في شريط فيديو، ظهر الشخص الذي نصب المسجمتين اللتين كانتا حدث في شبكات التواصل الاجتماعي، وهو يبكي بعد أن أمره باشا مدينة المهدية بهدم ما أنجزه لحد الآن. عاب المتحدث في الفيديو الجمهور على عدم انتظار اكتمال العمل وأخذه شكله النهائي قبل أن يحكم عليه، مؤكدا أنه كان في طور البداية وأن خطوات أخرى كانت في الانتظار: إكمال المسجمتين، إقامة كهرباء، تأثيث المكان بأحجار، موسيقى، وما إلى ذلك، ومكررا عبارتي «حكروني (احتقروني)، ظلموني»:
في رأيي، لم يظلمه الجمهور. وإذا كان هناك من درس يجب أن يستخلصه مسيرو الشأن العام في هذه المدينة وباقي المدن هو أنّ الرقمية أتاحت للجمهور الواسع المشاركة في تدبير الشأن العام، عبر الإدلاء بالآراء، وإبداء المواقف، وما إلى ذلك، مما سبق أن تناوله عدد كبير من منظري الفضاء الافتراضي قبل سنوات عديدة، وهو ما يتأكد يوما بعد يوم في المغرب من خلال تفاعل السلطات مع ما ينشره المواطنون في شبكات التواصل الاجتماعي وموقوع يوتيوب، بإصدار بلاغات توضيحية أو اتخاذ إجراءات مناسبة أو الاستجابة لمطالب، وما إلى ذلك…
لم يظلمه الجمهور. فقد تمَّ إقامة مجسمة قبالة محطة القطار الجديدة دون أن تثير أي اعتراض ولا لغط، ما يفيد أن اعتراض الجمهور لم يكن عاطفيا أو لغاية في نفس يعقوب، ويعني أيضا أنه ربما لقي استحسان المتلقين، أو على الأقل لم يجدوا فيه ما يقتضي إبداء رد فعل ما. ثم إن الأمر يتعلق بفضاء عام، ليس ملكا لهذا الفنان أو ذاك ولا للمجلس البلدي الذي سيقضي مهمته وينصرف في يوم ما، فتبقى المدينة ملكا لعموم ساكنيها، بأجيالهم المتعاقبة. وليس من حق الفنان ولا المجلس البلدي أن يفرض عليهم مشاهدة ما لم يرقهم، وهذا ما عبروا عنه، لكن جمهور الرافضين اكتفى باستهجان العمل دون تقديم اقتراح أو بديل، وهنا بيت قصيد هذا الإدراج.
لا ينبغي انتظار أن يقدم الجمهور الواسع بديلا لما رفض ولا أن يحدد طبيعة النصب التذكاري أو التمثال أو المسجمة التي يجب أن تُنصب في هذا المكان أو ذاك من المدينة، فهذا لن يتحقق على الإطلاق. في المقابل، وهذا ما يُلام المجلس البلدي عليه. على أنه بالإمكان إرضاء الجمهور بالمرور من طريق أخرى، لو تمَّ سلكها لما وقع ما وقع اليوم، وأجملُ خطوات هذه الطريق فيما يلي:
1) أن يكون للمجلس البلدي برنامج لنصب أعمال فنية بمجموعة من ساحات المدينة، وهو ما لم نكن إزاءه في واقعة اليوم، إذ أكد الفنان أنه هو من تقدم بالاقتراح إلى المجلس البلدي، فاستحسن هذا الأخير الفكرة، واستجاب لعرض الفنان، ما قد يفيد أن غاية المجلس البلدي من نصب المجسمتين لم تكن فنية، بل ربما كانت إنسانية أو شيئا من هذا القبيل. وإذا فتحنا باب معمعة الإنسانية، فلن يمكن إغلاقه… لماذا هذا الشخص وليس شخصا آخر؟ هل وراء هذا العمل الإنساني (أو حتى الإحساني) نية ما؟ توظيف ما؟ وما إلى ذلك.
2) أن يتدرج المجلس البلدي في تنفيذ برنامجه وفق جدول زمني استنادا إلى إمكانياته المادية وأولوياته؛
3) قبل نصب أي عمل في ساحة عمومية ما، يتعين الإعلان عن المشروع، وفتح باب الترشح للفنانين، ليتقدموا بطلبات عروض، فيرفق كل فنان ملف ترشيحه مرفقا بنموذج مصغر للعمل الفني الذي يقترح إقامته في هذه الساحة أو تلك؛
4) أن يُعهد للجنة تتكون من خبراء في الفن التشكيلي والنحت والمعمار لانتقاء أجود الأعمال، مع مراعاة طبيعة وخصوصيات المكان الذي سيُقامُ فيه العمل، من حيث الشريحة السكانية والمباني الموجودة، ومساحة الفضاء، وما إلى ذلك.
5) انتقاء أفضل عرض، ثم إناطة مهمة تنفيذه للفائز بالمشروع.
ختاما، الآن وقد وقع ما وقع، آمل أن يتلقى هذا الشخص الذي «أحبط» الجمهور مشروعه تعويضا عن المقتنيات التي صرفها إلى أن بلغ هذه المرحلة، وكذلك تعويضا ولو رمزيا عما خسره، جراء عدم اكتمال المشروع: فهو رب عائلة، وله حاجيات، وبرمَجَ الحصول على مبلغ ما من هذا العمل، وخطط لشراء أشياء لأسرته أو تسديد ديون، ثمَّ إنَّه صرفَ وقتا طويلا في العمل لإنجاز ما أنجز لحد الآن، ولكل عمل أجر.