يعيش المغرب، منذ بداية القرن الماضي، مرحلة تحولات سوسيوثقافية واقتصادية، يواكبها تزايد خطابي متمركز حول المجالات الثلاثة الأكثر حيوية في بنيته التقليدية، وهي: السياسة، والدين، والجنس(1). وبما أن للسحر علاقة وثيقة بالمجالين الأخيرين فهو يشكل موضوع نقاشات لا تنتهي تمررها وسائل الإعلام بالأساس. ويمكن تبين ثلاثة خطابات: خطاب ديني، خطابٌ وثني، وآخر عقلاني.
1. الخطاب الدينـي
نقصد بالخطاب الديني، في هذا السياق، كل إنتاج لغوي يتخذ من الإسلام مرجعا له لصياغة هذا الموقف أو ذاك من السحر والخفي عموما. ومع أن هذا الخطاب يبث نفسه عبر قنوات عديدة، فإننا اخترنا الاقتصار على تلك التي لها حظ الوصول إلى فئة واسعة من القراء، لأنها تتخذ من الصحافة وسيطا لتمرير آرائها. منشغلا بتحديث الإسلام، يميل الخطاب الديني إلى تأكيد أن الممارسات السحرية محرمة تحريما قاطعا. وللبرهنة على هذا الطرح، يلجأ الفقهاء المعاصرون إلى نمط التفكير نفسه الذي رأيناه عند الفقهاء القدماء. فهم ينجزون قراءة «ذرية» في القرآن ويجرون انتقاء داخل مختلف الأطروحات التي صاغها الفقهاء القدماء مستلهمين القرآن والحديث النبوي. هكذا، فالله حرم السحر، في رأيهم، لأنه قال: «ولا يلفح الساحر حيث أتى» (طه، 69)(2). أما قصة هاروت وماروت، فهي قد لا تعدو مجرد قصة خيالية، لأن القرآن يؤكد أنه لم يسبق لأي ملاك أن نزل على سطح الأرض: «ولو أنزلنا مَلَكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون» (الأنعام، 8)(3). وفي المنظور نفسه، إن سحر الرسول قد لا يكون سوى قصة مختلقة ولو أن ناقلها، البخاري، سلطة دينية لا تناقش(4). أما تحكم الكواكب في العالم السفلي وتأثيرها في مجرياته، فالقرآن ينفيها، وبالتالي فهو يحظر ممارسة العرافة والكهانة، كما يتضح ذلك من الآيات التالية:
– «ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين، وحفظناها من كل شيطان رجيم، إلا من استرق السمع فأتبعه شهابٌ مبين» (الحجر، 16-18)؛
– إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب، وحفظا من كل شيطان مارد، لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويُقذفون من كل جانب» (الصافات، 6-8)(5).
ويرى آخرون أن السحر قد يكون له تأثير فعلي، والدليل على ذلك هو سحر الرسول. وإذا كانت ممارسات العرافة والكهانة محظورة، فإن ممارسات إزالة السحر مباحة، إذ يرخص للمؤمن اللجوء إليها مثلما يباح له الوقاية من كل سحر باستخدام سور قرآنية(6).
هكذا، بتعارضه وجدانيا في موضوع السحر، لا يقوم الخطاب الديني في المغرب الراهن سوى بإعادة إنتاج نظيره لدى قدماء الفقهاء والعلماء المسلمين في الموضوع نفسه.
2. الخطاب الوثنـي
ننعت بـ «الوثني»، في هذا السياق، كل إنتاج خطابي وكل ممارسة ينبذها الفقهاء والعقلانيون، على السواء، إذ يعتبرها الأوائل محرمة ويعتبرها الأواخر لا عقلانية.
هذا الخطاب الذي يصوغه السحرة وزبائنهم يُترجَمُ أولا بالإيمان بالفعالية الحقيقية للسحر، وثانيا بمجموعة من التمثلات حول العالم، والدين والمجتمع، ويُترجَمُ أخيرا بالتعاطي لمختلف الممارسات السحرية الدينية. الجسد البشري، في هذه المعتقدات، وسيلة للعرافة وأداة للسحر، والإنسان يواصل التأثير في العالم بعد رحيله عنه، والدين قد يكون مسألة قصد (نية) أكثر مما هو مسألة شعائر، بل إن انتقاءً يُقام داخل أركان الإسلام نفسها، فيراعى بعضها وينتهك بعضها الآخر من قبل الشخص الواحد، فتتعاطى المرأة للبغاء، مثلا، وتحرص حرصا شديدا على صوم رمضان، والإنسان يجب أن يحرص على إرضاء الأرواح التي تتعايش معه في مكان إقامته، والتي تسمى بـ «مالين المكان» (أصحاب المحل، أو عمار المكان بلغة مصنفات السحر العربي الإسلامي)، وذلك بتقديم قرابين لها، ورَش الحليب في جنباته قبل السكن فيه، والإحجام عن القيام بالأشغال المنزلية ليلا، أو الاغتسال ليلا، أو صب الماء المغلى في مجاري المياه خوفا من إلحاق الأذى بأولئك العمار وجلب نقمتهم، الخ. تقول إحدى النساء: «إذا أفرغت الماء الساخن في المرحاض لابد أن أقول “باسم الله”، و”التسليم لرجال المكان”… وإذا لم أقل هذا فيمكن أن يضربني الجن أو أفقد بصري أو تشل إحدى يدي»(7).
في الواقع، لا يتعارض الخطاب الوثني مع الخطاب الديني بالقدر الذي يبدو لأول وهلة، بل إنهما يلتقيان. وبنبذ الفقهاء والعقلانيين لما هو وثني، يبدو أنهم يجهلون هذه الحقيقة الأساسية التي كشف عنها حديثا مؤلف عبد الله حمودي «الضحية وأقنعتها»، وهي أن ما هو إسلامي لا يُعاش إلا مع ما هو «جاهلي»، كما أنه ليس ثمة قانون بدون انتهاك(8):
من المعلوم أن المغرب الحالي يحمل «ذاكرة» ثقافية يُعتَبَر السحرُ، والخفيُّ عموما، أحد مكوناتها الأساسية في الشِّقّ الإسلامي من هذه الثقافة على الأقل. نقول «في الشق الإسلامي على الأقل» لأنه بات شبه مؤكَّد أنه عندما توجد ثقافة ما في سياق هيمنة تكون فيه الغلبة لثقافة أخرى، فإن العديد من عناصر الثقافة الأولى تتمكن من الاستمرار في الوضع الجديد وتواصل حياتها على شكل مخلفات أو بقايا (أو رواسب survivances). بتعبير آخر، إن هذه المخلفات لا تموت، بل تواصل حياتها بأشكالٍ أخرى. ومن الأمثلة الحديثة التي يقدمها الدرس الأنثربولوجي في هذا الموضوع دراسة ظاهرة ما يسمى بكرنفال «بوجلود»، أي ذلك الحفل التسكعي الذي يواكب عيد الأضحى في العديد من قرى المغرب العربي. وهي ظاهرة اهتم بها الإثنوغرافيون الفرنسيون منذ بداية القرن العشرين، فرأوا الأمر هنا يتعلق ببقية طقس ما قبل إسلامي يرتبط بعبادة الطبيعة والإيمان بقدسية الحيوان والنبات(9)، وكانوا ينطلقون في ذلك من سؤال مركزي، هو: كيف يمكن التوفيق بين ما هـو إسلامي وما اصطلح على تسميته بالجاهلية؟ ثم يجيبون بأن ليس ثمة حل سوى انتظار أن تنتهي كل هذه البقايا. وفي انتظار ذلك لا يجب على الباحث أن يخلط بين الأشياء. يجب عليه أن يفصل بين طقسي بوجلود وطقس عيد الأضحى… في حين أظهرت دراسة عبد الله حمودي أن البقايا لا تموت، وأن المجتمع قد تدبر أمره للجمع بين الطقسين المتعارضين تحت علامة واحدة هي نهاية السنة الهجرية (أي بتحويل الطقس الأصلي الذي كان يرتبط بالخصوبة) من التأريخ الشمسي إلى التأريخ القمري، وبالتالي ليس ثمة من حل غير تناول الطقسين مجتمعين، وأن ما يكمن وراء الطقسين إنما هو مسألة التعارض الوجداني، بمعنى أن المذكر لا يوجد إلا مع المؤنث، وما هو إسلامي لا يعاش إلا مع ما هو جاهلي، وبالتالي لا يوجد قانون بلا خرق، كما أظهر أن ما يتم تجسيده من وراء هذه العادة القديمة إنما هو بعض الأحداث التي شهدها المجتمع حديثا…
3. الخطاب العقلانـي
ننعت بالـ «عقلاني» في هذا السياق كل إنتاج خطابي أو ممارسة تشجب المعتقدات والممارسات السحرية وتحيلها إلى ضرب من اللاعقلانية والابتعاد عن الواقع، على غرار ما نعت أحد أطباء المرض العقلي بفرنسا مرضاه المسحورين، عندما أكد لجان فافري ما مضمونه: عندما يقول لي أحدهم إنه مريض من جراء سحر، فإني أتخيل أنه نزل لتوه من كوكب آخر(10). يصدر هذا الخطاب في المغرب عن الأطباء، والمثقفين، والأحزاب السياسية التقدمية، والصحافة المستقلة.
مثل الخطاب الديني، يتصف الخطاب العقلاني بالتعارض الوجداني. فهو ينبذ المعتقدات السحرية والممارسات السحرية تارة، ويعترف بها ويدعو إلى التعاون مع المطببين التقليديين تارة أخرى.
هكذا، يصف بعض الأطباء السحر – العلاجي بالخصوص – بأنه وعيٌ سيء وطريقة لتحاشي الطب العقلي والتحليل النفسي اللذين يُنظر إليهما خطأ باعتبارهما غير فعالين، ومن ثمَّ فإن هؤلاء الأطباء يُسَكلِجُون الممارسات المذكورة، يختزلونها إلى بعدها النفسي. يلاحظ آخرون أنه حيثما يخفق مستشفى الأمراض العقلية، تتبدى الممارسات السحرية فعالة، ومن ثم يدعون إلى التنسيق مع العرافات، والفقيه، والطوائف الدينية والأولياء.
بحسب الأطباء الذين يختزلون الظواهر السحرية إلى بعدها النفسي، لا يلجأ إلى السحر إلا صنفان من الناس: الهستيريون شديدو الحساسية للإيحاء، والذهانيون المزمنون الذين يعانون من أحد الذهانات (11). بيد أن هذا الطرح يهمل تأثير السياق الثقافي في الأعراض التي يقدمها المرضى. وهو أمرٌ سبق أن انتبه إليه إدموند دوتيه منذ مستهل القرن العشرين عندما قال: «ومعروف أن علماء مثل ليهمان يبنون نظرية السحر بكاملها على الهستيريا والتنويم المغناطيسي باعتبارهما ظاهرتين عصبيتين. بيد أن هذه النظرية الطبية تبدو على كل حال غير كافية، بالخصوص لدى المسلمين الذين هيهات أن يكون سحرتهم كلهم عصابيين»(12). كما أظهر دومنيك كامو أن الساحر لا يمكن أن يُختزل إلى شخص هستيري:
«بتصرف الساحر مثل تقني يفكر في طريقة الحصول على أفضل النتائج الممكنة في فعل أو تدخل يكون فيه الفشل أمرا خطيرا، فإن هذا الساحر نفسه يتميز عن الهستيري الذي تكمن خصوصيته في الحصول على دور ممثل»(13).
يرى أغلب المثقفين أن الممارسات السحرية تدجيلٌ وشعوذة. وهذا الطرح لازال يمرَّر إلى أيامنا هذه عبر العديد من المقالات والملاحق الأسبوعية التي تخصصها صحف تقدمية وأخرى مستقلة للعرافات، والأولياء، والمطببين التقليديين، والسحر، والجذبة(14). في هذه الملاحق، يعزى ترسب هذه الممارسات إلى عاملين أهمها سياسي-اقتصادي: يقالُ إن الدولة هي التي تشجع هذا النوع من الممارسات لصرف الشعب عن الاهتمام بمشاكله الحقيقية. فالدولة عندما لاتنشئ مؤسسات صحية، إنما تقود الناس إلى البحث عن العلاج لدى أناس «منحرفين». أخيرا، إذا كان الناس يمارسون السحر فلأن الدولة لم تهيء لهم شغلا. بيد أننا لاحظنا أن شريحة من أصحاب هذا الخطاب أنفسهم يلجأون أحيانا إلى الممارسات نفسها. يصفهم الدكتور عبد الله زيوزيو بـ «محرري محضر مناهض للسلفية مع التصرف تصرفا سلفيا»، إذ يقول:
«يمكن لـ (شخص) تقدمي أن يدخل في جذبة في فضاء كناوي (…) مع أنه ينتقد باحتقار طائفة كناوة. وبالتالي، فإن قسما كبيرا من المثقفين والطلبة، عندما يسقط مريضا، يعيش هذه التناقضات»(15).
ويبدو أن هذه الأحكام تستند إلى تمثُّلٍ للغربِ مُتَخَيَّلٍ، شائع بين المغاربة والعرب عموما، يرى في هذا الغرب نموذجا للاحتذاء بوصفه «تخلى عن هذه المعتقدات والممارسات نهائيا»؛ وهو تمثل لا ينفرد به المغاربة وحدهم، إذ تقول باحثة تونسية في معرض حديثها عن ظاهرة الصرع:
«… فهل الصرع ظاهرة ميتافيزيقية أم ظاهرة أنثربولوجية؟ مع العلم أن هاتين المرحلتين يمكن أن تتعايشا بشكل مكثف في المجتمعات العربية أكثر منها في المجتمعات التي حسمت أمرها مع الخرافة ووضعتها في مكانها الصحيح، وأحلت العلم ليجيب عن أسئلتها»!!(16).
والحال أن الواقع بخلاف ذلك تماما: ففي فرنسا وحدها، وصلت الميزانية السَّنوية للسحر في عام 1957 مبلغ 3 مليار فرنك فرنسي(17)، وستتضاعف هذه الميزانية بسرعة قصوى لتصل في عام 1976 إلى 70 مليار فرنك فرنسي(18). وفي أمريكا السبعينيات:
«كان العمل من الوفرة بما اقتضى تشغيل 000 10 مُنجِّم طيلة الوقت و000 175 لوقت جزئي. كما جعل بعض 40 مليون أمريكي من الـ zodiac buiness مقاولة بلغ رقم معاملاتها السنوي مائتي مليون دولار. عدة أجهزة حاسوب تشغل باستمرار لسحب الأبراج وتفسيرها. مقابل عشرين دولارا، يطبع أحد هذه الحواسيب في بضع دقائق طالع برج من عشرة ألف كلمة. حاسوب آخر يشتغل ليل نهار، يـزود بالطوالع الفلكية ألفي موقـع في كافة أرجاء البـلاد. حاسـوبٌ آخر يقع في Grand Central Station، يقرأ يوميا 500 برج تابع له»(19).
كما أن:
«”كافة مبادئ السحر الطقسي متضمنة في الإنتاج التلفزيوني، في الإعلانات التجارية والبرامج المنسقة بعناية كليهما”، (هذا ما) كتب مايكل بنتاين، الذي يعرف الكثير عن كل من السحر والتلفزيون، ويضرب عدة أمثلة على طرق التأثير في عقول المشاهدين طيلة الوقت دون معرفتهم الواعية»(20).
ثم فيما تُنادي أصواتٌ هنا، باسم العلم، بضرورة إحلال أدوات العلاج الغربية محل نظيرتها التقليدية يُقرّ عدد لا يُستهانُ به من الغربيين أنفسهم بفعالية هذه الأخيرة ويدعون إلى الاستسعاف بها في مراجعة الأسس النظرية التي ترتكز عليها الأولى.
أخيرا، هل من الضروري تكرار ما صاغه ليفي ستروس نفسه منذ 1949 لحسم النقاش الجاري حول الموضوع من قبل، والذي كان يدور حول الجانب الأنطولوجي للمسألة، أي السعي إلى معرفة ما إذا كان السِّحر موجودا فعلا أم غير موجود، وهل هو مجرَّد خُرافة أم أنه علم من نوع آخر؟ السّحرُ موجود بكل بساطة لأنه يُمارَسُ. ولو لم يكن موجودا لما كان يُمارَسُ. ثم لو لم تكن لممارسات الأطباء التقليديين فعاليات مماثلة، بل وأحيانا مطابقة لممارسات زملائهم الأطباء العصريين لما شهدت الممارسات العلاجية التقليدية والسِّحرية هذا الانتشار الواسع على مستويي الزَّمَن والمكان(21).
وبذلك فالمسألة هنا هي مسألة قراءة أو ملاحظة أساسا؛ هذه الأخيرة تتمُّ – والاستثناءات قليلة جدا – وفق خطاطة يتَّخِذُ فيها العالمُ لنفسه دور العليم العارف أو المُلاحِظ الإيجابي فيما ينيطُ بمن يلاحِظُهُم دورَ «الجَهَلَة» والملاحَظين السلبيين. وهذه الخطاطة، فضلا عن أنها تنخرط في حقبة من المُلاحظة في الإثنوغرافيا مُتَجاوَزة، كان يمثلها مالينوفسكي وإيفانس بريتشارد أساسا، تقع في فخ اصطدام التمثلات التي تسود المجتمع المغربي اليوم بحكم اجتيازه فترة تحوُّل من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، فيترتب عن ذلك – ضمن ما يترتَّب – انتزاع الباحث الكلامَ من الظواهر المدروسة وحرمانها من التعبير عن نفسها، وتعذّرُ فهم إواليات اشتغالها، والوظائف التي تؤديها والدلالات التي تحملها، وتَمَثُّلُ تمثلاتها التي تُقصِي منها الباحثَ حواجزُ الثقافة العالمة.
من جهة أخرى، إن تفسير ترسّب الممارسات السحرية واللجوء إليها بالعامل الاقتصادي وحدَه هو تفسير اختزالي يكذبه الواقع. أخيرا، إن الدولة ليست لا عقلانية بالشكل الذي يُزعَم. ذلك أن التلفزة والإذاعة الرسميتين تخصصان في العديد من المناسبات برامج خاصة بالسحر والعلاجات التقليدية، يتم شجبهما فيها باسم العقلانية نفسها. ففي سنة 1988، مثلا، خلال حملة للتلقيح ضد بعض الأمراض المعدية، مضت وزارة الصحة إلى حد نشر ملصقا، في كافة أرجاء الوطن، يحث المواطنين على القيام بالتلقيح ومقاطعة الفقيه الذي «يقتل» الأطفال الصغار باسم السحر العلاجي.
وبذلك يلتقي قسمٌ من الأطباء والمثقفين، والتقدميين والدولة نفسها، ضمنيا في تعيين الساحر وزواره باعتبارهم «أكباش فداء» ينشرون الشرور ويعيقون التقدم.
يبدو أن نقلة نوعية في الخطاب الصحفي قد حصلت في نهاية التسعينيات، وتتمثل في:
– نشر ما يفيد أن استفحال الإيمان بالخفي منشر في الدول الغربية نفسها. هكذا، نشرت جريدة العلم مقالا تحت عنوان «هل تحرر علم الفلك من التنجيم؟»(22)، أوردت فيه أن فرنسيا من اثنين يهتم برمزه البرجي، وأن فرنسيا من 10 فرنسيين استشاروا واحدا من 10000 مُنجِّم، وأن الرئيس ميتران اهتم بكواكب رجال السياسة، وأن ثلاثين منجمين ضمن مستشاري الرئيس الأمريكي رونالد ريغن، وأن مُنجِّما وراء تحديد العملية الجراحية للرئيس الروسي بوريس يلتسين، وتحت عنوان «عودة عصر المعجزات» نشرت جريدة الأحداث المغربية مقالا ورد فيه أن 69% من الأمريكان يؤمنون بالمعجزات، وأن شخصا من كل سبعة في ألمانيا يلجأ للسحر(23).
– تمكين السحرة والعرافين والمداوين بالأعشاب من الدعاية لأنفسهم عبر نشر مجموعة من الصحف لبطاقات زياراتهم، مع تفاوت في هذا «الاحتضان» طبعا، حيث لا تتردد الاسبوعيات المسماة بـ «صحف الرصيف» في نشر كل طلبات المشتغلين بالخفي في حين تكتفي بعض اليوميات الكبرى بشر أرقام هواتف المنجمين، وتخصيص عمود ليوميات الأبراج.
قد تجد هذه النقلة تفسيرها جزئيا في التراجع الذي عرفته الإيديولوجيات التقدمية والتوسع المتزايد للقيم الغربية ممثلة هنا في حرية الإعلام والمنافسة والسعي إلى تلبية حاجيات أكبر عدد ممكن من القراء.
على النقيض من الطرح الذي ينبذ السحر، هناك أطباء يدعون إلى التنسيق مع المطببين التقليديين. هذا الموقف ينخرط في إطار مزدوج: إزالة الوهم عن الأمراض العقلية عبر خلق طب عقلي جديد في المغرب، وإنشاء بديل مستوحى من الطب العقلي المضاد الغربي. الإطاران معا يقترحان نفسيهما لتخطي فشل مستشفى الأمراض العقلية – في المغرب – الذي لم يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات الثقافة المغربية، ومن ثمَّ صار مكانا للانغلاق بالنسبة للطبيب العقلي وللإقصاء بالنسبة للمريض(24). هكذا، فالذين يرغبون في إزالة الوهم عن المرض العقلي، قد يكون ليس في الإمكان إقامة أي طب عقلي جديد في المغرب ما لم يتم إغناؤه بإسهام من العلاجات التقليدية. والحالة هذه، فإن التنسيق بين الطبيب العقلي والمطببين التقليديين لا يجب أن يكون سوى استراتيجية تهدف إلى استبدال هذه العلاجات والتمثلات التي تسندها بالطب العقلي باعتباره علما وممارسة وضعية:
«لن يكون المرض العقلي أبدا هُجُوما من الجنّ، أو عملا من أعمال السحر أو العين الشريرة أو عقابا من الأولياء أو انتقام أولياء تعرضوا للإهانة أو الشتم، سيكون بكل بساطة خللا عقليا أو نفسيا يقتضي العلاج داخل مستشفى الأمراض العقلية وليس داخل ضريح الولي»(25).
بيد أن «البديليين» يرون أن المرضى المغاربة لا يقدمون دائما الأعراض نفسها التي تصفها نوزوغرافيات طب الأمراض العقلية المحرَّرَة في الغرب؛ الهدف النهائي لتحليل ما، في التحليل النفسي الغربي، هو تطور «الأنا»، أي الفرد، والحال أن المجتمع المغربي هو بالأحرى مجتمع للـ «نحن»، للجماعة. أضف إلى ذلك أنَّ العلاجات التقليدية هي بديلٌ موجودٌ سلفا. هكذا، فالطقوس العلاجية لطائفة كناوة هي تحليلٌ نفسي للجماعة يلعب فيه رئيس الفرقة دورَ المحلِّل؛ فهو يأخذ بعين الاعتبار التعبير الجسدي للمريض ويساعده على تحويل قلقه. وزيارة الولي هي أيضا حصة علاجية مادام المريض يجعل جسده بكامله يتكلم في تلك الحصة، يُسدِّد ثمن الحصة التحليلية بعيدا عن صرامة المواعيد واختيار المحلل(26). وبعض جوانب السحر العلاجي تتقاطع مع طرق علاج الأمراض العقلية المبتكرة في الغرب:
«… حتى الجانب القمعي في السحر، يبدو أن له أثرا إيجابيا على المعاناة. إنني أستحضر دائما هؤلاء الحمقى المجلودين بـأعناق أوراق (أعشاب) لا تؤذي ذبابة حتى. بيد أنها تغمس في صباغة نباتية حمراء تترك في البدن علامات تذكر بدم المريض لإفزاعه. يتعلق الأمر هنا بـ «صدمة كهربائية ناعمة»(27).
يثير طرح «البديليين» جملة ملاحظات نذكر منها:
– لم يتم اقتراح أي طريقة – ولا أي تجربة – للتنسيق بين الطبيب العصري والمطبب التقليدي التي ينادي بها هذا الخطاب. بيد أن تجارب أجريت في السنغال، وهو سياق لا يختلف جوهريا عن السياق المغربي، أظهرت أن التعايش بين العلاجين كان مآله الفشل؛ فقد أدى إلى نتيجتين متعارضتين: في حالة ينبذ المطبب معرفته الخاصة ويشكك في تمثلاته للمرض وطرق تدخلاته، وفي حالة أخرى لا يعترف بالطب العصري ويؤكد ذاته باعتباره مطببا تقليديا. حول التجربتين، يذكر أ. أوجان ما يلي:
«اصطدم هذان المطببان بالممنوع نفسه: ممنوع العتمة. تعذر كشف الحجاب عن “طب الليل”. في الحالة الأولى، لم يكن ذلك ممكنا إلا مبتورا مما هو جوهري فيه. وفي الحالة الثانية، أثار كشفه الإقصاءَ»(28).
– وراء الطرح «البديلي» قد يكون ثمة رغبة في التوفيق بين التقليد والحداثة ممثلين على التوالي بالعلاج التقليدي وطب الأمراض العقلية العصري. الأول رمز للهوية وللماضي، والثاني إحالة على التقنية والاستعمار. بهذا المعنى، قد يدخل الطرح البديلي في إشكالية التمزق التي يمكن صياغة سؤالها الأساسي على النحو التالي: «كيف يمكن الحفاظ على الواحد دون فقدان الآخر؟»(29). قد يكون الطرحُ نفسه أيضا طريقة في الاغتسال من «خطيئة أصلية» بالمعنى الذي تمنحه الديانة الكاثوليكية لهذا المصطلح: «خطيئة يتحمل المرء مسؤوليتها رغم أنه لم يرتكبها. إنها لطخة يجب التطهر منها، أو دين على المرء أن يكفر عنه»(30). والخطأ في الحالة «البديلية» قد يكون هو إرساء قطيعة مع الماضي ووراثة الطب الغربي الذي أدخله المستعمر الفرنسي.
محمد أسليــم
———
هوامــش
(1) حول هذه المسألة، راجع:
Abdessamad Dialmy, Sexualité et discours au Maroc, Casablanca, Afrique Orient, 1988.
(2)جريدة العلم، ليوم 25/12/1988.
(3) جريدة العلم، ليوم 31/01/1989.
(4)جريدة العلم، ليوم 25/12/1988.
(5)جريدة العلم، ليوم 23/10/1988.
(6)جريدة العلم، ليوم 18/12/1988.
(7) مليكة فكاك، «معتقدات خرافية… تتحكم في الذات المغربية»، الأحداث المغربية، 24/25 يوليوز 1999. كما ورد في العدد نفسه من هذه اليومية أنه: في البيضاء يعتقد أن «من يحكي الحجايات بالنهار ينجب أولادا “قرعا”، والضرب بالطبق الذي يوضع به قمح أو الغربال، يؤدي إلى ارتفاع ثمن الحبوب، والصفير “يخلي” المنازل، والفتاة الصغيرة التي “تسود” الحناء برجلها تموت هي وأحد أقاربها»، وفي قبائل بني عمير وبن موسى (إقليم بني ملال)، يتم «تحاشي المقابر والمناطق المهجورة، و”نثر الحناء في مكان اصطدام طفلين”، ومعالجة عقم المرأة ببول الحمير، واغتسال العوانس مع الأرملة لفك رباط “العنوسة”، وعدم التصدي لاسراب النمل التي تلج المساكن»، وفي العيون، «يتم تجنب تناول الطعام الذي نسي غطاؤه، وإبعاد عين الحسود بتعليق عجلة سيارة أو دراجة فوق السطح، والمرأة التي تلد البنات فقط تأكل الجهاز التناسلي للجمل لكي تلد»…، الخ.
(8) Abdellah Hammoudi, La victime et ses masques, Paris, Seuil, 1988.
(9)انظـر: حسـن بـحراوي، المسرح المغربي. دراسة في الأصول السوسيوثقافية، البيضاء-بيروت، المركز الثقافـي العربـي، 1994، ص. 74-75.
(10) J.F.-Saada, Les mots, la mort, les sorts, op. cit.
(11) جريدة العلم، ليوم 18/12/1988.
(12) E. Doutté, Magie et religion dans l’Afrique du nord, op. cit., p. 36.
أو ترجمته ضمن كتاب السحر من منظور إثنولوجي، م. س.، ص. 71.
(13) Dominique Camus, Pouvoirs sorciers. Enquête sur les pratiques actuelles de sorcellerie, Paris, Imago., p. 34-35.
(14)يتعلق الأمر بالاتحاد الاشتراكي، صحيفة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. بالنسبة للعرافات، انظر عدد يوم 28/02/1987، بالنسبة للأولياء، انظر عدد يوم 14/03/1987، بالنسبة للسحر، انظر على التوالي، أعداد يوم 16/07/1988 و23/07/1988 و25/03/1989، وبالنسبة للجذبة انظر عدد يوم 21/01/1989، وبالنسبة للثقاف انظر عدد يوم 10 يونيو 1995، وبالنسبة للطب النفسي في علاقته بالعلاجات الشعبية، انظر عدد يوم 3 مارس 1999. كما (يتعلق) بجريدة الأحداث المغربية، صحيفة مستقلة، التي أصدرت مجموعة من الملفات في الموضوع، يمكن أن نذكر منها: «كل شيء عن الخرافة… طوائف تدعي العلاج»، 24-25 اكتوبر 1998؛ عن الأولياء مرة أخرى!»، 26-27 يونيو 1999 «عن الدجل والشعوذة مرة أخرى»، 4-5 دجنبر 1999؛ «عن الشعوذة والخرافة… مرة أخرى!»، 11-12 دجنبر 1999؛ «عن الشعوذة والخرافة… مرة أخرى!»، 18-19 دجنبر 1999؛ «التداوي بالأعشاب بين الاعتقاد والاستغلال والشعوذة»، 25-26 دجنبر 1999.
(15) Abdallah Ziouziou, «Réflexions sur la thérapie traditionnelle» in Lamalif, n° 143, Février-Mars, 1983, pp. 42-43.
(16)حياة الـرايس، جسـد المرأة من سلطة الإنس إلى سلطـة الجـان، القاهـرة، سينا للنشر، ط. I / 1995، ص. 51 (والتشديد من عندن).
(17) Rloland Barthes, Mythologies, Paris, Seuil, 1957, p. 165.
(18) Joseph et Annick Dessuart, La voyance, PUF., (Q.S.J.), 1980, p. 61.
(19) E. F. Heenan cité par Mircea Eliade, Occultisme, sorcellerie, et modes culturelles en Occident, Paris, Gallimard, nrf, 1976, p. 80.
(20)غاي ليون بيلفير، ثلاثية الطب والعقل والسحر. السحر والمعجزة، ترجمة عيسى سمعان، اللاذقية، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط. I / 1990، ص. 23.
(21)للوقوف على هذه المقارنة يمكن العودة إلى:
Claude Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, op. cit., t. 1, pp. 184-202.
أو ترجمته العربية: كلود ليفي ستروس، الإناسة البنيانية، م. س.، صص. 203-223. كما يمكن الرجوع إلى العرض التحليلي لهذه المقارنة، الذي أنجزه ماك روكفيل، «الساحر والمحلل النفساني»، ضمن أبحاث في السحـر، م. س.، صص. 29-48.
(22) العلـم، 7 يونيو 1997.
(23)الأحداث المغربية، 23 دجنبر 1999.
(24) Berrada Souade, Maraboutisme et maladie mentale au Maroc, Thèse pour le doctorat de 3ème cycle, Paris VII, 1982, p. 104.
(25) Mohamed Mjouti, Hôpital psychiatrique et thérapies traditionnelles au Maroc, thèse pour le doctorat de 3ème cycle, Toulouse-le Mirail, 1983, p. 191.
(26) Abdellah Ziouziou, «Réflexions sur la thérapie traditionnelle», op. cit.
(27) Docteur Mustapha Akhmisse, Médecine, Magie et Sorcellerie au Maroc, Casablanca, Imprimerie Dar El Beida, 1985, p. 23 et 64.
(28) R. Auguin, «Collaboration guérisseur-médecin», in Recherche Pédagogie et Culture, n° 25, Août-septembre, 1976, pp. 17-22.
(29) حول هذه الإشكالية، يمكن الرجوع إلى:
– Gilbert Grandguillaume, Arabisation et politique linguistique au Maghreb, Paris, Maisonneuve et Larose, 1983, p. 41.
(30) Ibid., p. 139.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الاثنين 03-09-2012 05:01 صباحا