إذا اعتقدتَ أن هناك خللا بين حجم سِفر المأثورَات وعدد الأعوَام التي تستغرقها الدِّراسَة، فظننتَ أن الطّورُوبريَّانديِّين يضحَكون على ذقون صِغارهم أخطأتَ، لأنَّ قيمة السِّفر عندَهم تفوقُ قيمة الكتب المنزَّلة عندَ أهل الدِّيانات التوحِيديَّة: فهو، عَلى صغر حَجمه وضآلة عَدد صفحاته، يحوي عُلومَ ما كان، ومَا هُو كائنٌ، وما سيكونُ. وهو وحيٌ أوحَى به السُّولُولُو والوُولُولُو إلى السَّاحر والرَّاهِب في أزمنة مختلفة وأمكنَة مختلفة بروَاية واحدَةٍ لا يتناطحُ حَولها اثنان. ثم إنَّ لكلِّ كلمة من كلماته مَعاني ثلاثة: مَعنى ظاهرٌ، ومعنى باطنٌ، ومعنى يتجلى للقَارئ لحظةَ القرَاءة. هَكذا، فإذا فتحتَ الكتابَ ووقعتْ عيناك على كلمَة «لـصّ»، مَثلا، كان مَعناها الظاهرُ هو «سَارقٌ»، ومعناها الباطنُ هو «وَزيرٌ» أو «حاكمٌ»، أما مَعناها الثالث فهُو ما سيتجلى لكَ. فقد يتراءَى لكَ في «فقير» أو في «صُعلوك»، وإن كانَ معَك قارئٌ آخر فقد يتجلى لهُ في «حكيم» أو «قدِّيـس»، وإن وُجدَ ثالثٌ فيمكنُ أن يُشرق له المعنى في ما ذَهبتمَا إليه أو في شيء آخرَ، كمَا يمكن أن يتجلى لهُ فيكما بالضَّبط، فيقولُ: «ما المرَادُ بهذه الكلمة سِوى «لصّ»، وما أرى لصّين غيركما»، ثم يلقي عليكما القبض ويُودعكما السِّجنَ لتجلَدَا إلى أن تقِرَّا بما نسِبَ إليكمَا. وعلى مَعاني التجلي تقومُ الحياة الطُّورُوبريَّانديَّةِ بكاملها، ولذلكَ فهم يُردِّدُون دائما هذه القولة المختومَة بدُعاء:
«طُوبَى ثم طُوبَى لاثنين: تلميذٌ جاءته تميمتُه يومَ الامتحان بصُورة السَّاحر أو الرَّاهب فكفته شرَّ الإجابَة، وامرئ تجلى لهُ مَعنى الاسم فأصَابَ الإجابَة. فلتجعَلاني من هَذين – طالما حييتُ – حتى لا أودَعَ سجنا ولا يُجعَل على فمِي كمَامة أو تمرَّ على عيني سحابة».
وبالفعل، فإذَا كنتَ من أهل التّجلي، وأتيتَ فاحشة مهمَا عظم قدرُها كانَ بمتناولكَ دائما أن تفلحَ في إفحَام آلاف المحامِينَ بمفردك وردِّهِم على أعقابهِم خاسِرينَ، وقلب التهمَة على مُتهمك بكلمةٍ واحدةٍ تطلقها عليه كالرَّصَاص فتدخله السِّجن وتخرجُ أنتَ حرّا طليقا. وقد رأيتُ أحدهم بأمِّ عيني كَان قد ضُبطَ متلبسا فوقَ شقيقتهِ، فقيلَ له: «لقدَ غشيتَ محرما، وأنتَ تعلمُ أن شريعتَنا تعاقبُ على ما فعلتهُ بالإعدام شنقا»، فلمَّا حان موعدُ قتله وتحلّقَ حوله آلافُ الأطفال والنسَاء والقضَاة نزلَ عليه وحيٌ فصرَخ فيهم قائلا: «لن يقتلني أحَدٌ ما لم يَقتل نفسَهُ أوَّلا. فأنا لم أكن فوقَ أختي، بل كنتُ فوق زَوجتي. أليسَ آدم وحوَّاء أبوانا جميعا؟». وماَ أنهى كلمتَه هذه حتى أخلَى القومُ سبيله وتفرَّقوا من حَوله مرعوبيـنَ.
وفوقَ ذلكَ كله، فمحتوى سِفر المأثورَات يتغيَّر بتغيُّر مآرب القرَاءة، وبذلكَ لا يقرأ شخصَان موضُوعا واحدا في الوقتِ نفسِه، إذ يحدثُ دائما أن يجلسَ فردان جنبا إلى جنبٍ، ويمسكان نسخة من السِّفر، فيفتحَان الصَّفحة الخامسَة، مثلا، غير أن لا أحدَ منهما يرَى ما يراه الآخرُ، فيقول الأوَّل: «هذا كلامٌ في تجَارة الماعز»، ويقولُ الثاني: «هَذا قولٌ في آدَاب النكَاح». ثمَّ ينصرفان مَعا فتعرضُ الصفحة نفسُها على شخصين آخرين، فيرَاها الأوَّل: «حديثا في مَنطق الطير» ويجدُها الثاني «كلاما في الدرَّاجة أو في رُكوب الخيل»… وبذَلكَ أيضا يصحُّ الاعتقاد الطُّورُوبريَّاندي الذي يرَى أن سِفر المأثورات هُو أبو الأسفار جميعا، فيه كلّ ما وَصَل إليه الإنسَان في التنجيم والطبِّ والحكمةِ والتاريخ والفِيزياء والكيمياء، وما سيصلُ إليه في البيولوجيا، والطاقة الشَّمسية، والمعلوماتية، وما إلى ذلك.
*
* *
إذا التمستَ تفسيرا لاختلافِ الأقوَال الأربعَة السَّابقة فعجزتَ وقلتَ: «ما سفرُ المأثورات سِوى هُراء يعبث بعُقول قوم سُذَّج مجانين» أخطأتَ، لأنَّ ما حال بينكَ وبين الفهم إلا جهلكَ بما كانَ يملأ رأسَ كلّ قارئ من القرَّاء الأربعَة لحظة القراءة: فأوَّلهم كانَ يمتهن تجارة الماعز وكانَ على وشكِ عقدِ صفقة بيع فجاءَ يستشيرُ الكتابَ، وثانيهم كانَ أعزب شغله أمرُ الزَّوَاج وقِصَر اليد وفرَاغ الجيب فأتى يبتغي زوجَة صَالحة، وثالثهم كَان صيَّادا وكان قد اصطادَ محرما فجاء يطلبُ المغفرة لمِا اقترفَ من إثم، ورابعُهم كان أبا لتسعة أولادٍ فأراد أن يَشتري وسيلةَ نقل تتيحُ له أن يحملهُم جميعا فوقها فاحتَار في أن يشتري حِصانا أو درَّاجة فأتى ليبث في المسألة. والوَاقعُ أنني ما كنتُ لأهتدي إلى هَذه الحقيقة لولاَ أن هدَانِـي إليها أحدُ صبيانهم:
فطِوَال الأشهر الأولى من مقامي بينهُم، حيثُ كنتُ أشتغل حِواريا في مادَّة الترجمة بالمعهد الدَّولي للغات، كنتُ كلما تناولتُ وَجبة غذاء أو عَشاء وتمددتُ فوق الفراش لأخلدَ للنوم سمعتُ دَقا قويّا بالباب، فأقومُ مذعورا، وما أكادُ أفتح البابَ حتى يُدَاهِمُ البيتَ رجلٌ من الأهالي يرتدي جلبابا صُوفيا وبرفقته قطيعٌ من الأجسَاد الملفوفة بعِنَاية متناهيةٍ داخل مآزر سُود حَجَبَت العيون والأنوف إلى أن صَار الناظرُ يتوهَّم أنه ما يرى إلا أشبَاحا أو عفاريتَ… يُسَوِّي الزائر جلسته ويضحكُ إلى أن يستلقي عَلى قفاهُ ثمَّ يبددُ فزعي قائلا: «لقد جئتكَ بمن سيملأنَ بالسَّكينة قلبكَ، ويُزَينَّ بالصالحات ذِكرك، ويكتمنَ عن الأعداء عيبَك، ويرزُقنَكَ ذريَّة صالحة (…) جئتك بزيجاتٍ صالحاتٍ فاختر منهنَّ ما طابَ لكَ». وأمام ارتباكي يُخرجُ العارضُ من ثنايا جلبابه كيسا امتلأ عن آخره بأورَاق نقدية مِن فئة مائة دُولار، ثمَّ يحثني: «لا تكثرت للمَهر. إن شئتَ امرأة واحِدَة هاتِ خمسمائة دولار أرجعها لكَ فورا ومَعَهَا عشرة ألف دُولار زيادة. وإن شئتَ اثنتين فهاتِ ألف دُولار أرجعها لكَ حالا ومعها عشرُون ألفَ زيادة. وإن شئتَ ثلاثا فهاتِ ألفا وخمسمائة ورقة…». تغرينِي الصَّفقة فأستجيبُ لعرضِه قائلا: «أردتُ كذا زَوجة، لكن حتى أكون على بيِّنة مما أنا مُشتريهِ، رَخِّصْ لإحداهُن أن تزيـحَ المئزرَ عن وجههَا لأرَاهَا وتراني»، فما أكادُ أنهي طلبي هَذا حتى تنتاب الرَّجل سَورَة غضبٍ فيسُوق قطيعَه ويغادر المنزلَ وهُو يصرُخ: «لن أزوِّجَ نِسوَتي رجلا فظا غليظا يلزمهـُن بحجب بهائهـنَّ…». أعودُ إلى الفِراش فما تكادُ عيناي تغفـوان حتى أسمع دَقّا أقوَى من الأوَّل وأفتـح البَابَ فإذا بالزَّائر، هذه المرَّة، رجُلٌ من الأهالي يرتدِي بذلة أنيقة وقبَّعَة رياضية، ومعَه قطيعٌ من النسَاء السَّافرات. يندفِعُ الجمع داخِل المنزل، فتتجرَّد البناتُ من ملابسِهنَّ الفوقية، فإذا بهنّ حِسَانٌ أشرقت وجُوههن، وتدلّت شُعورُهنَّ، وانكشفَ مَا بين نهُودهِنَّ وسيقانهن، فيقعُ فضاء البيت تحتَ ضغطِ رَوائح مَراهم التجمِيل، والتبغ، والندِّ، والجعَّة، والمسكِ، إلى أن يسيلَ لعابي. غير أن الزَّائر يرسِلُ قهقهة إلى أن يستلقي عَلى قفاهُ ثم يُفاتحني في العَرض نفسِه: «قد جئتكَ بمن سيملأن بالسَّكينة قلبَك، ويُزينَّ بالصَّالحات ذكرك، ويكتمنَ عن الأعدَاء عيبَك، ويرزُقنَكَ ذرية صالحة (…) جئتك بزيجاتٍ صالحاتٍ فاختر منهُنَّ ما شئتَ». وقبل أن أتكلمَ يخرج العَارض كيسا ككيس صاحِب الجلباب، ثمَّ يستعدُّ لعَرضِ صفقة المهر، غيَر أني أقاطعُه صَارخا في وجهِهِ: «لا نسَاءَ أريدُ، ولا دُولار، ولا عيال، ولا يحزنونَ. امسك عاهِراتك واخل سبيلي». ومَا أنهي صرختِي تلكَ حتى تنتاب الزَّائرَ سَوْرَة غضبٍ أقوى من سَورَة صاحب الجلباب، فيسُوق قطيعَه ويغادر المنزلَ وهو يهدِّد ويتوعَّد قائلا: «لقد قذفتَ نسائي وشتَمتَهم وهنَّ صالحاتٌ محتجباتٌ. سأسجِّلُ حالا شِكايـة ضدَّكَ». وبالفعـل، يتجهُ إلى أقرب مَكتبٍ للشرطة، فيدخلـه بوجهٍ تحجُبُهُ سَحَابة من الغَيظ الكثيفِ ثم يُودِع شكايـة أو شِكايتين ضدِّي.
كان عددُ الشكاوي التي سُجِّلَت ضدِّي قد بلغ خمسمائة شِكَاية، وهُو النصَابُ الذي يعرِّضُ صاحبهُ، في نصوص القانون الطُّورُوبريَّاندي، لعُقوبة الإعدام حَرقا دون المرُور بأيّ محاكمة، وكنتُ أتهيأ لكارثة محـوي لما سمعتُ بباب المنزل نقرا خَفيفا أيقنتُ مَعه أن الزائر ما كانَ سيكون في تلك المـرَّة إلا صاحِب المحرقة، وأنّه قد عمد بتلطيفِ طَرقَتِهِ إلى التمويهِ لكي لا أفطنَ إليه وأمتنع عن الخرُوج. غيرَ أن ذلكَ اليقين سُرعان ما تبدَّد، إذ لم أجدني أمامَ رجُل كما ظننتُ من قبل، بل وجدتني قبالةَ صَبِيّ لا يتجاوزُ عُمره حَولا واحدا. اندَفعَ الطفل إلى داخل المنزل، ثمَّ رمَى مصَّاصَتَهُ وأخرَج من جيبه كتيِّبا صغيرا، قالَ إنه يُدعَى «سفر المأثورَات» وإنه سيخلصُني من ورطَتي، فناولني إياه وأرَاني كيفية استخدامِه…
نويتُ الزواج من امرأة طورُوبريَّانديَّة، وتوضأتُ وضوء الهواء، وأردفتهُ بوضوء الماء، ثم أنشدتُ نشيدا دينيا كانَ الصبي قد حفَّظني إياه، ثم فتحتُ السِّفر فكانَ ما من صفحة تقعُ عليها عَيناي إلا وأجدها عبارة عَن رسالة مُوَجَّهَة إليَّ، قيِّدَ عليها اسمي، وعُنواني، وسِنّي، ومِهنتي، وعدد عُرُوض الزَّواج التي كنتُ تلقيتها، وأسماء النسَاء اللواتي عُرِضْنَ عليَّ أو ضاجعتهُنَّ… معلومَات من الدِّقّة بحيث مَلكني الرُّعب فأخذتُ أتساءل عما إذا كنتُ أمام سِفر ديني أم مِلف محاكمَة أو سجل تجسُّس. ولم يُهَدِّئ من روعي إلا فقرة كانت تتضمَّن فِعلا سبيل خلاصِي من المحرقَة كمَا قال الصَّبِيُّ من قبل. يقولُ نــصُّ الفقرة:
«… ثم اعلم أن المرأة الطورُوبرياندية لا تخلو من أن تكون سافرة أو محتجبة. فإن كانت سافرة عمدت إلى لفِّ جسدها وسط مئزر يكون من الكبر بحيث لا يتيح للناظر مشاهدة أي جـزء ولو كان مجرَّد عين أو ظفر أو أنف حتى إذا اطمأنَّ إليها خاطِبٌ وقال: “نعمَ الزوجة ما وجدتُ: حَصَانٌ رَزَانٌ لم يمسسها إنسٌ ولا جنٌّ. فطوبى لي ثم طوبى”، وعَقدَ عليها رَمَت المئزر وكشفتْ شعرها ووجهها ثم ارتدتْ قميصا شفافا يُسَرِّبُ تفاصيل البطن والنهدين، وتنورة قصيرة تُبدِي السَّاق والفخذين، ودخنت وسكرت، وتردّدت على الحانات والكنائس ابتغاء لهو وفسق ومجون. وإن كانت محتجبة لبست خرقا تشبه الملابس وما هي بملابس، وكشفت عن محاسِن جَسدها جميعا، ودخنت السجائر، وارتادت الحانات، ومجنت وزهَت ولهت حتى إذا اطمأنّ إليها خاطِبٌ وقال: “نِعْمَ الزَّوجة مَا وجدتُ، محنَّكة مجرَّبة ستملأ قلبي طربا وسرورا، فطوبى لي ثم طوبى”، وعقـدَ عليهـا رمت خرقها وأقلعت عن التدخين وشرب الخمر وحاصَرت جسدها بمئزر طويل، لا يتيحُ للناظـر مُشاهدة أي جزء ولو كان مجرد عين أو ظفر أو أنف… فلا تقولنّ أبدا هذه سَافرة أو هذه محتجبة، ولمن قالها وأوشك على المحرقة أن يقول: “ما عُرِضَ عليَّ زواجٌ يوما، ولا رأيتُ نساءَ قطّ، فما أنا إلا مسافرٌ عشق أجنحة الريح وخـاط لـهُ من العُشبِ ثيابا”…»
*
* *
لا شيء أبغض عند الطورُوبريَّانديِّين من الحفظِ، ولذلك فقَد بنوا تعليمَهم على عملية تتكوَّن من شِقّيْنِ مُتكاملين، هما: «مَقامُ مُؤانسَة الحوار» (ولا يجبُ الخلط بينهُ وبين مَقام مؤانسة الحِمَار الذي كنا سنختم به هذا السِّفر لولا مَشاكِلَ مطبعية) و«مقام قُلْ ولا تَقُلْ». وإليهما تعُودُ تسمية أهل العِلم عندَهُم بـ «الحِواريين» أو «أهل القَول واللاَّ قـول».
يتكوَّن كلُّ درس تعليميٍّ من رحلتين هُما: «طقسُ التمهيد التعذيبي»، و«طقسُ الإنجاز الاستكشافي». الطقسُ الأوَّل إجباريٌّ يتصدَّر كل حصَّة حِوَاريَّة، وهو يتألف من اغتسَال يسمُّونه «طَّانْ طُولُونْ» – وترجمته حرفيا «وُضوءُ الهوَاء» – ومِن إطلاق بخور طيبٍ وتلاوة أناشيدَ دينية يُختمُ كلُّ نشيد منها بقسَمِ أمَان وسَلامٍ حتى لا تلحق الأسماءُ والكلماتُ التي سيتمُّ التلفظ بها في الفَصل أضرارا بمؤسَّسَةٍ طورُوبريَّانديَّةٍ مَّا أو تحدِث ارتباكا لدَى القائمين عَليها، أو يقع نهبٌ في بيت المال، أو يَستيقظ السَّاحر من نومه… بعد الأناشيد مُباشرَة يأمر الحِوَارِيُّ التلاميذ بإخراج كتاب سِفر المأثورَات والتركيز لبضع لحظات على الفقرَة المناسبة لمستوَاهم الدِّراسيِّ، ثم يقف في الركن الأيمن من الحجرَة. يلتفتُ الأطفال إلى الشيء، فإذا هُوَ – مثلا – عبارة عن جسمٍ مثلث، كهَرم صَغير، نصب وغطي بكتّان أسودَ حتى صارَ مثل خيمَة صغيرة. وفيمَا يكونُ الصغار غارقين في التأمُّل ينتشلُ الحِوَاريُّ الفصْل من الصَّمتِ الرَّهيبِ بتهديدٍ عنيف ترتعشُ له المفاصلُ: يمسكُ عصا غليظة تشبه الدَّبُّوس الذي يعاقبُ به الجلاّدُ اللصوصَ، ثم يصرُخ في وُجوهِهِم قائـلا:
«مَنْ يَزْعَمْ أَنَّ هَذَا الشّيءَ مَوْجُودٌ أُوجعهُ ضَرْبا إلى أن يَتبين له إلَى أَيِّ حَدّ هُوَ غيرُ مَوجُودٍ، ومَن يدّع أنَّ هذا الشيءَ غير موجُودٍ أوسِعه ضربا إلى أن يتبين له كَمْ هوَ فعلا مَوْجُودٌ، وَمَنْ لَمْ يَقلْ شَيْئاً أُوجِعْهُ ضَرْباً إِلى أنْ يُحَدِّثنا بِخبايَا نفسِه».
ثمَّ يشرع في مُناداة التلاميذ بأسمائهم وأحسَابهم، تلميذا تلميذا. وبالفعل، فالمدرِّسُ الطورُوبريَّانديُّ لا يخلف وَعيده، إذ ما يَكادُ تلميذ أن يفرغ من التلفظ بحرف الوَاو من «مَوجُود» حتى لا يفطنَ لنفسه إلا وهوَ طريح الفرَاش بأحد المستشفيات المجاورَة للمدرَسَة لأنَّ رأسه يكونُ قد هُشِّمَ، وما يكاد آخر أن يتلفظ بالرَّاء من عبارة «غير مَوجُود» حتى لا يصحو إلا وهُو بين يَدي طَبيبٍ يعيدُ زرعَ رجله التي تكونُ قد بُتِرَت منه… والحقّ أنه لولا التقدّم الهائل الذي أحرَزه العُلماء الطورُوبريَّاديون في مجال الطبِّ والحكمة، بحيث صَاروا يجبرون كسُور عِظام الرَّأس في نصف دقيقة ويُعيدونَ العين المقتلعة إلى مَكانها في دقيقتين، لربما كَان ثلثا الطورُوبريَّانديِّين أو أكثر قد تخرَّجوا من المؤسَّسَات التعليمية مُنذ سنّ مُبكرة وهم مُصابون بجرُوح خطيرة أو عاهَات مزمنة…
ولا ينتهي هذَا الطقسُ التمهيديُّ التعذيبي عادة إلا بعدَ انصِرام يوم بأكمَله. أمَّا كيفية انتهائه فتتمُّ على النحو التالي: فيما يكونُ الحواريّ مُنهمكا في تدوين مَا يجري في الفصل بيدٍ وجَلدِ أحَد الأطفال باليدِ الأخرَى، يحدث أن يهتدي طفلٌ مَّا صُدفة إلى الجواب الصَّحيح فيحسمُ المسألةَ: يقومُ وهو يصرُخ كمتصوِّف انتابته شطحة أو إشراقة: «لقد وَجَدتها. لقد وجَدتها»، ثمَّ يتجه صوبَ الحِوَاريِّ فيتظاهرُ، مثلا، بالبحث عن شَيء في الأرض، حتّى إذا غفا المدرِّس ارتمى التلميذ عَلى العصَا بسُرعةٍ خاطفةٍ وأمسكها ثمَّ قال:
«إذا كَان ما زعمتَ شيئا مَوجودا فأنا لستُ موجودا، وإذا كان هو غير موجود فأنا موجود».
ومَا يستولي الطفلُ على العصَا أو يُنهي إلقاءَ وحيه حتَّى يقفُ الحِوَاريُّ مشذوها، فتستعيدُ القاعة هُدُوءها ويعمُّها صمتٌ رهيبٌ إيذانا بجوَاز الانتقَال إلى «طقسِ الإنجاز الاستِكشافيِّ»، فيعودُ التلاميذ إلى بُيوتهم لقضَاء الليلة في تخمين مَا عسَاه يكونُ اسمُ ذاكَ الجسم ذِي الشَّكـل المثلثِ واللون الأسـوَدِ.
لاستكتشافِ اسم الشَّيء المعنيِّ يجتازُ الحِوَاريُّ والصغار مَرحلتين تُسَمَّيَان على التّوالي: «مَرحلة اكتشافِ المعلوم»، و«مَرحلة اكشاف المجهُـول»:
في المرحلة الأولى، يصلُ الأطفالُ في الصَّباح البَاكر إلى حُجرة الدرس فيجدُون الحواريَّ واقفا ينتظرُهم وهو ينظرُ إلى الجسم الأسوَد، وبمجرَّد ما يستوُون على المقاعد يأمرهم بفتح كتاب سفر المأثورَات ثمَّ يقترب من الكتلة ويُشيرُ إليها بأصبعه وهُو يسألهم: «أطَانْ أُولُومِيكْ؟» (ما اسمُ هذا؟)، فيقومُ تلميذ ويقولُ: «هذه خيمةٌ»، فيعقبُ عليه الحوَاري: «لا، هَذه ليسَت خيمة، إذن فمَا اسمُ هذا؟»، يجيبُ تلميذ آخرُ: «هَذا هرمٌ»، فيقولُ الحِوَاريُّ: «لا، ليس هَذا هرمٌ، إذن فما اسمُ هذا؟»… وخِلال ذلك، يحدُث أن يسأل الحِوَاريُّ الطفلَ عن أشياءَ قد تبدو لا عَلاقة لها إطلاقا بالدَّرس،كأن يقول له: «ما اسمُ جدَّتكَ التي ماتت يومَ أمس؟»، أو «بكم اشتريتَ هذا القميصَ؟»، أو «هل تنامُ في غرفةٍ بمفردك أم تنامُ مع أبويكَ في غرفة واحدةٍ؟»، أو «ما اسمُ الحلاق الذي حَلق شعركَ؟ ما عنوانه؟ وكم قاضَيته؟»، إلخ. وعَندما تنفدُ جميع الأسماء التي يحتمَل بالبدَاهَة أن يكونَ الجسم الأسوَدُ أحدها تنتهي مَرحلة «استكشافِ المعلوم» ليتمَّ الانتقالُ إلى المرحَلة الموَالية ويحكمُ الأجوبة منطقٌ شبيه بمنطق الاعتبَاط. وهُنا تعمّ الفصلَ ضوضاء جَدِيدة فيتعاقب البكاءُ والضحكُ والأناشيدُ الدِّينية ووضوءُ الهواء، وصَلاة الماء، وما إلى ذلك. بتعَاقب ذِكر الأسمَاء التي تقتضِي ذلكَ. هكذا، فإذَا قالَ طفلٌ مَثلا: «هذا حمارٌ» أجابه الحِوَاريُّ: «هذا اسمٌ أبطَلَ ذكرُه وضوءَنا»، فيقوم كلُّ من في القسم إلى الميضَاء لإعادة الوُضوء، وإذا قال آخرُ: «مَا أرى هذا إلا قنفذا» عقّبَ الحواريُّ على الإجابة قائلا: «هَذا حيوانٌ مقدَّسٌ، فلنتبرَّك على ذكر اسمه بترنيمِ نشيدِ كذا»، فيتلو الجمعُ نشيدا دِينيا خاصّا بالقنفذ، وإذا قَال ثالث: «إنما هَذه درَّاجة» أجَاب الحواريّ: «ولمن ذَكَرَ اسمَ الدرَّاجة أو سمعَه أن يركبَها ثمَّ يأكل قطعة شُوكولاطة»، فيقومُ جميع من في القسمِ، الحِوَاريُّ والتلاميذ، فيمتطون درَّاجاتهم ويقومُون بجولة في أزقة المدِينة ثمَّ يعُودُوا ليجدُوا في انتظارهِم قطع شُوكولاطة، بعَدَد من في الفصل، قَد نزلت منَ السَّماء بقدرة الإلهين السُّولولو والوُولولو… يتواصلُ الدَّرسُ بهذا الإيقاع. فإذا توصَّلَ تلميذ إلى اكتشاف الاسم المجهُول قبلَ انصرام ثلاثة أيام انتقلَ الحِوَاريّ إلى الدَّرس الموَالي، وإذا لم يتوصَّل إليه أي طفل كاشَفَهُم به الحِوَاريّ على النحو التالي: يُزيح الملاءة السَّوداء، وإذا بالشَّيء موضوع السّؤال امرَأة جالسة كالطّودِ العظيم وعيناهَا تشِعَّان بريقا، فيصرُخ التلامِيذ فَرحين: «اسمه امرأةٌ. اسمه امرأةٌ»، ويعودُونَ إلى بيوتهم وهُم مُنتشون بما تعلّمُوه. إلا أنَّ هذه النشوة ما تلبث أن تتبدَّدَ في الدَّرس التالي لأن التعليم الطورُوبريَّانديّ يقوم على قاعدَة «كلّ شيْء ليسَ نفسه إلا السَّاحرُ والرَّاهبُ». ففي الصَّباح الموالي يصِلُ الأطفال إلى الحجرَة فيجدُون الحِوَاريَّ قد أجلسَ المرأة نفسَها مَكشُوفة في الزَّاويَة اليُمنَى من القاعةِ فما يَرَاها التَّلاميذ حتى يَكَادُوا يطيروا فرحا اعتقادا منهُم بأن درس اليوم سيُحسم مع أوَّل إجابة، غير أن مَا من طفل يَقول: «هَذه امرأة» أو «ما أظنّ هذه إلا امرأة»… إلا وتكسَّر رجله أو تقلَع عينه أو يُضرب بالعَصا الكهربائيَّة إلى أن يُشرف على الموتِ لأنه يكونُ قد كرَّرَ ذكر اسم، والتكرارُ في الدِّيانة الطّورُوبريَّانديَّةِ زندقة. ولا يُحسَم هذا الدرسُ عادة إلا في الدَّقيقة الأخيرة منَ اليوم الثالث حينما يضربُ الحواريُّ المرأة بعَصَاه إلى أن تنشطرَ الجالسَة إلى نصفين ويتضِح أن الأمرَ لم يكن يتعلقُ سوى بكيس منَ البلاستيك جُعِلَ على هيأة امرأة ثمَّ مليء تمرا، فيصرُخ الصغار أخيرا مبتهجين: «إسمه تمـرٌ، إسمه تمـرٌ…».
وآنئذٍ فقط يتم الانتقالُ إلى مَقام «قل ولا تقل»، فيشرع الحِوَاريّ في مُناداة الأطفال واحِدا واحِدا ليصحِّحَ أجوبتهم ويرسِّخ الإسم في أذهَانهم، فيقولُ لكلِّ طفل: «لا تقلْ: هذه خيمة، قل: هَذه امرأة»، «لا تقل: هَذا هـرَم، قل: هَذه امرأة»، لا تقلْ: هذه امرَأة، قلْ: هذا تمـر»، «لا تقلْ: هَذا تمـرٌ، قل: هَذا قنفذ»، «لا تقل: هذا قنفذٌ، قل هذا عِفريتٌ»، «لا تقل: هذا عفريتٌ، قل: هذا نفريتٌ».