من بين كل القضايا التي تناولتها الأنثروبولوجيا، فإن مسألة السحر هي التي أثارت الفضول أكثر بين الباحثين. وحيثُ ليس لممارسة السحر ما يناظرها في المجتمع الحديث، فقد تمَّ اعتبارها نموذج السلوك اللاعقلاني نفسه، والغامض، والغرائبي. ولكننا لن نفهم الخصوبة النظرية لمشكلة السحر إذا توقفنا عند مجرد الافتتان بالغامض والغرائبي. أثار السحر اهتماما نظريا في الأنثروبولوجيا لأنه ظهر في مفترق الطرق بين ظاهرتين مألوفتين في المجتمعات الحديثة وضروريتين لتعريفها، وهما العلم والدين. للوهلة الأولى، يبدو السحر أقرب إلى العلم منه إلى الدين لسببين:
فمن ناحية، إنه يَفترض وحدة قوانين الطبيعة ويدعي التأثير فيها بفضل معرفة هذه القوانين، ما يجعله أقرب إلى العلوم التطبيقية والتقنية؛
ومن ناحية أخرى، إنه يُزاول من لدن أشخاص هامشيين يُنظر إليهم بوصفهم بارعين أو أشرارا وليس من قبل جماعات تلتئم حول عبادة ما، ولهذا السبب كان الساحر المتمرِّن صورة لعالِم البدايات أكثر من كونه كاهنا. ولكن السحر قريب من الدين لكونه يستشهد بكيانات غير مرئية يُسلَّمُ بقدرتها على التدخل في العالم المحسوس؛ وهو في هذا لا يزال يُشارك في نمط التفكير الديني، ويستخدم مفاهيم دينية للتأثير في العالم. وبذلك، قد يكونُ السحرُ إيذانا للعلم في المجتمعات الدينية واستمرارا للدين في المجتمعات العلمية.
لذا، كان التحدي الأكبر أمام علماء الأنثروبولوجيا هو فهم كيف يمكن لتصرفٍ علمي في العالم أن يتطوَّرَ في المجتمعات الدينية دون أن يكون هذا العمل علميا حقا، بمعنى دون أن ينطلق من معرفة بقوانين الطبيعة التي تسمح بالتنبؤ بالظواهر. وبعبارة أخرى، فقد كانت المشكلة برُمَّتها هي فهم فعالية السحر. وكانت الفرضية الأولى لعلماء الأنثروبولوجيا هي إرجاع هذه الفعالية إلى مشعوذين ومضللين يفرضون على المجتمع تصوراتهم السحرية بنوع من الإيحاء التنويمي؛ ولكن مثل هذه الفرضية تقوم على منح الأفراد قدرة تأثير غامضة، وهي تفسر استمرار السحر في العديد من المجتمعات. ولذلك يجب أن يقدم لمشكلة السحر حلّ سوسيولوجي. بتعبير أدق، فالتناول السوسيولوجي هو الذي سيحل المشكلة الإبستيمولوجية التي يطرحها السحر: كيف نفهمُ أن الممارسة التي تدعي أنها تنطبق على الطبيعة يمكن الحفاظ عليها دون التحقق منها أو تزويرها؟ لفهم هذا الثبات الذي يتميز به السحر، يجبُ وصفُ طابعه النسقي (أو نسقيته) systématicité، أي علاقته بالتنظيم الكلي العقلي والاجتماعي في آن واحد. ولكن آنذاك، تُطرح مشكلة أخرى، وهي: كيف لنا أن نفهم أن شكلا من نقد السحر قد ظهر في بعض المجتمعات (في اليونان بالخصوص) دون مجتمعات أخرى؟ لذا، فمن الضروري أيضا أن نفهم كيف يمكن لهذا النظام الكلي للسحر أن يتراجع ويفسح المجال لطريقة التنظيم الذهني والاجتماعي التي نسميها العلم.
نقترحُ هنا تحليل الأجهزة النظرية التي وضعتها الأنثروبولوجيا عبر تاريخها لمعالجة هذه المشاكل التي أثارتها ظاهرة السحر. وسنميز بين ثلاثة أجهزة نظرية تتوافق مع ثلاثة أنماط من التنظيم النسقي المقتَرَح للسحر: الأول عقلي عند تايلور وفريزر، والثاني لغوي وسياقي عند مالينوفسكي وإيفانس بريتشارد، والأخير اجتماعي رمزي عند مارسيل موس وليفي ستروس. وعند المقارنة بين هذه الحلول الثلاثة لمشكلة السحر، نحن لا نقترح حلا جدليا أنيقا لهذه المشكلة، بل سنحاول، من خلال الرجوع إلى مصدر هذه المشكلة الأنثروبولوجية، كما صاغها تايلور وفريزر، رؤية كيفَ تمَّ تقديم حلين مختلفين انطلاقا من هذا الجهاز النظري الأول وضده، وذلك فيما سنطلق عليه التقليد البريطاني والتقليد الفرنسي (لنتجنَّب تأثير المذاهب الذي ينتج عن استخدام مصطلحي بنيوية ووظيفية). ولذا، سوف نقف على الفجوة بين هذين التقليدين، بدل أن نعلن عن انتصار أحدهما على الآخر، وذلك لقياس عواقب هذه الهوة على التفكير في قضية السحر. ومن شأن هذه الفجوة، على سبيل المثال، أن تجعل من الممكن قياس التباعد بين تحليل السحر في اليونان القديمة الذي اقترحه جيفري لويد Geoffrey Lloyd في إنجلترا ونظيره الذي اقترحه جان بيير فيرنان في فرنسا، وهو تباين يعودُ جزئيا إلى اختلاف مرجعيتيهما الأنثروبولوجيتين. ومن داخل هذه الفجوة أيضا سنقترح في الختام إعادة صياغة مشكلة السحر.
(1. المدرسة الأنجلوساكسوسانية أو النموذج العقلي واللغوي والسياقي)
(1.1. تايلور: التفسير العقلي)
كان الجهاز النظري الأول هو جهاز نظرية التطور في العصر الفيكتوري، مع خطها الشهير للتطور الذي تمر منه سائر المجتمعات بالضرورة، وهو الانتقال من السحر إلى الدين للوصول أخيرا إلى العلم. وقد جعل فريزر هذه الفرضية مشهورة، ولكن تايلور Tylor كان قد اقترحها أوّلاً تحت تأثير الداروينية وجيولوجيا لييل(1) Lyell. ويأخذ هذا القانون التطوري شكل شبه نوع من الجدلية: فالسحر شكلٌ من العلم، من حيث إنه يحاول أن يؤثر في الطبيعة، ولكنه علمٌ زائف لأنه لا يقدم سوى تفسيرات جزئية، ومن الضروري أن يمر بالتعميم الناتج عن الدين للوصول إلى العلم الحقيقي. وهذا التعميم في النظام الفكري يقابله تطهيرٌ في النظام الوجداني: فالسحر يرتكز على الخوف، والدين يتعلم التبجيل، والعلم يكتشف حُبَّ الحقيقة. يرى تايلور أنَّ السحر يقوم على خطأ ما، يتمثل في الخلط بين الارتباطات connexions المثالية والارتباطات الفعلية؛ إذ يستنتجُ منطقُ الساحر من صياح الديك عندما تشرق الشمس فكرة أننا إذا جعلنا الديكَ يصيحُ فستشرق الشمس. وهذا هو نوع الخطأ نفسه الذي يؤدي إلى ظهور الدين الإحيائي، لأن تايلور يفسره بالخلط بين الفرد الذي يُرى في الحلم وبين ظل هذا الفرد، ولكن هذا الخطأ يؤدي إلى إنتاج أفكار عامة، كفكرة الروح، تسمح بظهور العلم. بالتالي، فتايلور يَفهمُ السحر على النموذج الجيولوجي بوصفه طبقة من الخطأ والارتباك تمَّ طمرها، ولكنها يمكن دائما أن تظهر من جديد(2) .
(2.1. فريزر: النموذج العقلي)
هذا هو النموذج الذي يستخدمه فريزر لصياغة نظريته الخاصة للسحر، وهي نظرية لا تنطلق مباشرة، كما عند تايلور، من دراسة «للثقافة البدائية» بل من لغز فيلولوجي تطرحه حكاية كاهن نيمي Nemi التي سبق أن ناقشها رينان Renan. طبقا لهذه الأسطورة، فإن الكاهن-الملك لا يمكن استبداله إلا بعبد فارّ يعود، وقد جهز نفسه «بغصن ذهبي»، ثم يغتال الملك(3) . ولتفسير هذه الأسطورة التي تستدعي تدخل القوة السحرية لإحدى النباتات في طقس تغيير الملك، يقترحُ فريزر نظرية عامة في السحر في المجتمعات البدائية. يرى فريزر أن السحر يقوم على مبدأين يحكمان ترابط(4) الأفكار في الذهن البشري(5) ، هما مبدأ التشابه ومبدأ الاتصال. وقد أتاح هذان المبدآن لفريزر اقتراح تصنيف لأنواع السحر: فهناك سحرُ المُحاكاة، يحكمه مبدأ التشابه، ويقوم على سبيل المثال بزرع إبر في دمية تشبه عدوا بغاية إلحاق الضرر به؛ وهناك السحر المعدي، يحكمه مبدأ الاتصال، ويأخذ فيه الساحر أثرا من جسد العدو، كأظافره أو شعره، لكي يصيبَ جسدَ العدو كاملا ما أصاب أثرا منه. وبالتالي، فمثل تايلور، يجعل فريزر من السحر تداعيا رديئا للأفكار، وهذا هو السبب في وصفه للسحر بأنه «تعاطفي» بمعنى أنه يفترض وجود علاقات بين الأشياء غير موجودة في الواقع. ولكن السحر في نظر فريزر ليس مجرَّد رؤية بسيطة للعالم، كما هو الأمر عند تايلور: فهو يتمتع بفعالية قوية بسبب تدخله في طقوس السيادة. ففي المجتمع الذي يكونُ فيه الملك ساحرا وتخضع فيه جميع العلاقات بين الأشياء لمبادئ التعاطف، لا يكون السحر مجرَّد علم زائف بل إنه يلعبُ دورا سياسيا. ولعل هذا الاضطلاع بالدور السياسي هو الأصل في انتشار كتابات فريزر في فرنسا بحجم يتجاوز بكثير انتشار كتابات تايلور.
لقد شكلت نظريتا تايلور وفريزر قضية السحر باعتباره مشكلة أنثروبولوجية من خلال رفضهما تفسير السحر باستدعاء كائنات غير مرئية وربطهما تنوع تطبيقاته التجريبية بوحدة مجموعة مبادئ، هي مبادئ للعقل البشري، مقارنة مع منتجين آخرين للعقل البشري وهما الدين والعلم. وأخذُ السحر باعتباره ظاهرة كلية، انطلاقا من استثمار كلي للعقل البشري في منتجاته، هو ما يجعل من هذه اللحظة الأنثروبولوجية لحظة تأسيسية. وهكذا، فقد كان من الممكن اعتبار أن ليفي ستروس أخذ قانوني التقليد أو المحاكاة والتجاور من فريزر وأعاد صياغتهما اعتمادا على التمييز الذي اقترحه جاكبسون بين الكناية والمجاز(6) . ولكن ليفي ستروس لم يجعل هذين المبدأين قانونين لتخاطر الأفكار بل جعلهما اصطلاحين بنيويين، بمعنى أنه لم يربطهما فقط بتنظيم ذهني بل وكذلك ببنيات اجتماعية. وهنا يتضح الفرق الكبير بين المقاربة بالذهنية عند تايلور وفريزر والمقاربة السوسيولوجية التي ستحل محلها. لقد ظل تايلور وفريزر محصورين في خُطاطة التقدم العقلي الموروثة من عصر الأنوار التي كانت ترى ضرورة تجاوز السحر بالدين والعلم، من جهة، وعلم النفس الفرداني والترابطي الذي لم يستطع تفسير الأشكال الأخرى من الفكر إلا بوصفها أخطاء، من جهة أخرى. ولكن إذا ما ربطنا بين السحر والسياقات الاجتماعية، فإننا ننظر إليه آنذاك باعتباره انحرافا عن نظام عقلي سوي. وبالتالي، فإن الأنثروبولوجيا، بتشكُّلِها باعتبارها علما اجتماعيا، في فرنسا وإنجلترا، فقد قطعت الصلة بآبائها المؤسسين من خلال السعي إلى إيجاد نمط من التماسك السحري ليس في التنظيم الذهني، بل في السياق الاجتماعي. وانطلاقا من هذه النقطة للاتفاق، يمكننا أن نرسم توجها مزدوجا يفتح الباب أمام التقليدين الإنجليزي والفرنسي في السحر: فإما أن نبحث عن تماسك السحر في الممارسة، أي في السياق العملي للخطاب، أو أن نبحث عنه في شكل من الفكر الكلي، أي داخل التنظيم الاجتماعي للفكر. هذا التعارضُ في الوقت الحالي فظٌّ ويقتضي التهذيب، ولكنه سوف يسمح بفهم الاختلاف بين مقاربتي مالينوفسكي وإيفانس بريتشارد من جهة، ومارسيل موس وليفي ستروس من جهة ثانية.
(3.1. مالينوفسكي: النموذج اللغوي)
تتلخص المقاربة التي اتبعها مالينوفسكي في طرح قضية السحر في الميدان، أي بواسطة ملاحظة ممارسي السحر، وذلك باعتماد تقنية الملاحظة بالمشاركة التي أحدثها هو نفسه في الأنثروبولوجيا، خاصة بأعماله حول سكان جزر الطروبرياند بالمحيط الهادئ الذين ألف حولهم كتابا في السحر بعنوان «حدائق الشعاب المرجانية»(7) . ففي هذا الكتاب، يقترح مالينوفسكي نظرية إثنوغرافية للغة السحر تقوم على إعادة وضع العبارات السحرية (تعاويذ، طلاسم) في السياقات العملية حيث تأخذ معنى. والمشكلة التي يطرحها مالينوفسكي هي مشكلة ترجمة العبارات السحرية: يتعلق الأمر بـ «بإعادة» العبارة السحرية» «إلى البيت» («إعادة القارئ الإنجليزي إلى البيت» / «bring home to the English reader»)، وبالتالي التخفيف من غرابتها. ويرى مالينوفسكي أنَّ المشكلة برمتها تكمن في التمييز بين العبارات السحرية والعبارات العادية اعتمادا على سياقات ورودهما. فالتعابير السحرية لا تختلف عن العبارات «العادية» إلا بإضافة لاحقة، على سبيل المثال: «اليوم ندخل الحديقة، كاي!» وتكمن صعوبة هذه النظرية في إعطاء معنى لكلمات لا معنى لها التي ترد في الدعوات والعزائم السحرية (مثل: ألوحا، العجل، الساعة، كهيعص، حمعسق، أهيا شراهيا)(8) من خلال إدراجها في جُمل يُغيرها هذا الإدراج. وإذا، فمفهوم السياق يشكل ضرورة لإسناد هذه الملاحظة للظروف العملية للتعبير التي تعدُّ ابتكارا حقيقيا لمالينوفسكي، والتي تسمحُ له للمرة الأولى بأن يأخذ السحر على محمل الجد:
«لننطلق من الغرض من السحر. وهو وهمي من وجهة نظرنا، ولكن هل هذا سبب يجعلنا نعتبره غير واقعي من وجهة نظر اجتماعية؟ قطعا لا. يحدث السحر في عالم خاص به، ولكن هذا العالم حقيقي بالنسبة للأهالي. ولذلك، فهو يؤثر تأثيرا عميقا على سلوكهم، وبالتالي يجب أن يكون حقيقيا أيضا بالنسبة للعالم الأنثروبولوجي. تشكلُ وضعية السحر – وأقصد بهذه الكلمة مسرح الفعل الممتلئ بالتأثيرات والتقاربات التعاطفية والمتشبع كله بالمَانَا(9) – سياقَ العزائم السحرية. وهو سياق ينشأ من إيمان الأهالي أو اعتقادهم الذي هو قوة اجتماعية وثقافية شديدة للغاية. لذا، يتعين علينا أن نحاول إعادة إدراج عبارات السحر في السياقات المناسبة لمعتقدات الأهالي، وأن نرى ما هي المعلومات التي يمكننا استخلاصها منها، والتي من شأنها أن تساعدنا في فهم العزائم وشرح الكلمات.»(10) .
ومع ذلك، لم يفلح مالينوفسكي في فهم خصوصية السحر، لأنه اختزلها إلى تقنية. فما يلاحظه في الواقع هو أنَّ السحر يُستخدمُ في أنشطة تشكل موضوع اهتمام وإتقان تقني كبيرين، كصنع الزوارق أو زراعة البطاطس والقلقاس. السحرُ ليس علم كاذب أو تقنية وهمية، بل هو مكمِّل لفظي للتقنية لكي تبلغَ درجة من الكمال. وهنا يلتقي مالينوفسكي مع تحليلات السحر الشائعة في عصره التي تعتبره بمثابة علامة على ضعف في النشاط البشري ومُسكِّن لهذا الضعف، ويُحيلُ مالينوفسكي في هذا الصدد إلى أعمال بياجيه حول العقلية السحرية عند الطفل(11) . ولكنه يوسِّعُ هذا التأمل إلى تحليل لغوي يستبقُ في العديد من الجوانب نظرية أفعال الكلام الإنجازية عند أوستين، والتي ترى أنَّ في الكلام السحري قوةً هي بذاتها فعلٌ(12) . وهذا ما قاد مالينوفسكي إلى تناول مشكلة السحر من زاوية الدين، في كتاب أصدره في وقت متأخر تحت عنوان السحر والعلم ودراسات أخرى(13) Magic, Science and Other Essays، وذلك لأنه لابد من فهم من أين تأتي قوة الكلمة السحرية هذه. والمشكلة كلها هي فهم سبب كون بعض الأنشطة التقنية تشكل موضوع عبارات سحرية مثل صنع القوارب أو زراعة القلقاس، على عكس أنشطة أخرى كزراعة جوز الهند. ويجيب مالينوفسكي بأنَّ المجتمع يقدر الأنشطة التقنية التي تشكل جزءا من السحر ويعتبرها أنشطة قدسية، وبالتالي فالثنائية قدسي – دنيوي هي ما يسمح بالتمييز بين السحر والدين، من جهة، والعلم من جهة أخرى.
وإذاً، فالتحليل اللغوي للسحر يؤدي بمالينوفسكي إلى إعادة إدراجه في سياقات استخدامه، أي في تنوع الأنشطة التقنية وما تحظى به من قيمة. وبذلك، فالمقاربة الإثنوغرافية التي اتبعها مالينوفسكي تسمح بالتخلي عن المخطط التطوري من خلال إظهار كيف أنَّ السحر والعلم والدين هم ثلاثة عناصر تشتغل داخل كل مجتمع في استجابة للاحتياجات الإنسانية العالمية. ولكن رؤية الطبيعة البشرية التي تحكم هذا التحليل قادت مالينوفسكي إلى ترجيح وضع السحر في جانب النشاط التقني من منظور نفعي، سوف ينتقده ليفي ستروس بشكل خاص قائلا: إن السحر يشتغل في سياقاتٍ، دونَ أن يُفهَمَ لحد الآن مختلف الطرق التي يشتغل بها(14) . فضلا عن ذلك، فلتحليل مالينوفسكي ميزة التمييز بين الكلام العادي والكلام السحري، لكنه لا يطرح مشكلة الانتقال من الأول إلى الثاني. وتأخذ مقاربة إيفانس بريتشارد كامل أهميتها من كونها تطرحُ هذه المشكلة عن طريق توسيع إطار تحليل التعبيرات السحرية من الأنشطة التقنية إلى المشكلة الأعم، وهي مسألة الشَّر والمصيبة.
(4.1. إيفانس بريتشـارد: النموذج السياقي)
يرتبط إيفانس بريتشارد بالوظيفية والملاحظة الميدانية اللتين كانتا السمتين المميزتين لمالينوفسكي في المدرسة الأنثروبولوجية الإنجليزية، ولكنه تأثر أيضا بتحليلات ليفي برول حول العقلية البدائية(15) . إن ما يبحثُ عنه إيفانس بريشارد، في تحليلاته للسحر عند قبائل الزاندي في السودان، هو نوع من تصور العالم يختلف عن تصورنا، ويرتبط وفقا له (= بريتشارد) بما يُسميه مفاهيم صوفية أو غامضة mystiques، مُتبعا في ذلك ليفي برول. ولكن هذا لا يعني تراجعا عن النهج العلمي لتايلور وإعادةَ إدخال كيانات غير مرئية؛ ذلك أنَّ إيفانس بريتشارد لا يبحث عن ظواهر صوفية، كحالات الوجد أو الرؤية، بل يحلِّلُ، وهو في هذا وفيٌّ لمنهج مالينوفسكي، الكيفية التي تأخذ بها المفاهيم الصوفية معنى في تعبيرات مرتبطة بسياق اجتماعي مختلف عن سياقنا.
يأخذ إيفانس بريتشارد مفهوم الوضعية الذي ظهرَ عند مالينوفسكي، ثم يطرح السؤال: في أي المواقف يتم استدعاء السحر؟ وجوابه هو: في حالات التعرض لمصاب. والمصيبة هي كل حادث يأتي ليعطل الحياة الاجتماعية ولا يمكن تفسيره بالآليات المعروفة. وبالتالي، فالمصابُ يغطي ما هو أوسع من مجال التقنية: إنه جزء من عمل الإنسان الذي لا يمكن السيطرة عليه بواسطة التقنية. ومن خلال تركيز إيفانس بريتشارد اهتمامه على الطريقة التي يتفاعل بها الأهالي الزَّانديين مع وضعيات المصيبة، يحلل مجموع سلاسل العمل التي يتم تنفيذها لوضع حد للمصيبة. وبالتالي، فالسحر لا يعود عالما ذهنيا ولا مجرَّد عبارات بسيطة، بل مجموعة من الأفعال والأقوال التي تستجيب لوضعيات معينة.
يفصل تحليل إيفانس بريتشارد فيما يسمى بالسحر بين ثلاث لحظات، يميز بينها الأهالي الزانديون أنفسهم، وهي: السحر، وكاشف الطالع (أو الكهانة)(16) oracle، ثم الرقية (أو إبطال السحر magie)(17) .
السحر هو إجراءُ اتهام يتيح تفسير حالة التعرض لمصيبةٍ. عندما يتعثر رجلٌ على جذع مغروسة في الأرض، فإنه يعتقد أنَّه قد سُحر؛ وهذا لا يعني أنه لا يفهم أنَّ الجذع هي التي جعلته يسقط، لأنَّ هذا مِمَّا يُفهم بالمنطق السليم، ولكنَّ الرجل يفسِّر بقوله السابق لماذا سقط على إثر عثرته على هذه الجذع بالذات مع أنه معتاد على عدم السقوط على الجذوع؛ وإذاً، فقد تعرض للسِّحر، ما دام انتباهه قد تقلص. بالتالي، لكي يكونَ هناك سحرٌ ليسَ من الضروري أن يكون هناك سَحَرة، بل إنَّ الشعور بالتعرض للسحر هو ما يأتي في المقام الأول(18) . وبذلك، نرى أنَّ الإيمان بالسحر شيء عادي تماما: فالشخص الذي يعتقد أنه مسحورٌ ليس شخصا خائفا، كما تصور فريزر، ولكنه غاضب على الشخص الذي سحَرَه؛ إنه يلجُ نظاما لتفسير العالم شائع الاستخدام. ويلاحظ إيفانس بريتشارد أيضا أنه هو نفسه كان يلجأ إلى هذا النوع من التفسير بالسِّحر بعد إقامة طويلة بين الأهالي الزانديين.
أما اللحظة الثانية، فهي اللجوء إلى كاشف الطالع، وذلك بإعطاء دواجن سُمّا مع طرح سؤال تعتمد إجابته – الإيجابية أو السلبية – على وفاة الطير أو بقائه على قيد الحياة. وبذلك، فكاشف الطالع يتيحُ تحديد من هو الساحر، وبالتالي الذهاب إليه ومطالبته بالكف عن عمله الشرير.
أما اللحظة الثالثة، فهي اللجوء إلى السِّحر magie ذاته، وتتمثل في استخدام أدوية لعلاج شخص ما أو إيذائه. وعلى النقيض من السحر sorcellerie الذي يستند فقط إلى إلحاق تهمة سيئة بشخص ما أو عزوها إليه، فالرقية (أو إبطال السحر) magie هي أمر حقيقي للغاية إذ نستطيع ملاحظة استعمال أدوية من قبل الأفراد: يلي تداولَ الاتهامات تداولُ حلقة المنتجات السحرية. وهنا تتدخل صورة الساحر الراقي (أو مُبطل السِّحر) magicien الذي يزود المنتجات السحرية، وسوف يُعتبر أن هناك سحرا خيِّرا أو سحرا شريرا اعتمادا على ما إذا كانت نية الساحر الشفاء أو الإيذاء.
والأهمية الكبرى لهذا التحليل هي إدخال مرونة على أشكال السحر وفقا للحالات المختلفة. لا يبدو لنا السحر متناقضا سوى لأننا نأخذ عنه نظرة مجردة ونظرية خارج المواقف العملية التي يعمل فيها. فهو يعمل دائما على شكل مقاطع داخل سلاسل من الفعل وليس بوصفه نمطا كليا للتفسير:
«لم أتوقف قط عن التشديد على تماسك المعتقدات الزَّاندية عندما نعتبرها في مجموعها وعندما نفسرها وفقا للمواقف والعلاقات الاجتماعية. كما حَاولتُ أن أظهرَ مُرونة المعتقدات في المواقف المختلفة. إن هذه المعتقدات ليست بنيات من الأفكار المثالية لا تتجزأ، بل إنها تجميعات مفاهيم مفككة إلى حد ما. وعندما يجمعها الكاتب في كتاب ويعرضها باعتبارها نسقا مفاهيميا تظهر على الفور أوجه القصور والتناقضات. ففي الحياة الواقعية، لا تعمل هذه المعتقدات ككل، بل مجزأة. وعندما يجد المرء نفسه في موقف معين، فهو يختار من المعتقدات ما يناسبه، ويستعملها دون أن يعير أي اهتمام للعناصر الأخرى التي قد يحدث، مع ذلك، أن يستخدمها في مواقف أخرى. ويترتب على ذلك أنَّه يمكن للحدث نفسه أن يثير عددا من المعتقدات المختلفة والمتناقضة في مختلف الناس.»(19) .
يتيح مفهوم الموقف أيضا التوفيق بين وجود معنى شائع واستخدام مفاهيم غامضة، وبالتالي إمكانية إدخال التشكك في السحر. فموقفٌ مثل مُصادفة جذع شجرة أو جُذورها على الأرض يستدعي على الفور اللجوء إلى فكرة السحر، في حين لا يسمح موقف آخر بهذا الاستدعاء، ما لم يكن من يقوم بذلك مخادعا. وبالتالي، فالشخص الذي يستخدم حجة السِّحر لتبرير الزنا سيكون موضوع سخرية من الجميع إذا عُرف أنه معتاد على هذا الانحراف، ويُسجل إيفانس بريتشارد مُتفكّها أنَّ الوحيد الذي سينجحَ هذا الشخص في إقناعه هو الإثنوغرافي نفسه. ولذا، فهناك نوع من المعنى الشائع للسحر، يجعل من الممكن الحكم بطريقة حاسمة على الموقف الذي يمكن استدعاء السحر فيه والموقف الذي لا يمكن. يُبين إيفانس بريتشارد، على سبيل المثال، أنَّ الأسئلة التي تُطرحُ في استشارات كاشف الطالع تجعل من الممكن دائما الالتفاف على مسألة الفعالية، إذ يُطرح على كاشف الطالع سؤال فاعلية تدخله قبل أن يُطرح عليه السؤال المتعلق بسياق التعرض لمصيبة، وذلك بعبارات يتعذر معها التحقق من صحة جواب كاشف الطالع، كأن يقال له: «إذا زرعتُ البذور في حقل كذا في وقت كذا، فهل سيكون محصولي جيدا؟»، ولا يقال: «هل سيكون محصولي جيدا هذا العام؟». فكاشف الطالع يقول ما لا يجب القيام به بدلا من التنبؤ بما سيحدث. وإذا لم يقدم كاشف الطالع الجواب المرجو، فإنَّه يُعادُ إطعام الدواجن بالسُّم مع التوجه إليها بالسؤال: هل استشارة كاشف الطالع جيدة أم لا؟
ويرى إيفانس بريتشارد أن المشكلة كلها تكمن في فهم لماذا لا يؤدي هذا الحس النقدي في استخدام السحر إلى نقدٍ عامّ لهذا السحر. فالأهالي الزانديين يُسَخِّرون استراتيجيات عقلانية في استخدام المفاهيم الصوفية، لكنهم لا يحوِّلون أبدا هذه العقلانية ضد المفاهيم الصوفية نفسها. يقترح إيفانس بريتشارد عدة أجوبة لهذه المشكلة.
يلاحظ، أولا، أنَّ ما يبدو متناقضا في نظر عالم الإثنولوجيا لا يكون متناقضا إلا لأن هذا الإثنولوجي يسجل في ورقة واحدةٍ النتائج التي تقدَّمُ في مواقف مختلفة، فيستنتج (بريتشارد) من ذلك أن الكتابة هي التي تسمح بإدراك تناقضات نمط التفكير السحري. فالكتابة تُحِلُّ التنظير الشمولي محل منطق الممارسات المرنة، فتتيح الوقوف على تناقضات منطقية لا تظهر في الممارسة(20) .
ويلاحظ بريتشارد أيضا أنَّ السحر، نتيجة تأثير الاستعمار الأوروبي، لم يعد يؤثر على الحياة الزَّاندية الاجتماعية برمتها، وتقوقَعَ في جمعيات سرية يمكن أن يطعن فيها المجتمع كله، مع أنَّ الإيمان بالسحر كان في السابق مشتركا بينَ جميع فئات المجتمع.
وأخيرا، يلاحظ بريتشارد أن مثل هذا التأثير للسحر لا يمكن أن يكون ممكنا إلا في مجتمع يقوم على سلطة مَلِك، لأنّ جميع نزاعات السحر تُحلُّ على مستوى المَلك الذي يلجأ في آخر المطاف إلى كاشف الطالع ليحسم في النزاعات في نهاية المطاف. وهكذا، فالتحولات في نمط نقل المعرفة، والعلاقات بالخارج، والتنظيم السياسي، هي التي تفسر انتقاد السحر بشكل عام.
وعلى ذلك، فقد كانت لمسة التقليد الأنثروبولوجي الإنجليزي الأساسية هي إدخال قضية السحر في تحليل موافق عادية، مما يطرح مشكلة التوفيق بين العادي والقدسي، والحس المشترك والسحر. وتكمن أهمية مثل هذا التحليل في تجاهل صورة الفرد الساحر الذي يُشتَبَه دائما في أنه يخدع الأفراد الآخرين. وبنقل تحليل السحر إلى مستوى المجتمع، يطرحُ التحليلُ نفسُه مشكلة التعايش بين النزعة الشَّكِّيَّة والإيمان بالسحر داخل المجتمع. ويتم حل هذه المشكلة عن طريق تحليل عبارات داخل مُرُونَة السياقات التي تأخذ فيها هذه التعبيرات معنى. هذه السياقات في نظر مالينوفسكي هي الأنشطة التقنية، وفي رأي إيفانس بريتشارد هي حالات التعرض لمصيبة، وبالتالي يتم حل مشكلة السحر عن طريق تحليل ممارسات تكون مُجزَّأة دائما داخل مجتمعات لا تعرف أي نمط للتنظير الكلي. وخصوصية المقاربة الفرنسية لمشكلة السحر أنها تقف على النقيض من الاهتمام بالساحر الفرد لفهم كيف تعبر ظاهرة اجتماعية عن نفسها من خلاله، بما في ذلك من خلال هذه الأشكال العنيفة جدا المتمثلة في الحضرة أو الطقوس التي كانت تفسر سابقا باعتبارها خرافات وشعوذة أو انفجارا لحالات وجدانية(21) . ومن ثمة، فالتعارضُ بين المقاربة الإنجليزية ونظيرتها الفرنسية هو تعارضٌ بين قضايا نظرية تجد في السحر مناسبة لكي تُطرَحَ، وبالتالي فهي أبعد من مسألة السحر في حد ذاتها، أكثر مما هو تعارضٌ بينَ أنثروبولوجيا ميدانية وأخرى مكتبية، أو بين مرونة الممارسات وشمولية النظريات. وفي قضية السحر، لم يسعَ التقليد الفرنسي إلى التوفيق بين المألوف والقدسي، أو بين نزعة تشككية وأخرى وظيفية، بل إلى التوفيق بين الفردي والاجتماعي، بين الوجداني والعقلاني. يمكننا الآن أن نتناول هذا التعارض انطلاقا من نصوص مارسيل موس وليفي ستروس.
(التقليد الأنثروبولوجي الفرنسي أو النموذج الاجتماعي والرمزي:)
(1.2. مارسيل مـوس: النموذج الاجتماعي)
يندرج المخطط التمهيدي لنظرية السحر عند هوبير وموس في تأمل في العلاقة بين الفردي والجماعي(22) . ينطلق موس من واقع أنًّ السحر يزاوله دائما شخصٌ هامشي ومعزول، ولكن ما يعبِّرُ عن نفسه في الساحر هو ضغط المجتمع الذي يؤمن بالسحر. ومن ثمة، ففعالية السحر أخلاقية وليست مادية، اجتماعيةٌ وليست فردية؛ إنها هي نتاج إيمان جماعي وليست نتيجة ترابط سيء بين الأفكار كما رأينا عند فريزر. يحاول موس أن يُثبت اتساق السحر خارج تنوع طقوسه وتمثلاته، وهنا يُدخِل مفهومَ المانا(23) ، هذه الكلمة التي يستخدمها الميلانيزيون في طقوسهم السحرية، والتي يبدو أنها تُشير إلى القوة الاجتماعية. وإذاً، فالمشكلة كلها هي وصف قوة الاجتماعي على الفرد دون اعتبارها ظاهرة فوق طبيعية(24) : يتعلق الأمر بفهم كيف يمكن لظاهرة غير طبيعية، إذا تموضعنا في وجهة نظر الفرد (الحضرة، والتدخل في الأجساد عن بُعد)، أن تصير أمرا طبيعيا من وجهة نظر المجتمع الذي يؤمن بها. ولكن هذا يستلزم فهما لطبيعة العلاقة بين الفردي والجماعي، وفي هذا يطرحُ السحر مشكلة نظرية رئيسية في علم الاجتماع الفرنسي، لأنها تتطلب وصفا للفعل الاجتماعي في الفرد أكثر تعقيدا من وصف دوركهايم لتأثير المجتمع على الفرد. ومن الجدير بالملاحظة أن دوركهايم لم يخصص للسحر سوى بضع صفحات في مؤلفه الأشكال الأولية للحياة الدينية، اعتبر فيها أنَّ السحر ينحدر من الدين باعتباره منشأ حقيقيا له بدل أن يجعله أصلا زائفا للدين كما هو الشأن عند فريزر. يرى دوركهايم أنَّ السحر هو صيغة أمر شَرطيّة (إن أردَت كذا، فافعل كذا) بينما الدين هو أمرٌ صارم ومُلزمٌ (واعبُدْ ربَّك، بمعنى: احترم المجتمع)(25) . وتكمنُ خصوصية مقاربة موس في أنه لا يفكر في علاقة الاجتماعي بالفردي باعتبارها قيدا، بل بوصفها تعبيرا عن قوى مُتمايزة. وآنذاك نفهم أن الفرق بين مقاربتي دوركهايم وموس يظهر في تفسير المانا: ففي حين يرى دروكهايم فيها جوهرَ الاجتماعي كله، يعتبرها موس مجموعة من الاختلافات في الاحتمالات أو الإمكانات potentiel، وفي احتمالات العمل أو إمكاناته: فهي فعلٌ لا اسمٌ. وبالتالي، يتخلى موس عن إثبات جوهر اجتماعي لا يسمح بفهم خصوصية الظاهرة السحرية، ليرى كيف يعبر الاجتماعي عن نفسه من خلال اختلافات الاحتمال في عمل هؤلاء الأفراد الاستثنائيين المتمثلين في السحرة. يقولُ موس: إن السحر هو تصنيف للأشياء، وحكمٌ تركيبي مُسبق يسلم به المجتمع من أجل الفعل في الطبيعة، ويُحَيِّنُه من خلال الأفراد السحرة. وبالتالي، فالسحر ليسَ توحيدا للعالم في مرآةِ المجتمعي، بل يُقِيم اختلافات وتقابلات. ومن الأهمية بمكان أن موس يضيف في تحليله، إلى قانوني العدوى والتشابه عند فريزر، قانونا ثالثا يسميه قانون التناقضات: فالسحر لا يقرِّبُ ما هو قريبٌ بالفعل، بل يجري تقطيعات في الواقع حسب اختلافات، لأنَّ الحياة الاجتماعية هي تطلُّبُ الاختلافات:
«إن ما كنا نسميه المكان المخصص للأشياء أو القيمة الخاصة للأشياء يمكن أن نسميه أيضا الفارق المحتمل، لأن هذه الاختلافات تؤثر في بعضها البعض بحكم هذه الفوارق، وبالتالي لا يكفي القول إن جودة المانا ترتبط بأشياء معينة بسبب موقعها الخاص في المجتمع، بل يجب أن نقول إن فكرة المانا ليست شيئا آخر غير فكرة هذه القيم وهذه الاختلافات المحتملة. هناك يوجد جوهر المفهوم المُؤَسِّس للسحر. ومن نافلة القول إن ليس هناك سبب يستدعي أن يكونَ مثل هذا المفهوم خارج المجتمع، وأنه مفهومٌ سخيف من وجهة نظر العقل الخالص، وأنه لا ينتجُ سوى عن عمل الحياة الجماعية(26) ».
وهنا أصبحنا قريبين للغاية من تحليلات ليفي ستروس، وعلاوة على ذلك، فموس نفسه يشبه السحر بالظواهر اللغوية عندما يصفه بأنه نسق من التقابلات والاختلافات. والواقع أن ليفي ستروس يتبنى بالفعل حدُوس موس، لكنه يُضيف إليها فكرة توضِّحُها، وهي مفهوم الرَّمزي.
(2.2. ليفي ستروس: النموذج الرمـزي)
خصَّص ليفي ستروس نصين للسحر، كتبهما في عام 1949، وهما من أكثر النصوص جرأة وأكثرها إشكالية في بنيويته الصاعدة آنذاك(27) ، وهدف من ورائهما إلى تسخير مفهوم البنية الرمزية لحل لغز فعالية الممارسة السحرية. وما لم يتضح تماما عند موس هو معرفة كيف يستطيع طقسٌ خاضع لضغوط الاجتماعي أن يؤثِّرَ على جسد الفرد. وعلى الفور يُقصي ليفي ستروس مشكلة الشعوذة، حيث يأخذ مثال شاب من الهنود الحمر متشكك بَدأ تعلمَ السحر ليُظهرَ زيفه، فإذا به يصبحُ في نهاية المطاف مُمارسا للسحر الذي تعلمه وهو موقن بأنه أفضل من أنواع أخرى من السحر. لذلك، ليس هناك في البداية مشعوذ يحاول حمل المجتمع على الإيمان بفعالية سحره، بل هناك مجموعة من المعتقدات المنتشرة حول السحر، يتقاسمها في مستوى واحد الفرد الذي سيصير ساحرا وباقي أفراد المجتمع. وما يتعين فهمه هو كيف يمكنُ لهذا الإيمان الغامض بالسحر، وهذه المجموعة المنتشرة من المشاعر الجماعية، أن يصبحَا تجربة حقيقية. يتطلب هذا أن يتبلور الإيمان في مخطط، بمعنى أن يقوم الساحر بتحيين بنية ذهنية، ولكنها أيضا بنية اجتماعية بقدر ما هي بنية كونية. وتنعكس هذه البنية فيما يسميه ليفي ستروس، بعد موس، بالمركَّب الشَّاماني(28) (أو السِّحري) الذي يجمعُ بين الشَّامان (أو السَّاحر)، وَالفرد الذي يعالجه هذا الشامان، ثم المجتمع الذي يدعمهما بإيمانه ويجد في الوقت نفسه مصلحة حيوية في تفاعلهما. وبذلك، يتم الربط، أمام أعين المجتمع، بينَ نشاط خالص هو الساحر، وسلبية خالصة هو المريض، أي يتم إقامة صلة بين فيض من الطاقة وافتقار إليها. ويحيل هذا التعارض في رأي ليفي ستروس إلى ذلك التعارض المكوِّن للطبيعة البشرية الذي ظهر مع اللغة، بين فكر مُفرط المعنى وعالم لا يعني دائما بما فيه الكفاية. لذا يعيدُ الساحرُ، أمام أعين المجتمع، لعبَ المشهد البدائي للقاء الإنسان مع العالم، والذي يُحس الإنسانُ فيه بامتلاء كبير بالدوالّ التي يجب أن يستنفذها باحثا عن المدلولات المقابلة لها في العالم؛ من ثمة إعادة تفسير المانا بوصفها دالا عائما، على غرار «شيء» أو «خدعة» في تقديم ليفي ستروس مجموعة من النصوص لمارسيل موس(29) . ومن ثمة، فالسحرُ هو ذو طبيعة فكرية أوَّلا، إنه وضعية تخاطبٍ قلقة مع العالم:
«وإن يكن هذا التحليل صحيحا، فيجبَ أن نرى في التصرفات السحرية استجابة لوضعية تنكشف للوعي عبرَ تجليات وجدانية، ولكنها ذات طبيعة فكرية عميقة. ذلك أنَّ تاريخ الوظيفة الرمزية وحده هو التي قد يجعل من الممكن تفسير هذا الوضع الفكري للإنسان المتمثل في أنَّ الكونَ لا يعني ما يكفي أبدا، وأنَّ الفكر يتوفر دائما على معاني كثيرة للغاية بالنسبة لكمِّية الأشياء التي يمكنُه أن يُلصقَ بها تلك المعاني. وبسبب تمزق الإنسان بينَ هذين النظامين المرجعيين، وهما نظام الدال ونظام المدلول، فإنه يطلبُ من الفكر السحري أن يُزوِّدَهُ بنظام مرجعي جديد، يمكنُ أن تندرج فيه المُعطيات التي تظل متناقضة»(30) .
ولكن هل يمكن أن نفهم إذا أن هذه العلاقات الفكرية بين الدوال والمدلولات يمكن أن يكون لها تأثير على جسم المريض؟ هذا هو السؤال الذي يجيب عنه ليفي ستروس بمفهوم الفعالية الرمزية. فمن خلال تحليل أسطورة يُنشدها ساحرٌ لتسهيل عملية الولادة، وتتوافق مختلف مراحلها مع رحلة الشامان عبر جسد المرأة، يلاحظ ليفي ستروس أنَّ البنية الفكرية للأسطورة تطابقُ البنية العضوية للجسد الذي يتعينُ تخفيف ألم مخاض الولادة عنه. ولذلك، ليست الوظيفة الرمزية شيئا آخر غير هذا التطابق بين بنيات من طبيعة مختلفة، والذي يمضي ليفي ستروس إلى حد افتراض أنَّه يعكس الطبيعة المنظمة للدماغ وللعالم. بالتالي، فالرمزيُّ يلعبُ دور وسيطٍ بين الوجداني والفكري، بين بنية الجسد والبنية اللغوية، بين الفردي والاجتماعي. وعليه، فإن القول برمزية السحر لا يعني إنكار فعاليته، بل على العكس إنه تفسير لفعاليته دونَ اللجوء إلى فرضية وجود نفسية تعمل مباشرة في جسد الفرد: إنَّ ما تنطوي عليه هذه العلاقة هو إدماج وتضمين مجموعة من البنيات (اجتماعية، لغوية، كونية، ورمزية بكلمة واحدة) بين نفسية الساحر والجسد الذي يعالجهُ، ومن ثمة فهي تجعل من السحر علاقة مُنظمة مع العالم، وتمنحُ معنى للعالم، وتشاركُ في المعنى الذي يأخذه العالم لنفسه.
وهكذا نرى أن السحرَ عند ليفي ستروس أقرب إلى العلم منه إلى الدين، بل هو طريقة لتنظيم العالم على نفس الجدارة التي يتمتع بها العلم الحديث. لذا، ليس من المستغرب أن نرى عودة مثلث السحر-الدين-العلم إلى كتاب الفكر البري(31) للمؤلف نفسه. ويجب ملاحظة أن ليفي ستروس يستشهد بكل من إيفانس بريتشارد ومارسيل موس في نص يوجه فيه نقدا قاسيا للمذهب التطوري عند تايلور وفريزر، إذ يقول:
«إن الفكر السحري، أو هذا ‘التنويع الضخم على موضوعة مبدأ السببية’، كما يقول هوبير وموس، لا يتميز عن العلم بجهل مبدأ السببية أو ازدرائها، بقدر ما يتميَّزُ بتطلبه لحتمية أكثر إلحاحا وأكثر تشددا، يمُكنُ أن يراها العلمُ، في أفضل الأحوال، متسرِّعة وغير معقولة (إحالة إلى إيفانس بريتشارد). ومن هنا، فالاختلاف الأول بين السحر والعلم، من هذه الوجهة للنظر، هو أنَّ الأوَّل يُسلِّمُ بوجود حتمية شاملة وكاملة في حين يعملُ الثاني من خلال التمييز بين مستويات، بعضُها فقط يقبل أشكالا من الحتمية يُنظر إليها باعتبارها غير قابلة للتطبيق على مستويات أخرى. ولكن، ألا يمكننا أن نمضي إلى ما هو أبعد من ذلك، فنعتبر أن صرامة ودقة الفكر السحري والممارسات الطقوسية بمثابة انعكاس لتوجس لا شعوري من حقيقة الحتمية باعتبارها نمطا لوجود الظواهر العلمية، حتى يكون من الممكن الاشتباه في الحتمية على مستوى العالم أو لعبها، قبل أن يتم التعرف عليها واحترامها؟ والحالة هذه، فقد تبدو الطقوس والمعتقدات السحرية بمثابة تعبير عن فعل إيمان بعلم لم يولد بعد(32) ».
والقولُ بأن السحر هو فعل إيمان بعلم لم يولد بعد، كما يقول تايلور وفريزر، لا يعني أنه الأصل الزائف والوجداني لعلم حقيقي وعقلاني، بل إن السحرَ عقلاني كليا مادام يعمل بنُظم تصنيف مفصلة ودقيقة(33) ، ويَعرف «حقيقة الحتمية» لأنه يريد أن يفسر سائر الأشياء التي يجزئها العلمُ الحديث إلى مستويات ليقف على محدِّداتها. إذا كان السحر يستبقُ العلمَ، فذلك بمعنى أنه يسعى إلى إقامة علاقات بين الأشياء في رؤية منظمة للعالم. ويشير ليفي ستروس إلى أنَّ هذه العلاقات التي يقيمها السحر يمكن أن يجدها العلم، كما حدث عندما استخدم الجيش الأمريكي التصنيفات النباتية التي كان يقيمها الهنود الحمر في تقنيات تجفيف أطعمتهم. ولهذا السبب، بدل أن يكون السحرُ الطبقة التي دفنها العلمُ فهو بالأحرى «ظلّ»(34) هذه الطبقة التي تارة تكون أمام العلم وتارة وراءه. نحن هنا أمام نظامين من التفكير يمكنهما أن يتقاطعا أو يتباعدا، ولكنهما متساويان من حيث التماسك. وما أتاح للعلم أن يرجح على السحر هو أنه ينطلق من عناصر بسيطة جدا، مثل الصفات الأساسية (الكمَ، والمساحة…)، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الظواهر الأكثر تعقيدا، في حين ينطلق التفكير السحري من الصفات الثانية (الطعم، واللون، واللمس…)، وهي الظواهر الأكثر تعقيد التي بدأ العلم الحديث يعثر عليها بالكاد في الكيمياء. ولكن هذين النظامين من التفكير متساويان من حيث الاتساق ومختلفان في العمل.
ولكن بعد ذلك، تطرحُ مشكلة الانتقال من السحر إلى العلم. كيف نفسر أنَّ هذه العقلنة للصفات الثانية التي هي السحر قد تركت المكانَ في بعض المجتمعات لعقلانية أكثر تواضعا تنطلق من الصفات الأولى، وتلتحق من هناك بمجموع الظواهر؟ لا يقول ليفي ستروس أي شيء حول هذه النقطة. علاوة على ذلك، فالطبيعة الغامضة لهذا الانتقال هي التي تُستخدَم دليلا على أطروحته القائلة بأنَّ السحر ليس علما زائفا ولكنه طريقة أخرى من العقلانية. وهو يطلق على هذا الغموض اسم «مفارقة العصر الحجري الحديث»: يعود تطوير تقنيات مثل الفخار، والنسيج والزراعة وتدجين الحيوانات، إلى فترة العصر الحجري الحديث، أي إلى زمن كان فيه التفكيرُ سحريا بالأساس، وبالتالي، قبل قرون من ميلاد العلم الحديث في اليونان. والحقيقة أن توقُّفَ التفكير السحري في العصر الحجري الحديث يشكل الدليل عند ليفي ستروس على أنَّ تطورَه كان قد اكتمل، وأنه قد عبر عن جميع إمكانياته باعتباره نظاما كليا لتفسير العالم، وأنه لم يكن في حاجة للعلم. ولكن كيف لنا إذا أن نفهم أن العلم قد وُلد في اليونان في القرن الخامس؟ حول هذا الموضوع، لا يقدم ليفي ستروس سوى بعض التلميحات، وعندما عاد إليه في ختام المجلد الثاني من كتابه ميثولوجياتMythologiques الذي تمكن تحليلُ الأساطير فيه من الكشف عن وجود «منطق للعلاقات» قريب من الرياضيات اليونانية، رفضَ أن يرى في ذلك احتمال انتقال من الأسطورة إلى العلم، ثم خلص إلى أن «البحث الكامل الممتد إلى البنيات يبدأُ بالانحناء أمام قوة الحدث ولا جدواه»(35) .
(3. استنتـــاج)
وفي ختام هذه الرحلة، نرى أنَّ الأنثروبولوجيا قد طرحت مشكلة عقلانية السحر وعلاقته بعقلانية نقدية كتلك التي تحدث في العلم. كان المذهب التطوري عند تايلور وفريزر أوَّل من طرح سؤال عقلانية السحر إذا اعتبرناه نظاما شاملا، إلا أنه جعل من السحر عقلانية مُجهَضة، لم تقم بأكثر من استباق العقلانية النقدية وتهديدها دائما بعودتها العنيفة. لقد أظهرت الأنثروبولوجيا الإنجليزية، انطلاقا من ابتكار مالينوفسكي للملاحظة الميدانية، كيف يمكن أن تتعايش العقلانية السحرية والعقلانية النقدية في فضاء اجتماعي واحد، وكيف أنَّ اللجوء إلى هذه العقلانية أو تلك يتوقف على الموقف والسياق. وما اكتشفه ملاحظون ميدانيون، أمثال مالينوفسكي وإيفانس بريتشارد، هو أن عقلانية السحر هي عقلانية عملية، بمعنى أنها عقلانية تجمع أجزاء من الخطاب تأخذ معاني مختلفة حسب المقامات الاجتماعية التي تتشابك فيها. ومن الضروري التمييز بين هذه العقلانية العملية والعقلانية النظرية التي تتموقعُ فوق الحياة الاجتماعية، فتجمِّع وتصنِّفُ هذه الشذرات من التفكير السحري المتمثلة في التصريحات والأفعال الطقوسية داخل كلية تفقدُها كل معانيها. ولكن مرونة المواقف تفرض على التحليل متابعة مسار هذه الممارسات المتعرِّج والوعر في إعادة تشكيل دائم، وتُفشلُ جهود الكشف عن هذا المنطق في حد ذاته(36) .
أما الأنثروبولوجيا الفرنسية، فقد حاولتْ، انطلاقا من فكرة دوركهايم عن الأصول الاجتماعية للمنطق، أن تُظهرَ كيف يظهر هذا المنطق في سياق التفاعل بين الفرد الساحر والمريض الذي يتلقى العلاج على يديه. ولكن كان من الضروري آنذاك اللجوء إلى فكرة وجود بنية كلية تشمل مجموعة من الاختلافات والعلاقات، ومن ثمَّة إلى التخلي عن مرونة الممارسات لفائدة تحليل نظري صِرف. وفي نهاية المطاف، عجز التحليل البنيوي عن تفسير الانتقال من السحر إلى العلم، بمعنى الانتقال من عقلانية عملية إلى عقلانية نظرية. فتارة يتم التركيز على تحليل الممارسات على حساب منطقها، وتارة أخرى يٌفضَّل الكشف عن تحيين المنطق على حساب الممارسة.
وإذا كنا قد وسَّعنا هذا التعارض عمدا، فلأنه قد يساعدنا على فهم الخلافات الراجعة إلى وجود هذين التقليدين الأنثروبولوجيين المختلفين. هكذا، فالتباين بين تحليلي جيوفري لويد وجان بيير فيرنان هي أعراضٌ للاختلافات بين هذين التقليدين. لقد طرحَ جان بيير فيرنان مشكلة الانتقال من الأسطورة إلى العقل الشبيهة بمشكلة الانتقال من السحر إلى العلم، طرحها بعبارات حدوث تحوّل مفاجئ من نظام للتفكير إلى نظام آخر(37) ؛ وبالتالي، لوصف ذلك التحول، كان من الضروري تحليلُ إنتاج البنيات الاجتماعية وبنيات التفكير الجديد انطلاقا من البنيات القديمة – وهي مهمة صعبة كافحت باستمرار مع فكرة المعجزة اليونانية أو ثورة الانتقال من نظام إلى آخر. وفي نهاية المطاف، كان التحليل يجد نفسه دائما إما داخل نظام أو داخل آخر، ويائسا من العثور على نفسه في حدودهما(38) . وقد أظهر جيفري لويد أنه، على العكس من ذلك، يجب تحليل كيف جرى، داخل عبارات خاصة، المرورُ من عقلانية سحرية-دينية إلى عقلانية علمية(39) . هكذا، من خلال تحليل مقطع الأمراض المقدسة، يُظهر لويد أنَّ السحر لا يتعرض للانتقاد للمرة الأولى في تطبيقاته، ولكن بشكل عام، مع استدلال سخيف من نوع: إذا كان السحرُ صحيحا فإن كل الأمراض هي من مشيئة الآلهة، وبالتالي فالآلهة شريرة، وهذا مستحيل. من ثمة، فالانتقال من السحر إلى العلم يصبح ممكنا بفضل تراكم نظري لعباراتٍ ظلت تؤخذُ حتى ذلك الحين في سياقات عملية. وعلى هذا، فالعقلانية العلمية والنقدية تحدث داخل نمط التفكير السحري من خلال عبور الحدود. في كتاب حيل الذكاء(40) ، قام جان بيير فيرنان ومارسيل ديتيان بخطوة مماثلة من خلال تحليل عقلانية عملية مثل العقلانية الميتيسية(41) اليونانية، وهي ليست من نوع عقلانية التفكير الإيجابي التي ابتكرتها المدينة الأثينية، ولكنها تمتلك اتساقها الداخلي الخاص بها.
بناء على ما تقدم، فالتناقض بين التقليدين الإنجليزي والفرنسي هو مؤشر على وجود مشكلة تتمثل في منطق الممارسة. إذا كان السحر قد شكل موضوعا أنثروبولوجيا خصبا، فلأنه أتاح الوقوف على منطق مندرج في الممارسة. أن يقال إنَّ السحر منطقٌ عملي هو العودة إلى معناه الأصلي المتمثل في إرادة التأثير في العالم، وإلى إرادة الفعل التي تشكل دائما طرفا في مجموعة من الممارسات المقبولة اجتماعيا؛ ولكن القول نفسه هو أن نضع في الحسبان أن السحر، من خلال رغبته في التأثير في العالم، لابد أن يتبع قوانينه ( = العالم) وأن يحترم منطقا معينا. وبالتالي، فإن استبدال السحر بالعلم لن يكون تعويضا للاعقلاني بالعقلانية، بل بمنطق متجذر بعمق في السياق الاجتماعي بنظام من القوانين السارية خارج سائر الممارسات التي يحددها المجتمع. ومن ثمة، ليس من المؤكد أن مثل هذا التمييز يفصل جذريا السحر عن العلم؛ بل هو بالأحرى انقطاع يمر داخل كل علم بين بُعده الاجتماعي العملي وبُعده النظري القابل للتعميم عَالمِيا، وهو انقطاع مستمر بحيث قد لا يمكن الانتهاء منه أبدا. لذلك، يأتي السحر دائما ليقلق العلم باعتباره ذكرى لهذا الانفصال عن الممارسة الذي لم يجره أبدا في واقع الأمر.
مصدر الترجمـة:
Frédéric Keck, «Les théories de la magie dans les traditions anthropologiques anglaise et française», Methodos (En ligne) , 2 | 2002, mis en ligne le 05 avril 2004, consulté le 25 décembre 2013. URL: http://methodos.revues.org/90 ; DOI: 10.4000/methodos.90
– Frédéric Keck, «Les théories de la magie dans les traditions anthropologiques anglaise et française».
(1) Cf. E.B. Tylor, La Civilisation primitive, 2 vol., Paris, Reinwald, 1876-1878 (Primitive Culture. Researches into the Development of Mythology, Philosophy, Religion, Art and Custom, Londres, Murray, 1871).
حول تايلور وودوره التأسيسي في الأنثروبولوجيا الإنجليزية، انظر:
G.W. Stocking, After Tylor, British Social Anthropology, 1888-1951, Londres, Athlone, 1995.
(2) هذا هو مفهوم البقايا أو (المخلفات survivances) الشهير الذي ظل تايلور شهيرا به. جميع بحوث تايلور حول «الثقافة البدائية» يحركها قلق كون السلوكات البدائية تطفو مجددا في العالم الحديث. حول هذه النقطة، انظر:
46. Detienne, L’Invention de la mythologie, Paris, Gallimard, 1981, p. 46.
(3) Cf. J. Frazer, Le Cycle du rameau d’or, 12 vol., Paris, Geuthner, 1925-1935, rééd. Le Rameau d’or, 4 vol., Paris, Robert Laffont, 1981-1984 (The Golden Bough, A Study in Magic and Religion, Londres, Mac Millan, 12 vol., 1911-1915).
(مترجم إلى اللغة العربية: جيمس جورج فرايزر، الغصن الذهبي. دراسة في السحر والدين، ترجمة: نايف الخوص، دمشق، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2014. (911 ص.).
(4) الترابط أو التداعي (association): مصطلح يعني «كل ارتباط ما بين عنصرين نفسيين أو أكثر تشكل سلسلتهما رابطة من التداعيات. (و) يستخدم هذا المصطلح أحيانا للدلالة على العناصر التي تترابط على هذا النسق. هذا المعنى الأخير هو المقصود حين نكون بصدد العلاج، إذ نتكلم، على سبيل المثال، عن «تداعيات حلم ما» للدلالة على ما له صلة ترابطية في كلام الشخص مع هذا الحلم. وقد يدل مصطلح “التداعي” في حده الأقصى على مجمل المادة المنطوقة خلال جلسة التحليل النفسي». عن: لابلانش وبونتاليس، معجم مصطلحات التحليل النفسي، ترجمة: د. مصطفى حجازي، بيروت، الدار العربية للدراسات والنشر والتوزيع، ط. 2، 1987، (مادة: تداعي، ترابط). (المترجم).
(5) يرجعُ كل من تايلور وفريزر إلى علم النفس الترابطي psychologie associationniste لهيوم الذي يرى أنَّ العقل يربط بين الأفكار حسب مبدأي التشابه والتجاور (اللذين يضيف إليهما هيوم مبدأ السبب والنتيجة). انظر:
Hume, Enquête sur l’entendement humain, Paris, Flammarion, 1983, p. 81.
(6) راجع:
S.Tambiah, Magic, Science, Religion and the Scope of Rationality, Cambridge, Cambridge University Press, 1990, p. 53, et L. Scubla, Lire Lévi-Strauss, Paris, Odile Jacob, 1999, p. 73.
(7) B. Malinowski, Les Jardins de corail, Paris, Maspero, 1974 (Coral Gardens and their Magic, Londres, Georges Allen and Uwin, 2 vol., 1935).
حول منهج مالينوفسكي في البحث الميداني، انظر:
B.De l’Estoile, «L’invention du terrain», Sciences Humaines, Hors Série n° 23, Décembre 1998-Janvier 1999, p. 12-16
(8) في الأصل الفرنسي: abracadabra, sésame, kay، وقد فضلنا الإتيان بما يشبه هذه العبارات المبهمة، من بعض ما يرد في مصنفات السحرية العربية. (م).
(9) المانا: كلمة بولينيزية يُشارُ بها إلى قدرة فوق طبيعية. وقد نشرها مؤسسو الإثنولوجيا الدينية (ماريط ومارسيل موس بالخصوص). يمكن للمانا أن تتخلَّل كائنات جامدة، لكنها عموما تكون عبارة عن قدرة خاصة يتوفر عليها يتوفر عليها بعضُ الأفراد (الزعماء بالخصوص)، والأرواحُ، والعائدون، وما إلى ذلك. وقد تقلص استعمال هذه الكلمة على نحو متزايد في الأدبيات العلمية» (المترجم). عن:
-Michel Panoff et Michel Perrin, Dictionnaire de l’ethnologie , Paris, Payot, PBP, 1973, p. 169.
(10) B. Malinowski, Coral Gardens and their Magic, p. 215.
(11) Op. cit., p. 232.
يرى بياجيه أن الطفل يستولي على العالم سحريا لأنه لا يمتلك قوة السيطرة عليه فعليا. انظر:
1926. Piaget, La Représentation du monde chez l’enfant, Paris, Alcan, 1926.
(12) وهذا ما يلاحظه س. تامبياه S. Tambiah الذي يؤسس كل تفسيره للسحر على الطبيعة الإنجازية بالمعنى الذي يعطيه أوستين للعبارات السحرية. انظر:
1973. Tambiah, op. cit., et «Form and Meaning of Magical Acts, A Point of View», in R. Horton-R. Finnegan, Modes of Thought, Londres, Faber and Faber, 1973.
(13) B. Malinowski, Magic, Science and Other Essays, New York, Doubleday, 1948.
(14) انظر:
29. Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, Paris, Plon, 1958, Tome 1, p. 26-29.
(15) انظر:
Evans-Pritchard, Theories of Primitive Religion, Oxford, Clarendon Press, 1965.
(16) انظر:
Cf. E. Evans-Pritchard, Sorcellerie, oracles et magie chez les Azandés, Paris, Gallimard, 1972 (Witchcraft, Oracles and Magic among the Azandés, Oxford, Clarendon Press, 1937).
ولعرض مثير لإيفانس برتشارد وإشكالياته، انظر:
1. Douglas, Evans-Pritchard, Collins, Londres, 1970, et De la souillure, Paris, Maspero, 1971, chap. 4 (Purity and Danger, Londres, Routledge and Kegan Paul, 1967).
(17) لا تتوفر اللغة العربية على مصطلحين للدلالة على السحر بكيفية تسهل إيجاد معادل لكلمة «Sorcellerie» الفرنسية ومعادل آخر لكلمة «Magie» في اللغة العربية، وإن كان ممارسو السحر يميزون، بشكل ضمني في الغالب، بين نوعين من السحر. هكذا ففي حالة المغرب، مثلا، يمكن القول بصفة عامة إن السحر بمعنى «Magie» ينتمي إلى حقل المقدس الديني ويمارسه «الفقهاء» وله – حسب مزاوليه – وضع محلل ومشروع. إنه يصدر أيضا من الأولياء والزوايا الدينية على شكل بركة. أما السحر بمعنى «Sorcellerie»، فهو ممارسة دنيوية، يُنظر إليها باعتبارها خارجة عن الدين، وترتكز أحيانا على قدرات غريزية ينفرد بها الساحر، هذا الأخير الذي يعتقد أنه يحكم الجنَّ ويسحر ضحاياه عبر وجبات تحوي مواد سامة. والسحر بهذا المعنى يمارسه أفراد كالشوافات )العرافات( اللواتي يظل وضعهن محرما وغير شرعي. وبالجملة، فإن سياق تلفظ كلمة «سحر» من قبل الثلاثي الساحر – الزبون )أو الضحية( – المجموعة الاجتماعية، هو الذي يحدد المعنى الدقيق المراد بها. وقياسا على هذا، ارتأينا ترجمة اصطلاح «magie» بـ «رقية» أو «إبطال السحر». (م).
(18) طوَّرت جان فافري هذه الفكرة بربطها بمنظور لاكاني في كتابها عن السحر في محافظة البوكاج النورماندي بفرنسا، وهي ترى أنّ ما هو أساسي ومهمّ في السحر ليس هو أعمال الساحر، بل اعتقاد الضحية بأن ساحرا ما قد قام بإلقاء سحر عليها، والكلمات المتبادَلة في عملية اتهام لا تنتهي. من ثمة، يأخذ السحر معناه في مثلث يتضمن الشخص الذي يشعر بأنه مريض، والشخص الأول الذي يقول إنه قد وقع ضحية سحر، ثم الشخص الذي يخلصه من هذا السحر. وفي هذا المثلث، يلعب الساحر دور الآخر الأكبر الذي لا يُكفُّ عن الكلام عنه دون أن يظهر أبدا؛ وبالتالي، فلا حاجة لوجود ساحر لكي يكون هناك سحر. انظر:
1977. Favret-Saada, Les Mots, la mort, les sorts: la sorcellerie dans le Bocage, Paris, Gallimard, 1977.
(19) Evans-Pritchard, op. cit., p. 607.
(20) لقد أخذ جاك غوديه هذه الحجة وطورها في كتابه:
La Raison graphique, Paris, Minuit, 1979 (Titre original: The Domestication of the Savage Mind, Cambridge, Cambridge University Press, 1977).
(21) يبدو مثل هذا الاهتمام بظواهر الحضرة بوضوح في كتابات سورياليين أمثال ميشال ليريس أو جورج باطاي Georges Bataille (يجب التنويه إلى أن نص ليفي ستروس «الساحر وسحره» هو نقاش مع ميشال ليريس، ولكن الاهتمام نفسه يتردد أيضا عند علماء أنثروبولوجيين كلاسيكييين أمثال روجيه باستيد Roger Bastide. ويمكن تفسير ذلك بالاهتمام بالصور التي كانت تعتبر مَرضية وهستيرية وصوفية في نهاية القرن التاسع عشر بفرنسا.
(22) M Mauss et H. Hubert, «Esquisse d’une théorie générale de la magie», L’Année Sociologique 7, 1903 (reproduit dans Sociologie et Anthropologie, Paris, PUF, 1950). Sur Mauss, cf. B. Karsenti, L’Homme total. Sociologie, anthropologie et philosophie dans l’œuvre de Marcel Mauss, Paris, PUF, 1997, notamment p. 222-244.
(23) سبق شرحها في الهامش 9، من الدراسة الحالية. (م)
(24) تبنى إرنستو مارتينو حل ما فوق الطبيعة في كتابه:
Ernesto de Martino, Le Monde magique, Synthélabo, 1999.
(25) انظر:
430. Durkheim, Les Formes élémentaires de la vie religieuse, Paris, PUF, 1998, p. 430.
(26) M. Mauss, Sociologie et Anthropologie, p. 114.
(27) C. Lévi-Strauss, «Le sorcier et sa magie » et «L’efficacité symbolique», in Anthropologie structurale, Paris, Plon, 1958. Pour une critique de la notion d’efficacité symbolique, cf. V. Descombes, La Denrée mentale, Paris, Minuit, 1995, p. 143 s.
(يمكن قراءة النصين قي ترجمتهما العربية: ليفي شتراوس، الإناسة البنيانية، ترجمة حسن قبيسي، بيروت – الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟). (م).
(28) الشامانية: مفردة ألتاكية (إحدى العائلات اللغوية المتفرقة في آسيا وأوروبا الشرقية) تُطلق على مجموعة مركبة من التجليات المتمحورة حول شخص معترف به اجتماعيا، يحمل اسم «شامان»، وهو راهب أو مُطبِّبٌ تمكن فوق الطبيعية في التحكم في تقنيتين متميزتين، هما: 1) الوجد، 2) مس الأرواح (…). والوسيلة التي يهب بها الشامان لمساعدة أعضاء الجماعة التي تعترف له بوظيفته الاجتماعية هي «الرحلة» إلى السماء، حيث يحصل على العلاج أو التنبؤ بالغيب من خلال محاربة الآلهة والأرواح أو استعطافها (…) ويوجد هذا النوع من الظواهر في جميع أنحاء العالم» (المترجم). عن:
Michel Panoff et Michel Perrin, Dictionnaire de l’ethnologie, op.cit. p. 56. (م).
(29) انظر:
Lévi-Strauss, «Introduction à M. Mauss», Sociologie et Anthropologie, op. cit., p. XLIX.
(30) C. Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, p. 211.
(31) كتاب الفكر البري مترجم إلى اللغة العربية: كلود ليفي شتراوس، الفكر البري، ترجمة وتعليق: نظير جاهل، بيروت، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 2007 (352 ص.) (م).
(32) C. Lévi-Strauss, La Pensée sauvage, Paris, Plon, 1962, p. 23 s.
(33) يقدم ليفي ستروس، في كتاب الفكر البري، السحرَ باعتباره مشكلا تصنيفيا: فالساحر الذي يريد أن يُشفي وجع أسنان بمنقار طائر يحدد ما إذا كان من الممكن «الجمع بين» منقار الطائر وسن الإنسان، بمعنى هل ينتميان إلى نفس صنف الموجودات في العالم (ص. 21).
(34) نفسه، ص. 26: «قد نحرم أنفسنا من كل وسيلة لفهم الفكر السحري إذا زعمنا أنه ينتمي إلى مرحلة من التطور التقني والعلمي. إنه بالأحرى ظل يستبق جسده، وبالتالي فهو معنى ممتلئ لهذا الجسد مثله، كامل ومتماسك في لاماديته أو افتراضيته كالكائن المادي الذي لا يُسبَقُ إلا به».
(35) C. Lévi-Strauss, Du miel aux cendres, Paris, Plon, 1966, p. 408.
(36) تجدر الإشارة إلى أن ليفي ستروس بصياغته لاستعارة «الترتيق bricolage» إنما يسعى بالضبط إلى وصف مثل هذا المنطق التقطيعي.
(37) انظر:
J.-P. Vernant, Les Origines de la pensée grecque, Paris, PUF, 1962.
(38) راجع:
282. Laks, « Les origines de Jean-Pierre Vernant », Critique, mai 1998, n° 612, p. 268-282.
(39) G. Lloyd, Magie, raison et expérience, Paris, Flammarion, 1984 (Magic, Reason and Experience, Studies in theOrigin and Development of Greek Science, Cambridge, Cambridge University Press, 1979).
(40) J.-P. Vernant et M. Detienne, Les Ruses de l’intelligence, La mètis des Grecs, Paris, Flammarion, 1974.
(41) نسبة إلى ميتيس: تعني باليونانية القديمة حرفيا (النصيحة والحيلة)، وفي الأساطير اليونانية القديمة يشار بالمفردة إلى إلهة تجسد الحكمة والحيلة. (م).