1. الأفعـى والمزمـار:
يؤكد العلم أن الأفعى لا تسمع، شأنها في ذلك شأن السلحفاة، ولكن «الحقيقة» الشائعة بين الناس منذ آلاف السنين هي أنها تتوفر على حاسة السمع. ولأجل ذلك، تم اختراع مهنة هي مهنة ترويض الأفاعي بالمزامير، ترقيصها في حلقات الفرجة على نغمات هذه الآلة الموسيقية. لم يصرخ أحد إلى اليوم في وجه أصحاب هذه المهن: «لماذا تزعمون أن الأفاعي تسمع والحال أنها صماء؟ لماذا تكذبون؟». يبقى السؤال معلقا، لكن بنقل التأمل إلى زاوية أخرى يُلاحَظ: لو كان الثعبان لا يسمع لفطن الإنسان إلى ذلك يومَ استعمل المزمار لأول مرة قصد تدجين أول أفعى أو ثعبان، لو فطن لذلك لكف عن هذا الفعل عديم المعنى والفائدة ربما. ولكنه لم يكف، والسبب في ذلك – فيما يبدو – هو النتيجة العملية التي يحرزها إثر استعمال آلته الموسيقية؛ يحصل شيء ما. هذا الشيء هو ما تم ترجمته بالاعتقاد القائل إن الثعابين والأفاعي تتجاوب مع الموسيقى. يبدو أن هذا الشيء هو تواطؤ بين الإنسان والحيوان، تواطؤ يتأصل في حدث منسي يُسْتَعادُ على الدوام، وتشارك فيه الأطراف المعنية على الدوام دون أن تعرف معناه، أو على الأقل تمنحه معنى لا علاقة له بالحقيقة العلمية الواقعية للطرفين.
***
2. مأزق العقـل:
ما كان بوسع الأركيولوجيا وكتب التاريخ أن تكون لو فعل الإنسان شيئا واحدا: أن يكون في مستوى الطريق لتي نهجها والسمة التي انماز بها عن باقي الحيوانات، ألا وهي العقل. إن تاريخ النوع مودَعُ بداخلنا، لكننا لم نجد حتى اليوم قراءته، بل لم نقم بهذه القراءة. سهوا أم تاكتيكا؟ أمر لا يمكن تقديم إجابة حاسمة عنه، لكن المؤكد هو: يوم يفكك الإنسان شفرته الوراثية سيُرفع عنه النسيان، ويحضر كل ماضي النوع. ما مستقبل النوع آنذاك؟ لن يكون السؤال ضروريا لأنه سينتفي؛ سوف لن يعود للمستقبل وجود لأن الإنسان سيعيش آنذاك في حاضر مطلق.
3. الإنسانية والعقـل:
رغم ما يقال من أن الإنسان حيوان عاقل، فإنه يبدو أن الحياة البشرية تقوم في شطر كبير منها على اللاعقل. نعم أحب بنو البشر دائما من يسمون بـ «العقلاء»، ولكن هؤلاء لا يعدوا أن يكونوا في رأي كل غائص في بحار العقل مجرد أناس عاديين. بقدر ما يمجد الإنسانُ – المجتمعُ العقلَ ينبذ كبار العقلاء (أو العقلاء المثاليين، أعالي العقل، قممه الشاهقة)… معنى ذلك أنه يقال لنا: «استعملوا العقل»، ولكننا نتلقى عقابا إذا أمعنا في استعماله. يمكن اعتبار هذا العقاب حنينا – من المجتمع – إلى مرحلة اللاعقل: كأن هذا المجتمع بعقابه العاقول (وهو الاسم الذي نطلقه على من يبالغ في استخدام العقل): «نعم، قلت لك استعمل العقل، ولكن لماذا تخليت عن اللاعقل؟ !»، كما يمكن اعتبار العقاب نفسه خوفا من المجهول الذي يمكن أن تؤدي إليه المبالغة في استعمال هذا البعد. في هذا المستوى، يمكن اعتبار المرحلة الحالية من تاريخ البشرية، هذه الآلاف من السنين التي استعمل فيها الإنسان العقل، مجرد مرحلة انتقالية إلى طور الاستخدام الخالص للعقل.
4. عتبة اللاعقل
إن إحراق العلماء وصلب المتصوفة وعقاب المجانين، كل ذلك هو يد للاعقل الباطشة التي تنتقم البشرية، بواسطتها، من هؤلاء الرواد الذين يجرونها جرا إلى طور الاستعمال الخالص للعقل. العقاب تعبير عن كسل وخوف بقدر ما هو ترجمة حنين إلى المرحلة التي كان يُجهَل فيها استعمال العقل. الخلاصة أن الإنسان يعرف نفسه بأنه كائن عاقل، والحال أنه لازال واقفا في عتبة اللاعقل. يغادر بالكاد منطقة اللاعقل ليدخل إلى طور العقل.
5. معنى الاتصاف بالعقل
لوصف الإنسان لنفسه بـ «العاقل» معنى مزدوج: الأول افتتان من الإنسان، الذي لازال غارقا في قرارة اللاعقل، بقسط زهيد من استخدام العقل، فظن أن هذا هو العقل، وقال: «إنما أنا كائن عاقل». الثاني أن الإنسان سد باب العقل وهو لم يلج دار العقل بعد. ومن ثمة تكون العقوبات آنفة الذكر تمارس نفسها من موقع العقل على ما تنعته بأنه لاعقل والحال أنه إيغال في العقل، تجاوز للعقل الذي يلحق العقاب بالعاقول.
***
6. الصورة والموت: أو في أن المرئي موت واللامرئي حياة
لا يمكن للصورة بأي حال من الأحوال أن تكون نسخة طبق الأصل لصاحبها، لأنها تلتقط لحظة، وما أن يتم الالتقاط حتى تكون تلك اللحظة قد قضت، صارت ماض، صارت حلقة من ملايير الحلقات التي تتشكل منها حياة الفرد (الذي التقطت له الصورة). الوجود الواقعي للفرد سلسلة حلقات تبنى على الدوام، لا تعيد فيها حلقة سابقتها بأي حال من الأحوال. بتعبير آخر، يعيش الإنسان حلقات من الموت المتوالي على الدوام. بما أن الصورة تعكس البعد المرئي للإنسان، يمكن القول – بناء على ما سبق – بأن الإنسان ميت في بعده المرئي، حيّ في بعده اللامرئي. البعد المرئي للإنسان يقتله بما أنه يجعله الحقيقة ماثلة، يحجب بعدَه اللامرئي. في حين يحييه البعدُ اللامرئي، بما أنه يحرره من قيود التموقع في الزمان والمكان، يجعله مقيما في شاشة حاسوب (على الشبكة) أو في القلب والعقل (تقول الحكمة: «الغياب يقرب القلوب»).
7. الفن التشكيلي والتصوف
بين الفن التشكيلي والتصوف قرابة وثيقة جدا، ما لم يكن فن الرسم ضربا من التعبير الصوفي. يتجسد هذا الطرح في كون الصوفي المخطوف داخل تجربته يؤكد أنه يعجز عجزا كليا عن إيصال ما يراه، ما يحس به، ما يخطر بباله من أفكار، إلى الآخرين بواسطة اللغة، فيدعوهم – إذا ما تشبثوا بالرغبة في المعرفة – إلى اتباع المسار نفسه الذي اتبعه هو من قبل إلى أن وصل إلى ما وصل إليه الآن… ربما بالطريقة نفسها رسَمَ الإنسانُ عندما عجز عن الكلام، أو عندما كانت (أو صارت؟) الكلمات عاجزة عن تقديم الشيء، ومن ثمة تدخلت الصباغة والألوان والفرشاة، الخ. لنقل الموضوع إلى المتلقي كما هو. بهذا المعنى، يكون الرسم سعيا إلى التطابق، إلى توحيد الأفكار والرؤى بين الناس، سعيا لتبديد فوضى التأويلات التي يخلقها النص المكتوب.
8. النقد التشكيلي: تشويش وتضبيب
لا يمكن لكل كلام عن الرسم أن يكون سوى تشويش على الوظيفة الأصلية التي قام من أجلها هذا الفن، ألا وهي الإيضاح. إذا كان أصل الرسم هو السعي إلى نقل ما يعجز الكلام عن قوله، ما لا يسع الكلام لنقله، فإنه لا يمكن لكل كلام في الموضوع إلا أن يضفي عليه تشويشا وتضبيبا… إذا كان الأمر كذلك، فإن إصدار حكم قيمة ما على العمل الفني التشكيلي يبقى أمرا فضوليا. إذ كيف نصدر حكما لغويا على عمل ما والحال أنه يقدم نفسه بديلا عن اللغة الكلامية (أو موازيا لها)؟ إنه يقول باللون والصباغة والأشكال: «عجزتُ عن نقل كذا بالكلام، فها هو باللون والشكل».
9. نقد العمل بالعمل
إذا صح أن فن الرسم يبدأ حيثما يتعدر الكلام كان تقديم الموضوع هو الهم الأساسي، الأول والأخير للفنان، وإذن لا مجال للتفكير في كيفية نقله. يكون العمل رسالة موجهة من الفنان إلى المتلقي، يقول له فيها: «رأيتُ شيئا أو خطرت ببالي فكرة استحال علي نقلها بالكلام، فارتأيتُ ؤسمَ ما رأيته أو ما فكرتُ فيه كما هو». من هذا المنظور، إذا كان لابد من نقد للعمل التشكيلي، فإن هذا النقد لا يمكن أن يكون إلا باللغة نفسها، باللون والصباغة، لوحة تنتقد لوحة، لوحة تفسر لوحة، لوحة تعيب لوحة، الخ…
***
10. في التربية (أو كيف نربي بدون تربية)
ما من تربية إلا وتنطوي على رغبة في الترويض، في كبح جماح الرغبات، وبالتالي فهي تهدف، بكل بساطة، إلى إعادة إنتاج النظام القائم في جانبيه المؤسسي والفكري. من هذه الزاوية، تكون التربية عائقا أمام التجديد. تكون حثا على الخمول، لكن أيضا تعبيرا عن الخوف من المجهول الذي يمكن أن يصير إليه المرء ما لم يُحّط عناية بالتربية. لا يمكن للتربية الجيدة التي تعطي ثمارا، تتمثل في التجديد والابتكار، الخ.، إلا أن تتضمن عناصر لا تربوية، بمعنى أن تنكب على الفرد، باعثة له إشارتين متوازيتين: يقول الأب لابنه، مثلا: «عليك أن تفعل كذا وكذا (وهو ما أفعله)، لكن لا تكن إياي، كن نفسك». فرار باستور من المدرسة، وهو طفل صغير، ووضاعة إنشتاين عندما كان تلميذا في الفصل مثالان دالان على هذه الحقيقة. ما فر الأول وما تواضع الثاني، إلا لكونه لم يجد نفسه فيما يُدرَّس له، وعندما وجدا نفسه أفاد البشرية جمعاء بما وجد فيه ذاته.
***
9. معنى المسؤولية
يمكن اعتبار المجنون هو الشخص الذي رفض تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقه، وهي مسؤولية أن يكون إنسانا، كائنا اجتماعيا، الخ. ومعلوم أن ولوج الوضع الاعتباري للمجنون، يكون دائما نتيجة تغيير فجائي يحصل لدى الفرد، هذا التغيير يكون إما تعديلا (جراء حادث) يصيب البطاقة الوراثية (يلحق فقرة في الدماغ) أو تعديلا يصيب النفس (الموروث الثقافي)…
10. معنى الأمانـة
يقول القرآن ما مفاده أن الأمانة عرضت على السماوات والأرض فخشيتا، ولكن الإنسان قبل… قد لا يكون معنى الأمانة هنا سوى أداء دور العقل على أحسن ما يرام. لكن ما يستحق الوقوف هنا هو: وجود الإنسان هنا، على الأرض، وجود إكراهي، إلزامي (ألم يُطرَد من الجنة؟ !)، لكن وجوده في المكان عينه وجود اختياري أيضا: فقد قبل الأمانة المعروضة عليه بعد رفض السماوات والأرض قبولها. ما الأمانة المعروضة عليه؟ كيف عرضت؟ كيف رفضت السماوات والأرض؟ يلف هذه المسألة صمتٌ رهيب، ويتعين علينا نحن البحث عنها. أنسأل الأشجار والنباتات والزهور والحيوانات: أي شيء كلفك به الله ورفضت؟ يبدو أن هذا السؤال ممكن وغير ممكن: إن قلنا بإمكانه كانت الطبيعة والحيوانات من حولنا هي الأزل والأبد، وكانت لازالت على اتصال بالله، منتشية بذهولها الأول. نسألها: أي شيء أمرك به الله فخشيت؟، ويكون الجواب في منتهى البساطة: «كن ما أنت إياه، عد إلى أصلك الأول، إلى الانتشاء الأبدي، خارج العقل والنظر والفعل، والعمل، الخ…». وإن قلنا بعدم إمكانه صارت الطبيعة خرساء من حولنا، لن تجيبنا بكل بساطة لأننا سجناء الأداء السيء والرديء للأمانة التي أخذنا على عاتقنا أداءها فانفصلنا بقبولنا هذه المهمة عن النبات والسماء…
***
10. متحف للبشرية:
قد ينجح العلم يوما في إتقان قراءة اللغة التي برمجت بها خريطتنا الوراثية، فيغدو بالإمكان استعادة إنسان العصر الحجري (الأول والثاني)، وإنسان العصر الناري، وإنسان العصر البرونزي، وفرعون من الفراعنة… سيكون الأمر مفرحا جدا بقدر ما سيكون محزنا. محزنا لأن هؤلاء جميعا سيوضعون في أقفاص، أو في حديقة ستسمى «حديقة الإنسان»، فيقف فيها المرء على الإنسان البدائي والإنسان الحجري، الخ… لاحاجة إذن لمتاحف الإنسان المبثوثة حاليا في مناطق كثيرة من العالم؛ فهي لاتعرض في الواقع سوى أجزاء من العظام، تم التعرف عليها عبر تظافر علوم الفيزياء والكيمياء والإحاثة، وكذا بعض الأدوات التي استعملها الإنسان القديم. وسيكون الأمر نفسه مسليا للغاية؛ فعندما سيختلف عالمان حول زمن حفرية ما، بحيث يقول أحدهما: «تنحدر من تاريخ كذا»، ويقول الآخر: «إنما تنحدر من زمن كذا»، سيتم اللجوء إلى توليد إنسانٌ مبرمَجٌ على أحد التاريخين، وستعرَضُ عليه الأداة – المختلف حولها – بين أدوات عديدة، فما يراها حتى يثب عليها غريزيا كما يثب الطفل على لعبته المفضلة…
***
11. معنى الباطـن
الباطن انخراط في تفكير يلغي الزمن الخارجي وينخرط في الزمن الكوني. ما أن نفعل ذلك حتى ننسلخ عن ذواتنا ونذوب في ذوات النوع الذي ننتمي إليه. وأشدد على هذا: «ذات النوع» لا «ذات الجماعة». وحالما يتم هذا الذوبان، تتحقق وحدة الفكر ويصير ما يتم التوصل إليه لا يعدو مجرد تذكر وتوقع وحدس.
12. التذكر الباطني
كل ما مضى، كل ما عرفته البشرية قديما لا يمحى من ذاكرتها، وإنما يترك فيها رواسب؛ يبقى منزويا في ركن ما، في غرفة ما من غرف الذاكرة البيولوجية والنفسية، يلازم البقاء مختفيا، قد يحتفظ بوحدته كاملة أو قد يتعرض لبعض التشويهات بمضي آلاف السنين. بهذا المعنى، بواسطة التفكير الباطني، يمكن تذكر ما وقع في عصر الطوفان، وزمن الإسكندر، وأيام كونفوشيوس، والمسيح، ومحمد، الخ…
13. التوقع الباطنـي
يعادل التأمل الباطني، بشكل من الأشكال، ما يسمى بـ «المستقبليات» في العلوم الوضعية. بيد أن هذه ترتكز على معطيات الماضي وتسقطها على مستقبل يتراوح بين 10 إلى 15 سنة. وقد يكون توقعها ذا نسبة صواب عالية جدا (ونسبة الخطأ لا تبرر إلا بتعذر إمكانية الوقوف على الحتمية بشكل نهائي في أيامنا هذه). في الباطن أيضا يمكن التوقع، وهذا التوقع يبرر نفسه بشكل مغاير. مثلما يعرف الفرد – مثلا – بكيفية عامة، أنه سينهي حياته في مدينة كذا، أنه لن يغادر وطنه ما لم يطرأ ما يرغمه على الرحيل، الخ. من المنظور نفسه، تنطلق عملية التوقع في الباطن، مع اختلاف بسيط: في الحالة الأولى يكون المتكلم هو فرد (فلان بعينه)، أما في الحالة الثانية، فيكون المتكلم (المتوقع) هو الجمع بلسان المفرد.
***
14. العبقرية والتاريخ
يبدو أن البشرية تسير مثل قطيع، ولكن العباقرة يحولون مسارات هذه القطيع، يثنونه عن مواصلة السير في اتجاه ليأخذ اتجاها آخر… وعدد هؤلاء ظل إلى وقتنا الراهن قليل جدا، لأن التاريخ شحيح، قلما يجود بهم، بحيث يظهر عبقري، ولكن ينبغي انتظار قرون ليظهر آخر…
***
15. هل نحن على عتبة حضارة «جديدة»؟
قد نكون على أعتاب حضارة تلغي التفكير لصالح العمل، العقل لصالح الفعل. ومؤشرات ذلك تبدو في هذا التهميش المتزايد للعلوم النظرية والإنسانية عموما (فلسفة، علم اجتماع، أدب…) لصالح العلوم التطبيقية (بيولوجيا، علوم اقتصادية…)، كما في الابتذال الذي طال المعرفة (صار الحصول مجانا على ركام من كتب ديكارت وداروين وبلزاك وفولتير، ومونتسكيو، ودولوز، الخ… لا يكلف اليوم أكثر من البقاء سويعات أمام حاسوب مثبت في الشبكة). تهميش لدرجة أن الفكرة الواحدة صارت أحيانا ثمينة لدرجة أنها تدر على صاحبها الملايين، كما لو كانت هذه الفكرة جزيرة قابعة في الثلث الخالي من الدنيا، وكان صاحبنا المليونير سندبادا اجتاز المحيطات ليعود بها سالما غانما… بتعبير آخر، صاحب هذه الضرب من الأفكار (اليوم) يعادلُ عبقري القرون الماضية الذي كان يصرف حياته في التأمل وإنتاج الفكر. هل نحن إزاء اكتمال دورة للحضارة «تعيدنا» إلى بداية البشرية؟ كان فرويد يؤكد أن الحضارة بدأت مع الفعل – الحركة، وأن الإنسانية خطت خطوة كبيرة عندما طوعت الحركة ونقلتها إلى فكر، إلى لغة… هل هي انطلاقة أخرى تحيل ما أسميناه حتى اليوم بمرحلة الفكر إلى مجرد حركة وفعل؟
16. دورات للحضارة؟
أمام التقدم الهائل الذي حققه الغرب اليوم والاختلاف الجذري لهذا التقدم عن جميع أشكال التقدم التي عرفتها الحضارات السابقة، يبدو وكأنه من باب المستحيل أن يلحق العرب والمسلمون بالغرب، وبالتالي لا مجال لطرح السؤال: هل زال من الممكن لبلد ما (منحدر من الحضارات ذات المجد القديم، وضمنها الإسلامية) أن يلحق بالغرب؟ أن يستلم المشعل، ويواصل السير، تاركا الغرب في سهو عميق حتى إشعار آخر؟ بيد أننا نريد طرحه للسبب التالي: تعرف الكونفوشيوسية اليوم عودة قوية. السباق قائم بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه الأخيرة بدأت في اللهاث، وما يبوؤها مركز السبق إلا أسباب واهية: كونها وضعت حد للحرب العالمية الثانية ! لنتخيل يوما ينتفض فيه اليابانيون (والألمان أيضا !)، وهم يقولون: «كفى ابتزازا، فالحرب العالمية مسألة أجداد، تحاربَ أجدادنا وأجدادكم، فهل يعقل أن يُحَاسَبَ الأبناء على ما اقترفه الآباء؟». هل سيخرج العفريت من القمقم آنذاك؟
17. ما بعد المعلوميات؟
قد يكون وراء الاجتياح الذي يشهده قطاع الأنفوميديا رغبة في إحكام السيطرة على العالم؛ سيودَعُ جُماعُ العلم في الرقم والشبكة، كنوز الأسرار، وشموس الأنوار؛ سيُرغَم الجميع على تحديد هويته داخل الشبكة. أنا في الشبكة إذن فأنا موجود… وسيشكل ذلك حافزا لشعوب العالم الثالث، وهي عديدة جدا، تزخر بالأدمغة، على فك شفرات العلوم، وفتح الخزائن، وآنذاك قد يخرج متخلفو اليوم، من السجن، أقوياء عباقرة ؛ قد يتخلصوا من القيود والأغلال، وينعطفون بالبشرية نحو وجهات أخرى. قد تتم المنازلة خارج الشبكة، خارج المعلوميات، وقد يؤسس المتخلفون عصر ما بعد المعلوميات، مابعد العصر الرقمي.