إلى روح العزيز مولاي الذي لم يجد سبيلا آخر للإشفاق على نفسه عدى وضع حد لها بإفراغ بندقية صيد في رأسه.
عندما ضاقت بي سبل العيش واسودَّت الدنيا في عيني قررت بما لا رجعة فيه فررتُ أن أضع حدا لحياتي. حملت البندقية بين يدي، ثم اختليت داخل غرفة بالمنزل. ها أنتَ يا أنا رأسا لرأس، وجها لوجه. هيأتُ للأمر طيلة ستة أشهر ظل أبنائي على امتدادها ما يتراءون لي بهيأة مشاريع يتامى، فكانت كل ضجة تصدر من أحدهم إلا وتثير في شعورا متناقضا: الإحساس بالشفقة عليهم من رعب الحقيقة التي أخفيها عنهم، والحقد الشديد على نفسي لكوني أحجب شيئا عنهم. ففيما يتضاحك الأبناء من حولي على مائدة الطعام أو في إحدى الأمسيات الساهرة أمام شاشة التلفزيون، ويخططون للأشهر المقبلة، بل وحتى للعام أو الأعوام المقبلة مدرجين إياي في تخطيطاتهم، منيطين بي أدوارا، أعلم علم اليقين أن كل ما يقولونه عبث مادمتُ قد خططتُ لاغتيال نفسي في أحد الصباحات… لكن، ألا يقوم الشرط الإنساني نفسه على هذه الخدعة؟ فنحن نمشي ونأكل ونشرب ونفكر ونخطط، لكن بيننا وبين مآل مشاريعنا تنسدل حجبٌ كثيفة لا ندري من أسدلها عنا ولا لماذا، فيعتزم أحدنا القيام بعمل صبيحة الغد، لكن ما يمتطي الحافلة أو السيارة حتى يستحيل إلى أشلاء على إثر حادثة سير مرعبة، أو يحل به مرض عضال لا ينفع معه علاج، فتتحول المشاريع السابقة كلها إلى ضرب من العبث. آه، لو كان الأحياء يعلمون متى يموتون وأين لقاسوا مشاريعهم بمقاسات دقيقة فما يتركون وراءهم للعبث إلا الريح. لمضى كل وقد أتم مشاريعه قاطبة…
كل شيء يبدو كما لو كان مستقبلنا إبحارا في ماضٍ، سطَّرَته لنا قوة خفية، قوة من كلية الحضور والوجود على مستوى الزمان والمكان بحيث، مع استحواذها التام علينا، تسبق وجودنا الحالي بشوطين: الشوط الذي نحنُ فيه الآن، ونسميه حاضرا، والشوط الذي نتقدم نحوه ونسميه مستقبلا، وشوط آخر يتعذر علينا إدراكه أو تصوره، ويمكن تسميته بمستقبل المستقبل. وبذلك، يمكن أن أعتبر نفسي الآن حيٌّ، لكن القوة السابقة لا تعتبرني ميتا فحسب، بل ولها معرفة تامة بكيفية موتي وزمنه ومكانه، علما بأني لا زلتُ متوجها نحوه.
لمَّا قررتُ بما لا رجعة فيه وضع حدٍّ لحياتي كنتُ لاحقا بهذه القوة، مواكبا لها، انتقلتُ إلى الشوط (أو النمط أو الشرط، سموه ما شئتم) الثالث، التحقتُ بمعقل الآلهة، إن شئتم، مع فارق واحد هو أن الآلهة لا تموت، بينما أنا سأموت.
*
* *
طَّاق، ثُمَّ ها أنذا أطأ أولى عتبات المحو. طَّاقْ، ثمَّ ها أنذا أتحول، وفي أقل من لمح البصر، من نمطٍ وجوديٍّ إلى «نمط» مخالفٍ تماما. طَّاق في البطن، وببندقية صَيْدٍ! أكثر من ذلك داخل غرفةٍ أحكمتُ سَدَّها عليَّ بقفلٍ قبل أن أقدم على ما نقلني إلى الحالة التي عليها الآن: بين الإغماء واليقظة، الآلام الموجعة تمزق الأحشاء، الأمعاء والكبد والطحال والكليتان، كلٌّ اخترقته شظايا الرصاص. أما الظهر فقد انحفرت فيه فتحة بحجم فوهة مدفع، الدمُ يندفع من البطن والظهر كجسدٍ غريبٍ عنِّي. أجهد يديَّ لإمساك تدفقه، بشدِّ صفحتي الكفين على البطن والظهر، بالتناوب، لكني لستُ أملك حولا أو قوة لإمساك السيلان. الآن أقف على ما كنت أخمنه دوما، عندما كنتُ حيّاً، بخصوص عبور موتى الحوادث والاغتيالات إلى الجهة الأخرى. تكونُ مارّا في الطريق، راجلا أو على متن سيارة وأنت تفكِّرُ في مشاريعك، فيما ستفعله بعد قليلٍ، في ما ستقوم به في المساء، في ما رتَّبْتَ لإنجازه في اليوم الموالي، تكون سائرا وأنت تخطط لمشاريعك المستقبلية، ثم فجأة تسمع الرَّاق، وها أنت مُمَدَّدٌ على قارعة الطريق أو سجين بين قطع الحديد التي تكون قد تخللت لحمك وعظمك، تجد نفسك على تلك الحال وقد تحلَّقَ الناسُ من حواليكَ، وسائِلٌ دافئٌ يتدفق من رأسك، أو أذنيك وأنفك، أو قفصك الصدري… فتفطن إلى أن قطعة حديد أو خشب قد هوت عليك من أعلى عمارة فهشَّمَتْ رَاْسَكَ، أو أن سيارة داستك بغثة، أو أن السَّيارة التي كنت تسوقها قد زاغت بك، فانقلبت أو اصطدمت بشجرة أو بسيارة أخرى، أو أن الحافلة التي كنت تمتطيها قد سقطت من أعلى قنطرة أو اصطدمت بشاحنة أو بما لست أدري، فتفهم أنْ ليس الدَّمَ الرَّاشِحَ إلا علامةً أو إشارة أو دعوة – لا يهمُّ أي الأسماء تطلق عليها لأن ذلك كله لن يغير من الأمر شيئا – علامة أو إشارة قسرية أتتك من دون استئذان أو سابق إعلام، دعوة من القوة بحيث لا تترك لك فرصة حتَّى لإبداء ولو مجرد رأي فيها فأحرى التردد في الاستجابة إليها أو محاولة مراوغتها، فلا تملك إلا الاستسلام والمضي إلى الضفة الأخرى صامتا عاريا متحسرا دون أن تتمكن حتى من تذوق طعم الحسرة والصمت والعراء الذين بدواخلهم تمضي ملفوفا إلى ضفة المحو المنصوبة فخاخها وشراكها في كل خطوة من خطوات الحياة.
لستُ أملك الآن أي حول أو قوة لإمساك الدم الدافئ المتسرب من بطني وظهري. شُلَّت قدمايَ ويداي، غمر رأسي دوارٌ شديدٌ. أريد أن أصرخ، لا أقوى على الصراخ، أحاول أن أتأوه فقط، لا أقوى على التأوه، لأن الهواء نفسه تجمَّد في رئتي. أتمَزَّقُ بين إحساسين متعارضين: الأول نفورٌ تامٌّ من هذا الوضع، رغبة في البقاء، لكنني لم أسدد الطلقة إلى بطني إلا بعد أن لم أترك أي أملٍ للأهل أو الأقارب في إنقاذي، فقد أحكمتُ إغلاق باب الغرفة من ورائي بالمفتاح، ولذلك فأحدٌ ممَّن بالبيت لم يسمع حتَّى صوت الطلقة. لو لم أفعل ذلك لسمعوا الطلقة، وهرعوا إليَّ حال خروج أول قطرة دم من جسدي، ولكنتُ الآن في سرير مستشفى، ولواصلتُ الحياة على الأقل خمس ساعات أخرى… لكن ذلك كله الآن مستحيل. الآن فقط أدرك ما اجتازه صاحب الجثة التي صادفتها عند مدخل مدينة فاس حوالي شهرين: كان ملقى وسط الطريق، ربما داسته سيارةُ لم تحكم مداهمته، صدم مقبض أحد أبوابها جزءا من جسده، فأسقطته ممدَّدا، ولاذ السائق بالفرار، دَوَّخَتْهُ.. وهو وسط الطريق كان حيا، وهو يعي تمام الوعي أنه حيٌّ، لكن دوار الرأس والوهن المترتبين عن عنف الاصطدام كانا يحولان بينه وبين القدرة على الوقوف. كان يعي تمام الوعي أنه ملقى وسط الطريق، وأنه في منتهى الخطر مقيم، خطر أن تدوسه سيارة مارة بمنتهى السرعة. كان يحاول إنقاذ نفسه من خطر الانتقال إلى مساحة الحتف في أقل من لمح البصر، لكنه لا يقوى على النهوض، يريد أن يصرخ، لا يقوى على الصراخ، يريد أن يحرك يديه للقيام بإشارة واحدة، كي يستنجد فينقذُ، لا يقوى على الحركة، وقوافل السيارات كانت لا محالة قادمة… تخيلوا ما آل إليه الممددُ، مُغْمى عليه على الطريق، وقد غالبهُ الدوارُ والوهن: لقد دهسته عجلات سيارة قادمة بسرعة الفيافي، فأحالته خلالَ بضع ثوانٍ إلى جثة هامدة شبه ملتصقة بالطريق المُعَبَّدِ… حالي الآن يشبه حال من كان ممددا على الطريق قبل أن تضع السيارة المسرعة حدّاً لحياته، بل أنا الآن هو صاحب الجثة لمَّا كان ملقى فوق الطريق. ما يفرق بيننا إلا عتبة وجود واحدة في منتهى الصِّغَر: كانت نهاية احتضاره رهينة بسيارة يسوقها سائق شارد أو قليل الانتباه، والسيارة كانت لا محالة آتية في وقتٍ قصير، إلا أن احتمال أن يكون سائقها شاردا أو ساهيا أمرا كان غير مستقر كرقاص السَّاعة. أما نهاية احتضاري بأقل قدر من الألم فرهينة بوُصُولي إلى خرتوشة الرَّصَاص، وتسديد طلقة أخرى إلى رأسي حالا. بل لا فرق بيننا. أنا هو وهو أنا. فكونه مات بعد أن داسته سيارة في وقت وجيز يعادل وصولي إلى الخرتوشة وإطلاق الرصاصة على رأسي. ولو لم يمت إلا بعد وقت طويل، بعد أن لم يدُسْهُ السَّائق الشارد، وبعد أن نودي على سيارة إسعاف أبطأت في الوصول، ولما وَصَلَتْ حملته، لكنها ما بلغت منتصف الطريق حتى كانت روح الجريح قد زهقت. أنا الآن هو وقد فشلتُ في الوصول إلى الخرتوشة، وخارتْ قواي وتمددتُ فوق الأرض طريحا أحتضر وحيدا، فلا تزهق روحي إلا بعد مضي سنين من الاحتضار والرُّزُوحِ تحت الآلام الطويلة القاسية. ألا ما أشبه سُبُل موت الأحياء رغم تباين طرق موتهم وأسبابها!
أما الإحساس الثاني فهو الرغبة في رفع هذا الألم الذي يجتاحني بسلوك سبيل المحو السَّريع بإطلاق رَصَاصَة أخرى. رصاصة واحدة في الرأس وينتهي كل شيء. لكن هيهات لك أن تقوى الآن على ذلك يا أحمد. فأنت لم تملأ زند البندقية سوى برصاصة واحدة، وعلبة الخرتوشات تركتها بعيدة عنك ببضعة أمتار. هاهي قبالتك كأنها تناديك: «أنا خلاصك، لكنني أنا الأخرى عاجزة عن المجيء إليك، هيا استمسك، وقف، ثم خذ مني ما شئت من الرصاصات»… أسْتَمْسِكُ، وأهُمُّ بالوقوف، لكنني لا أقوى على الوقوف؛ رجلاي شبه مشلولتين، ويداي مشدودتان على البطن، تحاولان لأيا تخفيف الألم، وأنا شبه جالس، تمدَّدَتْ قصبتا ساقيَّ لتتحولا إلى دعامة لإسناد فخذيَّ اللذين نزل عليهما أعلى الجسد بكل ثقله. بيني وبين الخلاص مجهود الوقوف والمشي حوالي مترين على القدم، لا أقوى على فعل ذلك. ومما يقوي من عجزي كوني أحرص حرصا شديدا على عدم سقوط البندقية. فلو سقطت على مبعدة مني لكلفني استرجاعها مجهودا لا طاقة لي به، ولذلك عضضت على منتصفها بالأسنان. ألا ما أضعف الإنسان لحظة انقضاض الموت عليه! لا يقوى على زحزحة نملة من مكانها. أحسُّ بغبنٍ شديد. أتساءل: «هل كان بوسعي أن أفعل غير ما فعلته؟»، لا أجد لهذا السؤال أي معنى، لأنني لو كنتُ سدَّدتُ الطلقة صوب رأسي لحظة كنتُ مِلْكا لنفسي، لحظة كنت ذي قوة وإرادةٍ، لو فعلتُ ذلك لما كان هذا الذي أفكر فيه الآن، بل لكنتُ امَّحَيْتُ أصلاً… يتوارى الندم أمام الإشراقة التالية التي انبجستْ من غمرة الألم وفورة الدماء: للموت فخاخ وشراك يلقي بها في كل لحظةٍ في طرق الأحياء ودروبهم ومسالكهم، لكن قلما يفطن المرء إليها كي يتجنبها، لا يفطن إليها المرء في الغالب إلا عندما يكون طريحا يحتضر إثر مباغتة الموت إياه…
الألم يعصرني، ابتل قميصي وسروالي بدمائي، ارتسمت بقعة كبيرة تحت قدميّ. أحاول أن أستمسك كي أقف وأتحرك نحو البندقية لأسدد طلقة واحدة، لا أقوى على الحركة. أجهد نفسي على الوقوف. أقف. لا تقوى قدماي على حمل جسدي. أجهدهما على حمله. أشد بيدي معا على الحائط كي أخفف من وطأة ثقل أعلى البدن على القدمين. أخطو خطوة. لكنني أنهار، وأسقط متأوها. ارتسمت في الجدار بقع دمٍ خلفتها به يدَيَّ واحتكاك صدري به. بيَّ دوَّارٌ شديد. الألم يعصرني. مكثتُ لم أدري كم من وقتٍ، ثم استمسكتُ. أجهدتُ نفسي على الوقوف. وقفتُ. لم تقوى قدماي على حمل جسدي. أجهدتهما على حمله بشد يديَّ معا على الحائط. خطوتُ خطوةً وأنا شبه ملتصق بالحائط. لكنني ما وضَعتُ إحدى قدمَيَّ على بعد خطوةٍ حتى هوت القدم الأخرى تحت ثقل الجسد. سقطتُ على الأرض متأوها. انضافت لطخة دمٍ كبرى في الحائط بجوار اللطخة الأولى، وفوق اللطخة ارتسمت بصمات كفَّيَّ معا. يلزمني التفكير مليا كي أختصر طريق الوصول إلى الخرتوشة الملقاة وسط الغرفة: أي السبيلين أقصر؟ القيام بنصف دورة على الغرفة ملتصقا بالحائط إلى أن أصل أقرب نقطة فاصلة بين الحائط وبين الخرتوشة، ثم أباشر الدب على المرفقين والركبتين أم أقصد الخرتوشة رأسا سالكا طريق الخط المستقيم؟ إن أختر السبيل الثاني فلن يكون بيني وبين الهدف إلا حوالي ثلاثة أمتار، وإن اختر السبيل الثاني، سبيل القيام بنصف دورة على الغرفة ملتصقا بالجدار فيكون عَلَيَّ أن أعبر حوالي عشرة أمتار. الطريق المستقيم أقصر وأسهل يا أحمد. لكن من ضمن لك القدرة على الوصول إليه؟ فقد لا يقوى مرفقاك وركبتاك على حمل جسدك أكثر من مسافة ربع متر واحد، فيُشَلاَّن، ويهوى بطنك المخروم على الأرض، فما أن يقع التَّمَاسُّ بين غلاف أحشائك وصفحة الأرض حتَّى يصير يتضاعف ألم الأحشاء أضعافا مضاعفة وتفقد القدرة على معاودة أي حركة، وتمكث بالتالي ساعات طويلة تحتضر في النقطة التي سقطتَ فيها والحال أنك تروم وضع حدِّ لما تبقى من حياتك في رمشة عين. بخلاف ذلك، إذا اخترتَ القيام بنصف دورة على الغرفة، فإنه يكون لك فرصة تَجَنُّب احتكاك البطن بالحائط، عن طريق إسناد الجسد على القدمين، وكلما شُلَّت القدمان «قعَدتَ» قليلا، واستجمعت أنفاسك أو قدرا من القوة ثم عاودت الكرَّة من جديد. هكذا اخترتُ الخُطَّةَ الثانيةَ.
لا أستطيع تقدير كم وَقتٍ زمنيٍّ قضيته في «المشي» وأنا أشُدُّ بكلتا يدي على الجدار، و«أصبغه» بدمائي، لكن زمن الموت لا صلة له إطلاقا بزمن الحياة. زمن الحياة خارجي. أما زمن الموت فباطني لأنه من أحاسيس الألم والغبن والحنَق يتشكل فيأخذ هيأة تفوق بأضعاف مضاعفة زمن الحياة والأحياء، ولذلك فمقدار ربع ساعة يقضيه المرء محتضرا يئن تحت جرح خطير أو مرض عضال يعادل يوما يقضيه المرء نفسه في صحة وسعادة وهناء. وإن لم يكن بدٌّ من تقدير المدة التي قضيتها بين خطو كل خطوة وأخرى مع ما كان يفصل بينهما من انحناء لاستجماع النفس والقوة فإني أقدِّرُ أني قضيتُ حوالي ربع ساعة في خطو كلِّ خطوة. نعم قضيتُ شهرا، بزمن الأحياء، في المشي متمسكا بالحائط كي أصل إلى خرتوشة البندقية. آثرتُ ذلك لأنه كان أهون من قضاء سنة أو أكثر وأنا أحتضر ملقى على بطني فوق الأرض لو اخترتُ الطريق الثاني، طريق الزحف على الركبتين والمرفقين.
لما وصلتُ إلى أقرب نقطة بمحاذاة الحائط قبالة الخرتوشة كان حوالي سطل من الدماء قد تسرَّبَ من ثقبتي بطني وظهري وكانت جوانب الجدران وصفحتها قد امتلأت ببقع ولطخ دمائي. كأنني صبغتُ الحائط بدمي. بأسفل الجدران ارتسمت بقع أخرى، تكونت منها شبه جداول ووديان تصب في الزربية التي توسطت الغرفة. لم يمنع تسرب الدماء كوني كنتُ أشُدُّ على الثقبين بكلتي يدَيَّ لِيَلاَّ يتسرب القدر الكافي من السائل الأحمر لإسقاطي قبل أن أصل إلى الخرتوشة… ما إن أيقنتُ أني على مقربة من الهدف حتَّى استجمعتُ أنفاسي وَقُوَّتِي، لم أستطع مواصلة السير. تمدَّدْتُ على جنبي ثمَّ مدَدتُ رجلَيَّ بأقصى ما أوتيتُ من مجهود وشرعتُ في تحريكهما كأني أكنس بهما صفحة الأرض كي أجذب الخرتوشة. لم أستطع. لو أن قضيبا أو مكنسة أو أي أداة منزلية أخرى بمتناول يدي كي أجذب بها الخرتوشة. تمددت على جنبي، ثم جعلتُ ذراعي بمحاذاة جنبي جسدي كأنهما صليبين، والأمر نفسه فعلته برجلي. استجمعتُ الأنفاس، والقوة، ثم تدحرجتُ بمنتهى القوة نحو الخرتوشة. أخيرا وصلتُ إليها. لم تقو يدي على فتح زناد البندقية كي أدس فيها الرصاصة. جاهدتُ نفسي، لم أستطع، استعنتُ على ذلك بأسناني. جلستُ فوق كرسي، وضعتُ فوهة البندقية بين عيني، ثم سمعتُ الطَّاق، وتبدَّدَ الإحساس بداخلي، بعيون المتخلفين بعدي رأيتُ الوضع الذي صرتُ عليه: الدماغ أشلاء مبعثرة فوق صفحة الغرفة، أجزاء من لحم الرأس والدماغ التصقت بسقف الغرفة. دماء كثيرة غمرت كل جزء من أجزاء الغرفة، لأنني قبل أن تزهق مني الروح كنتُ تخبَّطْتُ كما يتخبط الكبش الذبيح قبل أن يتحول إلى جثة هامدة.