Notice: Function _load_textdomain_just_in_time was called incorrectly. Translation loading for the all-in-one-wp-security-and-firewall domain was triggered too early. This is usually an indicator for some code in the plugin or theme running too early. Translations should be loaded at the init action or later. Please see Debugging in WordPress for more information. (This message was added in version 6.7.0.) in /home/aslim/public_html/wp-includes/functions.php on line 6114
م. أسليـم: من الأدب إلى الرقمية – محمد أسليـم

م. أسليـم: من الأدب إلى الرقمية

1607 views
م. أسليـم: من الأدب إلى الرقمية

تتألف دراسات الملف المعروضة بين أيديكم من قسمين أساسيين، هما: الأدب والعلوم الاجتماعية، ثم التحولات الأدبية والثقافية في العصر الرقمي، وكلاهما عبارة عن مقالات وما يمكن تسميته بأنشطة تواصلية.
وامتثالا للمذكرة المنظمة لهذه المباراة، تمَّ إدراج إصدارات ظهرت في شكل كتب ورقية. ومع أنَّ هذه المرفقات قديمة النشر، حيث يعود آخرها إلى عام 2002، فإنه يمكن إدراجها جميعا في خانة الأدب والعلوم الاجتماعية باستثناء ما تمَّ تعريبه استجابة لرغبة زملاء أو أصدقاء. وأقصد بذلك كتب «الفرنكوفونية والتعريب وتدريس اللغات الأجنبية في المغرب»، و«التربية والحداثة» و«الدولة والأخلاق والسياسة في السياق العربي الإسلامي».

أوَّلا: الأدب والعلوم الاجتماعية:
يتألف من مواد نشرت و/أو ألقيت في ندوات وملتقيات ثقافية وإبداعية، بين عامي 1990 و2012، إضافة إلى كتاب «ذاكرة الأدب. دراسات في الشعر والرواية والمسرح» الذي لا يعدو مجرَّد نُسخ موسَّعة لبعض المداخلات.
يمكن التمييز في هذه الفئة بين انشغالين:
الأول: سعى إلى مقاربة مسألتي الأصل والذاكرة وقضايا النقل الثقافي، نواته مقالا الشعر والممنوع والشعر والغواية، وانشغاله المركزي السعي لتحديد الوضع الاعتباري للكتابة والمؤلف في السياق العربي الإسلامي.
وقد تولد هذا الانشغال من ملاحظة مزدوجة: كون الإسلام أسس إعجازه على اللغة، ثم الحضور الملح لمسألة الأصل في معظم المنتوجات الفكرية والإبداعية الراهنة، بل وحتى في بعض السلوكات الاجتماعية، مما يضمر وجود خلل ما، أو مشكلة لم تحل مع هذا الأصل.
أتاح مقالا الانطلاق هذان الوقوف على معطى عام يتمثل في وجود اختلاف جوهري ولقاء جوهري، في آن، بين النص الديني والنص الإبداعي: فالأول يعرضُ نفسه باعتباره أصلا، انتهاء واكتمالا. ودليله على ذلك قابليته للانفتاح على عدد لا نهائي من التأويلات المختلفة، لكن في إطار ترديد معنى واحد، هو تفسير كلمة الخالق. في المقابل، يمنح النص الأدبي نفسه باعتباره عملية لا تكتمل على الدوام، مفتوحة على الاحتمال، وما يلازم ذلك من عصف بالأصل نفسه. لكن، أليس الإسلام نفسه عصفا بأصل صار سينعت من الآن فصاعدا بـ «الجاهلي»؟
أتاحت الدراستان الآنفتان ما يلي:
1 – البرهنة على اندراج الشعر ضمن نظرية الخلق الإسلامية، والوقوف على ما أسميناه بـ «أسطورة أصل الشعر في الإسلام» مُصاغة على النمط نفسه الذي صيغت به «أسطورة أصل السحر في الإسلام»، حيث تم اعتبار الشعر، مثل السحر، منحدرا من أصل مزدوج: رباني وشيطاني، قدسي ودنيوي.
2 – رسم حدود المساحة التي تصورها الإسلام للإبداع، وهي مجالٌ وسط بين القدسي والدنيوي، ما يجعل الكتابة في هذا السياق مهددة على الدوام بالوقوع في محظور ممنوع الاقتراب من قدسية النص الديني إلى حد الاختلاط به، أو ممنوع الابتعاد عن القدسية إلى حد الوقوع في ضلال الشيطان.
3 – صياغة خطاطة عامة لقراءة مجموع أغراض الشعر العربي القديم، تتألف من خمسة عناصر، هي: الشعر والكلام، مدخل الشيطان ومدخل الشعر، الشعر والسِّحر واللعب، الشعر وحدَّا الغواية، ثم الشعر والذِّكر.
كما أتاحت تلك العودة إلى «للحظة التأسيسية» لعلاقة الإسلام بالشعر الخروج بأسئلة من ضرب: أي وضع اعتباري سيأخذه المؤلف عموما والمبدع بوجه خاص في الثقافة العربية الإسلامية؟ ما هي الفضاءات التي ستبتكرها الكتابة العربية الإسلامية للإفلات من رقابة الممنوع الديني؟ هل ستمتثل هذه المساحات كليا للشريعة أم ستخرق قواعدها؟
كانت هذه الأسئلة محرك الفئة الثانية من الدراسات التي تناولت روايات جنوب الروح، وورم التيه، وجرترود ولم أعد أبكي، ثم مؤلفين في النقد المسرحي، هما: «المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة» و«المسرح المغربي. دراسة في الأصول السوسيوثقافية». والقاسم المشترك بين مجموع هذه الأعمال، رغم تباين جنس انتمائها، هو الحضور القوي لمسألة الأصل، سواء من حيث الانتماء أو من حيث المقاربة، إذ مثلما يطرح النقد سؤال: هل الرواية والمسرح متجذران في الثقافة العربية أم أنهما مستوردان من الغرب تتخذ الرواية هي الأخرى من الأصل الاجتماعي والثقافي موضوعا للكتابة.
في الرواية تم التركيز على تدبير الشخصيات لأصلها الثقافي المزدوج، من زاويتين مختلفتين، لكنهما أتاحتا الوقوف على ظاهرة «التعارض الوجداني»، بين التقليد والحداثة، وعلى نموذجي النقل الثقافي: النقل على نموذج التحجر والتكرار والإيصال المنفتح على دورتي الحياة والتجدد.
لإنجاز الدراسات السابقة، كان أمامنا أحد خيارين:
– التخندق في نظرية الأدب والنقد، والتقيد بالنقد الأدبي بمعناه الدقيق.
– أو تبني منظور ثقافي يضع الانشغال ضمن محاولة لفهم الثقافة والمجتمع، ويقتضي توظيف عناصر من حقول معرفية مجاورة كالتحليل النفسي والأنثروبولوجيا، وغيرهما.
وعلى المنظور الثاني وقع اختيارنا لسببين:
– الأول: أنه يتيح التعاملَ مع كل ما يلج حقل التداول بصفته أدبا واستثمارَ كل ما يتخذ الأدب موضوعا للتحليل والنقد والانتقاد وإصدار الأحكام، وذلك بصرف النظر عن الحدود المرسومة بين الخطابات.
– الثاني: كونه يجنب الوقوع في التطبيق الآلي لنظريات نقدية وأدوات تحليل غربية على نصوص أو موضوعات أدبية عربية، على نحو ما تفعل العديد من الكتابات النقدية المغربية والعربية، التي يبدو النقد الأدبي فيها بمثابة فرع محلي للمؤسسة النقدية الغربية أو مختبرا ملحقا بها…
ومن ثمة فقد كانت المقاربة المعتمدة في هذا القسم ثقافية، توظف عناصر من الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي، دون تجاوز ذلك إلى تقنيات السرد وباقي عناصر المناهج التي تعاقبت على الساحة النقدية بالمغرب (بنيوية، حوارية، جماليات التلقي، الخ.). ووراء هذا الاختيار أمران:
أ) الاستفادة من قراءاتنا لتعميق البحث في موضوع السحر الذي يعود الانشغال به في إلى عام 1983، إذ شكل موضوع بحث لنيل الإجازة بشعبة اللغة العربية. وحيث لم يفض ذلك البحث إلى أجوبة كافية، فقد تمت مواصلة دراسته من منظور رحب يتجاوز سؤال وجود السحر من عدمه إلى تحليل الظاهرة باعتبارها خطابا – بؤرة تتيح الوقوف على الكثير من القضايا الحيوية، كالحداثة والتقليد، والمتخيل والرمزي، والتقابل واقعي الأسطوري، وحضور عناصر من الذاكرة الجمعية السحيقة في اليومي، وإعادة إنتاج التقليد، الخ.، فضلا عن الوقوف على القاعدة الثانوية وراء إنتاج كل حكاية. بدل اختيار أحد الإطارين النظريين السائدين في دراسة السحر آنذاك، وهما علم النفس المرضي والوظيفية الاجتماعية، تمَّت المزاوجة بينهما ضمنيا، لكن بتركيز تحليل الأزمات السحرية باعتبارها خطابا لغويا على نحو يَعرضُ أقوال أطراف حوادث السحر تبدو وكأنها مَحكيات. وبقدر ما أتاح هذا المنظور فهما أفضل لقضايا السحر مكَّنَ من تجديد النظرة للأدب، وربما خندقنا لا إراديا في ما يُصطلح عليه بالنقد الثقافي بكيفية كانت مصدر مشاكل أحيانا نظرا لضيق أفق بعض الزملاء في شعبة اللغة العربية بالمدرسة العليا للأساتذة بالخصوص، ما حرمنا من مواصلة هذا المشروع الذي كنَّا ننوي صرف عمرنا كاملا فيه…
ب) نظرة شخصية للأدب تتمثل في كونه ربما هو الخطاب الوحيد الذي يصعد رأسا إلى ما يُمكن تسميته بالسنن الاجتماعي الضمني المتحكم في كافة سلوكاتنا وتعاملاتنا اليومية، والذي لا تعدو سائر تخصصات العلوم الإنسانية مجرد محاولات لحصر بضع جوانب منه وصياغة قواعدها. في المقابل، يَصعد الأدب رأسا إلى ذلك السنن ويسوق ما استطاع منه، بدون قيود ولا انشغال بإبراز قواعد ولا رغبة في الإحاطة، ما يتيح الحصول ليس على معرفة بالمجتمع فحسب، بل وأحيانا كذلك على ما لا يتم التوصل إليه في حقول معرفية أخرى، سوى بمجهودات شاقة (لنتذكر، مثلا، في هذا الصدد اصطلاحات المازوشية، والسادية، والنرجسية في التحليل النفسي).
أخيرا، في الدراسات التي تناولت روايات القوس والفراشة وغرباء المحيط وكاميكاز، تمَّ التخلي عن الإطار النظري المعتمد في المقالات السابقة لفائدة مقاربة توظف بعض مقروء مركز اهتمامنا الراهن، وهو إبدالات ما بعد الحداثة. فتحليل القوس والفراشة ركز على التقاط تحولات الرابط الاجتماعي على نحو ما تحددها بعضُ كتابات ميشال مافيصولي في ما بعد الحداثة وما يسميه بزمن القبائل، ومقاربة غرباء المحيط وظفت الجدل القائم اليوم بين أنصار النزعة ودعاة ما بعد الإنسانية أو حركة الإنسانية العابرة، وأخيرا التقط تحليل رواية كاميكاز بعض سمات ما بعد الحداثة وجمالياتها في العمل المذكور.
وضمن هذا الخط ننوي مواصلة ما سيتأتى لنا قراءته من أعمال أدبية لتوفير نوع من التوازي والتناغم مع انشغالنا المركزي الجديد، وهو تحولات الكتابة والقراءة في ظل الثورة الرقمية وإعادة تشكيل هذه الثورة نفسها للحقلين الأدبي والثقافي، لاسيما أنَّ تتبع مفهوم النص التشعبي قادنا إلى ولوج آفاق قرائية وولد اهتمامات لم تكن متوقعة على الإطلاق، كانت من التنوع والشتات بحيث لم نعثر على إطار عام لتوحيدها إلا منذ حوالي سنتين.

ثانيا: التحولات الأدبية والثقافية في العصر الرقمي:
يشتمل على مواد تمَّ إنتاجها خلال العقد الأخير (2002-2012)، وانشغالها المركزي هو الثورة الرقمية وتأثيرها على القراءة والكتابة وإعادة تشكيلها للحقلين الأدبي والثقافي. انطلقت هذه الثورة منذ سبعينيات القرن الماضي ولازالت مستمرة إلى اليوم، ويُقدَّر أنها ستتواصل لعقد آخر أو عقدين قبل أن تستقر ويستقر معها كل ما يشهد الآن ما يُشبه زلزالا هائلا، حيث ما من شيء فتحنا عليه أعيننا إلا ويشهد تحولا جذريا جرَّاءها: العالم المادي، التنظيم الاجتماعي، الشغل، الاقتصاد، الصحة، التعليم، الخ، ثم الإنتاج الفكري والفني بسائر أشكاله، فضلا عن تقنية تخزين الذاكرة والتراث واستعادتهما.
على هذا القطاع ننوي تركيز نشاطنا تدريسا وبحثا في ما تبقى من مشوارنا المهني والفكري، وذلك بالحفر في جذور الثورة الرقمية ودراسة التحولات الجارية على إثرها، ليس في في ما سبق ذكره فحسب، بل وكذلك في الإنسانيات عامة، وفي مستقبل الإنسان بشكل أعم.
وعليه، أتمنى أن يتمحور نقاش هذه الجلسة التي شرفتموني بها على هذا الموضوع بالذات.
إذا كان المشروع الأول قد انكب على الأدب والذاكرة والخطاب، فإنَّ اكتشاف شبكة الأنترنت، سنة 1997، وإدمانها منذ عام 2000، ثم بناء موقع شخصي وتعلم عدد من البرامج المعلوماتية والنشاط في عدد من المنابر الرقمية الشخصية، مثل مجلة ميدوزا ومنتدياتها، أو للغير مثل مجلة الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب ومنتدياتها، كل ذلك قد ألحق عصفا بالانشغال السابق، متمثلا أوَّلا في إجراء قطيعة مع النشر الورقي، وثانيا في إدراك لا جدوى مواصلة الانشغال بأسئلة المشروع الأول في عالم لا يشهد فيه كل من الوضع الاعتباري للكاتب والكتابة والقراءة والملكية الفكرية مراجعة جذرية فحسب، إذ يَشهد الأدب اليوم جراء ظهور الأدب الرقمي نقلا للمسألة الأدبية وانتقالا إلى إبدال جديد ى(بالمعنى الذي يحدده كوهن في مؤلفه بنية الثورات العلمية)، بل وكذلك تعرف الذاكرة نفسها تغييرا جذريا.
لم تعد الذاكرة البيولوجية هي مستودع المعارف، وكانت قد كفت عن ذلك منذ ظهور الكتابة والكتاب (عقب أزمنة المشافهة الأولى) ولا الخزانة التي عرفت ازدهارا لا نظير له عقب اختراع المطبعة في القرن الخامس عشر الميلادي، بل صارت هي الحواسيب والشبكات.
كما يسبق لأي ذاكرة بيولوجية ولا لحامل عبر التاريخ أن استطاع حفظ كم هائل من الوثائق والملفات مماثل للذي تخزنه الحاسبات الآلية اليوم والذي سيزيد بالتأكيد في السنوات المقبلة جراء التطور المذهل الذي يعرفه قطاع صناعة التكنولوجيات المعلوماتية تبعا لما يسمى بقانون مور.
ليس هذا وحسب، فجهاز الحاسوب وسيط مركب يؤدي خمس وظائف في آن واحد، هي الكتابة والقراءة والتخزين والبث والاستقبال.
تنقسم مقالات هذا القسم إلى فئتين: الأولى تقاربُ التحولات الثقافية في ظل الثورة الرقمية، والثانية تتناول التحولات الأدبية في ظل الثورة ذاتها، ويمكن الوقوف على عُصارتهما في دراستي: الرقمية وإعادة تشكيل الحقل الثقافي ثم الرقمية وإعادة تشكيل الحقل الأدبي.
مقالات المحور الأول تركز على تعريف الثورة الرقمية وتأثيرها على الوضع الاعتباري للمثقف والمشهد الثقافي العربي في الأنترنت، وتعامل المثقفين المغاربة مع العالم الافتراضي، وظاهرة الشبكات الاجتماعية، ومستقبل الكتاب وقضية مصافي النشر كما تحلل نماذج من المواقع الرقمية لبعض الأدباء من المغرب والمشرق، ونهاية الأعلام الأدبية، وتـأثير الثورة الرقمية على الإعلام الثقافي المغربي، كما تحاول استشراف مستقبل الكتاب والثقافة العربية عامة، إضافة إلى الإشكاليات التي يطرحها على التعليم عامة وتعليم اللغة العربية خاصة التراجع الذي يعرفه الوسيط الورقي.
أما مقالات المحور الثاني، فحاولت رسم الخريطة الأدبية الجديدة التي ترتبت عن الثورة الرقمية، كما تناولت الأدب الرقمي العربي، من حيثُ المنجز (القصيدة الرقمية العربية الأولى وأعمال محمد سناجلة والفلاشيات الإسلامية، الخ.)، وتأثير الأنترنت عامة على إنتاج الأدب وتلقيه، وولوج الكاتبة المغربية للإبداع الرقمي، الخ. وباختصار، حاولت مقالات هذا القسم مقاربة التغييرات التي تُلحقها الرقمية بالأدب من الخارج (إن جاز التعبير)، أي بالمؤسسة الأدبية ككل، ثم من الداخل، أي بهوية النص الأدبي ومكوناته وبما تمَّ إنجازه عربيا في هذا الأدب الناشيء الذي يسمى الأدب الرقمي.
أهم ما تم التوصل إليه هنا:
– أنَّ الثقافة تشهد تحولا عميقا جراء الرقمية، إذ بولوج الحشود عالم الافتراض وامتلاكها حاسبات آلية انتقل ما ظل حصرا على فئة أقلية داخل المجتمع، تمتلك شرعيتها من رأسمالها الرمزي المتأتى لها مما تراكمه من مقروء وشواهد جامعية، انتقل إلى الجُموع، ما أفضى إلى ظهور فاعلين جدد في المجتمع وقطاعات الإنتاج الثقافي (الموسيقى، الفن التشكيلي، الفوتوغرافيا، الخ.). وفي ما يُصطلح عليه بالربيع أو الحراك العربي خير دليل على ذلك.
– مع الرقمية، وباعتماد معيار التعامل مع الحاسوب والشبكة بات بالوسع التمييز داخل المثقفين بالمعنى الاصطلاحي للكلمة بين فئتين: رقميين وورقيين، كما صار بالوسع التمييز داخل التقليد بين تقليدين: تقليد ديني أصولي وآخر ثقافي تضطلع بإعادة إنتاجه فئة ظلت إلى وقت قريب توصف بالحداثية؛
– تشهد المؤسسة الأدبية والأدب بما هو جنس خطابي تحولا عميقا جراء تحرير النشر، من جهة، وجرَّاء تراجع سلطة مصافيه التقليدية، إلى حد غيابها التام في بعض الأحيان، من جهة ثانية، وأخيرا بسبب قدرة الحاسب الآلي على الإنتاج اللامتناهي لنصوص في سائر الأنواع الأدبية، ما يجعل سؤال مستقبل الأدب يطرح نفسه بحدة. إذا كان من الصعب المجازفة بتقديم جواب حاسم فالمحقق أنَّ الأدب بصدد فقدان هالته، وربما التحول إلى مجرد منتج استهلاكي، فضلا عن أننا لم نعد نقرأ كما كنا نقرأ من قبل؛
– مع أنَّ الأدب الرقمي يندرج ضمن الآداب الناشئة، فإنَّ النقلة التي يجريها من خلال عدم مغادرته الحاسوب كتابة وقراءة والتغييرَ الذي يُلحقه بمفهوم النص الأدبي، بحيث لم يعد منتجا لغويا فحسب، بل صار في بعض أنواع الأدب الرقمي نصا مركبا يتألف من الصوت والصورة واللغة، فضلا عن اكتسابه أبعادا زمانية ومكانية في حالة النصوص المتحركة المبرمجة، ما جعل النص الأدبي من الآن فصاعدا نصا سيميولوجيا بالمعنى الذي حدده سوسور لهذا العلم، تلك النقلة تجعل مقولات النقد الأدبي التقليدي وأدواته التحليلية قاصرة ما لم تكن غير مجدية على الإطلاق لمقاربة نصوص الأدب الناشئ وتطرح ضرورة مغادرة التخندق في دائر النقد الأدبي بمفهومه الضيق لفائدة مساحة يتداخل فيها أكثر من علم من العلوم الإنسانية، وفي مقدمتها سيميائيات الأنساق البصرية.
– للقراءة والكتابة وظهور أجناس الخطاب صلة وثيقة بالحوامل، إذ كلما ظهر حامل جديد انقرضت أنواع من الخطاب وظهرت أخرى جديدة وطرأ تحول على القراءة والكتابة كما على عدد مزاولي هذين النشاطين. وبالانتشار المتزايد لجهاز الحاسوب الذي، من زاوية كونه حاملا، يخزِّنُ سائر أنواع الملفات (صوت، صورة، خط)، من جهة، وغزو الوسائط الحديثة لسائر مناحي الحياة على نحو جعلها مدخلَ أطفال اليوم إلى العالم وطرفا أساسيا في تنشئتهم الاجتماعية، من جهة ثانية، وبداية تخلي مجموعة من البلدان عن الكتاب الورقي في المؤسسات التعليمية، من جهة ثالثة، بذلك كله يمكن تأكيد أنَّ نشاطا القراءة والكتابة على أبواب تحول جذري لا نظير له في تاريخهما.
لا تشكل الثورة الرقمية سوى أحد الإبدالات الناشئة في سياق ما يسمى بعصر ما بعد الحداثة، والتي ظهرت نتيجة الانتقادات الحادة التي وجهت للحداثة على امتداد النصف القرن الماضي. هذه المنظومات هي:
أزمة العلم، الميثاق مع الطبيعة بدل الميثاق الاجتماعي، الإنسانية العابرة، مجتمعات الإعلام والمعرفة بدل المجتمعات الصناعية، الإنسان المتحول، ثم صراع الحضارات.
ومن شأن عدم استحضار هذه الإبدالات لدى دراسة الثورة الرقمية ونتائجها أن يجازف بالوقوع في الاجتزاء والخروج عن السياق. تفاديا لذلك وضعنا خطاطة موجِّهة لقراءاتنا وبحوثنا ودروسنا المقبلة تتألف مما يلي:
– إعادة رسم المسار الذي أفضى إلى ما يسمى بما بعد الحداثة، بالرجوع إلى محطات النزعة الإنسانية وحركة النهضة، ثم الأنوار فالحداثة.
– التوقف عند الإبدالات السابقة؛
– الانكباب على البعدين الثقافي والأدبي للثورة الرقمية؛
– وأخيرا مواصلة البحث في محور الأدب والعلوم الإنسانية بتوظيف قراءاتنا في المحاور السابقة.
ونأمل أن تمكننا هذه الخطاطة من فهم أفضل لما يسمى بالنهضة العربية والخطاب العربي التنويري الراهن، وسائر المدارس الأدبية العربية التي لها نظائر في الغرب (الرومانسية، الواقعية، الحداثة، الخ.)، فضلا عن الأدب الرقمي العربي.
ختاما، أعتذر لكم عن الأخطاء المطبعية التي تتمركز أساسا في نصوص المداخلات الحديثة التي لم يكتمل تحريرها بعدُ، ولم نملك وقتا كافيا حتى لإعادة قراءتها بسبب الحيز الزمني الضيق جدا المتاح لتهييء ملف هذه المباراة.

—————-

م. أسليـم: من الأدب إلى رصد تحولات الكتابة والقراءة والثقافة عامة في العصر الرقمي

قدمَت هذه الورقة أمام لجنة المناقشة لاجتياز مباراة توظيف أساتذة التعليم العالي بمؤسسات تكوين الأطر التابعة لوزارة التربية الوطنية، بمركز تكوين مفتشي العليم (باب تامسنا – الرباط)، يوم 12 يونيو 2012.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الخميس 06-09-2012 07:34 صباحا

Breaking News