يجتاز عالم اليوم تحولات عميقة تسير في اتجاهين متعارضين:
فمن جهة، هناك حركة عولمة تسعى إلى إخضاع دول العالم وأفراده قاطبة لنظم سياسية-اقتصادية وقيم وسلوكات واحدة وموحَّدة/موحِّدَة، تتجه نحو القضاء على الخصوصيات المحلية لفائدة نمط وجودي وقيم كونية مشتركين؛ ومن جهة ثانية، هناك الهويات والثقافات المحلية التي، جراء شعورها بالتعرض لخطر المحو والتلاشي[1]، بسبب الحركة السابقة، تسعى لإثبات وجودها وضمان بقائها بكل الطرق الممكنة، ومن ثمة هذا الفوران للحركات الأقلية العرقية واللغوية والدينية اليوم في سائر أرجاء المعمور، والتي يمكن اعتبارها في نهاية المطاف ردَّ فعل مقاوم لمد العولمة الجارف.
إذا كان من السابق لأوانه تبين ملامح المشهد الذي سيفضي إليه هذا «الصراع» في غضون العقود المقبلة، حيث المستقبل وحده سيجيب عن مثل هذا السؤال، فإنه لا يمكن في المقابل لأي حديث عن الثقافة الشفوية والتراث الشعبي أن لا يحدد موقعه من – وضمن – التحول الجاري.
1.حول مفهوم الثقافة الشفوية والتراث الشعبي
يقسم الفيلسوف بيير ليفي الثقافة البشرية تبعا لحواملها supports عبر التاريخ إلى أربعة مراحل كبرى[2]، هي:
– مرحلة المشافهة، كانت الذاكرة البشرية هي خزان الإنتاجات الثقافية التي كان يتم إنتاجها بشكل جماعي، وكان كبار السن هم جمَّاع الثقافة وخزاناتها بحيث كان يعادل موت كهل مجموعة ما حرق مكتبة بكاملها؛
– حقبة الكتابة، صارت الحوامل المادية هي خزانات الثقافة، وصار مالك المعرفة في هذه المرحلة هو الشارح أو المفسر، وقد عرفت هذه المرحلة ظهور نصوص دينية كبرى مثل اليوبانيشاد والتوراة والإنجيل والقرآن؛
– فترة المطبعة، أتاح ظهور المطبعة خلال القرن XVم إنتاج عدد كبير من الكتب وبدرجة متطابقة، وصار مالكو المعرفة في هذه الحقبة هم الموسوعيون؛
– المرحلة الرقمية، تتميز بظهور حامل قادر على تخزين كم هائل من كافة أنواع الوثائق (صور، صوت، كتب) بتحويلها إلى أكواد ورموز تحررها من الحوامل المادية، ما يتيح تخزين أعداد هائلة منها وتحركها في أرجاء العالم قاطبة خارج إكراهي الزمان والمكان، وتميزت هذه المرحلة بإفلات المعرفة عن الإحاطة وإلى الأبد حيث بات مستودعها من الآن فصاعدا هو الشبكات الرقمية.
وبحسب هذا المفكر فإن ثمة اليوم عودة إلى عصور المشافهة الأولى، لكنها عودة لولبية[3]، حيث لم يعد دماغ الإنسان هو حامل الآداب والفنون والعلوم، فهذا الدماغ قد انفصل عنا حيث صار الحاسوب هو رأسنا المفصول عنا على حد تعبير الفيلسوف ميشال سير[4]، بل صارت الشبكات هي مستودع معارف الإنسان، بما يستلزم ذلك من عدم استقرار للنصوص وتعرضها لسائر أنواع التغييرات والتحولات بما «يعيدنا إلى مرحلة ضجيج المخطوط»[5] التي تطلب التغلب عنها قيام علم تحقيق المخطوطات.
إذا أضفنا إلى هذا كون البعض يرى أن تطور التكنولوجيا الرقمية يطرح احتمال اختفاء الكتابة إذا ما صار الحاسوب أداة حصرية للكتابة واتسع استعمال برامج التعرف على الأصوات وكتابتها[6] programmes de reconnaissance vocales، وهو احتمال يمكن استنتاجه من تأكيد علماء أعصاب الدماغ بأن تشريح هذا العضو يُظهر عدم وجود أي باحة خاصة بالقراءة، لكون هذا النشاط المرتبط بالكتابة ظهر حديثا جدا (منذ 6000 عام على أبعد تقدير)، وهي فترة لا تُعتَبر في عمر التطور البيولوجي الطويل للإنسان الذي يمتد على ملايين السنين. إذا أضفنا هذا إلى ذاك، فيمكن افتراض أنَّ البشرية على عتبة مرحلة جديدة في تاريخ التسجيل الطويل.
1. الوسائط وتدوين الذاكرة
عرفت وسائط الكتابة منذ ما يسمى بـ «فجر التاريخ» تطورا دؤوبا ومتواصلا كان أبرز محطاته ثورتان كبيرتان لا نظير لهما على امتداد مسيرة الجنس البشري منذ أن أصبح «إنسانا عاقلا عاقلا» Homo-sapiens، وهما اختراع المطبعة في 3 فبراير 1468م، على يد الألماني جتنبرغ، ثم الثورة الرقمية الجارية تحت أعيننا اليوم، والتي انطلقَ زخمها الحديث جدا في سبعينيات القرن الماضي مع بداية انتشار استعمال الحواسيب الشخصية وتواصَلَ مع إطلاق شبكة الأنترنت في مستهل تسعينيات القرن نفسه.
إذا كانت المطبعة قد غيرت وجه العالم بما أفضى إلى حركة العولمة الجارية اليوم، حيث وسعت قواعد القراء والمتعلمين والكتاب وسرَّعت إيقاع إنتاج المعارف بما بلغ درجة الفوران، وأمدَّت الفكر النقدي وحركة الأنوار، لكن أيضا الحركة الإمبريالية، بأسباب الوجود، وأدخلت العالم في تواصل غير مسبوق – بما جعل البعض لا يتردد في الحديث عن «انفجار للتواصل»- عبر تقليص حاجزي الزمان والمكان، فإن الحاسوب، باعتباره رأس حربة الثورة الرقمية، بإمداده لتواريخ التسجيل الثلاثة التي ظلت على امتداد التاريخ تتلمس طرق وأدوات التدوين الأفضل لذاكرة الأفراد والمجتمعات، وهي الخط والصورة والصوت، أقول: بإمداد الحاسوب لهذه التواريخ أداة عملية للاتحاد والاندماج[7] فإنه يواصل مهمة المطبعة بسرعة مُذهلة، ما يجعل المقارنة بين الجهازين غير مُجدية، حيث يؤدي الكمبيوتر وظائف خمسا في آن هي: الكتابة والقراءة/الاستماع والتخزين والبث ثم الاستقبال في فضاء لا يجرِّدُ سائر أنواع الملفات والأشياء من ماديتها للتحول إلى موضوعات مجرَّدة فحسب، بل ويلغي عمليا بُعدي الزمان والمكان لفائدة هنا وآن واحدين يوحِّدان سائر المتصلين بالشبكة.
إذا وضعنا في الاعتبار هذه التغييرات القادمة، والتي معظمها وشيك لا يفصلنا عنه سوى عقد إلى عقدين[8]، فقد يكون من المجدي مسائلة جدوى الحديث عن الثقافة العالمة نفسها، فأحرى عن نظيرتها الشفوية وما يسمى بـ «الميراث شعبي».
2. حول مفهوم الثقافة الشعبية:
يحيل الحديث عن الثقافة والشفوية والتراث الشعبي بالمغرب على مكونات الهوية على نحو ما حددتها معظم الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية في القرن العشرين، وتتمثل مرجعيات تلك الهوية تقليديا في: طقوس العبور وعلاقات القرابة والأصل العرقي والجنس والدين والجغرافيا والحال أنَّه، تحت تأثير حركتي العولمة والثورة الرقمية، صارَت هذه الهوية نفسها تتحدد باهتمامات مشتركة، ومن ثمة أصبحت الهوية تتصف جراء هذا الانتقال باللحظية والتعدد والمتاجرة[9] وقدرة الفرد على الانسلاخ من مجموعة انتمائه المحلية ليتجه رأسا إلى الجماعة الكونية ويختار ضمنها مجموعة/مجموعات للانتماء[10]، مما أفضى إلى ما يُسميه البعض بـ «عودة القبلية» أو «القبلية الجديدة»[11]؛ فمن وراء شاشة الحاسوب، صار بإمكان الفرد أن ينتمي إلى مجموعات متعددة ويحصل على انتماءات مختلفة خارج الأطر التقليدية المحددة للهوية، ما قد يضع هذا الاصطلاح نفسه في أزمة. وهو ما انتبهت إليه د. إيمان يونس في سياق دراستها «تأثير الإنترنت على أشكال الإبداع والتلقي في الأدب العربي الحديث»[12]، عندما ارتأت لا جدوى مواصلة تصنيف الأدباء بحسب بلدان انتمائهم (بقول هذا سعودي وذاك مغربي والأخرى سورية، الخ.) ما دامت الشبكة تلغي مقولتي الزمان والمكان بمعناهما المتعارف عليه لفائدة مكان وزمان افتراضيين يُحَيِّدان البعد الفيزيائي والوقتي لصالح وجود ينصهر فيه الهنا والآن لدى سائر المتواجدين في العالم الافتراضي». بهذا المعنى يصير مفهوم الثقافة الشعبية بدوره مفتقدا إلى موضوعه ومنعدم الفائدة تماما على غرار ما رأينا مع الحديث فيه عندما أكدنا أعلاه «أن فلا فائدة إطلاقا في الحديث عن حتى عن الثقافة العالمة، فأحرى عن نظيرتها الشفوية وما يسمى بـ «الميراث شعبي»».
لا نود الوقوف في المقام الحالي عند أصل اصطلاحي الثقافة الشفوية والشعبية وحمولتهما الإيديولوجية، ونود في المقابل أخذهما بمعناهما الشائع اعتبارا لما يتيحه من تحديد لمكونات هذين المفهومين، وبالتالي رصد علاقة هذه المكونات بالحوامل (أو الأسندة).
تحيل الثقافة الشفوية والشعبية عموما إلى كل ما هو غير عالم وغير نخبوي، وتتألف من الحكايات والأحاجي والألغاز والأغنية الشعبية بكافة فروعها (العيطة، المجموعات الشعبية، الأمازيغية التقليدية، الخ.) والاحتفالات والطقوس الاجتماعية والدينية والسحرية والمهنية وغيرها والشعر الشفوي والزجل.
من حيث صلة هذه الإنتاجات الثقافية بالوسائط الحديثة، يمكن التمييز بين قطاعين:
الأول لم يستغل بعد الوسائط الحديثة، رقمية كانت أم غير رقمية، ويشمل: الحكايات (باستثناء مجموعة من الحكايات المنشورة في إصدارات البعثة العلمية الفرنسية إلى المغرب، والحكاية التي نشرتها المرنيسي تحت عنوان: «كيد الرجال وكيد النساء»)، الزَّجَل (باستثناء تجربتين فريدتين – فيما نعلم – هو نشر فاطمة مستعد لأحد دواوينها (على قرص مُدمَج)، ونشر أحمد المسيح لعدد كبير من قصائده الزجلية بصيغتين سمعية ومرئية انطلاقا من موقعه على شبكة الأنترنت)[13].
الثاني استغل تلك الوسائط بشكل كبير، ويتألف من المسرحيات والأغنية الشعبية بسائر أنواعها بالخصوص.
2.الثقافة الشفهية والتراث الشعبي والوسائط الحديثة في المغرب:
2. 1. مرحلة ما قبل الرقمية:
بدأ تدوين المسرح / أو سكيتشات بالأحرى والأغنية الشعبية بواسطة الأشرطة المغنطيسية والأسطوانات بظهور الفوغراف، ثم بالكاميرا بعد ظهور القنوات التلفزية والأشرطة الصوتية (الكاسيت) بعد ظهور آلات تسجيل الأصوات وقراءتها، ثم أشرطة الفيديو.
إلى حدود هذه المرحلة يمكن تسجيل ملاحظتين بخصوص هذه المرحلة:
– لم تشمل عملية التسجيل كافة مكونات الثقافة الشفوية والتراث الشعبي بالمغرب؛
– إلى حدود ظهور آلات تسجيل الصوت، والفيديو بعدها، ظلت عملية التسجيل شبه مطابقة لنظير الطباعة الورقية، حيث في غياب وجود رأسمال مال يتيح تأسيس شركات للتسجيل والنشر[14]. فمن المتعذر الحصول على نسخة مما تذيعه الإذاعة، وبالمثل مما تبثه التلفزة. في حين بظهور جهاز تسجيل الصوت صار بإمكان أي كان أن يسجل أن شاء: أغاني طقوس، حفلات، الخ. في غياب الصورة (طبعا) على أنَّ إمكانية الاستنساخ تظل في هذه المرحلة محدودة لصعوبتها النسبية، حيث لاستنساخ شريط ما كان يجب إما التوفر على جهازين موصولين ببعضيهما عبر شريط واصل أو التوفر على جهاز له قارئين. وبظهور الفيديو تمَّ تحقيق نقلة نوعية على أن الإكراهات السابقة ظلت نفسها، مع فارق أن قارئ أشرطة الفيديو يقرأ أشرطة ويستنسخها دون أن يتجاوز ذلك أبدا إلى التسجيل المباشر.
– أن حجم ما تم تدوينه في تلك الحقبة غير معروف فإنه يمكن ترجيح أن الكمَّ المحقق لا يتناسب والحجم الحقيقي لإبداعات الثقافتين الشفوية والشعبية المغربيتين. ومع ذلك، فالرقمية تتيح اليوم إنقاذ كل ما تمَّ تدوينه آنذاك، وهو عمل تمت مباشرته كما سنرى في نقطة لاحقة من هذه الورقة.
– نصوص تلك المرحلة تطابق المطبوعات المدونة في الحوامل المادية من حيث أنه لا يمكن بتاتا العبث بالنص عبر نقل مقاطع من النص السمعي أو البصري محلها أو دمج وثيقتين في ملف جديد على غرار ما تتيحه اليوم برامج الفيديو والريمكس.
2. 2. المرحلة الرقمية:
مع الحقبة الرقمية، وتحديدا مع انتشار أجهزة الحواسيب وتجهيزها بالوسائط المتعددة وظهور شبكة الأنترنت في تسعينيات القرن الماضي، شهدت عملية النشر ازدهارا غير مسبوق اعتبارا للكلفة الزهيدة للنشر وتخطي حلقاته التقليدية، تماما على غرار ما يحصل في عالم الكتب، حيث صار بالإمكان:
– نشر الأعمال الذاتية وحتى أعمال الآخرين: مثلما يكفي أن يمتلك أي شخص جهاز حاسوب موصول بشبكة الأنترنت فيصير بإمكانه أن ينشر ما شاء وبالصفة التي يشاء (قصة، رواية، نقد، الخ.) ويوصله إلى القراء المحتملين في بقاع الكوكب الأربع على مدار الساعة وبدون حكاية نفاذ الطبعات، كذلك صار يكفي أيا كان أن يمتلك جهاز حاسوب موصول بالشبكة وبرامج لتحويل التسجيلات الصوتية من حواملها التقليدية (أسطوانات، أشرطة كاسيت أو فيديو) إلى ملفات رقمية فإذا به ناشرا لها في أرجاء المعمور الأربع بدون حكاية نفاذ الإصدارات، وذلك سواء عبر موقعه الشخصي أو مواقع تشارك الملفات السمعية وأشرطة الفيديو مثل يوتوب وwww.dailymotion.fr وMyspace وغيرهما. يتم هذا العمل في المغرب على واجهتين:
الأولى: الأقراص المدمَجة التي تخزَّنُ فيها عشرات الأسطوانات والأشرطة الصوتية بصيغة رقمية. وتعج الآن أسواق المنتوجات الرقمية المقرصنة بهذا النوع من الأقراص (الأغنية الشعبية بالخصوص وبسائر أنواعها)
الثانية: النشر الشبكي عبر الأنترنت: أشهر عمل مغربي في هذا الصدد موقع سطات بلادي www.statbladi.org و www.statbladi.ma الذي باشر عملا ضخما في توثيق الأغنية الشعبية المغربية بجميع فنونها إضافة إلى وضع ريبرتوار كامل عن المسرحيات المغربية القديمة، وأشرطة فيديو للأغنية الشعبية. عمل هذا الشخص يناظره على صعيد الكتاب العمل الجبار الذي قام به جان ماري ترمبلاي أستاذ علم الاجتماع بكندا حيث أطلق بمفرده موقع كلاسيكيات العلوم الاجتماعية[15] مع بداية الأنترنت، وبتقدم عمله ازداد عدد المتطوعين، وفي النهاية آل الأمر بالمشروع إلى أن احتضنه جامعة مونريال وقد بلغ اليوم مجموع ما رقمنه من وثائق في مجال العلوم الاجتماعية (فلسفة، علم اجتماع وعلم نفس، تحليل نفسي، الخ.) 4749 عملا لـ 1304 مؤلف.
.
– كذلك، مثلما تتيح رقمنة الأعمال الأدبية بصيغة النص – ضمن ما تتيح – إمكانية التدخل فيه والتعديل عليه، ما يهدد الملكية الفكرية ويعرض الأعمال للتزوير، تتيح برامج الريمكس وغيرها:
ب) إفراغ أشرطة تصويرية من كلامها الأصلي وتعويضه بكلام آخر: ينطبق هذا على الأغاني كما على الحوارات التي تتحول إلى سكيتشات؛
ج) صناعة أشرطة مني فن الراب والهيب هوب: عبر أخذ مقاطع موسيقية من ألبومات غربية وتخليلها بكلام مغربي وأشهر عمل في هذا الصدد عمل فرقة الرَّاوْ الدَّاوْ. وبظهور حركة 20 فبراير 2011 بدأ إنتاج هذا النوع من الأشرطة يعرف تزايدا. علما بأن للشباب التونسي والمصري والليبي تراثا لا بأس به من هذا الفن يسبق تاريخ ثورات هذه البلدان بسنوات.
د) إنتاج اسكيتشات شعبية ونشرها مباشرة عبر موقع يوتيوب دون التصريح باسم المؤلف، على غرار ما يفعل مؤلفو ما يسمى بالفلاشات الإسلامية[16]، ما يجعل الإبداعات الرقمية الدينية والشعبية أسبق إلى التدليل على فكرة تجسيد الأنترنت لنبوءة ميشال فوكو ورولان بارت حول المؤلف التي أطلقاها في نهاية ستينيات القرن الماضي، أسبق من مبدعي الثقافة العالمة العربية الذين يحرضون حرصا شديدا على التمسك بالوضع الاعتباري للمؤلف من خلال التمسك بتوقيع كل عمل من جهة، والابتعاد عن خوض تجارب الكتابات الجماعية مثل رواية البريد الإلكتروني[17] Roman mail ورواية الويكي[18] Winki Roman وغيرهما. ويعج موقع اليوتيوب بأشرطة من هذا النوع يلتقي معظم ما تصفحناه في استخدام العامية المغربية أو اللهجة العربية بلكنة بدوية، وتتطرق لمواضيع اجتماعية بأسلوب هزلي يتوخى الإضحاك[19] من خلال أشرطة تصادف رواجا واسعا عبر تصفحها مباشرة من اليوتوب كما عبر تشاركها في المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، الخ.).
وأهم ما يُسنتَجُ من هذه المرحلة:
– حصول ما يسميه بعض نقاد الأدب الرقمي، في سياق حديثه عن المخاطر المحدقة بالأدب جرَّاء الرقمية، بـ «حصول نزيف في الخطاب»، حيث تعج الأنترنت، فيما يخص موضوعنا، بسائر أنواع الأغاني الشعبية المغربية والطقوس والحفلات الدينية وغيرها، يقوم بها أشخاص مجهولون بأجهزة رقمية (هاتف محمول، آلة تصوير رقمية، كاميرا، حاسوب متصل بالأنترنت) باتت تقريبا في متناول جميع الناس.
– استمرار «إقصاء» – إن جاز التعبير لقطاع كامل من الثقافة الشفوية والتراث الشعبي، مثل الزجل والشعر الشفوي والأحاجي والألغاز والحلقة، الخ، ما يدعو للتفكير في سبب هذا العزف عن التدوين التلقائي الذي بات في يد سائر الناس، من جهة، ويضع الباحثين الاجتماعيين والمهتمين بالتراث والوزارة الوصية أمام مسؤولية كبرى، من ناحية أخرى.>
3.اقتراحــات:
أمدت الوسائط الجديدة، وفي مقدمتها السمعية البصرية، العلوم الجديدة بأدوات خصبة لتدوين الظواهر الثقافية والاجتماعية بما أتاح قيام تخصص فرعي في علم الاجتماع تحت اسم علم الاجتماع البصري وآخر في الأنثروبولوجيا، فرعي بدوره، تحت اسم الأنثروبولوجيا البصرية. كلاهما يأخذ على عاتقه توثيق الظواهر الاجتماعية والعمرانية بالصورة والصوت[20]…، ما يفتح المجال للجامعة المغربية ومؤسسات البحث العلمي ومعهد التراث لإنجاز الكثير على هذا الصعيد، الخ.
وحيث أمدَّت التكنولوجيا الرقمية جميع الناس، وعلى قدم المساواة، بأدوات التسجيل/الكتابة والنشر، يمكن ترشيد هذا الاستخدام واستثماره وتشجيعه لإنشاء أرشيف مغربي للثقافة والتراث الشعبي المغربيين عبر:
– تنظيم مسابقات وجوائز جهوية ووطنية لأفضل تسجيلات مظاهر الثقافة الشفوية والتراث الشعبي (حكايات، أحاجي، ألغاز، حلقات، الطقوس والاحتفالات الاجتماعية والدينية والمهنية الفلاحية والسحرية وغيرها، الخ.)؛
– احتضان مؤسسات عمومية للمبادرات الفردية الهامة التي يقوم بها مواطنون عاديون (موقع سطات بلادي، مثلا) بغاية ضم مثل هذه الأعمال إلى أرشيف الثقافة الشفوية والتراث الشعبي المغربيين بحيث تشكل رفا من رفوف خزانة رقمية أكبر تُطلق عبر موقع وزارة الثقافة المغربية، وذلك بغاية مدّ الباحثين في كافة بقاع العالم بما يسهل عليهم البحث والمقارنة، من جهة، ثم تسهيل نصفح هذه الأعمال والاستمتاع بها من لدن مغاربة الداخل والخارج على السواء.
– إقامة معارض افتراضية للأمكنة الدينية والطقوسية على غرار ما قامت به بلدان أخرى مثل الهند (تاج محل) وفرنسا (اللوفر ومغارة لاسكو).
محمد أسليـم
(ألقيت في يوم دراسي بالخزانة الوطنية في موضوع: أي استراتيجية للثقافة المغربية؟، تنظيم محمد برادة، 25 مارس 2011)
———
[1] Paul Rass : Anthropologie de la communication et diversité des cultures :
http://www.museum.agropolis.fr/pages/savoirs/dilutionculturelle/anthropo.pdf
[2] Pierre Lévy, Essai dur la cyberculture: l’universel sans totalité. Rapport au Conseil de l’Europe, (version provisoire):
http://hypermedia.univ-paris8.fr/pierre/cyberculture/cyberculture.html
[3] نفسـه.
[4] Michel Serres , Les nouvelles technologies : révolution culturelle et cognitive, 2007 :
http://interstices.info/jcms/c_33030/les-nouvelles-technologies-revolution-culturelle-et-cognitive
[5] Jean Clément, L’adieu à Gutenberg :
http://manuscritdepot.com/edition/documents-pdf/adieugutenberg-jclement.pdf
– Jean-Pierre Balpe, Écriture sans manuscrit, brouillon absent:
http://transitoireobs.free.fr/to/article.php3?id_article=40
[6] Dan Sperber, «L’avenir de l’écriture», Colloque virtuel, 2002, ““text-e” :
Dan Sperber (2002) L’avenir de l’écriture. Colloque virtuel “text-e”
[7] محمد أسليــم، الرقمية والتدوين، تاريخ التسجيل، منتديات ميدوزا، 24/10/2007 (لم نثبت عنوان المقال بنسخه من المتصفح وإلصاقه نظرا لطوله)
[8] Nano dans le coprs
[9] – Jeremy Rifkin , L’Âge de l’accès. La nouvelle culture du capitalisme, Paris : La Découverte, p.181.
[10] Marc Augé, «Culture et déplacement», Conférence donnée à l’université de tous les savoirs le 16/11/2000 :
http://www.canal-u.tv/themes/sciences_humaines_sociales_de_l_education_et_de_l_information/sciences_de_la_societe/sociologie_demographie_anthropologie/sociologie/culture_et_deplacement.
[11] Michel Maffesoli, Le Temps des tribus Le Livre de Poche, 2000.
[12] دار الهدى للطباعة والنشر كريم / دار الأمين للنشر والتوزيع، الأردن – عمان / فلسطين – رام الله، 2011 (384ص).
[13] http://www.zajal-lemsyeh.com />[14] من شركات تلك المرحلة: بوسيفون، أطلسيفون، مكاويفون، الخ.
[15] http://classiques.uqac.ca/ />[16] http://www.midouza.net/vb/forumdisplay.php?f=211 />[17] رواية رقمية، يكتب فصلها الأول، ثم يُرسل عبر البريد الإلكتروني إلى قائمة من القراء الذين يبدون آراءهم واقتراحاتهم، وعلى ضوء هذا التلقي يواصل الروائي كتابة الفصل الموالي، وهكذا إلى أن يكتمل العمل. من أشهر أمثلته رواية جان بيير بالب المعنونة بـ: Rien n’est sans dire. انظر في هذا الصدد:
– Jean-Pierre Balpe, Écriture sans manuscrit, brouillon absent:
http://transitoireobs.free.fr/to/article.php3?id_article=40
[18] رواية الويكي: اصطلاح مركب من «ويكي» (برنامج لإدارة محتويات المواقع) و«رواية»، ويشير إلى رواية يكتبها عدة أشخاص بشكل جماعي في مواقع بشكبة الأنترت تعتمد الويكي في إدارة محتوياتها. ظهؤر هذا النوع سنة 2000، ومن أشهر نماذجه مشروع Wikira (رواية خيال علمي، 2002)، وA Million Penguins (رواية بوليسية أطلقتها دار النشر الأنجليزية Penguin Books، 2007).
[19] من أشهر الأشرطة:
– حكاية بهيجة:
http://www.youtube.com/watch?v=qJLkqftrOOk
-عبيـر:
http://www.youtube.com/watch?v=TjHa2ZdokFY
-شكيب عصفور:
– ميمي ضريبات الطَرَ:
[20] انظر على سبيل المثال:
– Fabio Laroca, »Introduction à la sociologie visuelle», in Sociétés, 1, 1997, pp. 33-40 .
Anthropologie visuelle en Afrique urbaine : Guide mé- thodologique
http://nccr-ns.epfl.ch/public_pdf/AV_GuideMethodoLight.pdf
الكاتب: محمد أسليم بتاريخ: الأربعاء 05-09-2012 04:44 صباحا