مساء البارحة اتجهتُ إلى مكة الإدارات، مصطحبا معي ملفي ليؤدي مناسك الحج، بعد أن طاف شهورا في عتبات إدارية مقدسة أخرى، فإذا بالموظفة تقول لي:
– يجب عليك أن تقدم ملفين منفصلين وليس ملفا واحدا! استنسخ كل الوثائق، ثم اعطني نسخة على شكل ملف أول، واحتفظ بالملف الثاني لكي نمر إليه بعد أن ننتهي من الملف الأول!
حسبتْ أنَّ الاستنساخ وترتيب الوثائق سيستغرقان مني وقتا طويلا، وأني لن أعود إليها قبل يومين أو ثلاثة، فإذا بي أنجز ما طلبته مني بسرعة البرق! عدتُ إليها:
– ها هي الوثائق داخل ملفين، بالشكل المطلوب!
– لا، رتِّبْها!
ربما حسبتْ أني سأعجزُ عن ترتيبها، جلستُ في أحد الكراسي ببهو الإدارة، ثم رتبتُها، وعدتُ إليها…
أمسكتْ الملف وهي لا تصدق، ربما ظنتني عجوزا أميا! تحققت من الترتيب، قالت:
– أه دابا »سِي بُّونْ« (c’est bon)
ذكرني مزجها في الكلام بين الفرنساوية والعربية بـ «الحاجة الفاسية العرنساوية» التي سبق أن خصصتُ لها إدراجا سابقا[1]. وبينما كانت مستغرقة في الاشتغال على الملف الأول، خامرتني فكرة أن أسألها أحد سؤالين:
– سبحان الله! بين كلامك وكلام الحاجة الفاسية «العرنساوية» شبه عظيم، هل بينكما صلة قرابة؟
أو:
– لماذا تجمعين في حديثك بين العربية والفرنسية مع أن لا شيء يدعو لذلك، فضلا عن أنك محتجبة، وأشد الناس دفاعا عن اللغة العربية هم الملتحون والمحتجبات؟!
خشيتُ أن تنتابها فورة غضب، فتصرخ بأعلى صوتها زاعمة أني تحرشتُ بها أو أني شتمتها، فأعاقبُ بتهمة التحرش أو إهانة موظفة أثناء مزاولة عملها، تراجعتُ…
انتهت من معالجة الملف الأول، قلتُ لها:
– لننتقل إلى الملف الثاني! (وكان عدد وثائقه أكبر من الأول).
قالت:
– لا أبدا! لن أستلم منك أي وثيقة ما لم تطعني الملف مرتبا كاملا من ألفه إلى يائه، بالترتيب التالي!
ثم سلمتني ورقة كُتبتْ فيها تعليماتُ الترتيب، على شكل طلسمٍ يُشبه النقش الذي تزعم كتب السحر أنَّ النبي سليمان كان يضعه في خاتمه ويحكُم به الجن والعفاريت، قبل أن تضيف:
– رتبْ كل شيء بنفسك. نحنُ مهمتنا هنا هي أن نستلم الوثائق وليس أن نرتبها!
ذكرتني كلمة «رتِّبْ» بإحدى معلمات الطفولة وهي تنشد علينا داخل الفصل الدراسي نشيد:
مثل الساعــــة *** تِكْ تَكْ تِكْ تَكْ
دوما أبــــــــدا *** رتب وقتـــــك
وانهض باكــــر *** واحفظ درسك
هممتُ بمخاطبة الموظفة:
- سبحان الله! ذكرتني بنشيد «رتِّب»!
ثم أنشد على مسمعها:
مثل الساعــــة *** تِكْ تَكْ تِكْ تَكْ
دوما أبــــــــدا *** رتب ورقـــــك
غلبني الضحك، أمسكتُ ضحكتي إلى أن غادرتُ البناية، وابتعدتُ عنها ببضعة أمتار، خشية أن تسمعني الموظفة، فتجري ورائي وتلحقني، وتمسكُ بي، وتسألني عن سبب الضحك، فتعرف الحكاية، وتعاقبني كما كانت تعاقبنا معلمة النشيد القديم!…
*
* *
في المنزل، بدل أن أصرف الليلة في حفظ دروس الترتيب التي تؤهل إلى فك مغالق الطلسم الآنف، نمتُ باكرا جدا، فرأيتُ الحلم التالي:
هرعتُ إلى أحد أعز أصدقائي، سبق أن أدى ملفه مناسك الحج، فاصطحب صديقي ملفه معه إلى المقهى، فأحسنَّا إليه إلى استحسن الجلوسَ واستحلاه، فأخرجتُ ملفي واستغرقتُ في ترتيبه، وأنا أختلس النظر إلى ملف صديقي:
أضع الطربوشَ في رأس ملفي، تماما مثل طربوش ملف صديقي، وأسوي جلبابي كجلباب صديقي، وقبي تماما مثل قبّه، وبلغتي مثل بلغته، أشذب لحية ملفي كما حلق لحية ملفه، وما إلى ذلك، وأنا في منتهى الحرص على ألا يختل الترتيب، كأن أضع البلغة في المعصم، أو القبعة مكان السروال، أو السبحة في العنق بدل اليدين…
في الصباح الباكر، اتصلتُ هاتفيا بالصديق المذكور، فأحضر ملفه إلى مقهى، ورتبتُ ملفي من ألفه إلى يائه، بمساعدة صديقي، كما رأيت في الحلم تماما. لكن أثناء النقل اتضحَ أنَّ «الموظفة قد أخفت الإشارة إلى وجوب إحضار ثلاث حجرات للتيمُّم، لأن ثلاث صلوات أخرى ستكون في انتظار ملفي»، قال لي الصديق…
[1] النص منشور ضمن الكتاب الحالي بالعنوان نفسه: «الحاجة الفاسية ʼʼالعرنساويةʼʼ»..