوم والوظيفة والتحقق.
3. 2. في هذا السياق، يرى تعريفُُ للحداثة بأنها «لا يمكن أن تكون شيئا آخر عير تعبير عن النسق القديم الذي يؤدي إلى بروز المجتمعات الديمقراطية القائمة على سيادة الفرد والشعب، والمتحررة من سيطرة الآلهة وترتبيات المجتمع الموروثة وكل تقليد سائد» [4]. وفي مجال الفن، على غرار الثورة الديمقراطية [التي] تحرر المجتمع من قوى اللامرئي ومن علاقته بالكون التدريجي، تسعى الحداثة الفنية إلى الغاية نفسها حينما تحرر الفن والأدب من عبادة التقليد الموروث، واحترام الأساتذة الأولين وكذا من نظام التقليد.
وفي فن الرسم، ما صار الفنان يبحث عنه هو قلب علاقة الشيء باللوحة بحيث يصير تابعا لها وليس العكس، الأمر الذي أفقد الفن موضوعا متميزا، وجعله مشرعا على سائر المواضيع، فرفض ماني الوضعة (la pose) ورسم الانطباعيون أحياء وضيعة ومقاهي، وأدرج التكعيبيون الأوراق والزجاج والحديد في لوحاتهم، وأدرج رواد البوب-آرت النفايات في لوحاتهم…
3. 3. في هذا السياق، تطرح مجموعة من القضايا نفسها بحدة، منها: ما نوع العلاقة القائمة بين الجمالية والفن؟ ما هي الاعتبارات التي ينبغي مراعاتها في إصدار أحكام على الإنتاج الفني عندما ينحو منحى شكلانيا محظا؟ هل التيارات التشكيلية المعاصرة منقطعة الصلة عن الموروث الفني بالشكل الذي يُزعَم؟
يرى البعض أن جميع الاعتبارات الجمالية تكون على الدوام غريبة عن وظيفة العنصر أو علة وجوده، وبالتالي فالفكر الجمالي يخطئ عندما يتخذ من الأهرام أمثلة – في حقل الهندسة المعمارية – لأن هذه البنايات في الأصل لا علاقة لها بالفن، ومن ثم فمن الضروري فصل الجمالية عن الفن، لأن دور الجمالية ينحصر عموما في تقديم أحكام حول إدراك العالم، بينما للفن وظائفية لا علاقة لها بالحكم الجمالي..
وإذا كان الفن الشكلاني يتأسس على أن الإنتاج الفني هو ما يقدم باعتباره كذلك، الأمر الذي يترتب عنه ضرورة عدم مراعاة أي شيء آخر غير الشكل، فإن النقد الشكلاني لا يعدو مجرد تحليل عناصر ملموسة لموضوعات خاصة توجد أصلا في سياق «شكلي عادي، وبالتالي لا يضيف أي معلومة لما نعرفه عن الطبيعة أو الوظيفة الفنية. وفي هذا الإطار، تخلص مناقشة مدرستي ما يسمى بـ «الفن الجاهز المصنوع» و«الفن التصوري» والتكعيبية إلى استحالة وجود قطيعة بين هذه التيارات والمدارس السابقة. ومن ثم، يليق الفن باعتباره «تعليقا على الفن» [5].
4. 0. عـن بعض المدارس التشكيلية الحديثـة:
4. 1. وفي السياق نفسه (سياق علاقة الفن المعاصر بالفن الموروث ثم علاقة الإنتاج الفني بالطبيعة (التي اعتمدها المؤلف أساسا لعرض المدارس التشكيلية المعاصرة، كما رأينا)، يرى أنصار الفن التجريدي أنه وإن كان يبتعد عن الطبيعة، فإنه يؤسس طبيعة أخرى تبدو خلقا أو ابتكارا جوهريا في الأساس، وبالتالي يجب تسميته «فنا واقعيا وملموسا» [6]. أما النتاجات التي تدرَج عادة ضمن الفن الواقعي، فالأليق بأصحابها ألا يوقعوها، والأليق بتلك الرسوم والنماذج أن تظل مجهولة في نطاق الطبيعة على شاكلة السحب والجبال والبحار والحيوانات والكائنات البشرية، لأنها وإن انبثقت من الطبيعة، فهي لا تتسامى عنها، ولا تنطبع بصفة روحانية.
وإذا كان هذا التسامي والسعي إلى الانطباع بصفة روحانية يعكس رغبة في خلق تعبير تشكيلي جديد، فإن الرغبة نفسها ستجد مسالك أخرى عند تيارات كالتكعيبية والتحطيمية:
4. 2. فالتكعيبية، بتلويناتها الأربعة (العلمية، والحسية (أو الفيزيقية)، والأورفية، والفطرية) بحسب تنظير أبولينير، وجدت سبيل الجدة في الرسم الخالص، في جعل الفن التكعيبي «بالنسبة للرسم ما هي عليه الموسيقى بالنسبة للأدب. إنه الرسم الخالص، كما أن الموسيقى هي أدب خالص»[7].
4. 3. في حين وجدت التحطيمية بتنويعاتها («الوقعة» والـ «البوب-آرت»، مثلا) سبيل الابتكار في خلق علاقة معينة مع عالم التقنية عبر الإنتاج الفني، وذلك بالربط القوي بين الأثر وفكرة الحفل على أساس أن نفهم الحفل هو تحطيم نظام سابق[8]، وبذلك كان «وول فوستل» يمزق مناشير الإشهار ويحرقها، وينظم حملات من نطاق «الوقعة»، وكانت «نيكي دي سان بول» تربط عنصر التحطيم بعملية الخلق وتشرك المجمهور نفسه في عملية الرسم.
4. 4. اتجاه هذا الاتجاه التحطيمي يميز البنائيون (نسبة للمدرسة البنائية constructivisme)، التي ظهرت في العشرينيات من القرن الحالي وألهمت الهندسة المعمارية في المقام الأول، ثم الفنون التشكلية في مقام ثان)، يميز بين تصورين للفن:
– تصور يرتكز على نظرة غامضة للكون والموت، يقوم على الزخرفة، فن هو عبارة عن ثروة شاذة لدى بعض الأفراد، إنتاج يتهافت عليه زمرة من المضاربين، وذلك هو الفن الكلاسيكي والمدرسة المستقبلية على السواء [9]؛
– ثم تصور ثان يجعل من الفن نفسه يعمل من أجل البناء، ينتجه أفراد عاديون بمواد من الحياة اليومية، من عالم الصناعة بالخصوص، موجه نحو الاستعمال، ويعيش في هندسة المنازل ودقة دوران الآلات [10].
5. 0. بعـض قضايا الفـن التشكيلي:
يتناول هذا القسم ثلاث قضايا، هي «إنتاج اللوحة»، «نسخ اللوحات» أو مسألة ما يصار يعرف اليوم بـ «الفن الزائف»، وأخيرا مسألة «الشكل [باعتباره] ضرورة للإنجاز».
5. 1. إنتاج اللوحـة:
يعالج الشاعر بودلير الذي عاصر دولاكروا وكتب عنه، مسألة إنتاج اللوحة في صلتها بالحلم، والانطباع، ثم الرشاقة (وهي المصطلحات ذاتها التي ستتردد في نصين لدولاكروا)، ثم يرى أن الإنجاز الدقيق جدا يترجم لغة الحلم بمنتهى الوضوح، والإنجاز السريع حرصُُ على عدم ضياع أي شيء من الانطباع الخارق الذي يصاحب التصور، في حين متى وجه الفنان عنايته للخاصية المادية للأدوات تعين «عليه أن يتخذ التعابير اللازمة ليجعل إنجازه رشيقا وحاسما» [11]. وعلى ضوء هذه المنهجية المنطقية يثير الشاعر مسائل تتعلق بالمنظر والفضاء الداخلي واللون والفكرة مثيرا تجارب رسامين أمثال روبنس، ودولاروش وهوراس فرني.
5. 2. نسخ اللوحات: نص لـ م. س. بارون، موقع سنة 1974، كتبه صاحبه على إثر زيارة معرض للوحات «المستنسخة» لكبار الرسامين، أمثال ليونارد دو فانسي، ورفائيل، برودون، وروبنس، وإنجرس، وشاردن. فيصنف اللوحات المنسوخة إلى فئتين:
– إما أن تكون اللوحات صادرة عن دراسة أحد التلامذة، وفي هذه الحالة نكون أمام تأويل مادام عمل التلميذ قد اقتصر على إعادة رسم المشهد الأصلي على طريقته.
– أو أنجزت لغاية واحدة وهي تعميم اللوحة، وفي هذه الحالة يكون الهدف هو التعريف باللوحات الأصلية بأسلوب جيد.
ثم يعود بالظاهرة إلى زمن دورر Durer ورفائييل، حيث استعمل رسامون أسلوب الحفر… ويقول إن الظاهرة تطورت إلى ظهور معارضين كبار أمثال لانكريه، وتينييه، وريبو، وأغست طرونسي. ويثير مسألة وقوع اللوحات المنسوخة في يد مجمعين، واتخاذها وسيلة للمضاربات التجارية.
5. 3. أما نص الشكل ضرورة للإنجاز: فيرى أن الصور والذكريات تكتفي بذاتها وتتكون من فنون مجهولة تكمن جميعا في الفكر، إذ تضع الذاكرة رهن إشارة كل منا ريبرتوارا كله ثراء، وما يفعله الفنانون هو ترشيد الذاكرة بكيفية تؤسس لديهم شكلا يخول الانفلات من استبدادية الموضوع. ولإضاءة هذه الفكرة، يقارن بين الموسيقى والرسم قائلا: «كما أن الموسيقي لا يسمع في داخله “رسم موسيقاه” أو علاقة أرقام، وإنما يسمع رنات وآلات وجوقة؛ فكذلك الرسام. إنه لا يرى في داخله تجريدية لوحته، بل إيقاعات ونموذجا مجسما ولمسة. إن يده تعمل في باطن فكره، بحيث تبدع المحسوس في التجريد والوزن في اللاوزن».
6. شهـادات (أو تأملات) الفنانين في الفن:
يتكون هذا القسم من ثلاثة نصوص، اثنان لدولاكروا، أحد كبار رسامي القرن الماضي بفرنسا – الذي يصنف النقاد إنتاجه إلى خمس مراحل (هي: «تلقيد كروس والفينيين، الرومانسية، نحو ألوان مفتوحة، الإستطيقا الكلاسيكية، وأخيرا، الذاكرة والموسيقى والروحانية). أما النص الأخير، فهو لبيكاسو الذي يعتبره البعض أكبر رسامي القرن العشرين على الإطلاق، لأنه، وإلى حدود الخمسينيات، ما من مدرسة تشكيلية إلى وخضعت لتأثيره بطريقة أو أخرى.
6. 1. يثير دولاكروا في تأمله «أصل النتاج» مسألة المفارقة القائمة بين الرسم الإعدادي والعمل النهائي. فالرسم الإعدادي يشكل التعبير الأسمى عن الفكرة بيد أنه بمقدار ملئه بالتفاصيل يبتعد عن الفكرة، يتعرض للتحريف. ومن ثم، فهو [=دولاكروا] يرغب في «أن يرسم رسما إعداديا ونهائيا في الوقت نفسه، يرضي الخيال والفكر بلمسة واحدة»[12]. وهذه الفكرة شكلت انشغالا متواصلا للتشكيليين، إذ قال ديردو في صالونه لعام 1765 إن «للرسم الإعدادي توهجا تفتقده اللوحة»، ورسَم جيورجيوني وتيتيان الإيطاليان مباشرة على القماش (alla prima)، دون مراحل وسيطة. وللرسم الإعداي هذا سلطة محرٍّرَة ستؤكد نفسها مع الرومانسية وبعض رسامي المشاهد الطبيعية. كما أن الرسامين الحديثين، والانطباعيين من قبلهم، سيرسمون في اللوحة مباشرة.
6. 2. . أما في نص الخيال هو الطاقة التي تؤكد وحدة النتاج وتماسكـه، وهو بدوره مقتطف من مذكرات دولاكروا، فيقع التركيز على الخيال والانطباع بما يعكس رفضه للواقعية الحرفية، لأن الجمال بحسبه يكمن في ما يضفيه الرسام على مشاهد الطبيعة وليس في نقلها حرفيا.
6. 3. وموضوع الطبيعة نفسه هو ما يثيره مقطع من تأملات بيكاسو الذي يدرجه المؤلف ضمن التشكيليين الذين يشوهون الطبيعة. إذ يتحدث عن مرحلته المسماة «زنجية» (في إشارة إلى عماله التي بدأت «بلوحة آنسات آفينيون» سنة 1907)، مؤكدا أنه وجد في تلك الأقنعة المعنى الحقيقي للرسم، وهو ليس الجمال الخالص، وإنما هو إعطاء شكل للرغبة والمخاوف [13]. ثم يدعو مشاهدي اللوحات إلى التعرف علتى الطبيعة في نطاق معين، مادم الأمر يتعلق (في التجربة الإبداعية أم اللوحات) بصراع قائم بين عالم الفنان الداخلي وإكراهات الخارج.
كلمـة أخيـرة:
بعد هذا العرض المختزل يتضح أن كتاب «عن الفن التشكيلي» يتضمن مادة غنية جدا، ويتجاوز إلى حد بعيد المقصد الذي أعلن عنه صاحبه في مستهله. ذلك أنه تجاوز الجانب الوظيفي إلى زوايا أخرى بما جعله لا يفيد تلاميذ الفنون التشكيلية وطلبتها فحسب، بل وكذلك الأدباء وعموم المثقفين بما يثيره من قضايا تمس فلسفة الفن وعلاقة بين الفنون التشكيلية والموسيقى والشعر .
—————
هوامش
[1] يتعلق الأمر بـ:
1 – أبحاث في المسرح المغربي، مكناس، مطبعة صوت مكناس، 1974.
2 – آفاق مغربية، مكناس، الطبعة الوطنية، 1981.
3 – هنا المسرح العربي… هنا بعض تجلياته، مكناس، منشورات السفير، 1990.
4 – المسرح المغربي [من التأسيس إلى صناعة الفرجة]، فاس، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، 1994.
– المسرح مرة أخرى، طنجة، وكالة شراع، سلسلة كتاب نصف الشهر، الكتاب رقم: 49، 15 فبراير 1999.
مكنـاس، مطبعة سندي، 1997 (في 100 ص).
[2] يتعلق الأمر بــ :
1 – التراجيديا كنموذج، البيضاء، دار الثقافة، 1975.
2 – نفحات في الأدب والفن، بيروت، دار الآفاق الجديدة، 1981.
3 – المسرح والارتجال، البيضاء، عيون المقالات، 1992.
4 – المسرح والسيميولوجيا، طنجة، منشورات سليكي إخوان، 1995.
5 – دراسات في النقد الحديث، مكناس، مطبعة سندي، 1995.
6 – الجسد في المسرح، مكناس، مطبعة سندي، 1996.
7 – قراءة في الرواية، مكناس، مطبعة سندي، 1996.
8 – عن الفن التشكيلي، مكناس، مطبعة سندي، 1999.
[3] مكناس، مطبعة سندي، 1997 في 100ص).
[4] نفي كتابه آفاق مغربية، مكناس، الطبعة الوطنية، 1981.
————-
مداخلة ألقيت ضمن اشغال ملتقى فاس الثاني للفنون التشكيلي (أيام 16، 17 و18 أبريل 1999)، يوم السبت 17 أبريل 1999، ثم نشرت في مجلة آفاق، ع. 6364/2000، صص. 309-321.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأحد 26-08-2012 05:56 صباحا