ولعتبـات الغلاف همسات وحديث:
يشكل الغلاف – عادة – عتبة استغوائية لدى القارئ العاشق المتيم بمساءلة الواجهة الأمامية للكتاب، ومرتعا للحفر في فضائه بمختلف مرتكزاته، والنَّبش في نسق رموزه المرسومة بمنحنيات ظاهرة. وهي – في هذا المؤلف – ذات أبعاد ثلاثية: المكتوب – المرئي – وامتداد البياض. وهذه الأقانيم جميعها تساهم بصيغة أو بأخرى في بلورة تشكيل جمالي مفيد، يخترق لذائذ القراءة البصرية في اتجاه تلبيس معطيات التوثيق لغة البوح الأولى أو تخريجات امتدادية قابلة للتفريغ والاستثمار، كجسر مؤقت نحو مدخل المتن الحكائي:
أ – المكتوب: يتجسد ف بثلاثة أسطر تنبجس من موقع القوة – تكسيرا لسديم الأبيض، حيث يتوسَّط القسم العلوي من مساحة الغلاف، وبكيفية متوازية، مع فارق جلي في التشديد، حيث تحظى جملة «كتب الفقدان» بحفر أقوى، وكأن الكاتب يتغيى استفزاز الرَّائي واستثارة انشغاله إلى شدة هذه الجملة الوسطى، إذ هي عنده قطب الرّحى الذهنية الذهانية التي أوشكت أن تفكك أوصاله وترحيله إلى رقعة الهامش من مسار العيش المقيت. فهي مشجب الثقة ومنطقة تجاذب شطحات فكرة الزئبقي الذي يداعبُ، يُلاعبُ، يضيء ويعتم، ثم يهرب إلى الأمام محاولات الانفلات من أسر متصيد / صائد الأوابد. و«كتاب الفقدان» – جملة – تراوح بين الانشداد والتملص بين السطرين: السابق (محمد أسليم – بوصفه صائغ نوال الحكاية) واللاحق (مذكرات شيزوفريني) الذي وُظِّفَ لتفصيل الإجمال وتخصيص العام، ناهيك عن انتصابه ميثاقا أدبيا بين الكاتب والقارئ الافتراضي.
ب – المرئـي: ويتجلى في الإطار التشكيلي الذي هندست معماره ريشة الفنان بنيونس عميروش؛ حيثُ التعايش المنسجم بين زمرة من الألوان / الصبغيات التي تحذوها الشهوة في تحقيق التناسق بين أبعاد الهامش والمركز، وكأنه – بموجب قيد قراءته الفنية للكتاب – يراهن على رتق المنفصل المتلاشي من ذات التصدّع والانهيار.
ج – سطوة البياض: إنه فراغ الذاكرة عندما تتساقط أوراق توتها، تتبدَّد حروف كينونتها في متاهات الافتراض والاحتمال. والفراغ الأبيض يبقى ملاذا صالحا للاشتعال والاشتغال والانشغال، مادام نزيف الذاكرة الهوجاء يرفد امتداد القول بما قد يفيض كوزها، فتتدفَّق السيول بضفافها، وتنثال عواصف فكرها في اتجاه الإضافة والتَّراكُم. وبهذه الرؤية يتربَّع البياض صدر عنفوانه وهيمنته ولظته إزاء الذات / المركز، المحيط / الهامش.
والمستحدث في هذا التصميم الفني أن هذه المعطيات التوثيقية الجمالية تأبى إلا تكريس نفس الوجود بالضفة الأخيرة منم الكتاب، حيث اسنتساخ ذات اللوحة في حجم أصغر، وحيث إعلان الشيزوفريني عن مراسيم قوانين مشاريعه الثائرة في وجه الترسُّب والكلسية.
وفي سياق الخطاب قال العنوان: أنا كتاب الفقدان
في البدء وجَب تقييد الأنظمة الإشارية التالية: فالكتاب االمؤشَّر عليه أعلاه يحمل توقيعين: محمد أسليم (انظر بوابة الغلاف) و(راس العاقل ي. ي. م. أ) (ص. 56)، وكلاهما يحملان المصنِّف مسؤولية الإمضاء؛ إذ بهذا التوقيع – بشقيه المفصل والمجمل المختزل – يعلن للقاريء أنه الموقع بمدخله ووسطه قد أمضى – وهو في عنفوان قواه العقلية – على طرة الكتاب، وبه وجب الإعلام والسَّلام على من أحسن الإنصات إلى عناوينيه وفصوله: و«كتاب الفقدان» يليه ما اصطلح عليه الكاتب بـ «مذكرات شيزوفريني».
أما «كتاب الفقدان» فصيغة عاودَت الانبجاس في فهرست حديث المنشورات (كتاب الجرح والحكمة: بنسالم حميش، وكتاب السياب النثري: من إعداد وتقديم حسن الغرفي). وتفيد لفظة (عاودَت) سبق القدماء إلى وصف مصنفاتهم بهذا الاصطلاح (كتاب الأوراق لأبي بكر الصُّولي، مثلا). فما ذريعة هذه الصياغة التركيبية؟ لنجازف بالمراهنة على مقول الشق الأول من العنوان (كتاب)، حيث يتحدّث المعجم في شأنه بما يلي: «الكتاب: ما يكتب. المكتوب. الصحيفة. الفرض. الحكم. القدر. وهو – على وجه الإطلاق – كل كتاب يعتقد أنه منزَّل. وقد ورد في هذا التصنيف نكرةً ومستزيدا إضافة، فوجب التنبيه. أما شقه الثاني – بكسر الفاء وضمها – فمن فقده إذا غاب عنه وعدمه…
حديث الضاد هذا تقاطعه أو توازيه – يجوز الوجهان – شهادة المصنف ذاته، حيث الحضور المهيمن لهذه العبارة في معظم يمين صفحاته بدءا من ص: 6 إلى تخوم ص. 134. وبذلك ينصب نفسه مظلة للاستحواذ والاحتواء. وينزل بثقله القوي في الوسط، حيث تسمَّى به الفصل الرابع. وأفتح قوسين لتقييد أن هذا الفصل الممتد عبر 15 صفحة يتبوأ رتبة الجوهرة من عقد الخرزات السبع المكونة لمدار الكتاب. والعدد (سبعة) يفيد حسب بعض الاعتقادات الكثرة، مما يوهم بإمكان الإضافة وتمديد التراكم، غير أن خلو طرته من مؤشر التجزيء أو الوعد بالاتباع في أجزاء لاحقة يعلن خاتمة مطاف هذه الرحلة الشَّاقة في متاهات التصدُّع والاهتزاز، واستعادة توازن الذاكرة الموشومة برسوم البياض المؤلم.
وأما (مذكرات شيزوفريني) فقد جاء ليشكل عنونة فرعية تراهن – في نظري – على أربع وظائف: الامتداد، التفصيل، الإضاءة والمصادقة على الميثاق الأدبي. فهي امتداد من حيث كونها لبنة مركزية في بناء تركيب العنوان الذي يتغيى الإيقاع بالقارئ في خميل حبائله، وهي تفصيل للمجمل المكثف في (كتاب الفقدان)، وإضاءة تسعى إلى تبديد غيوم التعتيم. وأخيرا هي التوقيع بالأحرف الأولى على عقد الإبداع بين الكاتب والمتلقي الذي ينبش – عادة – في العتبة الأولى من الكتاب عن التصنيف الأجناسي للمؤلف. وبموجبها يعلن محمد أسليم دعوة عامة قوامها أنه يضع بين يدي القارئ مصنفا من جنس المذكرات.
المذكرات مصطلح إبداعي وشمت به عناوين عدة أعمال أدبية وتاريخية مغربية نكتفي بالإشارة إلى بعض مصنفيها (عبد المجيد بنجلون – محمد شكري – أبو بكر القادري): تقاسمها الاشتقاق اللغوي لفظة «الذاكرة» (العربي بنجلون – عبد الكبير الخطيبي) و«ذكريات» (عبد الله الجراري – محمد إبراهيم الكتاني). والمفاهيم الثلاث (مذكرات – الذاكرة – الذكريات) تتفق وتأتلف في الاغتراف من نسغ مادة (ذكر) وسليلتها (الذاكرة)، سواء كان الاتئناس بوظيفتها نبشا وحفرا في طري ترسباتها أو تقييدا للأوابد حرزا لها من قابلية منعرجاتها للتلف والإتلاف والفقدان.
لقد اختار أسليم عن وعي اصطلاح (المذكرات)، و(المذكرات) بمثابة «تدوين لأفكار وحوادث موضوعية خارجية، مما قد يشارك فيه الكاتب»[1]. وجورج ماي يرى أن «السيرة الذاتية ما زالت تنطوي على بقايا من جنس المذكرات الذي عنه تفرعت»[2] مما يفيد أن الجذر الأول للسيرة الذاتية يكمن في أدب المذكرات.
ننتهي بموجب هذه الإشارات إلى خلاصة أولية تتمثل في افتراض إدراج «كتاب الفقدان» في باب «أدب المذكرات». فهل يتعلق الأمر – تبعا لما تقدم – بسيرة ذاتية للكاتب؟! إن «السيرة تعمل على إنتاج معنى يتعلق بالشخصية في مسارها الحياتي… إنها تنطبع بالذاتي». وصفة «الذاتية» تكاد تبصم «كتاب الفقدان» بهذا التجنيس عند القارئ المتعجل إذ أول الحرفين الاختزاليين – وقد وردا ضمن سلسلة من الصوامت موقعة لفصل (معجون اللغة والجسد) – (م. أ.) بـ (محمد أسليم). ذلك أن باقي المرفقات من الرموز اللغوية تدفع دفعا هذا الإمضاء باسم رباعي الأجزاء يؤسس مشروعا مزدوج الاتجاه: إمكان الاتصال والانفصال. ويزيد هذا المعطى تأكيدا حضور رغبة عارمة لدى بطل الفقدان في الانفلات والتملص من بوتقة الانتماء الموحد، حيث ركوب صهوات أسماء أخرى، يحايثها التذبذب والاهتزاز. فأين للقارئ من إمكان تسطير البرط بين الكاتب والمتن الحكائي، والذات المحورية في أن صفتي المجنون والعاقل تتجاذبها. وهذا التشقق يضفي على هذه الشخصية نكهة سيكوباثية؛ وهذا ما يفصح عنه الشق الثاني من هذا العنوان الفرعي (شيزوفريني).
«كتاب الفقدان» إذن مذكرات شخص مصاب بداء الشيزوفرينيا. ولهذا المصطلح النفسي حديث سيأتي القول فيه لاحقا. وقبل رسم نقطة الرجوع إلى السطر يجدر التأكيد على اندراج هذا الكتاب في فصيلة النصوص السردية بدليل ما سيبرزه البحث الفني في هيكل معطياته وبحجة شهادة الكاتب نفسه عندما صنَّفه بهذه الصفة – عند تعداد مؤلفاته[3].
وللحديث بقية:
لقد داعَبْنا تركيب هذا العنوان متسلحين بالحق في الاجتهاد والتأويل، وتأتى لنا قطف بعض الثمرات التي يرتهن نضجها باستيفاء المتن ذاته في شأن هذه النازلة: في ص. 73 ينبجس التساؤل التالي: «ما معنى الكتاب؟»، ونعقب نحن – استزادة للمعرفة والإضاءة -: أي كتاب هذا؟ يقول صاحبه: «تذكرتُ الكتاب الذي كنتُ كتبته» (ص. 72). والكتاب يحمل عنوان (كيف تكون سويا؟) وهو مصنف مبوب (باب الملابس – باب الإسم…)، وهو عبارة عن كتاب ضخم في حجم وسادة كبرى، نسختُ فيه كل ما يحتمل أن يتراءى لي أو يقسط بصري عليه حتَّى أتمكن من التعرف عليه بسهولة والتصرف معه بالطريقة اللائقة…) (ص. 65)، وهو «دليل عملي لي في الحياة) أمره بكتابته شخصٌ. وهذا الكتاب يشكل بالنسبة إليه (طوق النجاة) الذي كان يأمل «من خلاله اتقاء خطر الغرق في الأشياء والناس» (ص. 66). لقد أقدم على إنجاز هذا السفر بعدما فقد نفسه (ص. 70) وتخرَّمت ذاكرته، «ثم توالت الأعوام، فلم أفطن إلا وبذاكرتي خروم» (ص. 72). وبعدما استحوذ عليه «وسواس فقدان الذاكرة» (ص. 65)، لاحظَ: إنه مجرد وسواس، تحول إلى حجاب كثيف يمنع التواصل السوي، فقدت معه اللغة وظيفتها الرائقة الاعتيادية، فكان اللاتواصل في أشقى صوره «كل ما أذكره الآن هو أنني لم افطن إلا وقد وجدت في اللغة شروخا وهوات عميقة لا تحيل كل تواصل بيني وبين شخص آخر، مهما كان، إلا إلى حوار بين ساكني كوكبين مختلفين أو إلى الحديث بين إنسان وجدار» (ص. 63).
متى وقعت الواقعة وكيف؟
تتعدَّد احتمالات تخريج نقطة بدء الواقعة والعليل عينه – بسبب اهتراء خيوط الذاكرة – لا يدري متى استحدث الحدث الذي أحدث هذا المنعطف الجذري في مجرى العيش: فوجب أن يمسك بأهداب «رحلة بحث عن الخيط المفقود» (ص. 26). لقد أضحى رجل التوازنات الصعبة (بهلوان من طينة خاصة) ينقب عن مخرج يخلصه من قاع الجب البَيُون ويرتق شتات تمثلاته الشاردة.
متى وأين اختلت موازين القوى؟ عندما نزلت عليه كائنات من كواكب أخرى – وهو على مقربة من اليوم الأربعين – لتتفاوض معه بشأن الصيغة الجديدة لإعادة تشكيل الكون؟ أم عندما بلغ الخمس سنوات؟ أم لما أمسكته أمه من يده وبكت لمرضه واتجهت به صوب فقيه أم…
الافتراض الأقرب إلى الترجيح صرَّح به في ص. 7، ويتجسد في فحوى طلب الفحص الذي يفترض أن المريض يحمل أعراضا شيزوفرينية. فهل كان هذا الداء باعثه على التفكير في الانتحار؟ وكيف انتقلت إليه هذه المؤشرات المرضية؟! أيكون ذلك بسبب إدمانه قراءة كتب التحليل النفسي؟! احتمال قويّ جدا، والأقوى منه رصد مسألة العلة الطارئة وفق الخطاطة التالية:
قراءات في كتب التحليل النفسي ومعاجم مفرداته ¬¾ التشبع بمعطيات مفاهيمها ¬¾ السقوط في هاوية أعراض الشيزوفرينيا ¬¾ فقدان الذاكرة ¬¾ اللاتواصل اللغوي ¬¾ التفكير في إعادة تشكيل الكون ¬¾ امتصاص متاهات القطيعة بغية استعادة التوازن ¬¾ طلب العلاج بالتي كانت هي الدَّاء (اللغة) ¬¾ تأليف كتاب «كيف تصبح إنسانا سويا»؟
– فقيد الذاكرة: بطاقة تشريح أو التعدد / الجمع في صيغة المفرد: «إني ناطق باسم عالم مفقود» (نقلا عن ليو فيري (ص. 10))؛ «ما أنت في نهاية المطاف سوى فرد لم يرُقكَ ما يحيط بك من قيم وعلاقات (…) تفكيرك يختلف عن تفكير الأسوياء» (ص. 13)؛ «فهل معنى ذلك أنني صرتُ فيلسوفا؟ نعم…» (ص. 16)؛ «أمجنون أنا أم متصوف؟ (…) فقد أكون صرتُ متصوفا دون أن أعلم بذلك» (ص. 25)؛ «لقد نزل عليَّ وحيٌ تعذَّرت علي طريقة تبليغه!» (ص. 26)؛ «التوقيع: رأس العاقل: ي. ي. م. أ.» (ص. 56)؛ «الإسم: أأحمد أنت أم محمَّد؟ تاريخ الازدياد ومكانه: سنة 000 000 1 ضوئية بالضلع الأيمن» (ص. 60)؛ «نعم، أنا يعقوب» (ص. 65)؛ «لكن، يا مستر يعقوب، من أجبرك على كتابة ما كتَبتَه؟» (ص. 78)؛ «وبعد، فإني أنا، وأنا لستُ أنا…» (ص. 83)؛ «أنا يوسف..» (ص. 94)؛ «فأنا لستُ يوسف!… فأنا لستُ يعقوب!» (ص. 87)؛ «التوقيع: رأس العالِم: ي. ي. م. أ.» (ص. 107).
تجمع هذه الإفادات على انشراخ الهوية بشكل فظيع، حيث أوقعت الذاكرة المفقودة صاحبها في براري التشظي والتصدع العارم، الوضع الذي يطابق تماما انخرام الذات التي زجت بكينونتها المتداعية – تحت وطأة طوفان الفكر – في دوامة هذيان مميت. فهذا المصاب بداء الفقدان يراود – في رحلة بحثه عن استعادة طمأنينة التزاون – دلالات ركام هام من الأسماء، يتلبسها طورا ثم يخلعها (أحمد، محمد، يوسف، يعقوب…). وقد يُفَسَّرُ هذا السلوك المنحرف بتصدّع الذات إلى أبعاد مختلفة المشارب لا يكاد يجمع بينها سوى هذا الانخراط – الإرادي أو اللاإرادي – في لعبة مغايرة ومفارقة واقع قاتل، يحسبه الأسوياء ممنطقا ويراه هو في حاجة إلى تشكيل جديد.
لقد فعل هذا مستنجدا ومستثمرا معطيات علم النفس والفلسفة والتصوف، ففقد ذاكرته – أو افتقدته هذه – وغيبها بغية انسلاخ مؤقت فتمارض وتحلل أو اتحد، تنازعه الجنون والعقل؛ ومما بينهما خيط رفيع، فانغرق في عشب الهذيان الثقيل وشعبه. وبِسَعَة الثقب الذي خرم راسه فتح فجوات من جداريات الحكمة، الفلسفة، التصوف، الطب النفسي، اللغة، الفكر… تسند تطلعاته رؤية واعية في النظر إلى العالم من زاويتين: من فوق / وعن بُعد، بهدف الإمساك بخيوط الاهتراء في نسيج الكون. انطَلَقَ من عالم مفقود بغية بناء عالم جديد.
فبفقدان العالم فقد الذاكرة، والقبض على نواصي خيوطها وحبائلها ومخادعها ثانية مرتهنا باستواء الكون مرة أخرى. وهذا لا يتأتى إلا بقراءته وتفكيك انشراخاته على إضاءات عهود الأنبياء، وبناء لغة جديدة ناجحة لرأب حبال التواصل المتقطعة في زمن نضج الإعلام والاتصال.
واستنبات كَوْنٍ جديد من عشب الذاكرة المفقودة وتمثلات الوهم كفيلُُ بأن يغرق الإنسان في زوبعة الجمع بصيغة المفرد ووضع الرأس بين فكي مقصلة الموت انتحارا أو الاختلاف بين مطرقة الجنون وسندان العقل: «كنتُ أيامها أشخاصا عديدين…» (ص. 65)؛ و«نحن جمعٌ وكَفَى!» (ص. 65).
إن هذا التصدع الذاتي المترتب بالضرورة عن انخرام الذاكرة يصطبغ عند محمد أسليم بالإيجاب حيث تأشيرة إمكان الدخول في فصول من هلوسات غير مجانية، تناوش حرمة الحرم دون نسف قواعده وتقاليده أو المساس بقدسيته، فأشرق التبعثر وأزهَر بنات أفكار جديرة بالتثبت والتأمل. وكان منطقيا – وفق منطق الرؤية الواعية – أن يغرق المريض في بئر الشيزوفرينيا (مذكرات شيزوفريني). وهذه العلة النفسية ليست سوى واحدة من العلل التي تناوش إنسان اليوم نتيجة الاحتكاك المأساوي بهرطقات عالم الآن. وكل فرد من نتاجه عليل بصيغة أو بأخرى، بداءٍ أو بآخر. وهو مجرد ناطق باسم هذا العالم المجنون المفقود (فهو مفرد بصيغة الجمع) والشاهد في هذا المقام قوله: «فأنا لم أجد كل أسماء الأمراض والعُقَد النفسية تنطبق عليَّ فحسب، بل وجَدْتُنِي معجما يَسَعُ سائر مصطلحات الأمراض النفسية» (ص. 8). انتهى إلى هذه الخلاصة بعدما عرض نفسه على معجم لمفردات التحليل النفسي.
لقد انتهجْتُ ذات المنهج الذي راهَنَ عليه الكاتب بهدف بلورة متن حكايته، واقتفيتُ رسوم خطواته[4] فـ «أمسكتُ معجما للتحليل النفسي، وأخذتُ أتفحص المصطلحات واحدا واحدا صحبة الشروح المرافقة له» (ص. 8)، و«كلما أنهيتُ قراءة مصطلح وفهمه شرعتُ في البحث عما يمكن أن يقابله من وقائع في ركام أحداث حياة» (ص. 8) بطل كتاب الفقدان. وقد كللت هذه الرحلة في المقارنة والموازنة بما يمكن تقييده على النحو التالي:
1 – جرد ما يفوق العشرين مصطلحا، تنطبق إضاءاتها على أعراض الحالة السيكوباتية لهذا البطل الشيزوفريني.
2 – تبعا لمقتضيات هذا الاستنتاج يمكن افتراض وتمثل ظلال الوضع العامِّ الذي تحكم في طقوس استنبات هذا العمل الإبداعي وإخراجه بهذه الصورة؛ حيث يمسي القارئ أو يصبح شبه مقتنع بأن الكاتب / السارد قد نهج طورين لصياغة نسيج «كتاب الفقدان»: كتابة هندسية ذهنية أولى وفق ما تشبعه من معطيات التحليل النفسي، ثم بناء الحكاية انطلاقا من هذه الخلفية الفكرية.
فلسفـة اللغـة في «كتاب الفقدان»
يفصح نص ورَد في الصفحة 14 (وهو مثبت أيضا في الدفة الثانية للغلاف) عن موقفه إزاء اللغة بصيغة الجمع:
سأحمل معولا وأمتهن حرفة هدَّامٍ للغات
سأقتلعها واحـدة واحـدة
وأدشِّـنُ لغة الإشارات.
هذه أسطر شاعرية تعلن عن نية مبيتة لدى الكاتب لنسف لغات الكون بأسرها، بهدف إعلالها وإبدالها بلغة الإشارات =. ذلك عزم قائم باعتبار ما سيكون بدليل سين التسويف. غير أنَّ الفاحص في كتابات محمد أسليم سيستقرئ – بيسر شديد – أنه قد وضع الحجر الأساس لهذا المشروع منذ أن داعب فعل أنساقه السَّردية، ومنذ طوق جيدَه هاجِسُ الكتابة واستَدْرَجَه إلى رحاب متاهاتها الجميلة (حديث الجثة – كتاب الفقدان – سِفر المأثورات). وهي ظاهرة جديرة بمبحث خاص. ولنحصر القول في هذا المصنف السَّردي.
كيف تتجلى اللغة في «كتاب الفقدان»؟ وما العلَّة المحرِّكَة لهذه الانزياحات الإشارية المتمرِّدَة على تقاليد أنساق الضاد؟! يغازل باب «معجون اللغة والجسَد» فلسَفَةَ اللغة من مواقع وزوايا مختلفة: علاقة الجسد باللغة: «إلا أنَّ هذا الحلّ هو الآخر يرهقني كثيرا ويوَفِّزُ أعصابي لأنه يحيل التواصُلَ معهُم إلى استحالة ما لم ينعجنْ جسدي بالكلمة» (ص. 45)، والانعجان انصهارٌ وحلولٌ للطرفين في بعضهما، وافتقاد هذا الاتجاه الصُّوفي يعني المفارقة والتباعُد والانزياح، وهو وضعٌ ترتَّبَ عن هذه الواقعة التي هوت به في زوابع الجنون، والجنون آفة هذا العصر حيثُ تقطَّعَت وتفكَّكَت سُبُل التَّواصُل بين الإنسلان والعالم المفقود المعتوه: «أنتَ في وَضعٍ ربِحْتَ فيه العالمَ وخسِرْتَ اللغة» (ص. 47). لقد خسر اللغة باعتبارها قناة للتواصل، وعاءً للافكار الطوفانية (باعتبار اللغة / المثال) لا اللغة «كما تواضعت عليها البشرية بعدما حجَّمَتْها بأحجام وقاسَتْها بمقايييس»، لغة الآن وهنا، اللغة التي زاغَتْ وانزاحتْ عن سكة التطور والتجديد فعقمت القواميس وعجزت عن إمداده بالسَّعَة الكافية للتعبير عما يحس به ويفكر فيه. غير أن الفكاك من أسر اللغة قد يبقيه شاردا شرودا على بُعدَي الفضاء والزمان، لذلك لا بد من المراهنة عليها مرَّة أخرى جسرا في اتجاه تواصل محتمل وممكن، ليخرج نفسَه من خُرُوم الذاكرة المفقودة، ويعانق العالم في تواصل جديد، وإن بصيغة أخرى تهفو نحو استنبات نظم إشارية جديدة تتخذ كتاب «كيف تكون إنسانا سويا» مرجعا لها وسندا محوريا داعما.
هذه الرؤية للغة (من خلف، مع، أو من أمام) – التي يقودها الجنون السَّعيد – هي فتحٌ في فضاء إشارات قد لا تقول شيئا، وقد تقول كلَّ شيء لمن يحسِنُ الإنصات إلى ذبذبات ارتجاجاتها البهلوانية «بلم، بلم، بلم» (ص. 15)، صوتيات غارقة مغرقة، راقصة مرقصة للراقصين على إيقاعات عالم مجنون. وما (الفقدان) إلا «ترميزٌ للعالم وتمجيزُه وتأثيثه بالاستعارات» (ص. 14)، والبطل هو الاستعارة والمجاز، هدام وكاسر للغة القائمة بغية بناء أنساق لغوية جديدة للتواصل. و«بلم بلم بلم هي لغتي منذ الآن» (ص. 15). إنه «ابتكار» لرموز لغوية تفوح تهكما لادغا ولاذعا إزاء (هرطقات) هذا الكون الصَّاعد في اتجاه الهاوية.
في إطار هذا التوجُّه القاضي بتكسير نمطيات الكائن اللغوي، يتحوَّل الكاتب إلى بهلوان يجرد الوحدات اللغوية من كينونات هوياتها، ويرحل بها في اتجاه التناسخ والمغايرة وترصيص الأضداد بتوظيف سلالم القيم الخلافية التي تجعل الألفاظ تنسخ / أو تنسلخ عن بعضها، رهانا على مطابقة هذه اللاتوازنات لزلزلة العالم: «سقط المطر / صعد المطر – حي / ميت – أحيا / أموت – أحيا موتي / أموت حياتي – لا صاعدا / أو نازلا – حروقكم / حروفكم – لصوصا / نصوصا – الإطاحة / الإحاطة – جزر / مدّ – وبعد / وقبل – تصدع / تصعّد – منكم / عليكم – الخارج / الداخل – تصول / تجول – سكير / سكين…». وأملا في ترقيع شروخ اللغة القائمة الآيلة إلى السقوط.
وبجوار ما تقدم يلحظ القارئ تلون هذه اللغة أيضا وانعجانها وفق تنوع المرجعيات الثقافية التي تسند وتهب على أشرعة «طوفانه الفكري» (التحليل النفسي، الفلسفة، التصوف…).
كتاب الفقدان: بين الامتداد والتجريب:
في محطَّة أولى من أشواط هذه الدراسة أدرجتُ الكتاب في باب «أدب المذكرات» بصيغة مؤقتة؛ غير أنَّ قراءة حفرية أخرى في امتدادات المعمار الفني لهذا الإبداع تستوجب مراجعة هذا التبويب في اتجاه تصنيف أجناسي نهائي؛ وذلك على ضوء معطيات نظرية ترى أن هذا اللون الإبداعي لا يمكن إرضاخه لمقاييس صنافة قارة، حيث أثبت البحوث النظرية والتطبيقية أن الرواية الحديثة تفتح على عدة أجنس إبداعية أخرى وتكسر الحدود الوهمية القائمة بين أهدافها الفنية الإجرائية (مسرح، قصة، شعر، يوميات، مذكرات…)[5]. ويزداد صدر هذا الفن سعَة ورحابة عندما تنشد الرواية ضرب أكباد نُوقِهَا سعيا خلف دغدغة أوهام التجريب وتطلعاته. إن إعادة قراءة (كتاب الفقدان) بموجب مقتضيات هذه الإضاءات تفضي حتما إلى ضرورة رضصد سندات هيكلها الفني، وتفريغ قسماتها التي تنهل من آفاق التجريب الآتية:
* ينبني قوام «كتاب الفقدان» على سبع قواعد هي: إشراق التبعثر، ضوضاء التمثلاث، معجون اللغة والجسد، كتاب الفقدان، رأسُُ بسِعَة الكون، طوفان الفكر، هذيان العشب. وهي فصول سبعة متوجة بعناوين شاعرية توهم باتفصال بعضها عن بعض. ذلك ما تحصده القراءة البصرية. غير أن فعل التشريح في جسد الكتاب يقتضي وضع تقرير «طبِّي» يغاير هذا الانطباع، ويثبت أن هذه العناوين هي بمثابة دعامات لجسر واحد تتجسَّدُ بؤرته في الفصل الوسط (كتاب الفقدان): بِفِعْلِ ما راهنَ عليه السَّاردُ من حيل فنية لنفي القطيعة وتكريس الاتصال. ولتأكيد هذا التقويم الفني يجب رصد هذه المؤشرات على النحو التالي:
أ – وحدة الحكاية: حيث تتفق الأبواب السبعة في انفتاحها على نفس البوثقة، بهدف مقاربة حيثيات نفس الشخصية السيكوباثية، وتشريح أرجوحة انقذافها وتقاذفها في حالتي الصَّحو والجنون، منذ أن اختل لسان ميزان توازنها، مرورا بعذاباتها ومعاركها الباطنية الضارية، وما توسَّلت به من أدوات بغية استعادة الاستواء والانفلات من متاهات الفقدان. والملاحَظ أن الحكاية لا تراهن على الحدث بصيغته الاعتيادية بقدر ما تتوخَّى إرضاخ الشخصية / المحور لمبادئ التحليل النفسي.
ب – رأس العاقل أو رأسُ العالِـم: ي. ي. م. أ. جميعها توقع بالأحرف الأولى بهوامش بعض الفصول أو تنبجس بسائر حروفها (يوسف – يعقوب – محمد – أحمد) في ثنايا ابواب أخرى. وقد تكاثرت المسميات وتضادت الأوصاف نتيجة مبدإ تناقض هوية عليل الفقدان بسبب تنوّع وتلوّن علله، مما حتَّمَ وقوعه تحت طائلة التصدُّع والانشراخ والتعدُّد، حيث تتمطَّطك أناه لتسع الكون وأبعادا رمزية مختلفة.
ج – استناد جميع أطراف الكتاب إلى نفس المرجعيات الثقافية: مبادئ التحليل النفسي، إشراقات التصوّف، ومعطيات الفكر الفلسفي…
د – حضور هاجس الكتابة باعتبارها انشغالا يكوي بلهيبه الكاتبَ / السَّاردَ.
هـ – المراهنة على زئبقية اللغة وتشعباتها وسعة فضاءاتها لنسف الواقع المتشظي بحثا عن كينونة لغوية بديلة.
و – رضوخ مسار الفقدان لسيرورة / صيرورة زمنية حلزونية تغرف من الفائت، الآن والآتي.
ز – مناوشة الحال والمآل في فضاء وهمي متخيل (الجُبّ) أو واقعي ملحوظ (غرفة الكتابة)، في انفتاح على فضاء المحيط الأوسع.
ح – مؤشرات الاتساق والانسجام: وبها يشد وثاق عرى الفصول لتحقيق الامتداد والاتصال بين رهاناتها. وتتجسَّد في عينة من التراكيب التي تردَّدتْ بنصها أو مرفوقة بتنقيح جزئي في عدة مواضع من الشبكات اللغوية لأبواب الكتاب، نمثل لها بـ: «كمن نزل عليه وحي تعذَّرت عليه سبُلُ تبليغه – الحرب الدائرة في رأسي – ولم يشفني طبيب عقلي ولا محلل نفساني ولا عرافة أو فقيه…»، والشواهدُ كثيرة.
ط – يكاد يكون المكان – في جميع تجلياته – يتباعدُ عن: البيت – غرفة الكتابة / القيادة / الدَّاخل – الشارع / الخارج.
ي – لا يمكن القبض على خطية زمنية، إذ الزَّمَن في «كتاب الفقدان» يتحربأ بمقدار ما يوظف لترميزه، إحالة أو اختزالا أو تمويها.
ك – انفتاح هذ االنصّ السَّردي على عدَّة أجناس إبداعية أخرى: الوثيقة (ص. 7) – الاقتباس (ص. 10) – ورقات من إبداع الكاتب / السَّارد (ص. 16) – المقامة (ص. 17) – التقنية السينمائية – البانوراما (ص. 31) – التعقيب (ص. 34) – الرسالة / الخطبة (ص. 52) – الشعر (ص. 14).
وهذه الأفعال الإجرائية تؤكِّدُ – في هذا النَّصّ السَّردي الروائي – تمرّد محمد أسليم على التقنيات الفنية التقليدية للكتابة الروائية، بهدف استنبات جنس أدبي حدَاثي ينبجس من معطف الرواية، يثور عليها دون أن يدشِّنَ معها قطيعة جذرية.
———–
هوامــش
[1] – نقلا عن: صدوق نور الدين، أوراق، دراسة وتحليل، المركز الثقافي العربي، البيضاء – بيروت، 1996، ص. 73.ـ
[2] – المرجـع نفســه، الصفحـة ذاتها.
[3] – كتاب الفقدان، مذكرات شيزوفريني، ص. 136.
[4] – يتعلق الأمر ببونتاليس ولابلانش، معجم مصطلحات التحليل النفسي، ترجمة الدكتور مصطفى حجازي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1978، ود. عبد المنعم حنفي، المعجم الموسوعي للتحليل النفسي (عربي – إنجليزي – فرنسي – ألماني)، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1995.
ود. عبد المنعم الحنفي، المعجم الموسوعي للتحليل النفسي، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995.
[5] – انظر، مثلا، مارت روبير، أصول الرواية ورواية الأصول، ترجمة: روبير أسعد، مراجعة: أنطوان مقدسي، دمشق، مطبعة اتحاد الكتاب العرب، 1978، ص. 163 وما بعدها، ومحمد برادة، «إشكالية نظرية الرواية»، مقدمـــات، عدد 10، صيف 1997، ص. 61.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: السبت 08-09-2012 10:59 مساء