تنـويـــه:
كتب نص المقدمة المثبت أسفله، في الأصل، للطبعة الثانية من كتاب «أبحاث في السحر»، التي كنا ننوي إصدارها في السنة الفارطة مُراجَعة ومَزيدة ومنقحة. بيد أنّ أسبابا موضوعية، تتمثل في «الصيغة» التي اقترحها وسيطٌ للناشر الذي أعِدَّت له تلك الطبعة، حالت دون ظهور ذلك العمل الذي كان سيصدر مشتملا – بالإضافة إلى الدراسات الست التي تضمنتها الطبعة الأولى[1] – على مجموع ما ننشره في الكتاب الحالي باستثناء المقالات التالية: «المسارة، الرجولة والعلاج»، «السَّحرة والعرافون»، «السحر في الفن والأدب»، وكلها أضفناها للتو.
ولا يفوتني التنويه بالمساعدة التي تلقيتها من أصدقائي بمركز تكوين مفتشي التعليم (بباب تامسنا – الرباط)، الذين كان عددهم كبيرا، بما يجعل اللائحة تطول أمام كل حرص على ذكرهم جميعا.
إلا أنني أتوجَّه بشكر خاص إلى:
– الفنان التشكيلي ميمون الزراد على ما أمدني به من مساعدة لضبط بعض مصطلحات الفنون التشكيلية الواردة في دراسة «السحر في الفن والأدب» والتعريف ببعض أعلام هذا الفن الواردة في الفصل نفسـه.
– الأستاذ محمد أمنصور (كلية الآداب بمكناس) الذي تفضل بقراءة المخطوط قبيل سحبه النهائي.
مـحمد أسليــم
مكنـاس في 25 مـاي 1999.
تـقـديـــم
ليس من المبالغة القول إنَّ البحث في ظاهرة السِّحر – والخفي عموما – من المنظورين الاجتماعي والنفسي، باللغة العربية، شبه مُنعَدِم في الوقت الرَّاهن؛ فإذا استثنينا ما يُنجَزُ من بحوث جامعية، تبقى أسيرة جدران الكليات، لا يمكن إلا الذهول أمام الفراغ الكبير الذي تعرفه ساحة النشر في هذا القطاع. ويغدو هذا الفراغ مبعثا للسؤال بالنظر إلى كوننا ما أن نغير وجهة اللغة حتى نصادف عددا لا يستهان به من المؤلفات في الموضوع نفسه، كُتِبَت وتُكتَبُ، منذ مستهل القرن الحالي إلى اليوم، بأقلام باحثين عرب وأجانب على السَّواء[2]، دون أن يُكتَب لأي منها – في حدود ما نعلم – أن يرى النور باللغة العربية حتَّى اليوم. أي ممنوع تنطوي عليه اللغة العربية في شأن السِّحر – والخفي عموما – بحيث يتعذر داخلها كل كلامٍ «علم – إنساني» عنه؟ أهوَ ممنوع اللغة، باعتبارها عالما رمزيا مُحمَّلا بالأوامر والنواهي، أم هوَ ممنوع الحَداثة، باعتبارها نمطا في التفكير والسُّلوك يضع بينه وبين «اللاعقلانيات» مسافة متَعذرَة الاختزال؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا ينسحب هذا الممنوع نفسه على اللغات الأجنبية التي تُنجـزُ بداخلها تلك الدِّراسات؟
مُقابل هذا الوضع تعرف ساحة النشر العربية نفسها غزارة غير مسبوقة في طبع وإعادة نشر مؤلفات عديدة تتعلق بالسِّحر وما حَولَه، يمكن تصنيفها ضمن خانتين: أولاهما تشجُبُ السحر وما يُحيطُ به من معتقدات وممارسات. والثانية قد «تدعُو» إلى السحر و«تبرر» وجودَه من خلال ما تَضَعُ بين يدي الفضوليين والسَّحَرة المبتدئين والحرفيين، على السَّواء، من عناوين لا تحصَى، تتعلق بالسِّحر والتنجيم والعرافة بكل أصنافها وإخراج الجنّ والعفاريت من أجساد المرضى[3].
ويترتب عن ذلك – ضمن ما يترتب – أن القارئ باللغة العربية وحدها، متى أراد معرفة بالسحر والخفي عموما، لا يجد سوى كتابات تصادِرُ موضوع معرفتها مسبقا باعتباره مخالفا للشرع، كفرا وردَّة، ومن ثمة تحرمه أو تعتبره مظهرا للتخلف، أكاذيب وترهات فتدعو إلى عدم الاهتمام به، أو يجد كتابات أخرى تدعوه إلى ولوج هذا العالم من غير أن تزوده بأدوات الفهم العقلاني للظواهر المعنية، من موضوعية وحتمية وقوانين وعلية، الخ – كما ترسَّخت في ذهنه من قبل – لأن هذه الأدوات للفهم «غريبة تماما» عن عالم السحر (وها نحن نعود إلى المسافة نفسها متعذرة الاختزال الفاصلة بين الظواهر العقلانية وغير العقلانية).
يكاد السحر يماثل الدين في كونه تجربة داخلية تتعالى عن كل تعميم أو تقنين؛ فالله موجود، لكن التحقق من وجوده لا يتم إلا باطنيا وبشكل فردي. ومن تنكشف الحجب بينه وبين الماوراء يعسر عليه أن يشرك الآخرين في ما يراه ويسمعه هناك لأن تلك الرؤية والكلام لا يمنحان نفسيهما إلا للفرد وللفرد وحدَه. وبكلمة واحدة، مثلما يعسُرُ على المؤمن إقناع الملحد (المتمادي في إلحاده) بوجود الله عن طريق استدعاء براهين حسية ملموسة دامغة ويعسر على الملحد إقناع المؤمن (الغارق في الإيمان) بعدم وجود الله؛ كذلك يشق على عديم الإيمان بالسحر أن يقنع الساحر والمسحور – خصوصا – ببطلان ما يؤكدانه. وحدَه المؤمن يعرف الله حقَّ المعرفة، ووحدَه من تعرض لمصيبة السحر يعرف حقيقة وجود هذا النشاط.
لهذا السَّبب ارتأينا تجاوز البعد الأنطولوجي لظاهرة السحر (مسألة وجوده أو عدم وجوده)، علما بأنَّ في هذا الجانب كتابات غزيرة جدا، باللغتين العربية والعجمية على السَّواء، وهنا أين تمَّت الترجمة بشكل كبير.
خارج المواقف السابقة، اخترنا أن نضع بين يدي القارئ نصوصا تتناول الظاهرة المعنية من زوايا متعدِّدَة؛ لغوية، أنثروبولوجية، إثنوغرافية، إثنولوجية، طب عقلية، تحليل نفسية، وتاريخية، كتبها باحثون ينتمون إلى مدارس مختلفة ضمن الحقول السابقة، وانطـلاقا من معطيات ميدانية تنتمـي إلى مجالات ثقافية متنـوعـة: إفريقيا السوداء، أمريكـا الجنوبية، الجزائر، وأوروبا. وهي نصوص من شأنها أن تشكل مدخلا لدراسة السحر…
والنصوص التي يضمها هذا الكتاب، فضلا عن كونها تقع فيما وراء الرقابتين الدينية والحداثية، تشترك في نقطتين: تتمثل الأولى في ابتعادها عن الإغراق في عرض الطقوس السحرية على غرار ما كان يفعله الإثنوغرافيون الكولونياليون، الذين كان يتحدد انشغالهم الأول في جمع أكبر عدد من الملاحظات الغرائبية، لينتهوا من ذلك إلى إثبات وجود عقليـة بدائية أو ما قبل منطقية[4]؛ أقول: بدل ذلك تضع الدراسات الحالية نصب عينها إظهار مصدر الفعالية السحرية الكامنة أساسا في سلطة الكلمـة. أما النقطة الثانية، فتتحدد في ابتعاد النصوص المذكورة، في معظم الأحيـان، عن التجريـد والخوض في القضايا النظرية بما يفترض في القارئ عمـق الإلمـام بقضايا الإثنولوجيا والتحليـل النفسـي.
وبالفعل، ما نعتقد القارئ – وقد أنهى قراءة الكتاب الحالي – إلا واقفا على الطابع الكوني للظاهرة، بما يجعل تسمية الإنسان الساحر(Homo-magicus)[5] التي لم يتردد البعض في إطلاقها على الكائن البشري (على غرار أسامي الإنسان المفكر أو العاقل [Homo-sapiens] والإنسان السياسي [Homo-politicus]، والإنسان الصانع [Homo-Faber]، والإنسان الأكاديمي [Homo-académicus]، الخ.) تأخذ معناها الممتلئ.
أما إذا لوحظَ شبه تركيز على إفريقيا السَّوداء، فذلك لكون مجموعة من الممارسات السحرية والعلاجية التقليدية في المغرب الراهن تتأصل في قسم منها في تلك المعاقل. ذلك أن الخفي في المغرب، كما في مجموع بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط العربية، يتكئ على إرث مزدوج: الأول وثني والثاني «عربي – إسلامي».
لقد بتنا مقتنعين أكثر من أي وقت مضى بأنَّ عمل المترجم لا يعدو – في أحسن الأحوال – مجرد توسط بين طرفين يُفترض في أحدهما (القارئ) عدم معرفة لغة الآخر (المؤلف)، وإلا فلا امتياز يحظى به المترجم – بالمقارنة مع القارئ – سوى توفره على وثائق (هي الأصول الأعجمية) ليست في متناول المتلقي. ولهذا القسم من القراء تمَّ إثبات العناوين الأصلية للدراسات المترجمة ومصادِرها في نهاية الكتاب. أرجو منهم مسبقا الصفحَ عما قد يقفون عليه من هفوات. فما حثني على تعريب هذه النصوص – قبل كل ما ذُكِرَ أعلاه – سوى البقاء على صلةٍ بهذا الموضوع الذي لا تنضب خصوبته.
محمـد أسليـم
مكناس في 27 فبرايـر 1998.
[1] على التوالي: «ارتجالية مفهوم السحر في الخطاب الأنثربولوجي» (ب. جوريون وج. دلبوس)؛ «الساحر والمحلل النفساني» (م. روكفيل)؛ «الموضوع الرديء» (ك. باكيس-كليمون)؛ «السحر-الأنثربوفاجيا والعلاقة الثنائية» (هـ. كولومب)؛ «المسلمات المشتركة بين مختلف الأنظمة العلاجية التقليدية بإفريقيا» (ف. لابلانتين)؛ «الاعترافات الشيطانية» (ك. بيولت ول. ساغي). وقد أصدرناها تحت عنوان: أبحاث في السحر، مكناس، مطبعة سندي، 1995 (152 ص.، حجم 14×21).
[2] القائمة طويلة جدا، ونذكر منها على سبيل المثال:
– Edmond Doutté, Magie et religion en Afrique du Nord,(Alger, 1908), Paris, J. Maisonneuve & Paul Geuthner, 1983; – Idriess Shah, La magie orientale, Paris, Payot, Coll. Petite Bibliothèque Payot, 1978; Aïssa Ouitis, Magie Possession et prophétisme en Algérie, Paris, Arcantère, 1984; – Ndjima Plantade, La guerre des femmes. Magie et amour en Algérie, Paris, La Boîte à Documents, 1988.
[3] نذكر من المؤلفات القديمة، على سبيل المثال: – أحمد البوني، شمس المعارف الكبرى، بيروت، المكتبة الثقافية، (بدون تاريخ)؛ – أحمد البوني، منبع أصول الحكمة، بيروت، المكتبة الثقافية، (د.ت)؛ – الإمام الغزالي، الأوفاق، (بدون مكان النشر)، (بدون اسم الناشر)، (د. ت)؛ محمود نصار، غايـة الحكيم اللأستاذ المجريطي، (د. م)، دار الفكر، (د.ت)؛ – السيوطي، الرحمة في الطب والحكمة، بيروت، دار الكتب العلمية، (د.ت)؛ – أحمد الديربي، مجربات الديربي الكبرى، بيروت، المكتبة الشعبية، (د. ت). ومن مؤلفات المحدثين، نذكر على الخصوص كتابات المصري عبد الفتاح الطوخي الفلكي، وهي غزيرة جدا، نكتفي بذكر بعضها (والاختيار هنا عشوائي): – سحر الكهان في حضور الجان؛ – البداية والنهاية في علوم الحرف والأوفاق والروحاني (2 ج.)؛ – منبع أصول الرمل المسمى الدرة البهية في العلوم الرملية؛ – نهاية العمل في علم الرمـل؛ – الأصول والوصول في علم الرمل؛ – بلوغ الأمل في علم الرَّمل؛ – الزايرجة الهندسية في كشف الأسرار الخفية؛ – علم الكـف؛ – الكباريت في إخراج العفاريت؛ اسم اللـه الأعظـم؛ – النور الرباني في العلم الروحاني؛ – السحر الأحمر؛ – تسخير الشياطين في وصال العاشقين؛ – السحر العجيب في جلب الحبيب… وقد صدرت منها طبعات عديدة ببيروت، عن المكتبتين الثقافية والشعبية بالخصوص، وكلها بدون تاريخ النشـر، ومؤخرا صارت تطبع بأعداد وفيرة في المغرب.
[4] سيقف القارئ على مثال عن هذا النوع من المقاربات، في دارسة إدموند دوتيه «السحرة والعرافون بشمال إفريقيا».التي ارتأينا إضافتها. (هامش أدرجناه للتو، قبيل سحب الكتاب).
[5] انظـر:
– F. E. Lorint & J. Bernabé, La sorcellerie paysanne. Approche de l’Homo Magus, avec une étude sur la Roumanie, Bruxelles, Editions A. De Boek (Univers des sciences Humaines), 1977.