I. ج. بـوش[1] أو الـرَّقـابـة الـواقـعيـة
يكاد المؤلفون الذين يناقشون قضايا السحر أن يتبنوا دائما معيارا نفسيا، اجتماعيا أو تاريخيا (بل وحتى لاهوتيا)، ومن ثمة، ما من انشغال إستطيقي إلا ويجد نفسَه مُبعدا. فالأنثربولوجيون ومؤرخو الأديان وعلماء الاجتماع عادة ما يجهلون أشياء الفن. ومع ذلك أقدر أن من شأن دراسة إستطيقية أن توضح على نحو فريد بعض جوانب الأنثربولوجيا وتاريخ الأديان، التي تم تفضيل دراستها حتى اليوم من وجهة نظر الأخلاق والعلوم الإنسانية لا غير. وإذا كان هناك جانبُُ قابل لإفادة الفنانين (وحتى البحاثة) بالتأكيد فهو السحر. ذلك أنَّ «التصحيح الذهني» الذي أتاح، في حالات عديدة جدا، الإفلات من جنون التعذيب ومن رعب الساحرات، عبَّر عن نفسه بالسخرية والفكاهة في خدمة الفن. فهوراس، وأوفيد وبيترون ومؤلفون آخرون لاتينيون سبق أن حاربوا الخوف من الساحرات بفعاليةٍ على النمط الهجائي. فهجائية جيدة واحدة كان لها في بعض عقول الأمس – واليوم – مفعول أكبر من أطنان الكتب التي ألفها الميتافيزيقيون والأخلاقيون أو اللاهوتيون للبرهنة على أن الساحرات لا يطرن في الأجواء. لكن على قدر هذه القيمة التصحيحية للفكاهة والفن، يجب علينا الإشارة إلى بعض الروابط بين السخرية النقدية دائما، بل وحتى المتشككة في جوهرها، وسرعة التصديق بل وحتى الرعب.
حوالي نهاية عام 1871، أنهى نيتشه كتابه أصل التراجيديا أو الهلينية والتشاؤم Origine de la Tragédie ou hellénisme et pessimisme، وهو مؤلف يعالج في مجموعه، كما هو معلوم، التمييزَ المطروح في الفصل الأول بين الأبوليني والديونيزوسي، تمييز سيفسح المجال لتطبيقات عديدة. يشدد نيتشه على التنافر العميق الموجود في العالم الإغريقي، في بداياته أو حوالي نهايته، بين الفن التشكيلي الأبوليني، والفن اللاشكلي الموسيقي أو الفن الديونيزوسي. تبدو التصورات التشكيلية في فترات الحلم، وتولد فنا مليئا بالروعة والجلال. أما الفن الديونيزوسي، فيبدو على العكس في حالات السكر والهيجان الراجعين إلى تناول الكحول أو منبهات أخرى؛ إنه فن تعددي وعنيف. وحالات السكر الديونيزوسية هاته، ترافقها الموسيقى، ولها تأثيرات نفسية متناقضة: أوَّلا ابتهاج مجنون، ثم حزن متعذر السّبر. الفكر الأبوليني تحكمه مفاهيم مكانية، أما الديونيزوسي فتحكمه تصورات زمانية. الأول يحب ما هو سكوني، يحب النظام، والخضوع للقواعد، أما الثاني فيحب ما هو ديناميكي، يحب اللامنتظم والمتبدِّل.
ومن الطبيعي أن النزعتين استطاعتا التجلي في أمكنة أخرى غير اليونان. وعندما يقارن بيدرو دِ فالينسيا Pedro de Valencia بين ما يقال عن ساحرات شمال إسبانيا الحقيرات وما قالته التراجيديات الإغريقية عن الكاهنات، فإنه يرى أن أشكال الجنون الديونيزوسية واحدة في الحالتين ولها أسباب متشابهة، وهذا تعميم سيكولوجي لا يخلو من قيمة.
الساحرة شخصية من النوع الديونيزوسي لأسباب عديدة، أولها علاقاتها بالإيقاع، والموسيقى، والرقص العنيف، والشأن الجنوني. مثل ديونيزوس، ومثل شيطان القرون الوسطى، تكون (الساحرة) أحيانا موضوع تهكم وتثير الضحك، لكنها أحيانا أيضا، تزرع الـرّعب والفزع. وهذا الانتقال من السخرية، من الهجاء (بل وحتى من الابتهاج الذي لا يمكن قمعه) إلى الغضب والذعر، يتولد ميكانيكيا لدى مدمِني الخمر. والساحرة الحقة، مضطربة وحمقاء، كانت غالبا مدمنة خمر[2]، تثير الضحك والخوف، في آن واحد، لدى العقول البسيطة التي لم تكن غرائزها وعواطفها منظمة كما في مصنفات علم النفس. بيد أن هذا الانتقال الجماعي من الخوف إلى الضحك والسخرية هو ما نزع عن ظاهرة السحر طبيعتها الجماعية. وقد ساهم الفنانون إلى حد بعيد في هذا النقل، بشكل إرادي أو لا إرادي. وبذلك ساعَدَ الشعراء والروائيون والرسامون بالخصوص، عبر تفسيراتهم الشخصية، على إضعاف الإيمان بالساحرات.
بتقديم مشاهد غروتيسكية في أمكنة مخصصة للدين والعبادة، كانت نية العديد من فناني القرون الوسطى، عموما، في منتهى الورع والتدين. غير أنَّ النتيجة لم تستجب دائما للنوايا، إلى حدّ أنه اعتقِد في القرن XVII، مثلا، بأن بوش كان «مُلحدا»[3] والحال أنه كان في الحقيقة صوفيا يَرى أن التعلق بالشهوات الجسَدية من أبشع المكروهات، ويعتبر الأحاسيس التي تولدها الموسيقى من أخطر سائر الأحاسيس اللذيذة والموَلدة للخطيئة. وإضافة إلى أنَّ عالم الأصوات والإيقاعات والحركات يحضر دائما في هجائياته، توجد لوحة بمتحف اللوفر تكشف تماما عن هذا الاعتقاد لدى الرسام بأن كلَّ ما هو حركة مختلة، توازنُُ قليلُُ، استشباحُُ عضلي، هو شيطاني في جوهره[4].
يحتوي العديد من لوحات بوش على حشد من التمثيلات الخاصة بالسحر، أشدها وضوحا يتعلق بتنقلات غريبة وحركات مخالفة للمألوف. في إحدى تجارب القديس أنطوان من متحف البرادو Prado (رقم 2051) نشاهد الزوج (couple) الكلاسيكي ذاهبا إلى محفل السبت[5] على متن حوت طائر. يتقدم الرجل حاملا على الكتف عصا عُلق عليها قِدرُ المنقوعات السحرية، تليه المرأة مُرتدية فستانا له رفلُُ[6] طويل ومزهو[7].
كان بوش يرسم ليُصَادِر، ولهدف ديني وتخليقي اشترى فيليب الثاني قماشاته. بعد ذلك بوقت طويل، أثار تأمل استشباحات الفنان العبقري تهكما وسخرية باردين. واليوم، من النادر أن نشاهد زائرا واحدا من زوار متحف البرادو، حيث توجد أفضل أعمال بوش، يبدي أقل حماسة روحية. فهي لم تعد تلهم إلا تأملات هجائية أو إيحاءات مَرَضية.
II. الـواقـعيــة الأدبيــة
أغرت تلك الموضوعات فنانين آخرين فلامنديين حظوا بتقدير عظيم في إسبانيا. وتصل المقاصد الكاريكاتورية درجة قصوى عند بعضهم على نحو ما نجد لدى صاحب لوحة المأدبة السبتية، بمتحف بلباو[8]. وبتكاثر هذه الأعمال، يفسح المقصد الديني الأولي والتخليقي المجالَ تدريجيا للإستطيقي وللفكاهة.
من يمكنه أن يحس بتمكّن الفضيلة في نفسه أمام تجارب القديس أنطوان على طريقة تينييه[9]، أو أمام مشهد جهنمي لبروغهيل[10]، على نحو ما يحس أمام لوحة لفرا أنجيليكو[11]؟ يصير فن الرسم الديني للقرنين XVI وXII دراميا وواقعيا (كما في إسبانيا) أو تزيينيا (في إيطاليا) أو فانطاستيكيا، بما أنَّ الموضوعة الدينية صارت تابعة أو ملحقة، شاغرة الخطوة لمشاهد طبيعية أو فلكلورية (في هولاندا). وما كان من قبل نهاية صار وسيلة للرسم، لريشة خفيفة، لمشاهد جميلة، لشخصيات صغيرة، أو لتركيبات كبيرة على طريقة روبنس[12]. والأمر ينطبق أيضا على الأدب. فيما يخص موضوعنا، نلاحظ أن الواقعية الورعة لمؤلفي العصر الوسيط التي تنتقد بقسوةٍ رذائل الساحرات وانحرافاتهن، أعقبتها واقعية إستطيقية محضة لم تعد تعير أدنى اهتمام للمحاكمات بما أن الساحرات صرنَ موضوعة أدبية. كلما كان المؤلف واثقا من لغته كلما وصفهن بأنهن مجرد شخصيات لعالم الرواية الخليط الذي تطوَّرَ على نحو غير مألوف بإسبانيا في القرنين XVI وXVII كما هو معروف.
لقد رسم سرفانتس سلفا، وبشكل فكاهي، شبحَ الساحرة في عمله الذي يحمل عنوان ندوة الكلاب Coloque des chiens. عندما يذكر البطل ذريته، في أول فصل لبوسكون Buscَn، يُلمحُ كيفيدو Quevedo – وهو يتحدث عن أمه التي كانت قوادة – على النمط الهزلي (ف. د. كيفيدو، (د. ت.): 29)[13]، إلى مواهبها باعتبارها ساحرة. في الساعة التي عاش فيها هذان العبقريان الكبيران انتشرت المدعوات aquelarres[14] باسكيات في جميع أنحاء إسبانيا. وعندما تعرَّضَ عددُُ كبير من الساحرات للمحاكمة في منطقتي قشتالة والأندلس، بدل أن يتحدث سرفانتس وكيفيدو وآخرون كثيرون – على غرار ما ظل معمولا به إلى ذلك الحين – عن سحرهن وحيلهن السحرية، أثناء ذكرهما الاجتماعات الشيطانية، بدل ذلك فضل الاثنان الرجوع إلى aquelarres الشمال. هكذا في ندوة الكلاب، هذا العمل الذي سبق ذكره والذي يعد تحفة صغيرة للملاحظة، يصف أحد المتكلمين عادات ساحرة أندلسية سبق أن كانت مُرضعة له. ويورد سرفانتس تأكيدها بأنها قامت بحيلة كبيرة في أحد وديان جبال البرانس، وأنها تقدم تفاصيل حول ما جرى هنالك يعجز المرء عن نقلها كتابة:
«نذهب إلى مكان بعيد جدا عن هنا، إلى حقل كبير حيث يكون عدد من السحرة والساحرات مجتمعين، فيقدم لنا الشيطان وجبة أكل من طعام تافه. وفي الحقيقة، لا أستطيع أن أحكي ما يجري بعد ذلك، في شأن الله وفي شأن نفسي، مادام أشياء قذرة ومقرفة، لا سيما أني لا أريد أن أخدش أذنيك العفيفتين» (سرفانتس، (د. ت): 338-339)[15].
هذه التأملات على لسان كلب هي تلك التي يضعها آخرون على لسان قضاة صارمين. أيّ سبيل تمَّ اجتيازه!
وبتقدم القرن XVII تكبر شهيرة الشمال هذه. ففي مؤلف الشيطان الأعرج El diablo cojuelo، الذي صدر عام 1641، يلقي فيليث دِ غيفارا Vélez de Guevara على لسان دون كليوفاص Don Cléophas، من أعلى صومعة القدِّيس سالفادور San Salvador بمدريد، ما يلي:
«التفت، وتمعن في هذه المنافقة العصرية وهي تدهن بدنها للذهاب لاجتماع الساحرات الأكبر الذي ينعقد بين سان سيباستيان[16] والفونطارابي[17]، ولعمري كان علينا أن نذهب إلى هناك لو لم أخش أن يتعرف علينا الشيطان. فقد سبق أن وجهتُ لها، يوم اختصمنا، صفعة قوية في غرفة انتظار إبليس» (لويس فيلس دِ غيفارا، 1902: 18-19).
المقصد هنا تهذيبي تخليقي، ولكن ماذا عن اللهجة؟ شيئا فشيئا لا يجد قرَّاء هَذِه الأشياء بُدّا من التحوّل إلى متشككيين.
خلال حكم شارل الثاني، وبعد مضي وقت طويل عن الحدَث، كتب رسام الأعراف فرانسيسكو سانطوس بضعة أسطر حول محاكمة لوغرونيو[18] في مؤلف شجب فيه المعتقدات الخرافية العامية (ف. صانطوس، 1697)، ولكن دائما على النمط الهجائي. رغم القصد الخلقي لجميع هؤلاء المؤلفين، فإن لهجة كتاباتهم ونوعَها هُما على ما هما عليه، أكرِّر هذا، بحيث لا يملك قراؤهم سوى أن يعتبروا السحر مجرد مزاح. وبفضل أدباء من ذوي الموهبة الكبرى، يستعملون هذه الفكاهة استخداما غزيرا، سينتهي الأمرُ بأناس مثقفين إلى الإيمان بأن السحر لم يكن سوى هراء. ذلك أن الفنانين لم يعالجوا هذه الموضوعة لمهاجمة السحرة والساحرات ومحاكمتهم، وإنما للتهكم على الذين آمنوا بوجودهم فعذبوهم وحاكموهم.
III. غـُويَـا[19] والذهنية الحـديثـة
كان التصورُ الموضوعي للعالم السائد في العصور القديمة وفي جزء كبير من العصر الوسيط، يُساعِدُ على الإيمان بأعمال السحر (magie et sorcellerie) [20]. بالطريقة نفسها، ابتداء من القرن XVII ساهمت ذاتانية[21] العصر الحديث بكيفية واسعة في تقويض هذا الاعتقاد الذي لم يعد يشكل نظاما متماسكا ومُنَظما. تفكَّك الوعيُ القديم، فغير الهجاء موضوعَه واستهدَف في الأعوام الأخيرة من النظام القديم أولئكَ الذين ظلوا متعلقين بأعراف القرن السَّابق ومواضعاته. وفي ما يلي مثال على ذلك:
يحكي دون أنطونيو بونث، وهو ناقد ومؤرخ للفن الكلاسيكي الجديد، أنه حظي – خلال إحدى رحلاته في إسبانيا، إبان عهد شارل الثالث، ذات يوم ممطر في ولاية سينكة[22] – باستُقبال جيد في منزل أحد النبلاء. بعد أن دفئ أمام النار، وأثناء تناول وجبة الأكل، شاهد قدوم النبلاء أصحاب المنزل، الراغبين في تجاذب أطراف الحديث مع المسافرين، جريا على ما كانت تقتضيه العادة بحكم ندرة العلاقات مع الخارج بالمقارنة مع اليوم. فشرع أحدهم، وهو الذي كان يعتز ويفتخر بأنه مثقف، في مُهَاجَمَة الأب فييخو Feijَo، وإنكار قدرة أعماله على تبديد الجهل:
«أكد الرجل الشجاع قائلا: “كل ما يقوله [فييخو] حول السحر خاطئ، ناهيك عما تبقى بكامله؛ إن الساحرات لموجودات. لقد وُجدنَ وسيوجدن على الدوام، وأنا لا أتكلم بلغة سمعتُ أنه قيل، بل عن تجربة شخصية”» (أ. بونث، 1777: 261).
ثم أخذ يحكي أشياء مذهلة لا يوردها قِسّنا. ذلك أنَّ ما يهمه هو رسم البورتريه الهجائي لرجل له ثقافة معينة، ولكنه مغرم بالإيمان القديم بالساحرات، هذا الإيمان الذي لا زال موجودا. في روايات هجائية أو في كتابات أخرى تحدثنا عنها في مقام آخر (باروخا، 1972: 234-240)، يحارب العديد من الكتاب، مثل بونث، هذا «الانشغال» – كما كان يقال في ذلك الوقت – واسع الانتشار بين العامة. للأسف، فموهبة الإبداع الروائي في القرن XVIII الإسباني هي من القلة بحيث لا تعدو هذه الكتابات إطلاقا كونها مجرد بحوث مُجهَضة. فمؤلفوها يتخيلون أنفسهم يتبعون التقليد السرفانتي، بيد أننا لا نجد سبيلا للمقارنة بين أسلوبهم كثير الحشو والغامض وبين النثر المباشر عند سرفانتس. بالمقابل، وبمفارقة غريبة، من هذا الوسط المتأدب انبثق عبقري متدفق يزعم التشطيبَ، بريشته، على الأفكار ذاتها مثل بونث وأصدقائه الحكماء. لقد خلف لنا أعمالا قوية جدا بحيث لا تلهمنا الضحك، وإنما (تلهمنا) الذعر. وأعتقد أنَّ أي رجل من رجال محاكم التفتيش كان سيفضل أن يكونَ في خدمته، من أجل وصف الرعب البشع للاجتماعات السرية وأفعال أخرى صادرة عن السِّحر، كان سيفضل أن يكون في خدمته شخصُُ اسمه غويا بدل شخص اسمه بوش برؤاه التي تبقى الفنان التشكيلي الوسيط.
تناسب أعمال غويا المستوحاة من السِّحر لحظتين وتقنيتين: من 1793 إلى 1796 أو 97 اشتغل غويا على الـ Caprices التي نتوفر منها على عدد لا يستهان به من الرسوم التحضيرية والرسوم ومجموعة الـ 80 مائية قوية التي أعيد طبعها مرات عديدة. وأولى هذه الطبعات ظهرت عام 1799، وتعرضت للسَّحب على الفور بما أن محاكم التفتيش ندَّدت بها (أ. ل. مايير، 1928: 472؛ إ. ل. فيراري، 1946: 291-293). لا شيء في ذلك يدعو للاستغراب. فالعداء تجاه هذه المحكمة باد بوضوح في تلك المائيات. آخر الرسوم، يحمل رقم 80، ويسمى «حانت الساعة»، يبدو تلميحا للساعة التي سيكف فيها الرهبان ورجال محاكم التفتيش عن العمل في إسبانيا (ميغيل فيلاسكو وأغيرِّي، 1928).
ولكن من يشاهد ويعيد مشاهدة التركيبات التي تظهر فيها الساحرات، «بصدد البحث عن الأسنان»[23]، يمصصن دماء الأطفال، طائرات في الأجواء وهن تعقدن اجتماعات سرية غريبة[24]، من يشاهد ذلك يحسّ بقلق لا توقظه فيه إبداعات بوش ولو أنها مُقلقة بالتأكيد وأكثر هزلا وسخرية بكثير. ذلك أن غويا كان، في هذا التاريخ، قد احتبس في الصمم المرير؛ ولا شك أنه ساهم إلى حد بعيد في اختيار موضوعاته وطريقة معالجتها، وهي طريقة تختلف عن نظيرتها في الهجائيات الفكرية الخالصة أو «الثقافية».
أما الصباغات السوداء من مجموعة série «La Quita del Sobro» المحفوظة في مَتحَف البرادو، بفضل تبرع من بارون Etrangler، فهي أكثر تراجيدية من الـ Caprices. والصباغات التي تعالج الساحرات تحمل أرقام 756 (ساحرتان طائرتان) 757 (aquelarre) و762 (مأدبة الساحرة وعائلتها).
تنحدر هذه اللوحات من فترة وقوع الرسام تحت طائلة يأس عميق، ولربما كانت صورة للتشاؤم المطلق الذي يمكن أن يمنحنا إياه الفنّ. العالم أسود وكل ما يحدُث فيه هو أشدّ سوادا.
يُعتبر الـ aquelarre، بكل الخاصيات التي تعزوها إليه النصوص القديمة، الرمزَ الكاملَ لمجتمع قبيح وبهيمي وفريسة لسائر أنواع الجرائم والعنف. ومن جهتي، أعتقد أنه كان لقراءة علاقة إحراق لوغرونيو Logroٌo لعام 1610، الذي نشره مارتان Martin، وهو صَديق كبير لغويا، كان لها تأثيرُُ حاسمُُ في تصور هذه الصباغات السَّوداء التي تلعب فيها الحركة دائما دورا أساسيا.
لكنني أظن أنَّ عبقرية الفنان الكبرى قد خضعت، حتى في الـ Caprices، لتأثير الفكر الجلي والمضبوط للدراماتورجي. فقط خطا غويا خطوة زائدة عن موراتان Moratيn. رائدا للأزمنة الحديثة، اكتشف حدسيا – لستُ أدري كيفَ – ما نعرفه اليوم، وهو: ليست التحليلات العقلانية الخالصة للذين يسخرون من رجال القانون هي التي ستلقي الضَّوْء على مُشكل السحر، ولا واضعو القوانين القمعية، بل وحدَه تحليلُُ جدِّي للحالات النفسية الغامضة عند السَّحَرة وضحاياهم هو ما سيلقيه. في أعمال غويا بالتأكيد تلميحاتُُ واضحة للقضاة، لكتاب المسودات، للسلطات الرجعية التي لها مصلحة في قتل الحقيقة[25]. لكن علاوة على ضروب القلق الناشئة عن عدالة عرجاء، علاوة على أضرار الحرب وأشكال المعاناة المادية، تحدق بنا ضروب أخرى من المعاناة الملغزة، ذات طبيعة نفسية، إلى حدّ أن الحياة البشرية، تصير مثل مائيات غويا القوية، مصنوعة من «الأهواء»، و«الفواجع»، و«السَّخافات». وبطرح هذا نستطيع أن نخطو إلى الأمام بشجاعة.
كل من يتأمل اليوم أعمال غويا يحس بالفرق الكبير بينها وبين الكتابات الباردة والجافة التي خلفها رجالٌ أمثال موراتين Moratin أو جوفيانوس Jovellanos المنشغلين بتحطيم العادات السيئة المشروعة، والمؤسَّسات الفاسدة، والمعتقدات البالية. يُعتبر غويا الرائد النابغة للإنسان الحديث. فهو في الوقت نفسه أنثربولوجي، وطبيب نفساني، وعالم اجتماع. وفوق ذلك كله، فهو فكاهي مدهِش؛ لا يتوفر على المزاج السخري لأصدقائه السعداء دائما بأنفسهم والمتأكدين من امتلاكهم الحقيقة. لا، إن غويا يتهكم ويشكو من كل شيء، وهذه الصَّرخة تنشأ ربما من الوعي بجوانب ضعفه وعجزه.
IV. الـرّومانسيـة والفلكلور
والخلاصة أن الفن الحديث، بفضل الحدوس العبقرية لبعض الفنانين، يرسم طرقا جديدة ويوحي بتوجهات لا يمكن للتأمل الطويل أن يثيرها إلا بصعوبة. لكن في هذا الميدان، كما في ميادين أخرى عديدة، كانت الرومانسية تراجعا إلى الوراء. فمريميه Mérimée، مثلا، أثناء حديثه عن الساحرات الإسبانيات[26]، لا يرى في السِّحر سوى «لون محلي»، وفي رواياته أو قصصه القصيرة المستلهمة بهذا القدر أو ذاك من والتر سكوط Walter Scott لا يرى في السحر نفسه سوى «لون تاريخي». وإذن فقد فقدت تواريخ الساحرات الكثير من قوتها.
شرع الفنانون في النظر عن بُعدٍ إلى محاكمة السّحر، باحثين فيها بالأحرى عن أثر مَسْرحـي. وقد تطلب الأمر استخدامها لإحداث تأثير في جمهور المباريات، والمعارض، ومجلات اللحظة وكتبها، وهو جمهور برجوازي أساسا فرحُُ بنفسه أكثر من أي درس للتاريخ. لنترك جانبا الوصف الذي يقدمه لنا غوته عن محفل السبت، والذي يستوحي إلى حد بعيد أوصاف القرن XVIII ويلتمس العذر لجميع أنواع التلميحات الهجائية السياسية والفلسفية. لنأخذ على العكس، كمثال عن الأثر (oeuvre) الرومانسي، وصفَ فكتور هوغو (1862: 356-361) في نزهة شهيرة ألهمت لويس بولانجيه Louis Boulanger ليتوغرافيا صارت أشهر من النزهة نفسها. الأحاسيسُ البصرية تهيمن في هذه سلفا؛ الشاعر يعرض فيها بلاغته العظيمة.
فيما بعد، سيصف تيوفيل غوتييه (1896: 177-183) هو الآخر، في عمله ألبرتوس أو النفس والخطيئة Albertus ou l’âme et le pêché، محفل سبتٍ يهيمن فيه اللون اللامع تارة والمعتم تارة أخرى. ولكن ما يُدهِش عند هذا كما عند ذاك، هو مهارة احترافية تذكر بغوستاف دوريه Gustave Doré أو برسامين آخرين من تلك الحقبة، لكنها مهارة بعيدة عن الإخلاص الساذج لدى بوش بقدر ما هي بعيدة عن غويا.
ومع ذلك، فقد كانت الرومانسية في أصل العديد من الأبحاث والأعمال، ويمكننا القول إن الفلكلور قد نشأ تحت رعايتها. فبعد أن استوحى الفنانون التاريخ الوسيطي ووقائعه الفظة المثيرة المنحدرة من القرون البعيدة، يطلبون من الشعب عناصر قصصية وابتكارات دائما رائعة.
إنها السَّاعَة التي زعم فيها بحاثة أمثال غريم Grimm اكتشافَ أغنى مناجم الميثولوجيا الجرمانية في التقاليد الشفهية وترسيخَ هوية شبه مطلقة بين معتقدات الجرمانيين «البدائية» ومعتقدات القرويين. والشيء نفسه يقوم به بعض المؤلفين بالنسبة للتقاليد السّلتية. لكن شيئا فشيئا صارت تلك الأبحاث ليست شَيئا آخر غير una collecanea، أي تراكم من الظواهر شبه روتيني دائما، ومجرد من كل روح.
تظهر السَّاحرة حتى في الأوبيريتات، والدرامات، وروايات النهر[27]، وتُـُبتَذلُ بالخصوص، إذ اتخذها الأدب الجهوي موضوعا للاستخدام الغزير. يستغل شعراء نهاية القرن، الحداثيون وأقرانهم سلفا شبحها. في إيطاليا تعتبر الـ strega الشخصية الرئيسية أو الثانوية لمئات ومئات الأعمال. ومنذ وقت غير بعيد، اعتبر نقاد الأدب ابنة جوريو لأنونثيو Annunzio مأساة مسأوية لتراجيديات سوفوكل التي كان رامون دل فاليه أنكلان Ramَn del Valle Inclلn، في إسبانيا، يؤثث بها أعماله المتعلقة بالساحرات؛ بأعمال السحر والأشباح.
وهكذا نصل إلى ثولواغا Zuloaga ولوحته المعروفة جدا التي تحمل عنوان ساحرات سان ميلان les soricères de san Millلn، والتي يعدّ قصدها واضحا، ويتمثل في رغبة الفنان في أن يقول عنه فنانٌ آخر، شاعرٌ آخر، بعد قرون، ما قاله تيوفيل غوتييه Théophile Gauthier عن فالديس ليال[28]:
«رسامٌ إسباني حق، كاثوليكي وشرس،
بالبشاعة الفظيعة والمعاناة الشنيعة،
يضاعف في قلب الإنسان الهلع المذعور،
قلق جحيـم الأبدية».
لكن ليس لكل جنس سوى زمن واحد. فالفلكلور الرومانسي لبداية القرن XX، هذا الفلكلور المرعب بهذا القدر أو ذاك مثل نزعات أخرى أكثر حداثة تظن نفسها بعيدة الأصول بل وحتى مُواجِهة، كل ذلك يبدو لنا دائما مفتقدا إلى إخلاص، بل وحتى إلى عمق. ويصل المؤرخ إلى التفكير في أنه لإنشاء عمل (oeuvre) نافع، يجب عليه أن يدافع ضدّ هذه الرؤية الرومانسية والفلكلورية. وهو أمرٌ صعبٌ في عصر فيه للرومانسية الفلكلورية في التعليم الرسمي والحياة الاجتماعية تأثيرٌ قوي بقدر ما هو سرِّي، ويشكل فيه هواة الأهازيج الجهوية والخصوصيات الريفية الموجَّهَة من قِبَل متخصصين يتلقون رواتب، (يشكلون) أبناء البورجوازية الحضرية، بينما أطفال التراب المحلي، بعيدا عن أن يحلموا بأن لهم ساحرات وأرواحا في خدمتهم، لم يعودوا في أغلب الأحيان يرغبون سوى في أجهزة تلفزيون أو ثلاجات.
مهما يكن الأمر، فإنه لازال من الممكن استكشاف وعي بعض الرجال ذوي المثال (idéal) الأقل وضعية. وعنهم تحدثنا في سياق آخر (باروخا، 1972: 252-266)، متحررين من كل فلكلور طريف ومن كل رومانسية عتيقة.
المصدر:
– BAROJA, Julio Caro,1972, «La sorcellerie dans l’art et la littérature», Les sorcières et leur monde (Traduit de l’espagnol par M.-A. Sarrailh), Gallimard, Paris.
ترجمة: محمد أسليـم
————-
الهـوامــش والمـراجـــع
August L. Mayer,
1928, Historia de la pictura espaٌola, Madrid.
Baroja, Julio Caro.
1972, Les sorcières et leur monde (Traduit de l’espagnol par M.-A. Sarrailh), Gallimard, Paris.
Cervantes,
(s.d.), El casamiento enganoso y coloquio de los perros, éd. Gonzلles Amezْa.
Lafuente Ferrari, Enreque,
1946, Breve historia de la pictura espaٌola, Madrid.
Ponz, Antonio,
1977, Viaje de Espaٌa en que se da ed las cosas mas apreciados y dignas de saberse que hay en elia, III, (2e éd.), Madrid, (lettre IX, n° 10).
F. de Quevedo,
(s.d.), Historia de la vida del Buscَn, édition A. Castro Londres.
Santos, Francisco,
1697, El arca de Noé y campana de Belilla, Saragosse.
Thةophie, Gautier,
1896, «Albertus», in Poésies complètes, Paris, I, (Strophes CVIII-CXX).
Père Siguenza,
1909, Historia de la َrden de San Jerَnimo, Madrid, II (3e partie, liv. IV, discours XVII).
Velasco, Miguel y Aguirre,
1928, Les Grabados y litografias de Goya, notas histَrico-artisticas par (Madrid), n° 101 (n° 80 de la série des «Caprices»).
Vةlez de Guevara, Louis,
El Diablo cojuelo, éd. Bonilla y San Martin (vigo, 1902), (2e partie: fos 12 r°-12 v° de l’édition princeps).
Victor, Hugo,
1862, Odes et Ballades, Paris, (Ballade XIV); l’ouvrage est de 1823-1828.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأربعاء 05-09-2012 06:48 مساء