إذا كنتَ حواريا طورُوبريَّانديّا واعتقدتَ أنه يمكنكَ أن تغـشّ بأن تعمدَ، مثلا، إلى إملاء أسماء الأشيَاء على الأطفَال دُون أن تنجز طقس «التعذيبِ التمهيديِّ»، و«طقس الإنجاز الاستكشافي» أخطأتَ، لأنَّ للطورُوبريَّانديِّين من وسَائل المراقبة ما يجعل من المستَحيل على الحواريّ أن يحيدَ قيد أنملة عمَّا رُسِم له من أهدافَ تعليمية دُون أن يضبط ويُعاقبَ. ومن هَذه الوسَائل «الطَّالُوكِيمِينِي» و«الزَّالامْ بُوبُو». وهُمَا مُفردتان يستحيلُ إيجاد مُقابل لهما في العربية. فالكلمَة الأولى تعني حرفيا، وفي آن واحدٍ، «كاد أن يغرق (أو هُو بصدَد الغَرق)، ثم أنقِذَ وتمَّ استدراكه». في حين تعني الثانية حَرفيا: «كانَ ينوي الغِشَّ، وهمَّ بالقيام به، لكنه ضُبط بفضل حِيلة تتيح النفاذ إلى السَّرائر». وعلى سَبيل التجوُّز فقط، وسَعيا لتقريب مَعنى المصطلحين إلى ذِهنِ القَارئ، يمكنُ القولُ إنَّ ما نسميه في نظامنا التّعليمِي «دفتر النصُوص» هُو ما يدعُوه الطورُوبريَّانديون «الطَّالوكِيمِينِي»، وما ندعُوهُ «المفتش» هُو ما يسمونه «الزَّالامْ بُـوبُـو».
*
* *
«الطَّالوكِيمِينِي» عبارة عن كتابٍ ضخم، يزن حَوَالي خَمسمائة كيلوغرام، طوله مترٌ ونصف، عرضُه متر واحِد، سمكهُ متر وثلاثون سنتيمترا. وهُوَ لا يحمَلُ ويُنقَلُ إلا في عربَة خاصَّة. وفيه يتعيَّنُ على الحوَاريِّ أن يُدَوِّنَ كل شيء؛ فتراهُ يكتبُ أوزان التلاميذ، وطول قاماتهم، وأشجَار أحسابهم وأنسابهم، وألوَان ثيابهم، ويُدوِّنُ أثمان الموَاد الغذائية، وعناوين الحانات، ودُور الكرَاء. كمَا يقيدُ فيه أسماءَ المواليد، وأسماء المطلقات، وأوصَافِهنَّ، وعناوينهن… وبذلكَ يُعدُّ هذا الكتابُ مجمعا حقيقيا للعُلوم والمعارف الطورُوبريَّانديَّة. فمَا من شاذّة أو فاذة إلا وتجدُها فيه مُقيدة تقييدا. فإن أردتَ خلعَ ضِرس فانتظر أن يحلَّ المسَاءُ حيث يحمل الحواريّ «طالوكيمينيه» ويضعُه في زاويةٍ بالسَّاحة العُمُومية، واستشِرْهُ تجد فيه عناوين جميع خالعي الأضرَاس، وأوصَاف كلاّبَاتهم، وأثمنة فواتيرهم… وإن رُمتَ تخليدَ حفلَ زواج فتفحَّص الكتابَ نفسَه تجد فيه أثمنة الحلويَات، والأرغفة، وأسماء الرَّاقصات، والأهازيج التي يغنينها، والآلات الموسيقية التي يَعزفن عليها من طَنابير، ودَرامك، ومَزامير، ودُفوف، وبَرَابط… وبذلكَ أيضا يتضحُ أن مهنة التدريسِ عند الطورُوبريَّانديِّين لا يلجها أيٌّ كان، إذ لا يرشِّحُ لها المرء نفسَهُ إلا إذا صارَ عالما ضليعا في الهندسة والطبِّ، والفيزياء، والكيمياء، والفلك، والنيرجَات…، وهي عُلوم يصرفُ الحواري في تحصيلها ثلثي عُمره حتى إذَا أحاط بها تقدَّم إلى مباراة متَى نجحَ فيها التحق هُو الآخر بمدرسةٍ تشبه مدرسة رُكوبِ الحمير وأنفقَ فيها نصفَ الثلث المتبقي من حياته في تعَلم فنون الجَلدِ، والنميمة، والرَّقص، والبُكاء، والأكل ليستلمَ بعد ذلك قِسما يصرفُ بداخله ما بقي من سِني حياته في الكشفِ عن الأسماء إلى أن ينهي ما عُهدَ به إليه، فيُقال له حينئذٍ: «اذهبْ فأنتَ الحرُّ الطليـق»، ويوعُـد باستلام كيـس منتفخ بالدُّولار طالما حيي جزاء له عما صنع. غير أن الأمرَ هُنا أيضا لا يعدُو مجرَّد خدعَة طورُوبريَّانديَّة أصيلة. فصبيحة الغد يأتيه رسُولٌ بصحيفة كتِبَ فيها:
«وإذ نشكرك جزيـل الشكـر على جليل ما نفعت به صغارنا من علوم ومعارف، يسرنا أن نبلغك قرارنا بأن تموتَ حالا حتى لا يُشَاعَ سر المهنة خارج أسوار المدرسة. والسـلام».
ومَا يُكملُ الحِوَاريُّ القديم قراءة الرِّسَالة حتى لا يجد بُدّا من الموتِ فيموتُ…
*
* *
طِوال التهيؤ لوُلوج لسِلك مِهنَة التّدريس يجتازُ الحوَاريُّ الطورُوبريَّانديُّ سلسلة من الطقوس – يجمعُونَهَا في قولهم: «زَالاَمْ بُوبُو بُولِي وُونْدِيكُو مَالِي»، وترجمتها حرفيا: «نكرَانُ الذات يُشرِعُ بَاب المعرفة على مِصرَاعيه» – تهدفُ أسَاسا إلى شيئين: إطلاع الحواري المبتدئ على المبدأ المولِّدِ للأسماء حتى لا يخطئ أبدا في إطلاق إسم على مسمى، ثم شحذ مَلكة الملاحظة فيه وتجريده من كافة الرَّغَبات والشهوات.
ولتحقيق الهدف الأوَّل يتم تحليق الحواريين المبتدئين حول مائدة يوضع فوقها ديك، مثلا، ثم يُسَلَّمُونَ حزما من الأوراق ويقال لهم: «اقضوا يومكم هَذا في وصفِ الدِّيكِ الذي ترَونَ»، فيصرفون السَّاعات الطوال في التقاط أدقّ التفاصيل وتَدوينها إلى أن تمتلئ الأوراقُ جميعا وتغربَ الشمس، فيأتي الشيخ ويأخذ في قِراءة ما كتبه الحوَاريون المبتدؤون وهُو يضحك إلى أن يستلقي على قفاه، حتى إذا انتهَى عنَّفهُم قائلا: «أرأيتم كيف خَدَعتُكم بمنتهى السُّهولة؟ إن هذه دَجَاجة وليست ديكا». وفعلا سُرعَان ما يتحولُ الديكُ إلى دَجاجة، بقدرَة قادِر، فيتضح أن مَا حسِبَه الحواريُون عُرْفا لم يكن في الحقيقة سِوى قِطعة بلاستيكية حمرَاء تشبه عُرف الدِّيك، أو هي عُرفٌ اصطناعيٌّ كان الشيخ قد ألصَقه فوقَ رأس الدجَاجة قبل دُخول الحِواريِّينَ إلى الفصل، ويتبين أنَّ ما رآه الحِوَاريُّون ذيل ديكٍ لم يكن في الواقع سِوى كمشةِ ريشَات كان الشيخ قد اقتلعَهَا من مُؤخرة ديكٍ حقيقي وألصَقها في مُؤخرَة الدَّجاجة بحيث صَارت تبدُو كأنها ديكٌ فعليّ. والحق أنه لولا هذه الدِّقة في التكوين لما اتصف الحِوَاريُّون الطورُوبريَّانديُّون بهَذا الحذَر والتأني الشَّديدين اللذان يجعَلانهم لا يجازفون بالكَلام أبَدا. هكذا، فإذا حلَّقتَ جماعةً منهم حولَ مائدةٍ ووضعتَ فوقها هرّا ثم قلتَ لهم: «صِفوا هذا الهرِّ»، فإنهم لن يَشرَعوا في وصفه إلا في اليَوم الموالي لأنّهم سيقضُونَ النهار الأوَّل بكامِله في جَسِّ رأس الحيَوان، والضَّغط على أذنيه وذَيله للتحقّق من أنه هرّ فعلا، هَذا ما لم ينشب خِلافٌ بينهم فيضطرُّونَ لحسمِه إلى الانتظار عدَّة أيَّام أو أسَابيع، خلالها يفحصُون برَازه في مختبراتٍ خاصة، ويحللونَ مُواءَه في مختبراتٍ للصوتيات بآلاتٍ خاصة، ويتحققون مما سيتولدُ عن وطئه لهرَّةٍ في سنّ البلوغ، ومما إذا كان له ذَكرٌ حقيقي أم مجرَّد قطعة بلاستيك… وإذا أرسلتَ إليهم وَرَقة قضوا أياما وليالي طويلة في التّدقِيق في فواصِلِهَا ونقطها وَوَاوَاتِ عطفها قبل أن ينتقلوا إلى مَرحلة الكشف عن مُحتوياتها الظاهِـرة والبَاطنة والتي تتجلى لحظة القراءة…
وللطورُوبريَّانديِّين قولةٌ تختصرُ ما سبقَ كله، تقولُ: «يستحيلُ عليك أن تخدَعَ حواريا ما لم تكن “زالاَم بُوبُو” داهية». وبالفعل فإن «الزّالام بُوبُو» الدَّاهية وحدَه هو الذي يستطيع الإيقاعَ بالحوَاريّ، إذ متى شاءَ ذلك جاء إلى الفصل وتابع الدَّرس بإمعان شَديد، فيفرح الحِوَاريُّ فرحا شديدا لأنه يكونُ قد قاد الأطفال خطوة خطوة إلى أن أوصلهم، بالدليل القاطع، إلى أن ما يُشاهِدونه في الزَّاوية اليمنى من الحجرة إنما هُو، مثلا، «نعجَة» أو «ابن عرس». غير أن «الزَّالام بُوبُو» يقوم، وبسُرعَة خاطفة، ينفث في الحيوان أو يرشّ عليه مسحُوقا فإذا به يصيرُ «قِردا»… ولا ينفع الحِوَاريَّ آنذاك أن يهوَى على «القِرد» بعصا، مُنتظرا أن ينشطرَ إلى اثنين كي يتّضِح أن الأمر لم يكن يتعلق سِوى «بدُمية» جُعِلَتْ على هيأة قِردٍ وأخفيَ بداخلها «قردٌ» أو «نعجة»، ولا أن يقضي أياما أو شهورا في جسِّ رأس الحيوان والضَّغط على أذنيه وذَيله لأنه مهمَا يفعل لن يجد نفسَه إلا أمامَ «قردٍ» حقيقيّ يحاكي حَرَكاتِه وسَكناتِه، ولذا، يضطرُّ للتخلي عن شُكوكه على مضضٍ والاستسلام للأمر الوَاقِع. وهُنا يمسِكُ المحتسبُ عصا ويهوَى على ظهر الحِوَاريِّ وهو يُعَنّفهُ قائـلا:
«أمَا تملكُ وجها تستحيي به! أنتَ لستَ بقادِر عَلى التمييز حتَّى بين القِرد والنعجة، ومع ذلكَ أوهَمتَنَا بأنّكَ أوتيتَ مِن علوم الطِّبِّ، والهندسةِ، والفيزياءِ، والرّمل، وعِلمِ كشفِ الدَّكِّ وإيضَاح الشَّكِّ بما لم يوتَ به امرؤ من قبل..، فصدَّقناكَ، فلم تقنع، وتجاسرتَ على المجيء إلى هُنا لتحشُو رُؤُوسَ صغارنا بالخزعبلات وأفانين الترَّهَات؟ خسئتَ!. انصرف في حال سبيلك وإلا هَشَّمتُ رأسَك…».
*
* *
أمَّا لتحقِيق الهدَف الثاني، هَدَف تجريد الحِوَاريّ من الشَّهَوَات والرَّغبات وشحذِ ملكة الملاحَظَةِ فيه، فإنهُم يعمدُون إلى زَرع كرَاهية النسَاء والمال في قلبه واستبدَال حُبِّهما بعِشق الكلام، عَملا بما جَاء في سِفر الماثورَات: «اثنان لا يجتمعَان في قلب حَواريي أطفالكم: المالُ والنّسوة»، فيأتونَه، مَثلا، بحسناءَ ويتركونه يخالطهَا إلى أن تسكن إليهَا نفسُه ويحبّها فيقولونَ له: «كيفَ وجدتَها؟» حتَّى إذا أجابَهم: «نِعمَ البُنيَّة هَذه، وياليتني كنتُ لها مِن المالكين!» أو «نِعمَ البنية هذه، وياليتني كنتُ لها خذينا» جرَّدُوه والمرأةَ من الملابس وأغلقوا وراءهما بابَ منزل، ثمَّ انصَرفوا وترَكوهُمَا يموتان بردا وجُوعا إلى أن يَكاد أحدهما يأكلُ الآخرَ، ولا يخرجُوهُما إلا بعد أن يُشهدوا على الحِوَاري المبتدئ حَشدا من أهل الفضُول يتحلق حَول المنزل فيسمَعُ الرَّجُلَ يصرُخ باكيا: «ياليتني وجدتُ كِسْرَة أحشُو بها البطنَ، وخِرقة أسترُ بها العورَةَ، وجمرة أتَّقِي بها البردَ. لو وَضعتم نسوة الدنيا الحسَان عن يميني وكسرة خبز فاسِدَة عن يسَاري لاخترتُ خبزا ومَا اخترت نساءً…»، أو يأتونه بأكياس امتلأت عن آخِرها بأوراق الدولار لم تفترعها يد قط، ويقولون لهُ: «اذهبْ فأنتَ أغنى مَنْ جَابت به الأرضَ قَدَمٌ»، ثم يغلقون عَليه منزلا أو يُلقونَ به في صَحراء مُقفرَّة فيلتمس طعاما ولا يجده ويطلبُ لباسا ولا يجده، ثمَّ لا يخلون سَبيله إلا بعدَ أن يُشهِدُوا عليه حشدا منَ الناس يَسمعونه يُردِّدُ: «تبَّتْ يَدَا من جَعل غايتَهُ في الدُّنيا أوراقا لها رائحَة تزكِمُ الأنفَ كرائحة براز الكلب»…
والحقُّ أنه لولا هذه الطقوس التطهيرية لما كفَّ الحواريون الطورُوبريَّانديُّون عن ضرُوب الفسَاد التي كانوا غَارقين فيها حتّى الأذنين، ولما اتَّصفوا بهذه الاستقامَة التي لا يجادِلُ فيهَا اليوم إلا زنديـقٌ:
فمن قبل، كانت تصِلُ البنتُ إلى الفصل وفمُها لم ينشف من حَليب أمها بعدُ، فما يرَاهَا الحواريُّ حتى يَسيل لعابه طَمعا فيها، ولا يُخلي سبيلها إلا وقد حَبلتْ مِنه. ولأجل ذَلك كان يصطَنعُ من الحيل ما لا يتأتّى إلا لدُهَاة الشياطين، فكانَ – مثلا – يُنجيها من كسر الرِّجلين وتهشُّم الرَّأس بهمس الجوَاب الصَّحيح في أذنِها، أو يخلِّلَ درسَه بإلقاء أشعار في فنون العِشق، أو يردِّد أثناء الشرح مَقطوعات من أغاني السَّيدة مَاكولاَ وَالاَطُوم، أو يستظهِرُ فصُولا من مُصنفات فنون الغَرَام والعِشقِ تتفتّتُ لسماعها الأكبادُ والقلوبُ ولو كانت حَديدا، أو يدعُوهَا إلى بيته لتساعدَه في غسل الملابس وطبخ الطعام وتنظيفِ المنزل، زاعِما أنَّ زوجتهُ ذهبَت إلى مُستشفى الولادة لتضع له مَولُودا جديدا، ثمَّ يحتجزُها ليلة أو ليلتين يقضِي على امتدادهما وَطَرَهُ منها، ثمَّ يملي عَليها أجوبة دُروس شهر أو حَول بكامله، فتصلُ الطفلة إلى الفصل وتملأ فضاءَه شخيرا، لكن كلما ألقَى عليها الحِواريُّ سُؤالاً ألقتْ بجوابٍ كالوَحي أو طلقات الرَّصَاص… حتى إذا حَلَّ يوم الامتحان وعجزَت الطفلة عن فكِّ لُغز تميمتها عمدَ الحِوَاريُّ إلى الورقة وضمَّخَها بعِطر يُسمونه «شموسُ المعَارف الرُّوحانية»، وهو نوعٌ من الطيب لا يُستَخلَصُ إلا من أدمِغَة الرَّاسخين في العلم، فلا يجدُ مُصَحِّحُ ورقة الاختبار بُدّا من وضع نقطة مِائة على مِائة وتسجيل مُلاحظة «طَانْ طُولُونْ وِينْ»، وترجمتها: «نابغةٌ تستلم مَنصبها فورا»، فتصيرُ الفتاة لتوِّها عرَّافة، أو سَاحرة، أو مَاشطة، أو نائحة، أو مُغسلة، أو طبَّاخة، أو مُهرِّجَة، أو قَينَة، أو خياطة، أو نسَّاجـَة…
يومئذٍ، كانت البنتُ إذا تعذَّر عليها التسلُّلُ إلى شهواتِ الحِوَاريِّ، وعادت إلى بيت أبويها مُهشَّمَة الرَّأس أو مُكسَّرة الرِّجل، قالت لها أمُّها: «قولي لحواريِّكِ: قد سُرَّ أبي أيَّمَا سُرُور بوافر علمك. وهُوَ إذ يبلغك جليل شكره، يدعُوك لمأدبة عشاء تتلوها مُنَاظرة في علم كشفِ الدَّكِّ وإيضَاحِ الشَّكِّ»، فيتأبطُ الحواريُّ كتبا ويتوجَّه إلى منزل مُضيفه، لكنه بدَلا من أن يجدَ الأبَ والعشاءَ والمناظرة يجد جمهرةَ نِسَاء سافراتٍ عارياتٍ يَشربن الخمرَ ويُدَخنَّ ويغنينَ ويَرقصن… فلا يُخلين سبيله إلا بعد أن يُوقِعْنَ به وينتزعن منه عُهُودا ومواثيق يمنح بموجبها لطفلتهن نقطـة مِائـة على مائة…
أمَّا اليوم فيستحيلُ على تلميذةٍ أن توقع بحواريِّها، إذ ما تأتي إلى الفصل مُسَرَّحَة الشَّعـر، مُرتدية تنّورَة قصيرة تبدِي ما بين الفخذين، وتجلس في الطّاولة الأولى وتشرِع ساقيها للرِّيح وتغمز المعَلمَ لحظـة توجيهـه السُّؤال إليها، ما تفعل ذلكَ حتى يصُدّها الحـواريُّ صارخا في وجهِهَا بكلمات:
«اسمعي، أنت التي جلستِ في الطاولة الأولى ترومين الإيقاع بي. اسمعي يا ست، يا وسخة الفخذين والإستِ! لو جاءَتني أمُّكِ وأختكِ، وعمَّتُكِ وابنة عمتك، وخالتكِ وابنة خالتِكِ، وكان لعَسَلِ أسرَاركنَّ منَ الحلاَوَةِ ما لو سقطتْ قطرة منهُ في البَحر تحوَّلَ البحرُ إلى شَهد عَسَل لما أغويتنّنِي. فأجيبي عن السُّؤال وإلا هشَّمتُ رأسَكِ، «أَطَانْ أولو مِيكْ؟ أَطانْ أُولُو مِيكْ؟ (ما اسم هذا؟ ما اسم هذا؟)».
مِن قبل، أيضا، كان الأبُ متى لم يقنعْ بالمهنة التي يكون السَّاحـر قد حدَّدها لابنه يعمَد إلى بيع ما يملكه مِن شجَـر نخيل، وإبل، ومَاعز، وأبقَار، وأغنَام فيملأ كيسيـن أو ثلاثـة دُولارا، ثـمَّ يسُوق ابنـه إلى دَار حِوَاريّ، ويقولُ له: «إنَّ قلبي لَيَتَمَزَّقُ كمدا وغمّا على فلذة كبدِي. فقد شئتُ له أن يصير وزيرا فإذا بالسَّاحر يجعل منهُ راهبا»، فيستلم الحواريُّ النقودَ، ويأخذ مِمحَاة سحرية، ثمَّ يمحُو خانَـة مِن الخاتم الذي كان السَّاحر وضعَه على ظهر الصَّبي، فيكتبُ مكان صيغة: «كنْ رَاهِبا» عبارة «كُنْ وَزيـرا»، وبذلكَ يلتحق الطفلُ بمدرسَة رُكوب الحمِيـر دُون أن يفطن إليه أحدٌ. وحتى يضمَن الطفلُ النجاح دَوما، كان الحواريُّ يتآمـر مَعـه فينصحه بوضـع عَلامـة (×) في أسفـل الزَّاوية اليُسرَى من وَرقة الاختبار، وبهذِه الكيفيـة كانَ يتسنَّى له أن يُمَيِّزَ صحيفةَ زَبُونه بين عشرات آلاف الأورَاق فيمنحها أعلى نقطة ويُذَيِّلُهَا بملاحظة «طَانْ طُولُونْ وِينْ» ليعتلي الطفل إحدى الوِزَارَاتِ غدَاة الإعلان عن أمِّ النتائج…
وقد رأيتُ بأم عيني، أيام كنتُ حواريا لمادة الترجمة بالمعهَد الدَّولي للغات، من مِثل هذه الأمور وغيرهَا ما لو ابتغيتُ ذكره لتطلبَ الأمرُ تخصيص سِفر بكامله لهذا الموضُوع. مِن ذَلك أني، كنتُ أختبرُ التلميذ فأجدُ رأسَه فارغا ككرة قدم، ما تملؤه إلا الرِّيحُ، فأمنحه نقطة واحِد على عشرين لتكونَ له حافزا علَى بذل مجهودٍ أكبر، مُتوقعا بذلكَ أن يأخذ التلميذ الأمرَ مأخذَ جدّ، فيصل في اليوم الموالي إلى القسم وقد امتلأ حيوية ونشاطا ورَغبة في الكدِّ والاجتهادِ. لكنه، بدَل أن يفعل ذلكَ كانَ يأتي صبيحة الغدِ وقد حملَ دربكة، ونايا، وبَرْبَطاً، ومِزمَارا، ودفّا، ثمَّ ينزوي في رُكن من القسم، ويأخذ في العَزف، والغناء، والرَّقص، وتردِيدِ مَقاطع من أغاني السَّيدة مَاكولا ولا طوم، وكلمَا نهيته عن ذلكَ أجابني بتحدّ مُوقِن: «لأتَبَوَّأنَّ – يا أستاذ – المرتبة الأولى يوم الإعلان عن أمِّ النتائج». وبالفعل، ما يُعلَن عن أم النتائج حتَّى يحل بالمؤسَّسة مَوكبٌ من أهل السيَّاسة في تدمِير الرِّئاسة، فيُمنَحُ التلميذ ناقة تجرُّ عرَبة امتلأت عن آخرها بِبَنَادِق مِسكٍ حُشِيت بعُقودِ ما صار يملكُ من رياض وبساتين نخيل وتين وزيتون، وقصُور، وقلاع، وقِطع إبل وبَقر وضَأن وبغال وحمير وخيل، جزاءَ احتلاله «المرتبة الأولى». وقد ظلَّ الأمر عندِي مصدر حيرة وغمّ كبيرين إلى أن أخبرني أحدُ الثقات مؤخرا بالسِّرِّ في ذَلكَ: فقد كان التلميذ السَّابق ينحدرُ من أب ملكَ من الخيُول ما أتاح له تخصيص حِصَان غير مرئي لتنقيل صاحبنا الحوَاريّ حيث شاء، فكانَ يكفيه أن يتمنى مكانا فإذا بالتلميذ يحضرُ دون أن يراه أحدٌ من سكان المدينة، ممتطيا صَهوة الحصَان السِّرِّيِّ، فيردف الحواريَّ وراءه، ثم ينطلقُ به كالسَّهم ناقلا إياه حيث شاء، ينقلهُ إلى السُّوق، إلى الحمَّام، إلى المخبزة، إلى المقهى، إلى الميضاء العُمُومية، إلى الحيِّ المتعدِّد الجنسيَات، إلى الماخور المركزي، إلى سَاحة شرب الجعة، إلى مقهى النميمة، إلخ. كما كان التلميذ نفسُه يسافر دوريا إلى بلادٍ تشبه مَدِينة مَاقِنْطُوشَة، فكان، إثر كلِّ سفر، يُحضر للحواريّ أشياءَ عجيبة لم يهتد الطورُوبريَّانديُّون لاكتشافها بعد: قوارير ماء الخلود، بخور الطيران في الهواء، فواكه الخطوط الرّوحانية، مَشرُوب الغيبوبة الصغرى، مزامير الكون السُّفلي، أقمصَة سيُسَرُّ من سَيَرى، إلخ. غير أن التلميذ كلمَا جاءَ بهدايا جَديدة، استقبَلهُ الحِوَاريُّ بوجه عبوس، وجرَّهُ من يديه معا، ثم أدخَلهُ غرفا سرِّية بمسكنه، وأرَاه ما تكدَّس فيها من زرَابي، وأرَائك، ولوحاتٍ تشكيلية، وأقمِصَة، وسَراويل، وأغطيةٍ، وأحذية… أراهُ ذلك، ثمَّ استزاده قائلا: «كلُّ ما جئتني به اليوم ليس بشيء. فقد سبقكَ إليه غيرُكَ من تَلاميذ الأفوَاج السَّابقة. لن تتبوأ المرتبة الأولى ما لم تحضِر ما لا عَيني رَأت ولا أذني سمعَت ولا خَطر على بالي»، يقول له ذلكَ، ثم يدخله لغرفٍ سرية بالمنزل امتلأت، فعلا، بنظير كل ماجاء به التلميذ… واستمرَّ الأمرُ على ذلك النحو إلى أن أحضرَ التلميذ يوما صَحنا أبيضَ كبيرا، ما أن رآه الحواريّ حتى استشاطَ غاضبا وهمَّ بضرب رَاشيه على أمِّ رأسه بدبُّوس، كما يفعل «الزَّالاَم بُوبُو» برأس الحِوَاريِّ، وهو يعنفه قائلا: «لماذا جئتني بقصعة في هذا الحجم؟ أتحسبني مُطعِم قحطان أو مُضَر؟!، لماذا جئتني بصحن لإطعام سَبعين رجُلا وأنتَ تعلم عِلم اليقين أنَّ ما في البيت إلا أنا وربَّته وطفلان. ثمَّ هبْ أني مُطعِمُ قحطَان وعدنانَ وربيعة ومُضَر، لماذا جئتَ بالقصعة ونسيتَ الكسكسَ واللحمَ والخضرَ؟»، فضحِكَ التلميذ إلى أن استلقى على قفاه، ثم أمرَ الحواريَّ بلهجة انتصار مُنتشية: «ضع نقطة مائة على مائة يا أستاذ، فهذا بَّارَابُولٌ وليس قصعة»، قالَ الحوَاريّ: «وما البَّارابُولُ يا عزيزي؟»، قالَ التلميذُ: «مِـرآة تـرَى فيها إستَكَ وحِرّ أمّـِكَ»…
يومئذٍ كان الحواريُّ مَضرب المثل، وكانت مِهنة الحِوَارِ أمنية كل طورُوبريَّانديٍّ، فكان يُقال مثلا: «أبدَنُ من مُعَلِّمٍ»، «أسمنُ من أستاذٍ»، «أثرى من حِوَارِيٍّ»… وكان الرَّجُلُ متى أغضبته زوجته أو شحَّتْ عليه بالجمَاع هدَّدها قائلا: «لكِ أن تختاري بين أمرَين لا ثالثَ لهما: فإما تقولينَ سمعا وطاعة لكلّ ما آمركِ به وتشكرينني، وإلاّ صرتُ حواريا فلا أحتاجُ لزوجةٍ قطُّ»، وإذا حمله مُشَغِّلهُ من الأعبَاء ما لا طاقة له به هدَّدَهُ قائلا: «عَاضٌّ بضرَ أمِّه، وأيرُ بغلٍ في حِرِّ أمِّه من كانتْ حياته وقفا عَلى فتاتِ براز تدعُوه خبزا وكانَ هذا البرازُ وقفا عليكَ. فإما تخفظ عني سَاعات العمل وترفع أجرتِي أو أهجُر ورشتك وأصيرُ حواريا»…
يومئذٍ كثرت طلباتُ الالتحاق بأسلاكِ التعليم بحيث لو لُبِّيَت كاملة لصار لكلِّ صغير طورُوبريَّاندِيٍّ أربعة حواريين أو خمسة، وهُو ما لم يُعدَم حدوثه بشكل ما في بعض المؤسَّسَات، حَيث كان الحواري يقضِي دُهُورا في تلقين عشرة أسطر، ثم يأتي القيِّمُ على المدرسة ومعه تسعون حواريا نزلوا توّا من وَراء قطعان الإبل، وأورَاش البناء، ومَعَاصر الزَّيتون، وحُقول الأرز، والماخور المركَزي، ودَكاكين النجارة والحلاقَة والحدَادة…، فيقولُ له: «لماذا تكلف نفسَك ما لا طاقة لها به؟ فهذه فقرةٌ مقدَّسَة يقتضي تفسيرها أن تُجَزَّأَ إلى أحرف وكلماتٍ وليس إلى أسطر أو مَقاطع»، ولا يُغادر القاعة إلا وقد ولَّدَ منها تسعينَ فصلا وأوْكَلَ لكل حواريّ جديدٍ مُهمَّة تدريس كلمة واحدةٍ لفصل واحدٍ على امتداد السَّنوات العشر المقبلة…
أما اليوم فقد صَارَت مهنة التدريس مِن الطهَارة والصّعوبة بحيث لا يطلبها إلا قديسٌ ضليع في الاستقامة ومجاهَدَة النفس، لأن الحجرة لا تُسَلَّمُ للحواري إلا بعد أن يصير كائنا شبه روحانيّ، لا يتزوَّجُ، ولا يأكلُ، ولا ينامُ، ولا يشتهي شيئا، لأنهُ صَار لا يتقاضى إلا حِوارا، إذ يقضي الحولَ في الفصل، فتأتيه الرُّسُل بأن حَان موعدُ استلام الحوَالة، فيتوجَّهُ إلى بيت المال، وما تطأ قدَمَاه عَتبة البناية حتَّى تلقى عليه خطبة طويلة في السَّحاب، والمطر، والرِّيح، ومَدّ البحر، وجزره، ثم يقالُ له: «ما رأيك في هذا الكلام؟»، ويُصرَفُ بالقول التالي: «انصرف، فقد استلمتَ حَوالتكَ». وإذا أبدى أقلَّ استغراب أجيبَ بالقول التالي: «أين كنتَ نائما لما أطلقنا البريح في المدينة لإخبار أهلها بأنَّ النقدَ قد حُرِّمَ وأنَّ الحِوار والمحادثة قد حلا محله؟!»… كما صَارت نحافة جسم الحِوَاريِّ مَضرب المثل، حَيث يقالُ: «أنحفُ من مُعَلِّم»، «بطنُهُ ضامرٌ كأستاذٍ»، «نفضوا أيديهِم من شفائه وهيَّأوا كفنَهُ وقبرَه لأن جسمهُ هزُلَ ولونه اصفرَّ إلى أن صار كأنه حِواري»، وما إلى ذلك.، وصار القومُ يسَخِّرُونَ القصبَ والسنّارة بحثا عمّن يعلِّمُ أطفالهم ويجوبُون – لاصطياده – الماءَ والهواءَ ولا يعثرونَ عليه. وهذا هو السَّبب في كونهم يوكلون اليوم للحواري الواحِدِ ثمان مائة طفل أو أكثر، وفي كون الحجُرات الدراسية قد تحوَّلَتْ إلى أشبَاه إصطبلات، بحيث صرتَ ما تكاد تخطو خطوة داخِل إحدَاها حتى تزكمك روائحُ الضّراط والفساء ونتانة الآباط والأقدام…
*
* *
يقول الطورُوبريَّانديُّون: «كل امرئ زَالام بُوبُو بالقوة، ويكفي أن يمرَض فيتحوَّل إلى زالام بُوبُو بالفعل». وفعلا، فالمحتسبُ لا يُلزَم بأن تكون له سنّ مُعينة، ولا يخضع لتكوين خاصّ، ولا يُنظمُ أوقات محاسبته للحواريِّ وفق برنَامَج مُعين لأن الـ «زلمة بابوا» (أو الحسبة) ليسَت مهنة محددة الوضع والقانون بقدر ما هي حَالة نفسية تعتري الفردَ لحظة مُعينة فلا يحسُّ بنفسه إلا وهُو دَاخل حجرة دارسية يحاسِب فيها حِوَاريا وتلاميذه، وبذلكَ يمكن أن يتعَاقب على الحواريِّ الواحد، خلالَ حصَّة دراسيةٍ واحدة، طفلٌ في سنِّ الرضاعة، وامرأة عجوزٌ، وشابٌّ أنيقٌ، وحُبلى حان وقتُ وضعها، وكهلٌ يحتضرُ، وعاملٌ نزلَ توّا من ورشة بناء، وزان قام فورا عن عاهرة، ومَعشُوق لازالتْ تِلاَوَتهُ مُبلَّلَة بأمنية عَاشِق صُورته .. وبذلكَ أيضا يمكن للمرء أن يتعرَّضَ للتفتيش من قبل أبيه، وابنه، وأمِّه، وأخيه، وجدِّه، وعمته، وجارَته، وعمِّه… دُون أن يستفيد من قرابتهم في أي شيء، لأن المحتسب عندما تعتريه رغبة التفتيش لا يعرفُ أينَ ستنتهي به قدَمَاهُ ما لم يكن راسِخا في الحدسِ. ثمَّ لأنَّه هو الآخر مُرَاقبٌ من قبل «زَالاَم بُوبُو» أكبر منهُ اللهم إذا تواطأ معـهُ.
إنَّ كون الحسبة حالةٌ نفسية وليس مهنة لأَمْرٌ يُسَهِّلُ على الكثيرين ادعاءها لتصفية مختلف الحسابات مع الحواريين، إذ متى قالَ امرؤ: «إني أحِسُّ بوجع في الرَّأس، وإنَّهُ لينبئني بأن عليَّ أن أذهب لتفتيش فلان بن فلانة»، فلا أحدَ باستطاعته أن يتحقق مما إذا كان القائلُ قد أحسَّ فعلا بما قال أم أنه ادَّعاه فقط، وبذلك تصير قولته قدَرا لا مردَّ له. هكـذا، فإذا انهـزم طفـلٌ في لعبـة رياضية، مثلا، فإنه يقولُ للغالب: «أنتَ تملكُ اليومَ منَ القوَّة ما جعلك تفوزُ عليَّ بمنتهى السُّهولة. لكن اعلم أنكَ ما تكبر وتصير حواريا حتى أوقِع بكَ وأنا زَالاَمْ بُوبُو». وبالفعل، بمجرد ما يستلم فائز الأمس فصلا دراسيا يهرع إلى غريمه وهُو يقول: «إنني أحسستُ بوجعٍ في رأسي، وإنَّهُ لينبئني بأن عليَّ أن أحاسبك حَالا»، فلا يخلي سبيله إلا وقد ترَكَهُ جثة هامدة تسبح في بركَةٍ من الدماء. وإذا أساءت امرَأةٌ إلى أخرى في حفل زَفَاف، كأن تُعَيِّرَهَا أمام الملأ بالمبالغة في الأكل أو الرَّقص، فإنَّ التي أسيءَ إليها تستعلم حالا حولَ ما إذا كان لغريمتها ابنٌ أو خالٌ أو عمٌّ أو أبٌ يمتهن التدريس فما تجدُ الأمرَ كذلك حتى تعلو وجهها نشوة الانتصار، فتقومُ وتخاطب مُعَيِّرَتَهَا قائلة: «لقد ألحقتِ بي منَ الأذى ما تعذَّر عليَّ دفعه، لكن اعلمي أنني أحِسُّ من الآن بوجعٍ في رأسي وإنه لينبؤني بأن عليَّ أن أذهبَ حالا لتفتيش قريبك المدعو فلانا بن فلانة الذي يشتغل في مؤسسة كذا منذ عام كذا…». وبالفعل، تتحوَّلُ المرأة في اللحظة ذاتها إلى «زَالامْ بُوبُو»، فتصرُخ: «هاتوني قلما ودبُّوسا»، وتأخذ وجهة السَّاحة العُمومية، وحالما تصِلُ إليها ترتمي على «طَالُوكِيمِينِي» قريب غريمتها وتقضي الليلة بكاملها في قراءته حرفا حَرفا والتشطيب على عددٍ كبير من مُفرداته وفقراته وتَدوينِ مُلاحظات مُطَوَّلة في هوامشه، حتى إذا أوشكت الشمسُ على الطلوع كانت المرأة قد أتَمَّتْ فحص السِّفر الضَّخم بكامله وحَملته بنفسِها إلى القسم وجلسَت تترقَّبُ غريمها، فيأتي الحِوَاري ومعه كالعَادة جسمٌ ليضعه في زاوية من الحُجرة، غير أنه قبل أن يخطو خطوتَه الثانية دَاخل الفصل تفاجئه المرأة صارخة: «لا دَاعي لإعدَاد ما أنتَ مُعدُّه! فاليوم يوم حساب وعقاب!»، ثم تأمره بالجلوس بجانبها فتعرض أمامه مَا راجَعَته وما دوَّنَتْهُ حرفا حرفا وهي توَبِّخُهُ وتعنِّفُهُ وتضربه على أمِّ رأسه بالدَّبُّوس. تقول له مثلا: «لننتقل الآن إلى هذه الكلمةِ. فأنتَ تعلم أن حروفها مقدَّسة، وأنَّ مجرَّد النطق بها يقتضي إطلاقَ بُخُور كذا وتلاوة نشيد كذا، فأحرى كتابتها…، لماذا مرَرتَ على هذا كله مُرُورَ الكرام ودوَّنتَها بسُرعة البرق؟ فيمَ كنتَ تفكر؟…»، وقبل أن ينطق المدرس بحرفٍ واحد ليجيب تهوى عليه المرأة بضربةِ دبُّوس يتطايرُ لها الدَّم فوَّارا من رأس الحِوَاريِّ… أو تقولُ له: «حَسَنا فعلتَ هُنا. فقد دوَّنتَ كلَّ تفاصيل “طقس التمهيد التعذيبي”، فكتبتَ: “كنتُ كسَّرتُ أرجل كذا تلميذا، وفقأتُ كذا عينا، وهشَّمتُ كذا رأسا لما قامَ صاحبُ المقعد الخلفيِّ من الصَّفِّ الأيسر – اسمه فلان بن فلانة، لونُ شعره كذا، يسكن في زقاق كذا، رقم المنزل كذا، إلخ. – وقال كلمةً أوحِيَ إلي عَقِبَهَا أن أرفعَ حِصَّة التعذيب التمهيدي حَالا فرفعتها”، لكن – تواصِلُ «الزَّالام بُوبُو» – لماذا لم تسَجِّل لونَ خُفَّي هذا الطفل؟ لماذا لم تُدَوِّن عدَدَ غرف بيته وثمن كرائها مع أنَّكَ تعرف حق المعرفة أنني أبحث عن منزل للكراء منذ ألف عام؟ أشَغَلَكَ عِشقُ النسَاء عن كتابة هذا؟ هِه؟ تكلم!…»، وكلما همَّ الحواريُّ بالإجابة أخرسَته ضربة دبُّوس أقوى من سابقتها، ولا تخلي الزَّائِرَة ساحته إلا بعدَ أن تتركَه، فوق الأرض، جُثّة هامدَة تسبحُ في وادٍ من الدِّمَاء.