(ألقيت هذه الكلمة خلال اللقاء الذي عقد، بفندق الحنة، بمكناس، بمناسبة صدور ديوان «صرخة في ليل الثعالب»، ونشرت بجريدة «المنعطف الديمقراطي»، يوم 12 مارس 1999، العدد: 494)
جرت العادة في التقليد القرائي للأعمال الأدبية الصادرة في المغرب اليوم أن تتضمن كل جلسة للاحتفاء بإصدار إبداعي جديد نوعين من التدخلات: الأول ينصب على العمل ذاته، يقاربه نقديا، بمعنى أن أصحاب الورقات المقدمة ضمن هذه الخانة ينيطون بأنفسهم – أو على الأقل يقبلون – ممارسة نوع من الفعل النقدي بما ينطوي عليه من:
أ – ممارسة لإواليتي الإقصاء والإدماج، أي إضفاء صبغة الأدبية أو نفيها عن العمل المقروء.
ب – تحديد دقيق للمكانة التي يحتلها العمل المقروء في المشهد الأدبي المغربي الراهن بما تقتضيه عملية التحديد هذه من إلمام دقيق بما يسمى الأدب المغربي في بعديه الدياكروني والسانكروني.
أما النوع الثاني من المداخلات، فعكس السابق، ينصب على المؤلف، على صاحب العمل، ويأخذ عموما شكل متوالية كلامية ترسم «بورتريه» للمؤلف و/أو تناول زوايا من شخصيته ليست في متناول جميع قراء المبدع الفعليين والافتراضيين على السواء.
سؤال: أي وضع اعتباري تأخذه هذه الشهادات بالقياس إلى العمل الأدبي؟ ثمة رؤية تقول: ما أن يخرج العمل الأدبي إلى حقل التداول حتى تصير شخصية منتجه لاغية، ثم إن المعرفة بظروف تشكل النص وعناصر من سيرة المبدع ليستا ضروريتين بأي حال من الأحوال لتذوق هذا النص وتفكيك شفراته والتلذذ بقراءته. إذا كان الأمر كذلك، فكيف نفسر الإلحاح على تقديم هذه الشهادات؟
لا أزعم الإجابة عن هذا السؤال، وفي المقابل سأدلي بوجهة نظر في الموضوع أختصرها على النحو التالي:
ما من عمل أدبي إلا ويعتبر ترشيحا للانضمام إلى الأدب بما هو مجتمع افتراضي. وعملية التأشير على ولوج النص إلى المجتمع الأدبي، وإن كان يقوم بها النقاد من خلال إواليتي الإقصاء والإدماج، مما يفضي إلى وهم الاعتقاد في «نجاح» هذا العمل أو «رسوبه» فهي لا تحسم في الحقيقة إلا في مستويين:
– المستوى الأول سانكروني، يتمثل في الشهرة – أو الغمور، إن جاز التعبير – التي تعلق بالعمل في حياة المؤلف؛
– الثاني دياكروني يتمثل في اختراق العمل دائرة عصره والتوغل في أزمنة تالية…
يترتب عن ذلك أن العمل قد يحظى «بشهرة» ومقروئية كبيرتين في عصره. لكن ما يمضي زمن حتى يطاله النسيان، ويوضع في المتحف الأدبي. بالمقابل، قد يواجه النص باللامبالاة في زمنه ولكن ما يمر زمن حتى ينال من الاعتراف والشهرة ما لم يخطر على بال صاحبه.
يترتب أمران عما سبق:
– الأول: للنص حياته الخاصة المتعالية عن المبدع والناقد المعاصر له على السواء، مما يخول الإثنين، وعلى قدم المساواة، حق قراءة العمل وتفكيك شفراته.
– الثاني: النص مفتوح لإمكانيات الإضافة والتعديل من قبل المؤلف نفسه، وبالتالي فهو لا يولد، لا يبدأ حياته الحقيقية، لا يحقق انتماءه إلى الأدب باعتباره عالما افتراضيا، إلا بموت المؤلف. بهذا المعنى، لا يتحقق الاقتران الحقيقي بين اسم المبدع والعمل الأدبي إلا بموت المؤلف. بعبارة واحدة، إن موت المبدع – و(موته وحده) – هو ما يتيح القول إنه قال كلمته الأخيرة، ويتيح للنقد أن يباشر مهتمه بتوفر شروط الاشتغال متمثلة في وجود متن مكتمل وإمكانية للممارسة خارج جميع الاعتبارات.
سأضرب صفحا عن هذه الإشارات التي تتطلب مزيدا من التأمل، لا يسمح المقام الحالي بإنجازه، كي أدلي بالشهادة الحالية:
1 – اللحظة الأولى:
ترتد علاقتي بالشاعر محمد عيساوي المرجاني إلى بداية التسعينيات، حيث التحقتُ بالمدرسة العليا للأساتذة بمكناس، فيما كان هو يشغل منصبا إداريا بالمركز التربوي الجهوي بالمدينة نفسها. على امتداد هذه المرحلة التي دامت أربع سنوات، لم تجاوز العلاقة بيننا حدود الامتثال لآداب التعايش المهني، وبذلك لم تتخط بعض المصافحات العابرة وتبادل بضع كلمات…
لم يخطر ببالي يوما أن الرجل يكتب الشعر ولا أنه مارس – ولازال – يمارس مهنة التدريس، كما لم يقع في حسباني أبدا أن أقف مليا عنده أو أن أطلب معلومات في شأنه وأن أطلب معلومات في شأنه أو أن أجالسه حتى في مقهى. لم يقتض ذلك سبب أو سياق. وأظن أنني لو سئلت عنه يومئذ، أو طلب مني الإدلاء بانطباع حوله، لساقني الظن إلى ما يلي: لقلت ربما يتعلق الأمر بأستاذ لم يعد يقوى على التدريس فوضع سلاح القسم وشهر سلاح الإدارة؛ فما يعمل في الجهاز التنظيمي عموما إلا الأساتذة المرهقون. وكان تصرف أغلب «رؤساء» الشعب بالمدرسة العليا أكثر من داع لحملي على هذا الاعتقاد.
يبد أن الناس ليسوا كلهم سواسية؛ فالحق أن الشاعر عيساوي كان يتميز عن إداريي المؤسسة، بالابتسامة التي لا تفارق محياه كلما صافحك، وبطيبوبة لا يمكن أن تصدر إلا عن إنسان متخلق، له تجربة طويلة في التعامل مع أصناف عديدة من البشر. ما مصدر تلك الطيبوبة؟ ما منبع تلك الابتسامة؟ ما أصل ذلك التقدير الذي كان يشملك به ذلك الشخص عن بعد؟ لم يخطر ببالي أبدا أن أطرح مثل هذه الأسئلة. لم يكن ثمة داع. بل لو طرحتها لسقطت في النميمة المجانية.
2 – اللحظـة الثانية:
ثم جاءت سنة 1997، وكان مر على انتقالي إلى مدينة الرباط سنتان، وها هو شخص اسمه العيساوي، يتصل بي هاتفيا، بنصيحة من البعض، كي أتولى التصفيف الضوئي لديوانه، فقلت هي ذي السماء جادت على مكناس بشاعر جديد؛ توهمت أن الأمر يتعلق بأستاذ التحق بالمركز حديثا، فاتتني فرصة التعرف عليه، بيد أن المفاجأة كانت كبيرة لما التقيت بالشخص المعني. إنه ذلك الرجل الطيب البشوش الذي كان يعمل في إدارة المركز التربوي الجهوي. وها هو الذي لم يكن بوسعي أن أحسبه سوى إداري محض، ليس أستاذا أنهكته جبهة القسم فغادرها إلى حلبة الإدارة، وإنما هو في الحقيقة أستاذ استعاد فصله. أكثر من ذلك، ينظم الشعر منذ زمن طويل، وفي صمت تام ! وما فضح شاعريته إلا هذه الرغبة في نشر ديوانه الأول «وطن الأم… يا أم الوطن !!».
أتاح لي التصفيف الضوئي لنصوص هذا الديوان الأول أن أكون أول قارئ له. وبقدار تقدمي في الطباعة، كنت أتوغل في العالم الشعري للشاعر، فإذا به فضاء إنساني بمعنى الكلمة، تتقاطع فيه انشغالات الذات مع الاهتمام بالآخرين، أعضاء في المجتمع المغربي كان هؤلاء أم «عناصر» تجمعهم بالشاعر وحدة العرق واللغة والتاريخ. ومن أجمل ما وجدت في هذا الديوان القصيدة الجميلة التي رثى بها الشاعر والدته، والتي استهلها بالمطلع التالي:
درنكيل هل تدري، وهل في القرى علم؟
بأن قد هوى في الدار جوهرها الأم؟
هــرعنا إلى الإنقـاذ، لكــن إرادة
من الرب… لم ينفع طبيب ولا علم
طوتهــا يد الأقـدار ليــس لعـودة
سبيل، وما حي يدوم له جســـم
3 – اللحظة الثالثة:
ربما كان سمة مميزة للمبدع عن سائر الناس كونه يقلق من القيود التي تفرضها المهنة، يقلق من الاندراج في نسيج العلاقات الاجتماعية… وباختصار، يقلق المبدع لأنه يتطلع إلى الحرية. هذا القلق هو ما يفسر – في اعتقادي – عودة الشاعر إلى القسم، هذه العودة التي تبدو للوهلة الأولى حركة بسيطة، ما لم ينخدع لها المرء فيرى فيها نكوصا أو هزيمة، لكن باستحضار الحركات الأخرى المتمثلة في كثرة الفضاءات التي تنقل فيها الشاعر على امتداد مشواره المهني (انظر غلاف الديوان الثاني)، فإن تلك العودة تأخذ معناها الممتلئ باعتبارها تطلعا إلى حرية ما. في السياق نفسه، كما عاد الشاعر إلى فصله قفلتُ بدوري من الرباط إلى مكناس. هنا، وبحكم الجوار واطراد اللقاءات، أتيح لي – فيما أعتقد – أن أعرف بم يتعلق الأمر:
– بخصوص الواجهة الأولى، نادرون هم المعلمون والأساتذة الذين انخرطوا في سلك التعليم منذ نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات وواضبوا متابعة ما يروج في الساحة الثقافية على نحو ما يفعله العيساوي؛ فهو يقتني بانتظام الإصدارات الجديدة، المغربية بالخصوص، بكافة أنواعها: مجلات ثقافية وفكرية، مجاميع قصصية، روايات، دواوين شعرية، فضلا عن عدد من الصحف اليومية والأسبوعية… وإذا أضيف إلى هذا شجاعة الإقدام على نشر ديوانيه الأولين على حسابه، أخذ تميزه عن مجايليه كامل دلالته؛ فغالبيتهم العظمى تقاعدت عن القراءة والتفاعل مع الساحة الثقافية بذرائع مختلفة. ثم إن الشائع في المغرب اليوم أن النشر على حساب المؤلف لا يقدم عليه عموما إلا الكتاب الشباب، ومن رجال التعليم بالخصوص، مما يفتح المجال لأكثر من سؤال: هل هو ظاهرة لفترة من العمر، حيث يجرؤ الكاتب على التضحية بقسط لا يستهان به من راتبه؟ لماذا تقتصر ظاهرة النشر على حساب المؤلف ضمن فئة عمرية وشريحة اجتماعية محددة؟ أي معنى تأخذه هذه الظاهرة في المغرب حاليا؟ إذا كنا لا نملك حاليا أجوبة عن هذين السؤالين، لأن ذلك يقتضي دراسة خاصة، فإننا نملك بالمقابل معطى يتمثل في هذا التبين لملامح الانتماء الذي اختاره الشاعر عيساوي لنفسه.
– أما الواجهة الثانية، فتتمثل في سعة المعرفة بقواعد النحو والبلاغة والعروض، فضلا عن ذاكرة ممتلئة بالمحفوظ من نصوص الشعر القديم المتضمنة لشواهد نحوية وبلاغية، كما لأخرى صالحة للتمثل والاعتبار بالحياة وأصناف الناس.
أ – تأخذ المعرفة اللغوية والبلاغية والعروضية أهميتها الكاملة اليوم إزاء ما يلاحظ من أن عددا كبيرا من الشعراء الذين اختاروا قصيدة النثر أو ما يسمى بالشعر الحر مسلكا في إبداعاتهم، أقول إن الكثيرين منهم لا يجيدون حتى التقطيع السليم لأبيات هذه القصيدة العمودية أو تلك، فأحرى أن يفلحوا في اعتماد المكون الموسيقي في أشعارهم. أما الأخطاء اللغوية، فتلك حكاية أخرى.
ب – والذاكرة الشعرية هي الأخرى تتبدى ذات أهمية لا تناقش إزاء ما تتيحه من تمثلات وتمد به من شواهد في شتى المواقف، مما يضفي على الجلسات مع الشاعر العيساوي نكهة خاصة. والحق أنني أستفيد منه غير ما مرة عندما يتعذر علي أحيانا التعبير عن صورة ضمن عمل سردي، أو يعسر علي تعريب فكرة ما من الفرنسية إلى العربية لا يفيد نقلها حرفيا إلى العربية أي معنى. يكفي أن أسال الشاعر: هل تحفظ أبياتا شعرية تفيد معنى كذا؟ فإذا به يمدني على الفور بمأربي.
ضمن هذه اللحظة الثالثة، خرج إلى حقل التداول ديوان «صرخة في ليل الثعالب» المحتفى به اليوم. خرج بنبرة الديوان الأول نفسها وانشغالاته نفسها، مما يفيد أن الكتابة الشعرية عند شاعرنا رهان يقدم بسبق ترصد وإصرار – إن جاز هذا التعبير – أكثر منه مجرد نزوة عابرة. وبهذا الصدد، لن أعيد ما سبق أن قلته في الشهادة المقدمة خلال حفل توقيع الديوان الأول. فما صدق على ذلك يصدق على هذا، فيما أعتقد.
كلمة أخيرة:
لا أود أن أختم هذه الورقة دون التنويه بالأمر التالي: إن محمد عيساوي المرجاني يكتب، بموازاة الشعر، نصوصا سردية لم ينشرها بعد، سبق أن قرأت منها ثلاثة وهي في حالة مخطوط، وأعجبت بها أيما إعجاب لما تنطوي عليه من سخرية وفضاءات عجائبية، فضلا عن تداخل السرد بالشعر، وتوظيف للتراث الصوفي والفقهي والفلسفي لمعالجة قضايا «الجنس» و«التعاظم الفارغ» لدى بعض المنسوبين إلى عالم الإبداع، و«سلطات النقد الأدبي» بالمغرب، الخ. لقد اقترحت على الشاعر أن يبادر بنشرها حالما يكتمل نصاب مجموعة قصصية، واليقين يحدوني بأن هذا النشر سيشكل مفاجأة في المشهد السردي بالمغرب الراهن. ولعمري لا يقوى على الإتيان بمثل هذه المفاجأة إلا الشعراء.