انطلاقا من العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأساطير والنقاشات الفقهية، شيَّد الإسلامُ نظرية بكاملها في السحر والخفي عموما. لكن اختلافات الفقهاء حول هذه المسألة تظهر إلى أي حد كانت مُحيِّرة ومثيرة للارتباك.
في الواقع، تحظر الشريعة السحر في الظاهر، ولكن يمكن التساؤل عما إذا لم يكن الدين والسحر، فيما وراء تناقضهما الظاهري، متكاملين في الحقيقة. كيف يمكن تفسير نمط التفكير لدى الفقهاء القائم على التأمل في السحر باستحضار آيات وأحاديث نبوية وليس على استدلال منطقي؟ أي نوع من المواقف كان لهم تجاه السحر وأي معنى أعطوه إياه؟
يعتبر الفقهاء المسلمين وبعض المفكرين أن الإسلام والسحر متعارضين، بل متناقضين، إذ لا يكف الأوائل عن ترديد أن السحر نشاط يهدد الشريعة الإلهية، وأن الساحر أخ لإبليس بمعنى أنه ينتهك على الدوام التعاليم الدينية، فيما يعزو الباحثون العصريون غالبا انتشار الممارسات السحرية في العالم الإسلامي إلى رغبة في تشويه الإسلام، صادرة إما عن ديانات مناهضة للإسلام أو من «مسلمين زائفين»، «منحرفين» وضعوا أحاديث تتساهل مع السحر، بل وربما ألفوا مصنفات فيه.
والحال أن الساحر يرد هذه الاتهامات مؤكدا أنه لا يملك أي قدرة خارج تلك التي يمنحه الله إياها. ويترجم ذلك بإدراج دعوات عديدة وأحاديث نبوية وآيات قرآنية في المصنفات السحرية. فوق ذلك، فإن المعاصرين يهملون الدور الذي لعبته المثاقفة في إيصال الميراث السحري للشعوب الأخرى إلى العالم الإسلامي[1].
يبدو أن السحر والدين، فيما وراء تناقضهما الظاهري، متكاملين في العمق. العديد من النقط تكشف عن أن الإقصاء لم يكن كليا بالقدر الذي يبدو. يشكل الإيمان بحتمية كونية وبقدرة الكلمة مثالا على ذلك. في الواقع، لقد احتفظ الإسلام بالخطاطة العامة للتعاطف الكوني، ولكنه أدخل عليها بعض التعديلات ليعزو القدرة على التأثير في العالم السفلي إلى الله وليس إلى الكواكب أو إلى قوى أخرى. حول هذه النقطة، لم يمتلك الإسلام، باعتباره ديانة توحيدية، القدرة على حذف غزائز عميقة جدا في الإنسانية، مثل التعاطف، هذه الغرائز المتجلية في السحر والميثولوجيا «البدائية»، كما لم يمتلك القدرة على الترحيب بها. إضافة إلى ذلك، فقد كان ينزع إلى توجيه هذه الغرائز في اتجاهات خلقية وعقلانية[2].
وإذن ينبغي أخذ السحر والدين مجتمعين[3]. وراء السجالات اللامنتهية واختلاف مواقف الفقهاء المسلمين، هناك تكامل خفي، غير معلن، بين السحر والدين، يجعل اللجوءَ إلى السحر يُدرَك دائما باعتباره ضروريا، ولكنه لا يمكن أن يُباشر إلا في وضعية تعارض وجداني، بمعنى أنه يتم نبذ هذا اللجوء، ولكن دون التمكن من التخلي عنه؛ يُحتَرَم قانونٌ، ولكن يُرغَبُ أيضا في انتهاكه. في الواقع، عندما يبيح بعض الفقهاء تعلم السحر «لفك المسحور ومنع الأذى عنه، أو تعلمه للعلم فقط»[4]، ويرخصون للمؤمن إزالة السحر، بل ويمدونه أيضا بالطقوس الضرورية لإنجاز ذلك، فإن كل شيء يتم وكأنهم يقولون له: «لا تلجأ إلى السحر، ولكن إذا لجأت إليه، فإليك كيف تقوم بذلك». وهذا الأمر لا تنفرد به الثقافة والمجتمع الإسلاميين، إذ ما من ثقافة بشرية إلا وتتضمن، بالإضافة إلى المعيار الذي تفرضه على جميع أعضائها لكي يُدرجوا ضمن الأسوياء، تتضمن جوانب تنسف فيها أسسها نفسها، وتمد بها أعضاءها – الذين لا ينضبطون للمعيار السابق – في شبه «ضابط». بتعبير آخر، إن الثقافة لا تمد الفردَ بمعيار للسواية، بل وكذلك بـ «قواعد» للانحراف أيضا، الأمر الذي يجعل المرءَ لا يُجنّ، مثلا، كيفما اتفق، وإنما يتقمص دورَ الجنون كما حدَّدته له ثقافته نفسها، ومن ثمة لا يحمق الشخص الفرنسي بالطريقة ذاتها التي يحمق بها الإنسان المغربي… لقد انتبه ج. دوفرو إلى هذا النوع من التعليمات وأطلق عليها اسم «نماذج السلوك الرديء» التي تزود بها كل ثقافة أفرادها لكي ينخرط الانتهاك داخل خطاطات محدَّدة مسبقا من قبل الثقافة[5]. كما يذكر المؤلف نفسه أن «ما من طقس إلا ويكون الأساسي فيه في تعارض مع نظام قيم الثقافة السائدة في مجموعها»[6]. ولعل هذه الإشارة تتيح تلخيص موقف الإسلام من السحر.
يُظهر نمط التفسير «الذري» الذي يحدد السحر ويبين حكمه بناء على آيات وليس بتعليل، لدى المفسرين، أن مسألة السحر – مفهوما باعتباره تعارضا وجدانيا بين القاعدة وخرقها – كانت تغدو معقدة عندما كان الأمر يتعلق بالعقلنة أو التشريع. وهذا التفسير «الذري» الذي يكسر في الظاهر الشكل اللغوي لوحدة النص، «المحافظ عليه في الواقع بفضل الممارسة الطقوسية والإنشاد الشعائري»[7]، ذلك التفسير يبدو الوسيلة الوحيدة التي وجدها الفقهاء يؤدي وظيفة جعل القرآن حقل استثمار دائم للأسطورة، والرغبة، والاستيهام والمتخيل؛ شكلا قادرا على شرعنة النظام الديني الرمزي نفسه. في هذا الاتجاه يمكن القول أن السحر في الإسلام ينتمي إلى ما يمكن تسميته بـ «التعارض الوجداني للمقدس»، إنه مجال للمقدس الدنس؛ إنه الأخ المشين للدين مثما إبليس بالنسبة للملائكة.
لا يكترث الفقهاء وممجدو العقلانية، على السواء، لفهم لماذا يلجأ الناس للسحر ولا لمعرفة ما يسعون إلى التعبير عنه عندما يقولون إنهم مسحورون. مذذاك تطرح أسئلة عديدة: ماذا تمثل ممارسات السحر وإبطاله في المغرب الراهن؟ ما الساحر؟ هل هو وزواره مرتدون وكفار، أغبياء وسذج، كما يُزعَم؟ لماذا يُسعى إلى إخراص من يرغب في التعبير؟ أي شيء تمسه الممارسات السحرية، في العمق، لدى الفقهاء والحداثيين المزعومين بحيث يتفقون ضمنيا على شجبها؟ كيف تحضر أساطير أصول السحر في الإسلام داخل السلوك الراهن للمجتمع؟ كيف يخرج (من إخراج: mise en scène) الناس الميراث العربي الإسلامي المرتبط بهذا الموضوع؟ في أي سياقات ينتشر السحر بكيفية واسعة؟ من يقوم بدور الساحر؟ ما هو وضعه الاعتباري؟ إلى أي نوع من الممارسات السحرية يتم اللجوء عندما يظن الفرد أنه مسحور؟ أي شيء تتم محاولة التعبير عنه أو ترميزه عندما تُشغَّل محكيات للتعرض للسحر؟
——–
هوامــش
[1] حول التأثير المتبادل الذي ينتج عن كل اتصال بين ثقافتين، أو إثنيتين أو فئتين اجتماعيتين مختلفتين، يمكن الرجوع، على سبيل المثال، إلى:
– Edward Sapir, Le langage, Paris, Payot, p. 210-211, Gregory Bateson, Vers une écologie de l’esprit, Paris, Seuil, 1977, t. 1, p. 80.
[2] حول مسألة موقف الديانات التوحيدية من التعاطف، انظر:
– Ernest Cassirer, Essais sur l’homme, Paris, Minuit, 1975, pp. 140-146.
من جهة أخرى، يذكر المؤلف أن «الرواقيين (أنفسهم) الذين كانوا قد صاغوا مفهوم “تعاطف الكل” هذا، لم يتخلوا على الإطلاق عن الأفكار الدينية». نفسـه، ص. 139.
[3] للوقوف على نقط التقاء عديدة بين السحر والدين، يمكن الرجوع إلى:
– G. Gurvitch, La vocation actuelle de la sociologie, op. cit., t. 2, Ch. VIII et IX, M. Mauss, «Esquisse d’une théorie générale de la magie», op. cit., Tzvetan Todorov, «Le discours de la magie», op. cit.
[4] عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، م. س.، ج. 5، ص. 463.
[5] Georges Devereux, Essais d’ethnopsychiatrie générale, Paris, Gallimard, 1977, p. 34.
[6] Ibid., p. 134.
[7] Mohammed Arkoun, Lectures du Coran, Paris, Maisonneuve et Larose, 1982, p. 134.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الثلاثاء 04-09-2012 03:08 صباحا