Notice: _load_textdomain_just_in_time تمّ استدعائه بشكل غير صحيح. Translation loading for the amnews domain was triggered too early. This is usually an indicator for some code in the plugin or theme running too early. Translations should be loaded at the init action or later. من فضلك اطلع على تنقيح الأخطاء في ووردبريس لمزيد من المعلومات. (هذه الرسالة تمّت إضافتها في النسخة 6.7.0.) in /home/aslim/public_html/wp-includes/functions.php on line 6114
محمد أسليم: سِفـرُ المأثــُـورَات (1) – محمد أسليـم

محمد أسليم: سِفـرُ المأثــُـورَات (1)

1325 مشاهدة
محمد أسليم: سِفـرُ المأثــُـورَات (1)

إذا استيقظتَ يَوما ولم تر حيثما وليتَ وجهكَ إلاَّ أطفالا يُهرولونَ جماعاتٍ جماعات وهـُم يغمغمـُون كأنهم سَحَرة يقرأون عَزائم سِحرية أو أرانبَ تصارعُ الجوعَ بنهم شديدٍ، فاعلم أنكَ قد وصلتَ إلى بلاد الطّورُوبريَّانديينَ، وأنَّ اليوم يوم امتحان، وما أدراكَ ما الامتحانُ بهذا البلد السَّعيد. يومٌ يقشعرُّ له جلدُ المرء فوق عظمِه، ويشيبُ رأسُ الرضيع وفمُه بثدي أمِّه، ويبحَث المرءُ عن مَركَبٍ ليفلت بجلده وما مَركَبٌ بمقِلِّه… ثمَّ اعلم أن الصِّغار ما تطأ أقدَامُهُم عتبات المدارس حتى يتمّ اقتيادهم صفا صَفا إلى حُجُرات واسعةٍ انتصبَ أمامَ سبورة كلّ حجرة منها شُرطيّ وخلفَ صفوفها شُرطيّ كأنهما حَفظة كِرَامٌ، حتّى إذا استوَى التلاميذ على المقاعِدِ أوتوا بأسئلةِ الامتحَان على شَكل تمائمَ تطلعُ كلُّ تميمةٍ على صاحبها بحظ مخالفٍ: هَذا حمارٌ وهذا أرنبُ، هذا هرٌّ وهذا ثعلبُ… فطوبَى ثم طوبَى لمن جاءه حِرزُهُ بصُورَة السَّاحر أو الرَّاهب، والوَيلُ كله لمن أتتـه تميمتهُ بصُورة غيرهِما. ومُهمَّة الشرطيين ليسَت مَنع الأطفَال مِن أن يتنَاقلوا أجوبَة الاختبار أو يخرجُوا الدَّفاتر، بل هي بالضَّبط إرغامُهم على فتح الكتبِ ونقـل الأجوبة منها. غير أن الأمرَ هُنا لا يعدُو مجرَّدَ خدعَةٍ طورُوبريَّانديَّةٍ أصيلةٍ، ذلكَ أن الطفلَ متى أخرجَ دفترَه لم يجد فيه شيئا مما كان قد قيَّدَهُ فيه طوال السَّنة لأن ما كتبهُ يكون قد مُسخ على صُورة السُّؤال نفسِه بفعل ما قُرِئَ من عَزائم سِحرية على امتداد المسَافة الفاصلة بينَ المنزل والمدرسةِ. وبذلكَ، فإذا طلعت تميمتهُ بصُورة حمار، لم يجدْ في أي دفتر فتحَه سِوى صُور حميـر، منهُمُ النائمُ، ومنهمُ المقبلُ، ومنهمُ المدبرُ… وإذا طلعَت عليه صُورة امرأة، فإنَّ ما من كتاب يفتحُه إلا ويجد صفحاته مُحتشدة بصُور نساء منهن مُرَقِّصَة طفلها، ومنهُن حمَّالة الحطَب في جيدهَا، ومنهن المزفوفَة إلى بعلها في مَوكبٍ جنائزيّ رهيبٍ…

تحتَ صُورة التميمة يكتب بحرُوف طورُوبريَّانديَّة أنيقة: «أَطَانْ أُولُومِيكْ؟»، ومَعناها «ما اسمُ هَذا؟». فإن قالَ التلميذ: «هذا ساحر» مُنحَ صفرا، وإن قال: «هذا راهب» عنَّفَه الشرطيان قائلين: «لا تراوغنا، فهَذه ليست إجابة»، وإن كتَبَ: «هذه امرأة»، أو «هذا حمار» جُوزي أيضا بصِفر لأنه يكون، بإجابته تلكَ، قد انتهك الحكمة الطّورُوبريَّانديَّة القائلة: «كلُّ شيء ليس نفسه إلا السَّاحر والرَّاهب». فبموجب هَذه المأثورة المشيَّدَة على قاعِدَتَي الكُوجِيتُو الطورُوبريَّاندي – أنا لستُ أنتَ، إذن فأنتَ هو أنا، وأنتَ لست أنا، إذن فأنا هُو أنتَ – يُمنَع على كلِّ فرد أن يسمِّي الشيء باسمه. فإذا تعرَّض أحدُهُم، مثلا، لسرقة وسجَّل شكاية ضدَّ غريمه قائلا: «لقد سَطا على أموالي لِصٌّ»، فإنه يُتّهَم بالزَّندقة فيُحاكم ويسجَن. ولن يرُدَّ عنه هَذه التهمة آلافُ المحامين ولا معاجمُ الدُّنيا قاطبة لأنه بدَلا من أن يقول: «لقد سَطا على أموَالي لصٌّ» كان عليه أن يقولَ: «لقد تفضَّلَ مُحسِنٌ فأكرَمَنِي جَازَاهُ السُّولُولُو والوُلُولُو بخير».

إذا سوَّلتْ لك نفسك بأن تحترفَ اللُّصُوصيَّة لتصيرَ ثريا بين عشيَّة وضُحاها ظانا أنَّ القوم سيسمُّونك «حاتم الطائيَّ» أخطأتَ، لأنكَ ما تكادُ تضع يدكَ على شيء، ولو كان مجرَّد عُقال بَعيـر، وتقول لضحيَّتِكَ: «لقد تفضَّلتُ وأكرَمتكَ فاشكرنِي» حتّى لا تفطنَ إلا وقد حاصرَكَ مئاتُ الأطفال والنّسَاء والكهُول مسلحين بالعصيِّ والدَّبابيس والخناجر وهُم يصرخون في وجهكَ: «لـن تنفعكَ معنا مُراوغة. هَات ما سَرقتهُ وإلا هشَّمنا أضلعَك أو فقأنا عَينيكَ». وبالفعل، لن تنفعكَ مُراوغة لأنَّ القوم لن يخلوا سَبيلك إلا بعدَ استرجاعهم العُقال. وإن أنتَ استمسكتَ بزعمِكَ فاقرأ على عينيكَ أو رجليكَ السَّلام وجهِّز عُدَّة اللحاق بطابُور المعَوَّقِينَ والمكفوفين الذين تعجُّ بهم المدينـة.

*

*             *

إذا اعتقدتَ أن الطُّورُوبريَّانديِّين يعيشون في فَوضَى التّسمية وسوَّلت لكَ نفسُك أن توقعَ بمن شئتَ منهم لم ينقلب الأمرُ دائما إلا ضدَّكَ،لأنّك تسمياتك ستكونُ دائما مجازفاتٍ غير مضمونة فيما لا يجازف الطّورُوبريَّانديُّون أبدا بالكلام، ذلكَ أنه مهمَا يكن الإسم الذي يُطلقه طورُوبريَّانديٌّ مَّا فإنه لا يخرجُ عن إحدى قاعدتي «الكوجيتو الطورُوبريَّاندِي». تقولُ القاعدة الأولى: «أنا لستُ أنتَ، وإذن فأنتَ هو أنا»، وتقولُ الثانية: «أنتَ لستَ أنا، وإذن فأنا هُو أنتَ». وبدُون تعلم اللغَة الطّورُوبريَّانديَّة يستحيلُ على المرء أن يفهَمَ هاتين القاعدتين. والحروفَ الهجائية الطّورُوبريَّانديَّةِ هي أيضا رُمُوزٌ دينية، ولذلكَ يستحيلُ تعلمَها دون المرُور مِن الكنيسة. أمَّا عملية التعَلم فتستغرقُ تسعة وتسعين مقاما أو طقسا مُوزعة على عشر سنوات، وهُو نفس عدد الحرُوف الطّورُوبريَّانديَّة وعدد الكنَائس والأباطِرة الذين تعَاقبوا على حُكم المنطقة، أهمُّها على الإطلاق المقامان: «طقس التعذيب التمهيدي»، و«طقس الإنجاز الاستكشافي».

وفضلا عن ذلك، فللطورُوبريانديين مأثورة تقول: «الحمار يبشر بالدولار»، يحرمون تأويلها تحريما تاما، وهذا التحريم هو هو الذي يُمَكِّنُهُم من تسمِية الشَّيء الواحِد بأسماء عديدة بكيفيةٍ تجعلُ من السَّهل جدّا المرُور بالشيء والكائن مما هُو إلى ما ليس هُو ومما ليسَ هو إلى ما هُو فعلا. بعبارةٍ أخرى، إنَّ حظر التأويل هو الذي يتيحُ لهم اختزالَ المسَافة الفاصلة بينَ الأسماء والمسمَّيات وجعلها هَشَّة بحيث تصبحُ قابلة للمَحوِ باستمرار إلى أن يظهَرَ الوجه العَاري لكوميديا التسمية لكن أيضا لديكتاتوريتها، بحيث يصير المرتشي حواريا، والراشي وزيرا، واللص قديسا، والأمي «زالوم بُوبُو»، والعاهرة ماكولا والاطومَ… فعلى سبيل المثال، إذا صادفتَ في طريقكَ طورُوبريَّانديّا وهـو يسيـر رُفقة امرأة وصبي وحمار ثمَّ ابتمستَ للصبي، كان أمَام صاحبك خمسٌ وثلاثون إمكانية لتسميتك يستتبع كلاّ منها ردُّ فعل مختلف إزاء ابتسامتك بحيث يمكنه أن يقتلك بسبَبِهَا كما يمكنه أن يكتفي بالابتسَام لك ومُوَاصَلة سيره. فإذا رام قتلكَ صرَخ بأعلى صَوته إلى أن يتحلَّقَ حولكما آلافُ المارَّة وهو يُردِّدُ: «لَقَدْ رَاوَدْتَ زَوْجَتَهُ! لَقَدْ رَاوَدْتَ زَوْجَتَهُ!». ولن ينفعكَ آنذاكَ أي شيء لردِّ زعمه: فإن قلتَ: «إنما هذا صبيّ وهذه امرأةٌ» سخر منكَ المتحلقون جميعا وهم يقولون لك: «لن تفيدَك مُراوغةٌ معنا! إنما هَذه [=الصبي] امرأةٌ وهَذا [=المرأة] حمارٌ»… أمَّا إذا شاء أن يقتلعَ إحدى عينيك، فإنه يقفُ فورَ ابتسامك أمَام حِمَاره وهو يَصرُخ في وجهكَ: «أنتَ تزرعُ كراهية الإلهين في جَسَدِي. هَذا أبي…». وبالطريقة نفسها سيؤكد لك كلُّ المتحلقُون زعمه. وإذا لم تقتنع جيءَ بالسَّاحر، وبإصداره إشارة وَاحِدة بإحدى عينيه للحمار سيصرُخ هذا الأخيرُ في وجهك قائـلا: «إنما أنـا أبـُوه! إنما أنـا أبـُـوه!»

*

*             *

تقولُ المأثورة الطورُوبريَّانديَّة: «الكلمة حُدُودٌ: حدٌّ للسَّاحر، وحدٌّ للـرَّاهب، وحدٌّ على ناطقها». ولترجمة هذه الحكمَة إلى حقيقةٍ عمَلية يومية شيَّد الطورُوبريَّانديُّون نِظاما تعليميا لا يُضاهيه أيّ نظام على وجه البسيطة، رَصَدوا له الأموَال الطائلة والعُقول المدبِّرة عملا بما جاءَ في سِفر المأثورات:

«لو أنفقتَ في تعليم أبنَائك من المال والذّهب والفضَّة ما لو جعَلتَه في كفة وجعلتَ الأرض في أخرَى ورَجَحَ المال والذّهب والفضَّة وما رجَحتِ الأخرَى لما أنفقتَ مِثقال حبَّة مما كلَّفَكَ السُّولُولُو والوُلُولُو بإنفاقه في سَبيل عِيالك». ولنر بَعضا ممَّا يُكلفه الطفل الواحدُ خلال مَرحلة تعليميةٍ واحـدةٍ:

فعندما يجتازُ التلميذ بنجاح «طقسَ المرأة المعلَّقَةِ في الهواء» تؤدَّى عنه ضريبة بقيمة خمسة دُولارات للتّسجيل بالقسم الموَالي، ويُشترى له خُفَّا جلدِ تمساح بثلاثة دُولارات وتسعين سَانتسا، وقلنسوة جِلد ماعز بدُولارين ونصف، وتنّورة حريرية بسَبعة دُولارات، كما يؤدَّى عنه ما مجموعهُ عشرة دولارات لأجل بُخور وأناشيدَ دينية وصورة تِذكارية تؤخَذ له مع السَّاحر لحظة نطقِه بما سَيصير الطفلُ إياه عندما يكبُرُ. وبذلكَ يبلغ مجموعُ ما يؤدَّى عن التلميذ خِلال هذا الطقس الانتقالي وحدَه أربعة وثلاثون دُولارا وتسعُون سانتسا. وهُو – كما يقول الطّوروُبريَّانديُّونَ أنفسهم – لا يعدُو مجرَّد مبلغ رمزيّ لأنه ما يلبث أن يتضَاعف بحسَب المؤسَّسة التي سيلجُها الطفل تبعا لكلمة السَّاحر: فإن قالَ له مثلا: «اذهب فإنكَ وزيرٌ» التحق بمدرسة ركوب الحمِير»، وإن قال له: «اذهب فأنت راهبٌ» وَلَجَ معهدا للزراعة، وإن قالَ له: «اذهب فأنت فاجرٌ» التحق بدَير للرُّهبَان، وإن قال له: «كن جَاسوسا» التحق بالمعهد العالي للحِلاقة… ولكلِّ مُؤسَّسة شُروط ومبالغ ومُستلزمات مُدونة في كتاب. فإذا قيل لتلميذٍ مثلا: «اذهب إلى مَدرسة رُكوب الحمير»، تعيَّن عَليه أداء خمسين دُولارا للتسجيل، وشراء سكَافَاندر بلاستيكي بمائتي دُولار، واقتناء عشر ريشاتٍ طاوُوس بعشرة دُولارات، وتوقيع صحيفة يلتزمُ فيها بأن يُحضِر على رأسِ كل شهر حمارا بقيمة مائة دُولار، ويؤدي خمسمائة دولار شهريا – طيلة السَّنوات العشر التي يَستغرقها التكوين – لأجل بَاقي مُستلزَمَات تَحصِيل العُلوم والمعَارف من بُخور وأدوية وحَلويات وعصيّ ودَبابيس… وهَذا المبلغ هُوَ الآخرُ يَتقلبُ بتقلب مِزاج السَّاحر، وأحوَال الطقس، ومَدِّ البحر وجَزره، ومَا ستكاشف به حُرُوف سِفر المأثورَات الطفل من مُعجزات…

هَكذا، فعامَ نزَلت أمطارٌ طوفانية وأتلفت المرَاعي وغلاّت الحبُوب والأشجَار قفزَت الفاتورة إلى عَشرة ألف دُولار شهريا. فلمَّا عجز عن أدائها آباء التلاميذ أجبِرَ الحِوَاريُّونَ أنفسُم على تسدِيدِهَا، فسَدَّدُوها إلى أن عَجزوا، فلما عجزُوا ألزِمَ بأدائها التجَّار والحرفيون والفلاَّحون، فأدَّوها إلى أن اختفَى النقدُ من التدَاوُل، فصارَ طعامُ القوم يوميّا هو كِسرة خبز محشوَّة بمعجون يُشبه الشّوكولاطَة، يُوزَّعُ عليهم نصفهَا في الصبَاح الباكر والنصفُ الآخرُ قبيل النوم، وكلمَا اشتكوا منَ الجوع قيـلَ لهم:

«ابشروا فأموالكم في الضفة الأخرى. وبفراغ بطونكم إنما خفّتِ الأرضُ. ألم يات في سفر المأثورات أنك: “لو أنفقت في تعليم أبنائك من المال والذهب والفضة ما لو جعلته في كفة وجعلت الأرض في أخرى، ورجح المال والذهب والفضة وما رجحت الأخرى لما أنفقت مثقال حبة مما كلفك السُّولُولُو والوُولُولُو بإنفاقه في سبيل عيالك؟”».

*

*             *

إذا اعتقدتَ أن الطورُوبريانديين يُقصِّرُونَ أيَّما تقصير في صَرف الأموَال في سَبيل العِلم أخطأتَ، لأنَّ ما يُنفق على التلاميذِ لا يعدُو مجرَّد حبَّة رمل في صَحراء إذا ما قيسَ بما يُنفق في بناء المؤسَّسات. فالمدرسة الطّورُوبريَّانديَّة لا تشرعُ في تلقين العِلم ما لم يأذَن لها ساحرٌ أو راهبٌ بذلكَ. وهَذا هو السَّبب في كون أزيد مِن نِصف المدَارس لا زالت عَذراء ما وَطأها تلميذ أو حِوَاريٌّ قط مع أن مَلايين الدُّولارَات قد أنفِقَت في بنَائها.

وإذَا ظننتَ أن السَّحَرَة والرّهبان يظنُّون على الأمَّة بالتدشين واعتبرتَهم كسَالى أو بخلاءَ أخطأتَ، لأنَّ الدُّعاء الطّورُوبريَّانديَّ يقولُ: «وَقِنَا عُقُوبَةَ التَّدْشِينِ». وبالفعل فالتّدشِينُ عُقوبة لا يمكنك أن تقدِّرها حقّ قدرها، أو تحس بثقل جسامتها، مالم تكن سَاحرا أو رَاهبا أو أبا طورُوبريَّانديّا. فالمدشِّنُ لا يأذنُ بفتح مَدرسةٍ إلا بعدَ أن تكاد رُوحه تزهق من جرَّاء ما يلحَقُ به – هـو – وما يُلحِقُهُ بالقوم من ضُرُوب التعذيب. فإذا قضِيَ الأمرُ بتدشين مُؤسسة خلِّدَ طَقسٌ عَلى امتدَاد ثلاثين يوما ينتقلُ الساحر طِوالها إلى حَالة ثانية فيرَى أحلاما مُرعبة لا يُبدِّدُ فزَعَها إلا كتابة مِئات الطّلاسِم، ويشتهـي فاكهة يَقتضي حلُّ لغز أسمائها صرفَ أيام طويلةٍ في إنجاز مُعَادلات رياضية قاسِية، ويُكابد أوجاعا عَديدة في الرَّأس والمفاصل، ثم يعُود إلى طور الصِّبا فيمتنع عن الكلام، ويَطلبُ الرَّضَاعَة وقِطع حلوى، فترضعُهُ أمُّـه وتحملـه على ظهرها وترَقِّصُهُ، كما كان صَغيرا، وهي تردد قول الأعرابية القديمة:

يَاحَبَّـــذَا رِيــــحُ الْوَلــَدْ    رِيـحُ الْخُزَامَى فِي الْبَلَـدْ

أَهَكَـــذَا كُــــــــلُّ وَلَـــــــــدْ              أَمْ لَـمْ يَلِـــدْ قَبْلِي أَحَــدْ

يجتازُ ذلكَ كله والقومُ يستحملونه حتى إذا حَان صُبحُ التدشين واقتربَ موعدُ نطقه فرِشَت طرُقات مُرُوره بالقطن والحرير، وتَعَالت زغاريد النساء، وَرَدَّدَ القومُ نشيدا دينيا تتخلله لازمَة: «وَقِنَا عُقُوبَةَ التَّدشِين». ومَا تطأ قَدَماه المدرسة المرَاد تَدشينها حتى ينطقُ بكلمةٍ – وحي لا مردَّ لقضائها، يُنَزِّلها عليهِ الإلهان السُّولولو والوُولولو تنزيلا. فإن قالَ: «وحشة المكان كدَّرتِ الخواطرَ» هُدِّمَت البناية بكامِلها، وإن قال: «هَيهَاتَ هيهاتَ أين مني ومنهم؟!» هُدِّم نصفهَا، وإن قال: «رُقناهُم وراقونا لولا أن حَالَ البينُ بيننا» هُدِّمَت أسوَارُها وبعضُ حجراتها… وما يكادُ الساحر يعودُ إلى بيته حتى يكون ما أمَرَ بهدمه قد تحوَّل إلى رميم ليُعَاد بناؤه من جديد وتسجَّلَ المؤسسة في قائمة انتظار التّدشِين، وتظلّ مُغلقة سنوات طويلة حتّى إذا حَان وقتُ افتتاحها جاءَ ساحرٌ أو راهِبٌ آخر فأمـرَ بمحوها أو هَدم نصفها أو رُبعهَا تبعا للكلمَة الوحي، وكلّفَ القوم بإعادةِ نصبها من جَدِيـد…

لإعَادة تشييد ما هدَّمهُ راهبٌ أو ساحرٌ يفرضُ المخزن الطورُوبريَّانديُّ على الأهَالي جزياتٍ وإتاوات وضرائبَ من الدِّقة والتعقيدِ بحيث يستحيلُ على المرء أن يتملصَ من أدائها أو يتحقّقَ من حسَاباتها. فمساءَ كلِّ يوم يمرُّ الجابي ومعهُ فاتورة قيِّدَ عليها ما قَام به كلُّ فردٍ من أفراد العائلةِ الواحدة طِوال النهار بأمَانة متناهيةٍ لا تفلتُ من قبضتها شاذّة أو فاذّة. وبجانب الفعل (يُقيَّد) المبلغ الواجب أداؤه ووُجُوه صرفه في إعَادة التّعمِير، فيكتبُ مثلا: «تبوَّلَ ربُّ البيت لترا ونصفا يؤَدَّى عنهما خمسُون سانتسا لشِرَاء نِصف قِرميدة»، أو «رَضع طفلكم يومَه مرَّاتٍ أربع، بمعدَّل رُبع لتر في المرَّة، يؤدَّى عنها عشرون سانتسا لشرَاء سنتميترين حَدِيدا (نوعُ كذا، سمكُ كذا)»، أو «جلـسَ ابنكم الأكبرُ يومَه في المقهى الفلاني ساعاتٍ خمس واحتسَى فنجان قهوَة يؤدَّى عنهما عشرة سانتسات لشراء رُبع كيلوغرام جبسا»… وأسفلَ الفاتورة تكتبُ فقرة من سِفر المأثورات بحرُوف طورُوبريانديَّة أنيقة تقولُ: «لو أنفقتَ في تعليم أبنَائكَ من المال والذّهَب والفضَّةِ ما لو جعلتَهُ في كفّة، إلخ.» (المأثورة)، فمَا يُنهِي صاحبُ البيت قراءَتها حتى يُسدِّدُ للقابض المبلغَ المطلوبَ وفمهُ مُبتسِمٌ ويداه ترتعشان خشوعا وخَـوفا.

في الواقع، إنَّ ما يُثقلُ كاهلَ بيت المال الطّورُوبريَّاندِيِّ اليوم هُو «آفــة» التدشين. فلولاَ ما تقتضيهِ هذه العُقوبة من هَدم وإعادة بنَاء للمكان الواحِد عَشَرَات المرَّات لكان الطّورُوبريَّانديُّونَ اليوم أغنى سُكان الأرض ولتصدَّقوا على الشُّعُوب قاطبة بالتيـن، والعِنب، والزَّيتـون، والعَسل، والخمر، والسَّمن، ولحوم الضأن والخنزير إلى أن لايبقى على وجه البريـة جائـعٌ أو متسـوِّلٌ.

*

*             *

مَا ترَاءت لي المرأة المعلقة في الهوَاء حتَّى أصبحت فاتوراتُ الضَّرائب تنهملُ عليَّ كالشتاء إلى أن خَامرني الشكُّ فيما إذا كان الرَّاهِب قد أخطأ في إنجاز الطقس فحوَّلني إلى ضريبةٍ بذل أن يحوِّلني إلى طفل عمرُه سبع سنوات: فمهمَا كنتُ أفعل إلا وكانتْ تأتيني ضريبةٌ على ما فعلتُ، تأتي على شَكل فاتورة مملوءَة بإحصائياتٍ في منتهى الدقة،لم أعلم إلا فيما بعد أنهَا كانت من إنجاز آلاتِ رقابة شديدة الحسَاسية مُعلقة خفية في سائر الأمكِنة العُمُومية والخصوصية. فعندمَا كنتُ أغادرُ المنـزلَ كان الجابي يأتيني بفاتورَة ضريبة الخرُوج وقد قيِّدَ عليها، فضلا عَن الثمن، طول المسَافة التي مشيتها، ومجموع المسَاحة التي شغلتها قدَمَاي من الطريق وأنا أمشي، وكمية الأوكسجين التي استنشقتها… وعندَما كنتُ أعرض عن الخروج كانت تَأتيني ضريبة القعُود وقَد قيِّدَ عَليها، بالدِّقة السَّابقة، مجموعُ السَّاعات التي قضيتهَا في المنزل: سَاعات اليقظة، وسَاعات النوم، وسَاعات التفكير…، عندما كنتُ أهملُ اللحية كانتْ تأتيني ضريبة الإهمَال، وحينمَا أحلقها تأتيني ضَريبة الحِلاقة. ولما نَفق كلُّ ما كنتُ أملكه في الضَّرَائب أكلتُ الهوَاءَ فجاءت ضريبة الهوَاء ثمَّ بعتُ ملابسِي فجاءت ضريبة العَـراء…

*

*             *

إذا نصحتَ الطورُوبريَّانديِّينَ بالتَّخلي عن طُقوس التَّدشين لتوفير مخزُون بيت المال لما فيهِ صلاحُ الأمّة ردُّوا على اقتراحكَ لا محالة بإحدَى طـريقتين: فإما يتهمُونكَ بالزَّندَقة، فيُحاكموكَ ويودِعوكَ السِّجن، أو يُفحِمُون زعمَك منَ العصا بما لا سبيل لردِّه إلا أن تتراجَع عن قولِك. وفي الحالةِ الثانية ما أن تفاتِحَهم بنصيحَتك حتى يَضحكوا إلى أن يستلقوا على أقفائِهم ثمَّ يقولون لكَ: «حسنا صنعتَ بفتحِك عُيوننا على ما ظلت عنه مُغمضة منذ قرُون. لكن تعالَ نختبرك أوَّلا إن كنتَ من الصَّادقين!»، فيُطلقوا البريحَ في المدينة ليُشيعَ أن حان وقتُ افتتاح مَدرسة كذا إلى أن يحتشدَ آلافُ التلاميذ والنسَاء والكهُول والمدَرِّسِينَ، فيُقَالُ لهم: «هُو ذَا السَّاحر الذي أوحيَ إليه بتدشين مُؤسَّستكم. فقد مَضى على وحيهِ شهرٌ وما بقي إلا أن يَفتح البناية ويبُث في أمر هَدمها أو بقائها، فاحضِروا المعاولَ والفؤُوسَ والمطرقات والسَّواطير وجهِّزوا البغَال والحميَر لحمل الحطَام، لكن احملوا أيضا الرِّيشات والحِبر والدَّفاتر والمنشفات لطلبِ العلم، فعسَى أن لا يُـوحَى لهذا السَّاحر بهَدم طوبَةٍ واحِدَة…»، ثمَّ يسُوقك الجمعُ إلى باب المدرَسَة حتى إذا وصلتَ سلمُوك مفتاحا وقالوا لكَ: «هيا، افتحهَا إن كنتَ من الصَّادقين! هيَّا، افتحها إن كنتَ من الصَّادقين!»، لكنكَ أينما تدِرِ المفتاحَ لا تجد أمَامكَ إلا بابا ضخما مُوصَدا لا يتزَحزَحُ قيد أنملة، فتقعُدُ خاسِئا، خَجولا، حَسيرا، كليما. وهُنا يثِبُ عليك القومُ، بعضهم يلوي على عنقك يريد خنقك، وبعضُهُم يهوي على رجليك يروم كسرَكَ…، فلا يفلتك من الموتِ إلا نَهنَهَة البكاء وطلبُ الصَّفح عمَّا اقترفتَ من إثم. وسببُ ذلك كله أنكَ، بما زعمتَ أنه نصيحة، إنما تكون قد أتيتَ ذنبا عظيما لأنك أهنتَ السُّولولو والوُولولو، وأنكرتَ ما لا يجرُؤ على إنكاره إلا زنديقٌ: فهما اللذان يُطهِّران الدراجة من الدنس الجنسي. ولولا اضطلاعهما بهذه المهمة لكان ما من بكر امتطت دراجة إلا نزَلَتْ منها مفترعة، وما من امرأة ركبتها إلا ونزلتْ منها حُبلى حتى وإن كانت مُطلقة منذ عُقودٍ أو كان يفصل بينها وبين زوجها آلاف الفراسخ… وهذا هو السبب في كون الرجل منهم متى عادت ابنته إلى البيت ثيبا أو رجع – هو – من سفر طويل ووجد امرأته حُبلى قال لها: «هل ركبت دراجة؟»، فإن أجابت بالنفي قتلهَا…، وإن قالت: «نعم» ذهَبَ إلى صاحب الدراجة ثمَّ سأله: «ما قولك في السُّولُولُو والوُولُولُو؟»، فإن قال: «هُما صَنمان من حَجَر» أيقن السَّائلُ أنَّ قريبته وَقَعَت ضحية فأخلى ساحتها، وإن أجابَ صاحب الدرَّاجة قائلا: «أحدُهُمَا عن يميني وثانيهمَا عن يسَاري، وأنَّى توجَّهتُ توجَّهَا معي»، أو قال: «شأنهمَا عظيمٌ مَهما بدا من عمَى أحدهما وعَرَج الآخر» أيقنَ السَّائل أن ابنته أو زَوجته قد خَانته فيجلدُها إلى أن تبوحَ باسم شريكها، فيقتلهُما معا.. ثم إنَّ السُّولولو والوُولولو هما اللذان يُتوِّجان ما ينهلهُ الحِواري من عُلوم المشايخ باللقاء مَعه والنفث في يدَيه ليكتسب قدرة الكتابة بسرعة الضوء بحيث يصير قادرا على إنجاز الدرس وهو يُدَوِّنُ كل مَا يقوله ويرَاه دُون أن يرتبكَ، فتراه ينظر إلى التلميذ ويسأله وينصتُ إلى الإجابة ويدُه لاوية على القلم تدَوِّنُ ذلكَ كله بمنتهَى الدِّقة والأمَانة، فتنتهي الحصَّة وتجده قد مَلأَ مائة صَفحة أو أكثر بأسماء التلامِيذِ، وأحسابهم، وأنسَابهم، وعَناوينهم، وأرقَام أحذِيتهم، وعَناوين الحاناتِ، والمطلقات من النسَاء، وأثمنة الموَاد الغَذائية… والحقّ أنهُ لولا هَذه السُّرعة لكَانت الحياة الطورُوبرياندية من العُسر بحيث يبحث المرءُ عن عُود ثقاب فلا يَعرف أين يجده، فأحرَى أن يفكرَ في البحثِ عن شغل أو زَوجة أو مَسكن أو ملبس… وبكلمة واحدة، وكما يردِّد الطورُوبريَّانديون أنفسهم، إنَّ التعليم كائنٌ روحُه السُّولُولُو والوُولُولُو وجسمه سِفرُ المأثورات، فإن شكَّكتَ في الإلهين أزهقتَ روحَه، فتعذر ليس تدشين المؤسَّسات التعليمية فحسب، بل وكَذلكَ الكلام بدَاخلها بحيث يتحولُ المدرسون والأطفالُ إلى حُشود من الصُّم البكم، وإن رُمتَ استبدَال سِفـر المأثورات بكتاب آخر أصاب الحوَاري مسٌّ من الجـنِّ وصار التلامِيذ لا يكتبـونَ في دفاترهـم إلاّ بَياضا.

*

*             *

إذا اعتقدتَ أن الطورُوبريانديين لا يتحسَّرُون على مَا تلتهمُه مؤسَّسَاتهُم من أموال ولا يعمَلون على صَلاح أمر التدشين أخطأتَ، لأنهم لم يذّخِرُوا جهدا في تغيير الوضع الحالي بما تيسَّر لهم. فالمؤسَّسة التي يفلح رَاهبٌ أو ساحرٌ في فتحها دُون أن يأمُر بهَدمهَا يعتبُرونها من المعجزَات، فيبوِّؤونها مَكانَة ضَرِيح أو كَنيسةٍ، ويمنحونها لقبا تشريفيا، ويقدِّمُون إليها الهبَات والقرابينَ أمَلا في أن تنقلَ عدوى الانفتاح إلى سَائر المؤسَّسَات المغلقةِ، ثمَّ يَعمَدون إلى بيع مُعظم حُجُرَاتها إلى أهل الحِرَف قاطبة، من حدَّادين، ونجارين، ونحاتين، وإسكَافيين، .وما إلى ذلك. بأسعَار باهضةٍ لما ستذرُّه على أصحابهَا من ثرواتٍ خيالية لأنَّ الموادَّ التي تنتج بداخل هَذه الحجرَات المبَاركة تتضاعَف من تلقاء نفسِها بسببِ ما يتلفظ به الحِواريُّون والتلاميذ من أسماء، فترى الحدَّاد يأتي في الصَّباح ويصنعُ سيفا واحدا ثمَّ يغلق محله وينصرف ليقضي يومَه نائما، ثمَّ يعود في المسَاء فيجدُ المحل قد امتلأ عن آخِره بالسيُوف من كلِّ الأحجام والأشكَال، فيبيعُها ويقفل إلى أهله وهُو يتعثرُ في جلبابه فَرحا وسُرُورا، وترَى صَاحب الدَّجاج يأتي عند طلوع الشَّمس حَاملا بَيضة دَجاج يلقيها في الإصطِبل، ويعُودُ بعد الغرُوب، فيجدُ المكان مُكتضّا بذوات أجنحَة من سَائر الأصناف… وهَذا هُو السَّببُ في ما يُصمِي أذنيكَ من أصواتِ مطرَقاتٍ، وخـوَار، وصياح، ومُوَاء… عندما تكون جالسا في أحدِ الفصُول الطورُوبريَّانديَّة تتابعُ الدَّرسَ…

مَهمَا تكن الكلمة التي ينطقُ بها السَّاحرُ – بعدَ اجتياز التلميذِ «طقس المرأة المعَلقة في الهوَاء» – فإنَّ الطفل لا يفطنُ بعدَهَا إلا وهوَ داخلَ حجرةٍ حيث يتعاقبُ على تدريسه طابورٌ من الحِواريين يتولونَ طوال سنواتٍ عشر شَرحَ فقرة واحدةٍ من «سفر المأثورات» لا يتجاوزُ عددُ سُطورها العَشرَة عادة، أي بمعدَّل سطر واحدٍ في العام. وللإشارة، فإنَّ السِّفر هو من صِغر الحجم بحيث لا تتعدَّى صفحاته الثلاثين، طولُ كل واحدةٍ منها حوالي ستّ سنتيمتراتٍ وعرضها زهاءَ أربعة. وقد كانَ صغرُ الحجم، هَذا، مصدَر بلبلةٍ لي طيلة مدة لا يُستهانُ بها، خلالها كنتُ أتوهَّم أن الأمرَ يتعلق بكتيِّب «الحصـنِ الحَصِيـن» الذي يُبَاعُ في كثير من المدُن المغربية في الأسوَاق القروية والمحطّات الطرقية للمسَافرين. ولم يتبدَّد وهمِي إلا لحظةَ سلمني طفلٌ طورُوبريَّانديّ نُسخَة من السِّفر كي يُنقذني من موتٍ شبه محقق، فوجَدتُ خطه شبيها بالخط الهندِيِّ، ومن ثمَّ أيقنتُ أن الأمرَ كان يتعَلقُ بكتاب طورُوبريَّانديٍّ أصيـلٍ.

الاخبار العاجلة