الرقمية والتدوين(*)
(تعقيب على موضوع: النشر الورقي والنشر الإلكتروني، منتديات ميدوزا، 24/10/2007)
أظن أن كل حديث عن النشر الإلكتروني لن يستقيم إذا ما عُزل عن سياقه الأكبر وهو حادث الرقمية باعتبارها ثمرة جهود تواصلت منذ آلاف السنين بذلها الإنسان للتسجيل في ثلاث واجهات: الكتابة، الصورة ثم الصوت.
يجب النظر إلى هذه القطاعات الثلاثة – التي لكل منها تاريخه – باعتبارها تحقيقات غير مكتملة لرغبة حفظ أثر للإنسان:
* الكتابة:
مكنت نقل العمليات الذهنية والمحادثات الشفهية إلى رموز تتيح إعادة – وإلى ما لا نهاية – ما مر في الذهن من أفكار أوما دار بين شخصين أو أكثر من ملفوظات. بيد أن هذه الوظيفة لم تكن هي الأصل في ابتكار الكتابة التي يعود اختراعها لأسباب فلاحية محضة: تدوين المخزون والمنتوجات ومواسم الحصاد، الخ. وكم سيكون البحث مفيدا في الكتابة الفنية باعتبارها فرعا من أصل أو استخداما ثانويا لأداة ابتُكرت للاستعمال في مجال آخر.
يتعين البحث في تاريخ الكتابة الطويل عن ملابسات وحيثيات توسيع دائرة استخدام الكتابة إلى أن صارت تغطي كافة الأنشطة البشرية.
* الصورة:
ربما كانت بداية متدبدبة للتسجيل، بحكم اقترانها بمرحلة عيش الإنسان في الكهوف، أي قبل ظهور الزراعة بأزمنة طويلة. بصرف النظر عن الطبيعية الدينية لرسوم الكهوف، فإن هدفها كان اقتصاديا، كما هو شأن الكتابة مع الزراعة.
هذا التدبدب ربما شكل ظهور الكتابة حسما له. لكن بما أن الكتابة تقتصر في التسجيل على ما يلتقطه الذهن والأذن دون البصر، مما يجعلها تسجيلا ناقصا، فقد شق التصوير له مسارا في التاريخ عرف التواءات وانعطافات كثيرة متمثلة بالخصوص في الفنون التشكيلية بكافة فروعها، وفي الرسم والنحت بالخصوص. وكم سيكون مفيدا إعادة قراءة تاريخ الفن البصري (الصامت تمييزا له عن حقبة اقترانه بالصوت الراهنة مع اختراع الكاميرا) من هذا المكان بالضبط: مكان الاستعمال الهامشي لشيء ابتُكر في الأصل للاستعمال في مجالات أخرى.
مسار البحث هذا، يمكن اعتباره قد أثمر أخيرا عام 1727، عندما وضع أسس الفوتوغرافيا الألماني يوهان شلتز ، وكانت هذه الأسس ثمرة تطور المعارف في الكيمياء والبصريات. ووجب انتظار القرن التاسع عشر ليتم إنتاج أول صورة فوتوغرافية؛ ففي عام 1938، تم ابتكار منطلقين للتصوير الفوتوغرافي، أول، في فرنسا، ينحو يأخذ منحى تضبيب الصورة، والثاني في أنجلترا، ينحو نحو جعلها مطابقة كليا للأصل. بل تم تعريف الصورة، من لدن هذا الإجراء، باعتبارها «دمقرطة للبصريات».
• الصوت:
بعد انصرام قرن ونصف على وضع الصورة لأسسها، بدأت أول تجربة لتسجيل الصوت الذي يُميز الدارسون في تاريخه بين أربعة مراحل لكل منها تقنياتها وممارساتها النوعية: المرحلة السمعية (حوالي 1877 – 1925 )، المرحلة الكهربائية (1925 – 1948 ) والمرحلة المغنطيسية (1948 – 1980) وأخيرا المرحلة الرقمية التي بدأت حوالي 1972، وشهدت تعميما وتوسيعا منذ بداية الثمانينيات :
ما قامت به الكتابة، منذ حوالي 500 عاما، انطلاقا من اختراع جتنبرغ للمطبعة، وهو توسيع لدائرة تلقي الكتاب وإنتاجه في ما يشبه نوعا من الدمقرطة، ستقوم به آلات التسجيل وظهور الفونوغراف انطلاقا من سنة 1954، أي بتأخر عن ابتكار المطبعة دام حوالي أربعة قرون…
النتائج الأولى لهذه الدمقرطة اتساع دائرة المغنيات والمغنين الذين ازداد عدهم بشكل غير مسبوق في التاريخ وما زال في ازدياد مُطرد، يخيل إلينا أننا وسط طوفان من المغنين. لقد قامت المطبعة بالشيء نفسه على صعيد القراءة والكتابة وإن بإيقاع مُختلف.
خلاصـة
الرقمية، بواسطة حاسوب وبرامج، جاءت أخيرا لتوحد بين هذه المسارات الثلاثة، التواريخ الثلاثة، حيث صار بإمكان أي منا اليوم أن يسجل ليس الخط فحسب، بل يسجل الصوت والصورة، وكأنها (الرقمية) تقدم أخيرا الحل «النهائي» للتدوين، محققة بذلك الرغبة التي جسدها الإنسان من خلال النقوش الأولى في الكهوف والحروف الأولى… لقد استغرق الأمر عدة آلاف من السنين، وأخذ ثلاث مسارات: الخط، الصورة والصوت.
———
(*) تنويه: وردت هذه الورقة تعقيبا على موضوع نُشر في هذه الساحات تحت عنوان: «من النشر الورقي إلى النشر الإلكتروني. وأعيد نشرها هنا مستقلة للتوثيق لا غير. ويتعين علي إيراد مصدر المعلومات الواردة سواء حول تحقيب بعض الظهاور أو تواريخ بعض الاختراعات.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الإثنين 27-08-2012 03:34 صباحا