الخطوط الرئيسية لمشروع يمكن أن يشكل موضوع بحث أكاديمي لتفسير حالة الجزائر من منظورات: أنثروبولوجية، وتاريخية وتحليل نفسية:
أظن أن فيما ينسبه الجزائريون إلى أنفسهم من العديد من أعلام التراث المغربي وأفعاله وعناصره، كتأكيدهم على أنهم هم من فتحوا الأندلس ونشروا الإسلام في أوروبا، وأن ابن الرحالة ابن بطوطة جزائري، وأن القفطان والكسكس جزائريان وما إلى ذلك، أظن أنهم لا يسرقوننا، نحن المغاربة، أو أنهم يكذبون على العالم بقدر ما يعبرون عن أزمة نفسية-هوياتية عميقة، وعن الصعوية الكبرى التي تواجهها الذات الجزائرية في مواصلة امتلاك ميراثها الماضي من موقع وهوية جديدين أو مختلفين تماما عن موقعها وهويتها السابقين. قد تكون عقدة الجزائر هي عقدة تسمية. فلو سمى الاستعمار الفرنسي الدول المغاربية الثلاث على هذا النحو: المغرب = المغرب الأقصى، الجزائر = المغرب الأوسط، تونس (ولو أن لا مشكلة لنا معها، بخلاف الجزائر) = المغرب الأدنى، لربما كانت أوضاعنا مع أشقائنا الجزائريين في حالة أفضل، لأن المغرب هو عقدتهم الرئيسية. كانوا سيكونوا مرتاحين جدا لو كانوا مغربا وكنا هنا مغربا (آخر)، بدل أن يصبحوا هم جزائريين في حين نبقى نحن وحدنا مغاربة، بعد أن كنا جميعا مغاربة!
فإلى حدود الغزو العثماني، كانت الجزائر الحالية دائما، بل وحتى تونس، ولاية تابعة لحكم مركزي مقره المغرب، وكانت البلدان الثلاثة تجمع تحت مسمى المغرب، وإن شيء تمييز المغرب عنهما كان يقال «مراكش» أو «المغرب الأقصى». بالتالي، فكل ما يسبق الاحتلال العثماني للجزائر هو ميراث بلد واحد لم يكن فيه وجود لتونس، ولا للجزائر، أكثر من ذلك. من هذه الوجهة للنظر، فكل ما يقولونه الآن صحيح: ابن بطوطة علم ينتمي إلى مجال جغرافي واسع كان يشمل المغرب والجزائر وتونس الحاليين، والفتوحات الإسلامية بالأندلس أنجزها سكان هذا المجال معا، وما يصدق على هذين يصدق أيضا على أمثلة القفطان والكسكس، والفنتازيا، وما إلى ذلك. ولكن المشكلة، ستبدأ بعد:
أ) الاحتلال العثماني للجزائر دون المغرب: سيترك جرحا نفسيا عميقا لدى أشقائنا «الجزائريين» (حاليا)، متمثلا في تخلي الحكم المركزي في «المغرب» (حاليا) عن هذه البقعة من أراضيه. إحساس من سيصبحون «جزائريين» لاحقا هو شبيه بإحساس الابن الذي يتخلى عنه والده. فلو تمكن العثمانيون من احتلال «المغرب» (الحالي) لكانت الوطأة أقل على أشقائنا الجزائريين (حاليا)، ولربما أخذت علاقتهم بنا منحى آخر؛
ب) الاحتلال الفرنسي: سيضاعف الجرح السابق من خلال احتلاله للجزائر قبل المغرب بقرابة قرن من الزمان، ورسم حدود ستفضي إلى تقسيم الوطن الأب إلى دولتين، هما: المغرب والجزائر الحاليين.
بعد التقسيم الأخير، ستصبح أقاليم المغرب الشرقية حاملة لاسم جديد، هو «الجزائر»، في حين سيحتفظ المغرب باسمه، وهنا مربض الفرس كما يقال. فللجزائريين «الحاليين» ميراث جغرافي ثقافي مشترك مع المغرب (الحالي) أيام كانوا جزءا منه، لكنهم يعجزون عن إيجاد هوية وتسمية مناسبتين لهذا التراث: إن قالوا مغربيا، فالمغرب أصبح كيانا منفصلا عنهم، وإن قالوا جزائريا انتحلوا ما لبس لهم وسمُّوا لصوصا يسطون على ميراث الغير، لأن «الجزائر» لم تر النور إلا في عام 1961 بمرسوم فرنسي!
من نتائج هذه الأزمة النفسية-الهوياتية لأشقائنا اليوم استعصاء بناء دولة ديمقراطية حداثية، وتصرفهم كالابن الذي يبلغ سن الرشد، وتتوفر له سبل الانفصال عن والديه، لكنه يظل مشدودا إليهما، ويواجه العالم برهاب وخوف شديدين، بل وحتى بسلوكات مرضية ومنحرفة. من تجلياتها:
أ) الحقد الكبير على المغرب: وهو في الواقع حقد على الأب الذي تخلى عن ابنه للعثمانيين والفرنسيين؛
ب) التسلح الجنوني: وهو في الواقع بقايا رهاب نفسي شديد من أن تتكرر مأساة الاحتلالين العثماني والفرنسي؛
ت) الرغبة التوسعية من خلال السطو على جزء من صحراء تونس، وجزء من صحراء ليبيا، وجزء من صحراء المغرب الشرقية، والتطلع للاستيلاء على صحرائه الغربية: وهو في الواقع سعي، بل ربما حتى رغبة في الانتقام من الأب القديم وهو «المغرب» الحالي الذي تقاعد عن أداء مهامه السابقة، وتخلى عن إمبراطوريته السابقة التي كانت تمتد من المحيط الأطلسي غربا إلى برقة في ليبيا شرقا والسودان جنوبا.
ث) نهب كل النخب المدنية والعسكرية التي توالت على حُكم جارتنا منذ استقلالها من الاحتلال الفرنسي إلى اليوم لخيرات هذا البلد: وهو ما يعكس عدم إيمانها بشيء اسمه الجزائر، وإيمانها بقابليته للاختفاء والتلاشي في يوم من الأيام، لذلك فإن هذه النخب تنهب قدر ما استطاعت، وتهربه إلى الخارج تحسبا لاختفاء هذا الكيان في يوم من الأيام، فتواصل عيشها هي وأبنائها في بلدان وقارات أخرى…
فقط ينسى هذا الابن أن وظيفة الأبوين هو أن يربيا الابن ويعداه لكي يستقل عنهم، في يوم ما، ويتدبر أمر السباحة كالسمكة التي تُلقى في البحر، فتتدبر أمر مواصلة حياتها بعيدا عن والديها، وهو ما لا يبدو أن أشقاءنا الجزائريين قد فهموه أو استطاعوا أن يقوموا به بعد.
محمد أسليـم