(الملحق الثقافي الأسبوعي لصحيفة العلم، 6 مارس 1993، ع. 815.)
لاشك في أن قلق الموت يعتبر مسألة شخصية إذ ما من فرد إلا ويجب أن يتكيف معه, ويبحث عن حلوله الخاصة, وتستخدم سائر المجموعات الثقافية هذه الحلول أو التسويات لتشييد أنظمة من المعتقدات الخاصة بالموت تؤدي وظيفة مزدوجة:
– محو القلق الفردي في طقوس جماعية, الأمر الذي يتيح إقامة اقتصاد عصابي
– ضمان سلطة الجماعة على الفرد بتقييد حرية أعضائها فيما يخص الموت
إذن فما سيتيح تحديد أسلوب معين للحياة هو مفهوم سوسيو- سياسي ومفهوم ثقافي في آن واحد.
أ- الموت مفهوم سوسيو – سياسي
تقوم كل هيمنة على الخوف من الموت وتنظيم حق منحه, فحكم الإعدام تحدده السلطة, ولا أحد يستطيع منح الموت لنفسه أو للغير ما لم يتلق أمرا بذلك. ولذا فالخوف من الموت يلعب دور منظم لمؤسسات الجماعة, لأن غياب الخوف يعني الشعور بكون الحياة أشد قساوة من الموت, الأمر الذي يؤدي إلى وضع المجتمع بكامله موضع تساؤل, والحال أن تماسك الجماعة يقضي إخضاع حياة كل فرد وموته لسلطة تتجاوزهما, وهذا واحد من أسباب عدم احتمال الانتحار لأنه أداة للاستقلال، كما يقول بنجامين كونسطان.
وبصفته كذلك فإن جميع السلط تكره, «ثم إن الموت سيتم تمجيده (كأن يقال عن المرء إنه مات بطلا) أو شجبه حسب ما تقتضيه الضرورات, غير أن تبرير أحكام القيمة هذه يستوجب تحويل هذه الظاهرة الثقافية إلى ظاهرة طبيعية, أي يقتضي إجراء عملية أسطرة (Mythification)؛ فبواسطة الأسطورة سيتم أخذ ظاهرة للثقافة على أنها ظاهرة للطبيعة.
تختلف هذه الأساطير باختلاف الثقافات, وتتمثل وظيفتها – كما هو الشأن بالنسبة للحل العصابي- في التحكم في القلق وإعطاء شكل للرغبات أو المخاوف اللاشعورية, ومن ثمة, فوظيفة الأسطورة هي أنسنة الموت.
يعتبر الاستخدام السياسي (بالمعنى الواسع للكلمة) لقلق الموت أمرا ثانويا بالقياس إلى النظام الأسطوري الذي تصوغه ثقافة معطاة, ونظرا لأن الأسطورة لا تقدم نفسها أبدا باعتبارها أسطورة بما أنها تهدف بالتحديد إلى جعل الظاهرة الثقافية تؤخذ على أنها ظاهرة طبيعية, نظرا لذلك فمن الصعب على المرء أن يتعرف على الأسطورة داخل ثقافته الخاصة, ولذا سنبدأ بعرض بعض المعتقدات الإفريقية آملين أن تسهل علينا تجريد معتقداتنا الغربية من طابعها الأسطوري.
ب – الموت الإفريقي:
لقد حاولت حضارات إفريقيا السوداء بكل الوسائل أن لا تدع أي شيء يتلاشى مما سبق أن كان حاملا للحياة. فهذه الحضارات تكتظ بعلامات ورموز أكثر مما تكتظ بالأشياء لأن التراكم الذي تستهدفه هو تراكم البشر لا الممتلكات, وعلى هذا الأساس تطورت أنطولوجيا حيوية. ما من شيء في هذه الحضارات إلا ويتمحور حول الحياة التي تختلط بالمنفعة, وما يدهش لدى الإفريقي في إنكار الموت لتأكيد القوة الخارقة للحياة, وعبادة الأجداد, والإيمان بالتناسخ, ويقين كون الموت ليس نهائيا أبدا, وطقوس المسارة التي هي انبعاث جماعي ورمزي, كلها تحمل شهادة ذلك.
يعتبر الموت بالأحرى تحولا وليس تلاشيا, فالتناسخ يهدف إلى تقييد السلطة التحطيمية للموت التي تظل حاضرة رغم اختفاء الميت, مادام الموت ليس انقطاعا عن الحياة وإنما استمرار لها, في مستوى آخر مستوى سلبي اجتماعي, غير أن هذا الاستمرار لا يكون مطلقا لأن موقف الأحياء يكيفه, إنه بالأحرى «لا- فناء» كما يقول لوي فانسان توماس. فالأموات يتعايشون مع الأحياء لكنهم يوجدون في مكانهم باعتبارهم موتى, وما يجب التخوف منه ليس هو الموت, بل الميت, هذا الفرد الذي يتعين أخذه في الحسبان. وفوق ذلك, فإعادة إدماج الميت في المجتمع تعتبر أحد الأعمال الأشد احتفالية في الحياة الجماعية, فالجنائز مناسبة للجماعة كي تعي وحدتها, وبذلك يصير الشر الحتمي مصابا ضروريا, بل يتحول حتى إلى عمل خير.
لا يضمن الموت الإفريقي الخلاص الفردي, ولكنه يضمن الحفاظ على نظام اجتماعي وحضارة إذ لا نقاش في كون ذلك الموت يعتبر مسألة جماعية.
الموت هو الحياة وقد خسرت أو لعبت بشكل رديء, لكن التفوق يكون دائما باتجاه الحياة, ويعتبر غياب قلق الموت أحد نتائج هذا النظام من المعتقدات, كما أنه لا يمكن أن يشكل أداة للضغط, ولعل هذا ما يفسر كون محاولة الانتحار التي تستعمل الرغبات ومخاوف الموت باعتبارها رهانا للتواصل لا يمكنها بتاتا أن تلعب هذا الدور, وبالفعل فهذا ما يلاحظ: يوجد في الثقافات الإفريقية عدد كبير من أشكال الانتحار لكن لاشيء فيها يشبه تلك المحاولات الشائعة في ثقافتنا الغربية.
يتضح مما سبق أن الأفارقة لا ينكرون الموت على الصعيد الواقعي وإنما على الصعيد الرمزي.
لم نهدف من وراء هذه الملاحظات التي تظل جزئية جدا إلى أكثر من إبراز الاختلافات الموجودة مع معتقداتنا الخاصة, ومن أجل دراسة أكثر تفصيلا يمكن الرجوع إلى كتابين ممتازين[1].
ج – الميثولوجيا الغربية:
على العكس من الحضارات الغربية, يوجد في التقليد الإنجيلي انقطاع جذري بين الأموات والأحياء, فالموت إهانة (للأمر المطلق في رأي كانط). وهو غير قابل للفهم ومصدر جميع المخاوف, ورغم تأسيس أنظمة دفاعية لإبقاء القلق على مستوى قابل للتحمل فهناك دائما صدوع تتيح عودة المكبوت, الأمر الذي يشكل خطرا دائما.
على الصعيد الجماعي, نشاهد نوعا من تجريد الموت من صبغته الاجتماعية حيث انكمش في لحظة أولى داخل الفضاء العائلي ليصير في الأخير مسألة شخصية صرفة. لقد صار حادث الموت الملموس يختفي, وأصبح يتكفل به اختصاصيون. وحتى الاحتفالات الجنائزية فقدت الطابع الذي كان يميزها سابقا باعتبارها «مواكب دفن» لكن عندما يتعلق الأمر بموت ناتج عن حوادث أو حروب, أي بموت يبدو غير واقعي ويشكل بالأحرى دليلا على كون الإنسان ليس فان بالضرورة ما دام قد يستطيع الإفلات من تلك الكوارث, عند ذاك يتم الحديث عن طيب خاطر عن الموتى.
تهدف أنظمة الدفاع إلى إنكار الموت لأنها هي التي تحدد طريقة حياة حضارة ما, وقد ذهب البعض إلى قول أن تلك الأنظمة تشكل ضروبا من الحذق في خداع الموت يغش كل منها بطريقته الخاصة.
كيف يتم الدفاع ضد قلق الموت في الغرب؟
لقد أدى الإيمان المسيحي بمذهبه حول البعث طيلة قرون وظيفة إنكار الموت بمجرد وعد مستقيمي الرأي بمكافأة دخول الجنة, لكننا نلاحظ اليوم ضعف الإيمان الديني على المستوى الفردي والجماعي, وبما أن الوسط المحيط لم يعد يدعم هذا الإيمان فإن هذا الأخير يتلاشى بشكل متزايد.
ما هي المعتقدات التي تتيح الدفاع ضد قلق الموت؟
نود إظهار أن ثلاثا من هذه الميثولوجيات التي تتيح الائتلاف مع الموت هي الآن بصدد فقدان فاعليتها. إنه تحول جذري في المواقف أمام الموت, وبالتالي أمام الحياة أيضا, هذه الأشكال الاعتقادية الثلاثة هي:
– الميثولوجيا البيو – اجتماعية
– ميثولوجيا الطبيعة
– ميثولوجيا الأعمال.
الميثولوجيا البيو – اجتماعية:
وتقوم على استمرار حياة العائلة أو الجماعة رغم موت بعض الأفراد, وذلك بفضل التجدد عن طريق الأطفال, والدليل الملموس على ذلك هو الإرث والتقاليد التي تنسج علاقات بين الأجيال, لكن ألا تشهد العائلة تحولا جذريا في الوقت الراهن؟ فهي تختزل تدريجيا إلى الخلية الوحيدة أبوين – أبناء بحيث أصبح من الممكن أن يصل المرء إلى سن البلوغ دون أن يشاهد على الإطلاق أحد أقاربه يموت, ثم إن الولادة والموت أصبحا يتمان في المستشفى وليس في البيت, وبذلك لم يعد المرء يحس بتاتا بأنه مأخوذ داخل سلسلة الأجيال.
هناك عامل آخر هام في هذا الاتجاه لكن من الصعب تقدير عواقبه لأنه حديث نسبيا, ونعني به ظاهرة ترسيم منع الحمل, فبحسب عبارة الإنجيل «الله يمنح, الله يستعيد ما يمنحه» كان الموت والولادة يحلان من قدر لا يمكن للمرء إلا أن يخضع له, لكن التحكم في الولادات لا يلازمه تحكم في الموت, وهذا ما قاد طبيب أمراض عقلية أمريكي, هو الدكتور رولو ماي, إلى القول إنه تم الانتقال في الولايات المتحدة من الإنجاب إلى الإنجاز وأن هذا الطفح للجنسيات ربما يكون موجها فقط إلى إخفاء حضور الموت, بمعنى أنه قد يكون رمزا للعجز والفناء.
آنذاك, يصير من الصعب على المرء أن يفكر في البقاء بفضل الأبناء, ويجد عزاء عن خسارته بالتفكير في استمرار حياة الجماعة, وعاقبة هذا التفرد المتزايد هو موت أشد اكتمالا, وما العودة إلى الحياة الجماعية التي نشاهدها حاليا إلا أحد ردود الفعل ضد هذه الفكرة التي يصعب دعمها. نعم, يمكن ذكر بواعث أخرى على هذه التجمعات كالخوف من العزلة أو الاستقلال, لكن أليس ما يتجلى عبرها في نهاية التحليل هو الموت؟
بالإضافة إلى ما سبق, فتوقعات علماء المستقبليات حول ارتفاع عدد سكان العالم وعجز الأرض عن تغذية ملايير قاطنيها في مستقبل قريب نسبيا, يترتب عنها عكس الحركة حيث يصير الإنجاب عامل تحطيم.
– ميثولوجيا الطبيعة:
يرتكز هذا الاعتقاد علميا على نظرية التطور. فالإنسان يموت, لكن الطبيعة تستمر في البقاء. إنها الدورة, إنها الدورة والتجديد الدوري, لكن هذه المناعة الإيكولوجية لم تعد موجودة بالمرة, فالصدى الذي تلقاه حملات مكافحة التلوث يظهر جيدا الهلع الذي يستحوذ على البشر أمام فكرة فقدان أن هذا الضامن للبقاء المتمثل في الطبيعة.
ونعثر على هذه الفكرة, فكرة الطبيعة الصالحة المولدة للحياة, في التهافت على المنتوجات التي تدعى منتوجات «طبيعية» ضامنة للصحة الجيدة, ومن ثمة لحياة طويلة.
لقد جعل انهيار الاعتقاد بدوام الطبيعة الإنسان يفقد مكانته في كون قد لايبقى له, بل وقد يعجل بموته.
إن تفاؤل الغرب بتطوره المتواصل نحو عالم أفضل وإيمانه بالتقدم اللامحدود قد تحول إلى هلع, فالعالم قد يدمر نهائيا في القرن. ومنذ سنتي 1968 و1972 انتشر الخبر البشع:
«إذا استمررنا على ما نحن عليه فسوف نتسبب في خسارتنا»
لقد تم إنشاء نادي روما المتألف من علماء واقتصاديين من بلدان عديدة كرد فعل ضد ذلك المستقبل المحتمل أو بالأحرى ضد انعدام المستقبل. ويضفي التقرير الذي أعده، تحت الطلب، باحثو معهد ماساشوستش للتكنولوجيا حول تحديد النمو, وتم نشره عام 1972 , يضفي صبغة عقلية على الاستيهامات والمخاوف التي ظلت إلى ذلك الحين غير معبر عنها.
يرتكز ذلك التقرير على خمسة ثوابت لتطور البشرية هي: النمو الديمغرافي, التلوث, إنهاك الموارد الطبيعية، الإنتاج الغذائي والاستثمارات. وقد جاءت نتائجه سلبية كليا, فنحن نسير نحو الموت الجماعي.
يتوجه مؤيدو هذه الأفكار ومعارضوها في نقاشات ليس لها أي وظيفة أخرى غير السجال, ومن ذلك يتضح بشكل جيد أن احتمال الاختفاء النهائي للبشرية يولد مخاوف أقوى من القلق الذي يحدثه الموت الفردي مادام لن يكون للحياة آنذاك أي معنى آخر سوى الإحساس بالمساهمة في الفقدان الجماعي والتعجيل به.
– ميثولوجيا الأعمال:
«كل شيء يمضي.. للفن وحده للخلود فالنصفية تبقى في المدينة».
ج. فلوبير
ورغم أن المرء يموت بصفته فردا، فإنه يمكنه أن يأمل في مواصلة ممارسة فعل ما في الأجيال المقبلة بواسطة أعماله وإبداعاته, فالآثار التي نخلفها هي التي تتيح للحضارة البقاء والاستمرار, ولكن بما أنه من المتوقع في الوقت الراهن أن تتعرض هذه الحضارة لتدمير كلي في حالة قيام حرب نووية, فما مصير أعمالنا؟ تحسبا لهذا الاحتمال قام الأمريكيون بتشييد ما يسمونه بالـ «كبسولات الزمنية» المخفاة داخل مخابئ تقاوم الأسلحة الذرية وتحتوي على نماذج من جميع اكتشافاتنا. وإذا كانت هذه المجهودات ستتيح بالتأكيد لعلماء حفريات المستقبل أن يعثروا على معلومات كثيرة, فإنها تبقى مع ذلك أقل بكثير من أن تضمن أعمالنا وفعاليتها. مهما يكن الشكل التعبيري الذي تأخذه هذه الحاجة إلى البقاء فإنها تهدف دائما إلى تجنب إبادة كلية, والحال أن هذه الأخيرة تأخذ أكثر فأكثر وجه احتمال يقترب, احتمال انتقل من أيدي الآلهة التي كانت تستطيع إفناء العالم إلى أيدي الإنسان وهذا مرعب أكثر.
لقد اظهر ماندل وغودني [2] جيدا الاشتغال الأسطوري للقلق الذري, فقد درس المؤلفان ردود الفعل العاطفية التي حدثت في أوربا إبان إنشاء مفاعلات نووية فيها, والتفسير الذي يوحيان به هو: فيما وراء المفاعلات النووية, ما هو مطروح هو مسألة القلق الخاص بالقنبلة الذرية.
ويبدو من المتعذر إمكان فهم الظاهرة خارج هذا التفسير: فبينما يشكل توجد مئات النماذج من القنبلة الذرية على سطح كوكبنا مشكلة خطرا حقيقيا, تنصب حملات الاحتجاج أساسا على الاستعمال السلمي للذرة في المفاعلات النووية, والحال أن هذه الأخيرة – إلى حين ظهور حجج معاكسة – لا تشكل تقنيا أي مخاطر حقيقية.
بدل الإحساس بقلق مشروع أمام الخطر الحقيقي يتم الهلع من خطر متخيل, نحن إزاء نشأة استيهام جماعي, والصمت المضروب حول القنبلة الذرية التي برهنت على فعاليتها يساهم في تقوية الكبت الفردي, وبذلك يجد القلق نفسه منقولا إلى دعامة أخرى للواقع, وعليه فبالحديث عن المفاعلات النووية أو التلوث بشكل أعم إنما يتم الحديث في الواقع عن القنبلة الذرية.
ويرى ج. ماندل أن فشل الأنظمة الدفاعية يترجم بأشكال متنوعة كلها حول استيهام مركزي هو استيهام مشهد بدائي معيش على النمط ما قبل التناسلي, إنه لقاء متوتر يعاش فيه الأب باعتباره قد دمرته الصور الأمومية الشرسة وخارقة القوة, تنصهر الصورة المزدوجة للأم, الشرسة والطيبة في آن واحد في صورة واحدة هي صورة الأم الشرسة التي تحدث قلقا يتعذر تحمله.
يصف ج. ماندل تحول هذا الاعتقاد قائلا:
«إن أي صورة لم توضح الاستيهام المركزي أفضل مما وضحه الفطر الذري لهيروشيما أو ناكازاكي, هذا القضيب الأم العملاق السام, هو يبخر في بضع ثوان مدينتين بكاملهما صنعتهما يد الإنسان, إن إنتاج العلم الأشد اكتمالا يفني الطبيعة والحياة والإنسان. فوراء الأب “العالم” لفلسفة نهاية القديمة وخارقة القوة “للأم الطيبة” – “مغامرة الكهرباء” ووراء الأب “العالم” لعصرنا تختفي الأم “الشرسة”, “السحيقة»’’.
تؤول البرهنة عن هذه الأساطير إلى جعل الإنسان يعني أنه هو الذي يملك السلطة على القنبلة, وأنه هو الذي يفجرها عند الاقتضاء وليس أحد الآلهة أو الشياطين الذين ليسوا في الحقيقة سوى إسقاط لخوفه القديم.
د- الميثولوجيا الجديدة:
إذا كانت أشكال الاعتقاد الثلاثة هذه لم تعد فعالة على الإطلاق فأي أسطورة ستعوضها؟ إذا كان يمكن قبول الموت الفردي في الميثولوجيا التي رأيناها أعلاه, ما دام يتم نقل الرغبة في الخلود إلى نسق آخر نشارك فيه بشكل ما, فإنه لا يبدو في الوقت الراهن مكان لتلقي رغبة ما في الخلود. فالميثولوجيا الراهنة ترتكز على إنكار [3] الموت لأن الإنسان بحسبها, ليس فان أنطلوجيا, إذا كان يموت فذلك بسبب حادثة, أو لكونه لم يتبع بعض التعليمات, أو لكون العلم لم يكتشف بعد وسيلة لعلاج جميع الأمراض.
وبازدياد الحوادث, والتقدم الرائع الذي عرفه الطب والجراحة, وتمديد أمل الحياة, انتهى استيهام الخلود هذا إلى التمفصل مع الواقع, فصار المرء لا يموت دائما إلا لسبب ما (ولم نعد نجد على الإطلاق شهادات وفاة كتب عليها «موتا طبيعيا»). وهذا ما يصفه جيدا يونيسكو في استجوابه مع كلود بونفوا:
»لقد انتهيت إلى إدراك أن المرء إنما يموت لكونه أصيب بمرض, أو جرت له حادثة وأن الإنسان قد لا يموت أبدا إذا حرص حرصا شديدا على ألا يمرض, وتصرف تصرفا حكيما, فوضع نقابه وتناول أدويته بشكل جيد.. «
إن هذا الرفض لواقع الموت رفض قاطع لاسيما وأن قلق الموت قوي. وفي الواقع, ينطبع عمل يونسكو بكامله بوسواس الموت.
وعلى مستوى عملي, لقد أدى هذا الاعتقاد إلى خلق طرق للتحنيط تدعى «تبريدية» وهي تتيح حفظ الجثة في حالة كمال إلى اليوم الذي سيكتشف فيه دواء المرض الذي تسبب في موت صاحبها, وآنذاك سيستطيع استئناف حياته الأرضية, ونقف هنا على الفرق الكامل بين اعتقاد يؤمن بالخلود في عالم آخر, وهذا الاعتقاد الذي يتلاءم مع فكرة معينة عن الموت, وهذا المنظور الذي ينفي الموت نفيا مطلقا.
أي رواية من روايات الخيال العلمي ستحكي لنا قصة هذا الرجل التي توفي عن سن 25 سنة إثر مرض مجهول, ثم تم الحفاظ على جثته تبريديا, وبعد 40 سنة تم اكتشاف دواء مرضه, فعولج, وأخرج من علبته, وها هو يعود إلى الحياة, يعثر على زوجته, لقد صار عمرها 60 سنة, ثم يجد أبناءه, فإذا بهم متزوجين وأرباب عائلات, الخ. هذا هذيان لكنه مع ذلك حقيقة, بل حقيقة باهضة الثمن, كما أنها صفقة تجارية ممتازة.
بتوظيف مفاهيم التحليل النفسي في تفسير المعتقدات الجماعية يمكن القول إنه تم الانتقال في مواجهة قلق الموت من إوالية دفاع عصابية, هي النقل, إلى إوالية ذهانية هي الإنكار, وهو موقف مختلف كليا عن الواقع الذي تم تحويله في الحالة الأولى, لكن تم نفيه في الحالة الثانية, ونظرا للتحول الجاري, فإنه لا زال من الصعب تقدير عواقب ذلك الانتقال, لكن من المحقق أنه يمكن إيجاد تفسير للمشاكل العديدة التي تجعل الحياة غير قابلة للعيش بإعادة وضع هذه المشاكل في هذا النسق التفسيري. ومع تقيدنا بموضوعنا فسوف لن نبحث عن علل مثل هذا التحول لأن ذلك يقتضي الخوض في الفلسفة أو علم وراء النفس..
هوامش
[1] R. JAULIN, LA mort Sara, PLON 1971, L. V THOMAS, Cinq Essais sur la mort africaine.
[2] G. MENDEL et C. GUEDENY, Langoisse atomique et les centrales nucleaires, Payot, 1973.
[3] يعرف ج. لابلانش و ج. بونطاليس كلمة «إنكار» في معجم «التحليل النفسي» بأنها نمط دفاعي يتمثل في رفض الذات الاعتراف بواقع إدراك راض.