يتمحور العمل الحالي حول موضوعة مركزية هي الإرهاب، و يبدو لأول وهلة استعادة للموضوعة الرئيسية لرواية القوس والفراشة لمحمد الأشعري التي نالت بدورها تتويجا أدبيا هو جائزة البوكر، برسم عام 2011، ملثما نالت كاميكاز جائزة المغرب للكتاب، قسم السرديات، برسم سنة 2010..
إلا أنَّ ثمة اختلافات جوهرية بين العملين قد يكون أهمها تركيز الأشعري على الحداد اللامكتمل مع رصد تحولات المجتمع المغربي منذ سبعينيات القرن الماضي، فيما تركز رواية كاميكاز على مفهوم الإرهاب نفسه عبر وضع اصطلاح رديف له ومضاد له في آن، وهو مفهوم الإرعاب الذي يشمل في الرواية ليس الأفراد والجماعات التي تُنعت بالإرهابية في القاموس السياسي ووسائل الإعلام المعاصرين، منذ وقائع شتنبر 2001 فحسب، بل وكذلك:
-يشمل مجموع الإجراءات الاحترازية والوقائية ضده التي تتخذها الدول داخل أراضيها وفي علاقاتها في ما بينها ليصير مفهوم الإرهاب / الإرعاب يتجاوز كونه ظاهرة ترتبط بما يُصطلح عليه بـ «الحركات الإسلامية الأصولية المتطرفة» إلى أن يصير ظاهرة تشمل حركات أقلية في دول غربية (إيتا الإسبانية)، من جهة؛
-وينطبق (مفهوم الإرهاب / الإرعاب) على علاقة الهيمنة القائمة بين دول الشمال ودول الجنوب، من جهة ثانية؛
-ويشمل أخيرا الجنس البشري نفسه، حيث تفتح الرواية جسورا بين الإرهاب / الإرعاب المعاصر ونظيره عبر التاريخ (الإسلامي وغيره)، كما مع نظيره في أقطار عديدة من بلدان اليوم في سائر القارات. من هذه الزاوية، نكون أمام عمل كونيّ يتناول أحد الأبعاد المأساوية للشرط الإنساني، لكن بسخرية تبلغ حد المرارة.
لا تزعم هذه الورقة تلخيص الرواية ولا عرض كافة مكوناتها؛ فهذا يقتضي دراسة مطولة بالنظر لتعدد مكونات العمل وتشعبه: ففي سياق الحكي عن الإرهاب / الإرعاب، ثمة حشد من الأمثال والحكم، ما يجعل هذا الجانب مكونا مستقلا بذاته إلى جانب مكونات مماثلة، منها: السخرية، والنكتة، واللعب اللغوي، واستحضار التراث، والأغاني، واستعمال اللغة الدارجة بشقيها المغربي والمشرقي، الخ.
1. معنى التقويم الصيني في الرواية:
تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء ومسك ختام هو عبارة عن فصل لا يُعرف سارده ولا سارد الفصل الذي قبله، بخلاف باقي الرواية، ويحكي محطات من سيرة المؤلف سعيد علوش، هنا في المغرب كما في فترة دراسته بفرنسا وإقامته بمحافظة كاتالونيا الإسبانية.
والأجزاء الثلاثة، هي على التوالي: عيون الثيران، وعيون السباع، ثم عيون الذئاب. و«العيون» قد تكون هنا جمع عين بمعنى الأفضل والأحسن والأجود. إذا صحَّ هذا التفسير فإنَّ الرواية تكونُ قد مدَّت خطوط تقاطع، تقضي التأويل طبعا، مع مجموعة من المصنفات التراثية ذات العناوين الشبيهة، مثل:
– عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، لمحمد بن عبد الله بن يحيى
– موائد العوائد من عيون الأخبار والفوائد، لحسن خان بهادر
– عيون الأخبار وفنون الآثار في فضائل الأئمة الأطهار، لمصطفي غالب
– عيون الأزهار في فقه الأئمة الأخيار، لابن المرتضى
– عيون الأخبار، لابن قتيبة
– عيون الأخبار، لعيسي بن أحمد الأندلسي(1).
ويشتمل كل جزء على أربعة فصول يحمل كل منها عنوانَ عام من سنوات التقويم الصيني الذي يمتد على اثنتي عشرة عاما، يحمل كل منها اسم حيوان، وتقابله سنة من سنوات التقويم المسيحي.
هكذا، فأعوام الفأر، مثلا، هي: 1900، 1912، 1924، 1936، 1948، 1960، 1972، 1984، 1996، 2008، 2020، الخ.
وأعوام البقرة (أو الثور)، هي: 1901، 1913، 1925، 1937، 1949، 1961، 1973، 1985، 1997، 2009، 2021،
وقد راعت الرواية تسلسل هذه الأعوام، حيث اشتمل الجزء الأول (عيون الثيران) على أعوام: الفأر والثور والنمر والأرنب، والثاني (عيون السباع) على الفصول (من 5 إلى 8) على: عام التنين وعام الثعبان وعام الفرس وعام الماعز، فيما تضمن الجزء الأخير (عيون الذئاب) الفصول (من 9 إلى 12)، وهي: عام القرد وعام الديك وعام الكلب ثم عام الخنزير.
إذا كانت الرواية توحي بوجود خطية ما، من خلال احترام تسلسل أعوام التقويم الصيني، فمن الصعب تأكيد:
– ما إذا كان هذا التسلسل يطابق الوقائع التي تحكيها الرواية: فأول تاريخ يظهر في العمل هو عام 2010، ويقع في سنة النمر في التقويم الصيني، بينما اندرج الحدث نفسه داخل الرواية في عام الفأر الذي يقع في سنة 2008 من التقويم الشمسي (أو الميلادي)؛
– أم أنَّ تجميع الأحداث والوقائع المسرودة قد راعى الخواص الفلكية للأعوام الصينية التي هي أيضا أبراجٌ: فلمولود كل عام خواص شخصية يستمدها من برجه، كما له صفات في الحب، وأعمال تناسبه دون أخرى، ومواليد أبراج تناسبه دون أخرى، وأرقام حظ، الخ. على غرار الأبراج الشمسية الإثني عشر (سرطان، دلو، عقرب، الخ.) التي سبق وأنْ اتخذها المؤلف هيكلا لروايته السابقة مدن السكر(2).
يقتضي إثبات الفرضيتين السابقتين أو دحضهما مقابلة أحداث الرواية مع عناوين الفصول، وهو ما لا تزعم هذه الورقة القيام به. في المقابل ستكتفي باقتراح تأويل لاستخدام التقويم الصيني، هو كالتالي:
يمكن تفسير هذا الاستعمال بمعنين:
الأوَّل هو الطابع الدوري للحب والموت أو لغريزتي إيروس وتاناتوس، بتعبير فرويد. إذا صحَّ هذا التفسير كانت الرواية قد وضعت يدها على عصب ما يجعل من الإنسان إنسانا، لكن أيضا على ما يُجازف بإفقاده هذه الإنسانية.
فمن حيث أنَّ الموت والحب هما جوهر ما يُخرج به (من إخراج mise en scène) الإنسان إنسانيته تصير الرواية بكاملها، رغم ما تعرضه من حشد هائل من المعلومات والإحصائيات والوقائع والأحداث المأخوذة من الراهن كما من كتب التاريخ والفقه، فإنها لا تعدو مجرد عينة لما يُمكن إيراد الكثير والكثير منه. بهذا المعنى يمكن مواصلة الكتابة / إدراج وقائع وأحداث أخرى، أي ولوج دورة أخرى من التقويم الصيني الذي ما أن تكتمل سنواته الاثنتي عشر حتى تبدأ دورة جديدة تستغرق هي الأخرى اثني عشرة عاما، وهكذا، إلا ما لا نهاية.
ومن حيث أنَّ الموت والحب هما ما يجازف بإفقاد الإنسان إنسانيته فقد يعني استدعاء التقويم الصيني إما ملازمة الإنسان طور الحيوانية (وهنا تلتقي الرواية مع سائر الأطروحات الفلسفية القائلة بأنَّ الإنسان هو أفق وليس واقعا، مشروع وليس فعلا، أي أن الإنسان يبقى مقولة أكثر منه حقيقة واقعية ملموسة)، أو اتجاه الإنسان نحو السقوط وفقدان إنسانيته التي كان يمتلكها في يوم من الأيام (وهذا ما تقوله الأبيات الاستهلالية التي وردت في الرواية أخذا عن الشاعر الألماني ما ريا رينر ريلكه). بتعبير آخر، من هذه الوجهة للنظر ستصير الرواية تدوينا لمغادرة (أو بداية مغادرة) البشرية للشرط الإنساني والنزول إلى حظيرة الحيوان. والفصل الاستهلالي شديد الدلالة بهذا الصدد، حيث موضوع المؤتمر هو الحفاظ على حيوانات من الانقراض، لكن بتقدم السرد يعسر التمييز بين الحيوان والإنسان، ما يؤشكل موضوع المؤتمر ذاته، ويدفع القارئ إلى طرح السؤال: أين تقع الحدود بين الحيوان والإنسان؟ أعن الحيوانات الفعلية يحكي السارد أم عن سكان مجتمع ما لا تعدو الأولى سوى استعارة لهم؟ أم عن الاثنين معا؟ ثم في الوقت الذي يعامل سكان الجنوب، معاملة الحمير، عبر أدوات بيوميترية ومعلوماتية، يحظى الحيوان في بلدان الشمال أحيانا بميراث يقدر بالملايين (المرأة التي ورثت كلابها ملايين الدولارات، فيما لم تورث أبناءها ما يجدر ذكره مقارنة مع المبلغ السابق، وهي معلومة تداولتها وسائل الإعلام من قبل وانتشر خبرها على نطاق واسع في شبكة الأنترنت، وأوردتها الرواية في أحد الفصول….
2. من التدوين Bloguer إلى كتابة الرواية:
من الصعب جدا العثور على خيط ناظم للرواية: إذ عدا بعض الشخوص التي تتكرر، مثل الوهرانية دهار، وحضور السارد المنتظم للعديد من المهرجانات والمؤتمرات، فالعمل يخلو من الخطية التي تشكل العمود الفقري لقواعد الكتابة الروائية الكلاسيكية.
كما أنَّ السارد يتبدَّل بدوره على مدار الفصول، حيث تارة هو شويخ من مكناس، وتارة هو رئيس دولة إفريكية، وتارة يحكي دون تحديد هويته، لكن إلى حدود الفصل ما قبل الأخير ، إذ يواصلُ حكيَ الفصل الأخير والقسم المسمى بـ «مسك الختام» سارد جديد لا تُعرف هويته.
بهذه القطيعة مع الخطية تتموقع الرواية في تقليدين آخرين انحدرا معا من أفكار ما بعد الحداثة، وهما: جماليات ما بعد الحداثة والتطبيقات الأدبية للنص التشعبي التي ظهرت بأمريكا في منتصف ثمانيات القرن نفسه.
من أهم ما يميز حقبة ما بعد الحداثة، حسب أكبر منظريه، وهو الفرنسي جان فرانسوا ليوتارد(3):
نهاية الحكايات الكبرى (المسيحية، الماركسية، الأنوار، والبورجوازية)؛
غياب المركز لفائدة أحداث صغرى وجهات محلية وأقليات عرقية وغيرها، الخ.
وتعتبر أغنية عازف البيانو الشهير John Cage المعنونة بـ «4,33 دقيقة» أسمى تجل فني لهذه الأفكار، حيث جلس العازف أمام البيانو، قبالة فريقه الموسيقي، باعتباره قائدا له، كما قبالة جمهور غفير داخل القاعة، صامتا دون أن يعرف لا هو ولا فرقته الموسيقية الكبيرة، جلس واقفا وأمامه ساعة، يقلب من حين لآخر دفتر العزف، وعند متم الدقيقة 4 و33 ثانية، قام يحيي الجمهور معلنا نهاية «الأغنية»، وسط تصفيقات حارة(4).
تعرض رواية كاميكاز حشدا هائلا من الوقائع والأحداث التي تناولتها وسائل الإعلام والمعلومات المختلفة (علمية، سياسية، طب-تقليدية، الخ.) ومثلها منَ الحوارات التي لا يُعرف فيها في أكثر من فصل من يتحاوَرُ معَ من. كما لا تنتظم الوقائع والأحداث نفسيها في خط زمني كما لا تصب في مسار عامّ له بداية ونهاية (فعلية أو افتراضية يُترك للقارئ حرية تخيلها) أو تغذي حبكة ما.
وبفحص هذه المعلومات يتضح أنَّ هذا الغياب للخطية على مستوى كتابة الرواية يوازيه غياب خطية أخرى تتمثل في كون تجميع مادة العمل لم يكن وليد لحظة قرار الكتابة أو مواكبا لإنجازه، بل تمَّ في وقت سابق، وما قام به المؤلف في وقت لاحق هو وضع هيكل للعمل (هو التقويم الصيني المذكور أعلاه)، ثم إدراج مادة هامة من أرشيفه أو قاعدة بياناته – إن جاز التعبير – الموجودين سلفا ضمن الأجزاء الأربعة والفصول الاثنتي عشر.
بالكتابة القبلية لمادة الرواية نكون إزاء ما يُشبه التدوين بالمعنى الذي يحمله هذا الاصطلاح في شبكة الأنترنت لا بالمرادف التراثي، بمعنى أنَّ المؤلف (سعيد علوش) يواظب على تحرير وقائع الراهن المختلفة، ما تعلق منها بالأحداث التي تستقطب وسائل الإعلام، وما اتصل منه بسيرته الذاتية، وببعض الجلسات الحميمية مع أصدقائه (على نحو ما نجد في الفصل الذي يروي وقائع جلسة سمرية بنادي الزوارق الشراعية الذي ليس هو في الحقيقة سوى نادي الملعب الرياضي الموجود على مقربة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط)…
هذا التدوين اليومي، أو الممارسة اليومية للكتابة لكل ما يُشاهَد ويُرى ويُسمَع، الذي كان قد شدد على أهميته ونصح به ميشال فوكو الذي يُصنَّف ضمن كبار فلاسفة ما بعد الحداثة(5)، يطرحُ (أي التدوين) في حالة الكتابة الأدبية سؤال:
– ما إذا كانت وقائع الحياة الفعلية هي العمل الروائي الحقيقي (في كاميكاز كما في كل رواية) وكان ما يكتبه الأدباء لا يعدو مجرد شذرات ومقاطع من الرواية الأصلية، وفي هذه الحالة تكون الكتابة ضربا من الاستحالة؟،
– أم أنَّ الرواية الفعلية والحقيقية هي المتن المكتوب الذي يصنعه المؤلف، ويُطبع ويخرج إلى حقل التداول وتكون وقائع الحياة الفعلية مجرد حشد من الفوضى أو العماء الذي لا يكتسب معناه وينتظم في منطق إلا من خلال الكتابة الأدبية.
يمكن بدء قراءة العمل الحالي من أي فصل، وخارج الترتيب الخطي الظاهري الذي يعرضه الكتاب الحالي، وبهذه الخاصية فهو يقترب من «النص التشعبي» الذي يمنح للقارئ حرية اختيار مسارات القراءة ولا يقيده بالزمن الخطي.
هذا الاقتراب من النص التشعبي قابل للتحقيق تقنيا، إذ تحيل رواية كاميكاز أكثر من مرة على ثلاث روايات للمؤلف نفسه، وهي «تاسانو ملعون القارات»(6)، و«سيرك عمار»(7)، ثم «مدن السكر»(8). ويكفي نشر العمل كاميكاز بلغة توصيف النص التشعبي وإدراج روابط إلى الروايات الآنفة، فيتحول إلى نص تشعبي.
على سبيل الختام:
في عودة إلى استهلال هذه الورقة، يمكن استخلاص ما يلي:
إذا كان الإرهابُ هو النقطة الوحيدة شكل نقطة تقاطع بين روايتي القوس والفراشة وكاميكاز، فإن جانبا ثانيا يصل بين العملين ويتمثل في إتاحتهما رصدَ ولوج المغرب لما يُسمى بعصر ما بعد الحداثة. القوس والفراشة تعرض هذا الدخول عبر التحولات التي أصابت الرابط الاجتماعي في المغرب(9)، وكاميكاز تعرض بدورها هذا الدخول، لكن على مستوى الكتابة الروائية. بتبني رواية كاميكاز لجماليات ما بعد الحداثة، متمثلة بالخصوص في اجتناب الخطية ومركزية حدث ما لصالح تعددية من الحكايات الصغرى، فإنها تتيحُ استخلاص سير المجتمع المغربي بثلاثة إيقاعات، هي: التقليد والحداثة وما بعدها.
محمد أسليـم
(ألقيتْ في وقائع تكريم سعيد علوش بمناسبة اليوم العالمي للكتاب، بهو مسرح محمد الخامس، 24 أبريل 2012)
———-
هوامـش
(1) يمكن تحميل سائر هذه المصنفات من الرابط:
http://www.al-mostafa.info/data/arabic/depot3/gap.php?file=m000768.pdf
(2) مدُن السكر، الرباط، مطبعة البيضاوي، الطبعة الأولى 2009، (300ص.)
(3) وذلك في كتابيه:
– La Condition postmoderne. Rapport sur le savoir. 1979. Collection « Critique ».
– Le Postmoderne expliqué aux enfants, Galilée, Paris, 1988
(4) John Cage, “4’33” :
http://www.youtube.com/watch?v=hUJagb7hL0E
(5) Michel Foucault Por Ele Mesmo – (Michel Foucault Par Lui Même) :
(6) سعيد علوش، تاسانو ابن الشمس ملعون القارات، الرباط، مطبعة البيضاوي، 2007.
(7) سيرك عمَّـار، الرباط، دار أبي رقراق للنشر، 2008 (451 ص).
(8) مدن السكر، م. س.
(9) انظر قراءتنا لهذا العمل المعنونة بـ: «قضية الرابط الاجتماعي في رواية «القوس والفراشة» لمحمد الأشعري، ألقيت ضمن وقائع حفل توقيع رواية القوس والفراشة للأشعري في المقهى الأدبي بآسفي، يوم 20 اكتوبر 2010، ونصّها متضمَّن في المشرروع الحالي.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأحد 02-09-2012 08:39 مساء