هَـذَيَانُ العُشْبِ
يتأمل حُشودَكم وهي تزحَف مُتدافعة بأوهَامها وأحلامها كالثعَابين. وأخبرُكم مِن الآن أنه لا داعي لمراوغتِي لإقناعي بالعكس. فقد صِرتُ الإقناعَ نفسَهُ، وإلا لكَانت عبارة «إني موقنٌ» التي استهللتُ بها هَذه الخطبة خطأ أو ليسَتْ ذات مَعنى. وهذا ما لا يجوزُ في حقي. باطلٌ جملة وتفصيلا، لأنّنِي لا أخطِىء أبَدا. فأنا ما أخرِجُ الحرفَ الواحدَ إلا بَعد تقليبه آلاف المرَّات على أبعادِه الثمانية. أتظنّون أنَّ فضاءاتِ رأسي قد فضُلت عني حتى أترك الأفكارَ تسرحُ فيها، تصُول وتجولُ بلا حسيب أو رَقيب؟. لقد وضعتُ للأفكار في عقلي فِخَاخا ومَصَائِدَ، كلما حطَّتْ إحدَاها في مُدَرَّجٍ منه وقعَتْ في شِرَاكٍ، فأمسِكُ بها، وأقلبُها وأتحسسُها بأصَابعي. إن وجدتُها ناضجةً ألقيتُ بها إليكم، وإلاَّ فإني أعاقبها بأن أدمِيها أو أهشِّم عظامَها كي تُبقِي في المرَّات المقبلة على مسَافة الاحترام بيني وبينهَا ولا تتجرَّأ على مُعاودتِي ثانية. إني أرَى مواكبكم تمرُّ أمامي وأسرَاب الأفكار تحوم حَول رُؤوسِكم كأسرَاب النسُور والغربان، لكنكم لم تصنعوا فِخَاخا للقبض عليهَا، ولم تجشموا أنفسَكم عناء تحسُّسِها، ولذلك تقنعُون بما يهوى عَليكم منهَا، وتعيدُون إلقَاءه إلي مُدَّعين أنكم تفكرُون وأنّكمْ معي تَتواصلون. كلاّ! إني لا أسمع حَرفا واحدا مما تقولونَ. يا قوم! يَلزمني أفيونُ العالم كي ألتقطَ ذبذباتِكم وأتواصَل مَعكم…
وأبلغكم أنّهُ لا دَاعيَ للفرار منيِّ خِشية عقابي. منذ لحظاتٍ فقط، نزل عليَّ وحيٌ يقول إنكم العقابَ نفسَه، وإنَّ ما يفرِّقُ بيني وبينكم إلا البحث عمن عاقبني. إن تعرَّفتُ عليه استعَدتُ عافيتي وصرتُ مثلكم سويا… متى خاف جلادٌ من سياطٍ وهُو اللاّوي عليها بيديه معا يهوي بها على ظهور ضحاياه؟! سَوف آتيكم بالحجَج والبَراهين. وفي انتظارِ ذلكَ، ها هي وجُوهكم وهاماتكم محتشدَة في غرَف عَقلي أفعلُ بها ما شئتُ وهِي لا تقوَى على قول أيّ شيء و فعله عَدا الاستسلام لمشيئتي. أتدرون أيَّ شيء أفعله بكم؟ إني أحملُ مكنسَة وأكنسُكم كمَا تكنس الأوراقُ والنفاياتُ من السَّاحات العمومية. ولنفترض أنكم تحدَّيتم أمري وتشتتم من حوالي لائذينَ بالفرَار. أينَ المفرُّ؟ هيهَات أن تفرُّوا، ثم هَيهاتَ! وإلا فمن أحَدِّث الآنَ؟ هَل أحدِّث نفسي؟ كلاّ، لستُ مجنونا! لم أفقد عَقلي بعد. والدَّليل على ذلكَ هُو: لكي أشرحَ لكم هَذه الفقرة وحدَها يلزمني البحرُ مدادا والشجر قرطاسا، وهو مَا أملِكه، لكني لن أفعل، خوفا عليكم ورأفة بكم! وهَاكمُ الدَّليل: سَأجهدُ نفسِي في تقديم شرح قصير، مِقدَارُه رمشة عين بالحسَاب الضَّوئي، للعاهرَة التي تمطَّت في بداية هذا النص مُشرعة سِرَّهَا للريح دون أن تستأذن في ذَلك أحدٌ أو يغويها به أحَدٌ:
عندمَا قلتُ «إنِّي»، لم أقصد بهذا الكلام الشخصَ الذي يكتبُ الآن مخاطبا إياكم بما يدَوِّنه. احذروا مَغَبَّةَ الاعتقاد أني إياه! من ظنَّ أني الكاتب فأبوه عاهر. فقأتُ عينيه أو كشفتُ له عنه. فقَد فقدتُ نفسِي مُنذ مرضتُ وآل ما تبقّى من حياتي إلى مجرَّد رحلة للبحثِ عني. كمَا لم أقصد بها أناي الضَّائعة التي أبحث عنهَا، فتلكَ لن أعثر عَليها إلى الأبَد. ما قصدتُه هو علامَة الإستفهام المنتصبة بين الأنَيَين، التي تَنِطُّ فوق الأشيَاء والكائناتِ من حَواليَّ كلما التفتُّ إليها فما أنفَكُّ أتَسَاءَلُ أمامها: مَن أنا وماذا أفعَل هُنا؟ فمن أنا؟ وماذا أفعَل هُنا؟ هِه؟! أجيبوا!
لما قلتُ «مُوقِنٌ»، لم أقصِد أنني خلصتُ إلى نتيجة لن أحيدَ عنها. فصباح غدٍ، سأستيقظ بَاكرا، وأخَاطبكم فور قيامي، من السَّرير، قائِلا: «لستُ موقنا»، أو «من زعَمَ أني ادَّعيتُ أنني موقن فأمُّهُ زانية» . يا قوم! أنا لا أعرفُ حتّى نفسي، فمِن أين لي أن أزعمَ معرفةَ شيء مَا؟!». لم أقصد أني لم أخلص إلى نتيجةٍ قط، أو أني خَلصتُ إلى استنتاج مؤقّتٍ سَأعيد فيه النظر فيما بَعد. ما قصَدته هو هَذا الضَّباب الحربَائي الذي يمحُو الفرق بين الشكِّ واليقين في لمح البَصَر، فيصيرُ اليقينُ عندي شكا والشَّك يقينا بكيفية لا ينفعني، للخرُوج منها، حتّى أن أعمدَ إلى شحذِ عقلي عَلَى حَدِّ سِكِّيرٍ (بدل سِكِّين)، فأقول: «إنَّ للشكِّ واليقين أحوالا ومقاماتٍ أربع هي: ]شك الشك[، و]يقين الشك[، و]شك اليقين[، و]يقين اليقين[»، لأنني حالما أحكِمُ تشييدَ هذه الغرَف الأربع، وأشرَع في سَجن معَارف العالم فيها، تكَسِّرُ المعَارفُ المسجُونةُ أبواب الغرفِ، وتتجمهر في ساحَة عقلي ومدرَّجاتِه مطالبة بغرف أرحَب تَسَعُ ]شَكُّ يقينِ اليقين[، و]يقينُ شكِّ الشكِّ[، و]يقينُ يقين الشكِّ[، و]شَكُّ شكِّ الشَّكِّ[، و]يقين يقين اليقين[، وهكذا… حتى إذا استجبتُ لمطالبها وأضفتُ غرفا جديدة بعَدد أفواج الحشودِ، وأوصدتُ بابا وَراء كلِّ مَوكب، لبثتِ الخواطر رَدحا من الزَّمَن داخل بيوتها، ثمَّ كسَّرَتِ الأبوَاب واحتشدت في ساحة العقل الكبرى مُطالبة بمنازلَ أرحبَ تَسَعُ [شكُّ شكِّ يقين اليقين]، و[يقينُ يقينِ شكّ الشَّكِّ]، و[شكُّ شَكِّ يقينِ الشَّكِّ]، و[يقينُ يقينِ يقين الشَّكِّ]، و[يقينُ يقين يقين اليقين]، و[شكُّ شكّ شكَ الشكِّ]… إذا كان يلزمُني هذا الكلامُ كله فقط كي أقدِّم لكم شرحا قصِيرا، مقداره رمشة عين ضَوئية، لمعنى «إنِّي موقنٌ»، فكم يلزمني من وقتٍ وجهدٍ عقليّ كي أشرحَ السؤال «أأحمد أنا أم محمد؟»، أو قولي: «جدِّي هو أخِي الأكبر»، أو «أمُّ أمِّي هي عمَّتي الصُّغرى»؟. وأسِرُّ لكم بأنَّ الكتاب الحالي هو سَطران فقط، الأولُ والثاني بالضَّبط، من مُقدِّمة مجلّد أكتبه خصِّيصا للإجابة عن السُّؤَال: «في أيِّ فقرةٍ نحنُ مِن الكتابِ؟». ففي أي فقرة نحنُ من الكتابِ؟
*
* *
من الآن فصادِعاً لن أكلمكم إلا بلغَةِ الحيوان. عَوْدةٌ سَعِيدَةٌ إلى إخواننا الحيَوانات. هَا هِي مَواكبُ الأفَاعي، والأرانبِ، والضفادع، والقطط، وبناتُ عِرس وآوَى تحتشدُ في بيتي:
– مساء الخير يا مَعشر الحيواناتِ.
– …
– لماذا؟
– من أذن لكم باقتِطَاعِ الأراضي التي تدعُونها مدنا من الغابةِ-الأمِّ وترْكِنَا بداخل أجزاءَ منها مسجونين؟
– لم أفعل ذاكَ يا أخي الذئب، لم يَستشرنِي أحدٌ في ذلك يا عمِّي الأسَد، صدقيني يا أختي اليمَامة…
لا أسدَ ولا ذئبَ، لا يمامةَ ولا أرنبَ، لا ابنَ عِرس ولا ثعلبَ، ولا يحزنون. فمنذ دقائق قِئتُ عقلي، وصَار رَأسي خفيفا كالرِّيح. ريحٌ وأية ريح عاتية أنت، عليَّ هبَبتِ دون إشعار أو سَابق إعلان إلى أن فرَّقتِ الناسَ من حَولي جميعا، فما فطنتُ لنفسي إلا وأنا محاصرٌ بعُيونهم وكلماتهم وإشارات قرفهم مني، فإلى أين المفرّ؟
وقبلُ:
فإني أنا، وأنا لستُ أنا.
لِنَدَع الآن الحكاية جانبا، ولنفصحْ للقوم عمَّا بدواخلنا محدِّثينَ إياهم بلغة أخرى، بمنطق أكاديميّ آخر:
أنا أنتمي الآن إلى زمن آخرَ، يُولد المولودُ فيه وتقولون: «عمرُه يومٌ واحدٌ»، ثم يكبر، ويجري في زمن يتمطّى عَليكم ويتطاولُ إلى أن تقولوا لمولودِ الماضي: «عُمرك اليوم 14 عاما»… غيرَ أنَّ ذلك كله يمرُّ أمامي في بضع لحظات لا غير؛ أرَاهُ وُلِدَ، وتململ، ثمَّ حَبَا، فوقفَ، فجرى. أراهُ فَعَلَ ذلك كله بحرَكاتٍ سريعة متلاحقة ما يفصلُ بينها إلاّ مِقدار لمح البصر أو أقل، فأقفُ مشدوها. أذاك هو الأصلُ في ما يفرِّقُ بيننا؟.. أنتم تصرفون أزمِنة طويلة في الحبو والرَّضاعة والذهَابِ والإيابِ والضَّحكِ واللعبِ، إلى أن صَيَّرتم مُهمَّتَكم في الحياة مقصُورة على الأكل والعَمَل والنوم والشربِ، وهو ما يستنفدُ منكم أكياسا من الوقت والجهدِ إلى أن تقولوا: «يا مَالِكَ الوقتِ! مزيدا من الزَّمَن كي نتمكنَ من القيَام بذلك». بخلاف ذلك، تمرُّ حَركاتكم كلها أمامِي بسرعَة البَرق، فأميل يمينا ويسَارا عساني أجد ما أجزي به الوقتَ، ولا أجدُ ما أصرف فيه الزمن عدى الشُّرود في فيافي الفكر واحتواء حرَكاتِ العالم وضجيجه من حولي في انخطافٍ منتشٍ كحشَّاشٍ أو متصوفٍ. وبذلك، فأنا أعاني فراغا مريرا. أنا غارقٌ في بطء الزَّمن وأنتم غارقون في سُرعته. ملكتُ من الزَّمَن ما فاضَ عليَّ وغمرَني طوفانه. انظرُوا: رجلي الآن غارقة في شهر، ويدي في عام. سَاقي في يَوم، ورُكبتي في قرن. رئتي في ألف عَام، وقلبي في مليون سنةٍ ضوئية. فهَاتوا أحوَاض العالم وصهاريجه كي أتصدَّق عليكم بقِسط مما فضُلَ عني من دُهُور. لستُ بخيلا. لو كان شأنُ المرءِ يقاسُ بما يملك منْ زمن لكنت أثرى رجل عرفته البشريَّة في التاريخ، ولكفت زكاتِي وصَدقاتي خصَاص البشر قاطبة إلى أن ألج بهم مَدَاراتِ الخلد والأزل.
إنكم لتعرفونَ هذا حقَّ المعرفة. تعرفونه منذ وُلِدتُ… ويومَ فطنتُ إلى عِظم حجم ثروتِي، وتأهبتُ كي أتصدَّق عليكم بجزء منها وأنطلقَ بكم إلى أبعَاد وُجودِية أخرَى كِدتم بي: اتَّحَدتُم جميعا ضِدِّي، وأضاف كلكم نصيبَ ما يملكه لنصيبِ الآخر حتَّى كادَ مجمُوع زمنكم يعادلُ زمني بمفردي، فجعلتم منكم شرطة، وجُيوشا، ولُصُوصا، ومَلائكة، وأنبياء، وصعاليكَ، وأطبَّاء، وصرفتم وقتكم كله في الانشغَال بي سَعيا إلى منعي من تجاوزكم. فعلتم ذلكَ إلى أن حاصرتموني حِصارا تاما. وبذَلك صرتُ أمَامَكم ما كَان أمامي المولود الذي كبُرَ وجرى في بضع لحظاتٍ.
يا قوم! كلكم عَاقلٌ، وكل عاقل متربصٌ بي، متحكمٌ فِيَّ تحكما تاما، يرُوم الإطاحة بي. حيثمَا أتململ أجد بمحاذاتي شرطيا يتتبَّع أقلَّ حركاتي وسَكناتي. يُنصِتُ لما ظهر من هَمْهَمَاتي وما بطُنَ وهو يدوِّنها في كتابٍ أو يسجِّلها بآلة. حِراسةٌ في الصَّبَاح، وحراسةٌ في المسَاء. حراسَة في المرْحاض، وحرَاسَة في فراش النوم… ابتعدوا عني. لا تَسْتَبْلِدُونِي أو تَسْتَسْذِجُونِي أو تَحْسِبُوا أنِّي أهذي. فأنا أرى أشباحكم عندما تتسللونَ إلى غرفتي، وتختبؤون في صفحاتِ الكتبِ، والأقلام، ومنفضاتِ السَّجائر، وعُلب أعواد الثقاب، وتندسُّون بين سُطور الوحي الذي أدوِّنه الآن (أدوِّنه بمعنى أجعله دُون ما هو في الحقيقة، والحال أنه يُدنَى منه دون أن يُدنَى عليه)، وأفطن إليكم عندما تتنكرُون بصور أفراد عائلتي. أمن حُجَّة بعد هَذا كله؟! وأحذركم من الآن: كُفُّوا عن وضع الألغَام والقنابل في أوانِي المطبخ، وعَتبات الغرَف. لن أسقط في فِخاخِكم! فأنا مُنذ غادرتُ سرير المستشفى ونزَلَ عليَّ الوحيُ لا أستعملُ شيئا أو أمُرُّ بجانبه إلا بعد أن أسأله عمَّن يكون، وعمَّ جاء يفعل هُنا. إن أجَابني عرفته، وإن لم يجبنِي نفذتُ إليه بأحاسيسي المغناطيسيَّة إلى أن أعرفه حَق المعرفة. ألا ما أحوَجَكم إلى الشَّفقة ثم ما أحوَجَكم إليها!، فأنتم داخل صُندُوق صغير منَ الأفكارِ تقيمون. ولذا، فإني أنصحُكم بالابتعَاد عني، لأنكم حالما تفعلون ذلك يفضل لكم الوَقتُ كلهُ، ويستَوي الزَّمَنان، فتلقون بمَدَافعكم، ومُسدساتكم، وبذلاتكُم، ونياشينكم، وتجلسُون مثلي في الرَّصيفِ، وتصير لكم مشاغل كَمشاغلي، فتخضرُّ الأحزان في رُؤوسكم وتزهرُ، وتسطع في عقولكم أنوارُ الضّحى، وتلمعُ الأفكارُ السوداء عليكم، وتشرقونَ على أنفسِكم بمعارف لا تَرون مَعها الكائناتِ والأشياء من حَواليكم إلا بعين دهشَة البدَايات، وتتيهُون في أنفسكم، فيلقاكم المرءُ في الطريق ويسألكم: «ألسْتَ فلانا بن فلان؟»، فتُجيبونه: «نعم، أنا هُو. إني أعرفني جيدا، لكنّنِي افتقدتني منذ زَمن طويل. ومنذ فقدتُ نفسي وأنا أبحث عني في كلِّ مكان دون أن أجدَني، فهللا دللتني عليَّ!»، ثم تتركون السَّائل مشدوها وتواصلون سَيركم باحثين عنكم دُون أن تعثروا عليكم، وتمرّون أمَام الشيء فتقفون أمَامه مشدوهين وأنتم تتسَاءلون: «سبحانكَ! من أنت؟ ثم سبحانكَ! من أنتَ؟ ولماذا تصلحُ؟». فسبحاني من أنا؟، ثم سُبحاني من أنا؟ وماذا أفعل هُنا الآن؟…
– لكي نَصل جميعا إلى حَلٍّ لمشكلتي، وإخراجي منَ البئر التي أنا الآن قابع في قعرها مُنذ سنين، هل من الضَّروري أن أمِدَّكُم بسجلِّ حَالتي المدنية أو أوافيكم بعيِّنَةٍ من سلوكاتي اليومية؟
– فسُدَتِ اللعبة!
– ما أغبَاني!
– بل ما أغباكم، ثم ما أغباكم!
– كفَى هذيانا وحَكيا، ولننتقل إلى الضِّفة الأخرَى.
*
* *
اعلمُوا أن اللغةَ ممالكٌ، للكلمة فيها مسَالك ومَعَارج لم تهتدوا إليهَا بَعد. فقبل أن تصلَ كلمتكم إليّ تنطلقُ جاريةً نحوي، لكنهَا ما تبلغ مَدخَلَ المنعرج الذي أكونُ في مُنتهاه واقفا أنتظرها حتّى يُصيبها زَحَف أو وَهَن، فتقعد أو تنام، وبالتّالي لا تصلني إلا متأخرة جدّا، ما لم تَمُت فلا أتلقاها بالمرة، أفقِدُهَا إلى الأبَدِ دُونَ أن أعرفَ سببَ شللها ومَوتها، ولا كيفيته. إني أريدُ كلاما مثل كلامي. يُرْسَلُ بذبذباتٍ أخرى، لأنَّ رأسي مُنذ مرضتُ وهو مُثَبَّتٌ في مَوجَاتٍ أخرَى. رأسِي حاسُوب أعيدَت بَرمَجَته بلغة لم تبتكر بعد. ولذلك، أنا غريقٌ في بحار الفكر. هَاتوا أنَابيب العَالم وهيِّئوا صَهاريجه كي أفرغ لكم ما بعقلي من أفكار وبِدمي من أزمنة لن تتضح مَعانيها إلا بعدَ أن تتكلَّسَ عظامكم في المقابر لأنني في المستقبَل أعيشُ. بيني وبينكم فارقُ مليون سنة ضوئية.
*
* *
عندما أتيهُ فيكُم، أصعدُ إلى بُرج إقامتي اليوميَّة، وأطرحُ على نفسي خمسين مَرَّةً السؤالَ التّالي: «ما الفرق بيني وبينهُم؟»، فتزحفُ الأجوبة عَلى بسَاط الذِّهن كالأفاعِي، ثم تستقرُّ في غرفِ عقلي، وتقفل الأبواب من ورائهَا جميعا، تاركة إيَّاي وحيدا تائها في المسَالك الموحشة. أطرق أبوابَ عقلي بابا بابا عسَاني أجدُ من الأفكار من يشفق عليَّ ويدخلني، فيأويني من طوفَان الفكر وجليدِ الأحَاسيس، لا يشفق عليَّ من أفكاري أحدٌ، علما بأنني ربُّ الأفكار جميعا. أنقِّطُهَا. مني تنحَدر، وإليَّ تَعُود. أهذا هو السَّبب في ما شاهدتموني عليه يوم الأربِعاء المنصَرم عندما كنتُ أستجديكم وأنا أمْطرُكم بالدُّعاء قائلا: «آمن يعطينا شويَّ دْ العقل واللاًّ شي فكرة الله يرحم الوالدين»؟ كنتُ مخطئا الخطأ كله. ومَا كان يَحُولُ بيني وبين إدراك فظاعة زَلَّتِي إلا التفاتة صغيرةٌ، في حَجم نملة أو بعوضَة، إلى الحقيقة التّالية: أنتم أيها الملائكة إلى الصَّدقة أحوَج. كانَ عليَّ أن أمُرَّ وحدِي في الطريق، وكان عليكم أن تقعُدوا جميعا عَلى الرَّصيفِ وأنتم تستَجْدونني قائلينَ: «تصدَّق علينا بربع شهر أو عَام، أمولانا الملك، رحم الله لوالديك! امنحنا دقيقة أو قرنا أمُولانا الأمير، رحم الله والديك!». لم أدرك خَطإي، ولذلك لم يشفق علي أحدٌ، فظللتُ تائها في مَسَالكي وممراتِي الباطنية إلى أن وصلتُ إلى المقام الحالي: جسدي الآن منزِلٌ، يداي غرفتاهُ ورجلاي كهفاه، ورأسِي شرفته، وعرُوقي ممرَّاته. غير أنني، مع علمِي الكامل بأنني أتجولُ اللحظة داخل المنزل الذي أنا إياه، أعجزُ عجزا تاما عن تبيُّن مكان وجودِي. يا مَعشر الناس! أرجُوكم هبُّوا لنجدتي. فالغرف بداخلي مُظلمة وأنا في إحدَاها سجين دُون أن أعرف ما هي بالضَّبط. أفي مخبأ الدِّيناميت أقيم الآن أم في مُستودع أدوات البنَاء التي أشيِّدُ بها عقلي؟
من يهُبّ لنجدتي أوجعه لكما ورَكلا، لأنه إلى النّجدة والخلاصِ أحوج مني إليهما!
– هل جُنِنتَ؟
– لماذا تطلبُ النجدة وأنتَ في قمة برج بابل تقيم؟!
– لا أرَى في الشَّوارع إلا صوراً جامدة، ولا أسمعُ في كلمات الناس من حولي وحَركاتهم إلا نبرة ماضٍ سحيق. الآخرون حكايةٌ تتالى أفعالها بإيقاع ماضٍ بسيط، وأنا عملٌ مُنهمِكٌ في ماضٍ غير تام. نحنُ الآن معا. هَا هِي صوركم تحاصرُني، وأصواتكم تزعجني. أنتم الآن تلهُون، وَتأكلونَ، وتتكلمُون وتختصمون وتزلزلونَ الدنيا شخيرا، وأنا جالسٌ أكتب خطبتي في هذه السَّاعة المتأخرة من ليلِ الفكر قبالة أفعَى وحيدة قَرن لم تنفك تنظرُ إلي منذ جلستُ، لكني مقيمٌ في يَوم أمس. نعم، أنا الآنَ الأمسُ، البارحة. وأنتم الآن، اليومُ، اللحظة. الأمسُ واليوم متقابلان الآن كمَا يقابل المرء وجهه في المرآة. فأين المفرُّ؟ هيهاتَ أن تفرُّوا، ثم هيهاتَ! أنتم في عقلي مقيمون، وإلا فمن أحَدِّث الآنَ؟ أتظنون أني أحدِّث نفسي؟ كلاّ، لستُ مجنونا! أي الاثنين أقوى عَلى إلحاق الهزيمة بالآخر، الأمس أو اليوم؟ الأمسُ طبعا، والدَّليل على ذلك هُو هَذه العُقوبة الكبرى التي ألحقتها بكم عندما اعتزلتُكم وانزويتُ في الرَّصيف تَاركا إياكم تمرّون أمامي أمواجا ومواكبَ زاحفة متدافعة كالثّعابين. امنَعُوني من التفرُّج عليكم. من يَرُمْ ذلك فلا مَأوى له غير الرصيف حيثُ هيَّأتُ لكم مقاعدَ بعدَدِكُم. فتعَالوا لتُطلوا من شُرفات عقلي ونوافذه المشرعة، وامسِكوا عن محاولة إخرَاجي من هَذه البئر التي أقبع في قعرهَا منذ سنين.
– اسمعا معا. إياكما أعني. اسمعا جيدا، جيدا! لا أحمد ولا محمَّد، لا يوسُف ولا يعقوب، لا أبي ولا أمي، لا أختي ولا عمَّتي، لا جمهورية ولا أورغانون، لا أكاديمية ولا يحزنونَ. اسمعوا أنتم أيضا، أيها الخونة. لقد حجبتُ نفسِي عنكم لأنني ما أرى صُوركم إلا مرايا تنعَكسُ عليها صُورة وجهي، ولذلكَ، لن أحزن عَلى فقداني، لأنكم جميعا إياي. لقد عوَّضتُ بكم نفسِي فهنيئا لي بكم وهنيئا لكم بي:
أنا الآن متقاعدٌ وهِنٌ، والحياة تتطلبُ العمَل المتواصِل، ولستُ أقوَى على فعلِ أي شيء عدا التأمُّل في فيافي الفكر المنتشيةِ السَّهرانة. وفي كلّ منكم من الحيوية ما يمكِّنه من إنهاء عَمله وإكمَال عمَل الآخرين. لقد أبحتُ لكم إتمام ما كنتُ أشتغل به قبل أن أمرضَ، فهنيئا لكم به، ثم هَنيئا لكم بي. أنا صَاحبُ وَحي عمَّا قريب سيكتملُ نزُوله وأجيئكم بشَريعَة لم يعرفها عيسى ولا مُوسى، فلا تفقأوا عيني – عَافاكم – لأنهما مهبط الوَحي الذي ينزلُ عليَّ. سأكافئكم عن ذلك بإبطال مفعُول القنبلة الثاويةِ في عقلي ومنعِها من الانفجار عليكم.
*
* *
هل أدلُّكُم على معنى الطقسِ الصَّباحيِّ الذي دأبتُ عَلى أدَائه منذ مرضتُ؟
مُنذ عدتُ من مستشفَى الأمراض العَقلية وأنا أقفُ، كل صباح، وُقوفا طويلا بباب المنزل متفرِّسا في الفضاء ووجُوه النّاس كأنني أبحث عَن شيء ما حتّى إذا وجدته انطلقتُ جاريا كالفارِّ من جماعة تطاردُه، لكن ما أقطع مائة متر حتّى آخذ في السُّقوط والنّهُوض المتواصلين… والسَّبب في ذلك هو أنني لم أفطن ذات يومٍ إلا وقد صَارت نَسْمَة الصَّبَاح تثيرُ مفعُولا إكسيريّا في خواطِري، فأخذتُ أستيقظ يوميا في منتهى السَّعادة وأنا أقول: «يا له من صبح سعيد!»، أردِّدُ ذلك وأنا موقنٌ بأنَّ النهار الجديد سيحملُ لي مُفاجأة الاستعادة العَفوية لما فقدتهُ من عقلي. لكن بتدفق سَاعات النهَار تطالعني مشارفُ خيبة كوني إلى السُّقوط أميل، فما يظلم الليل إلا وأنا أصرُخ خائفا مفزُوعا من رُعب الصُّعُود إلى الهاوية: أفطن إلى أن فِكرة مَّا قد تسَلَّلَت إلى عَقلي جَرّاء ما خالطته من أشياء مسَّتها أياديكم، فتعلَّقتُ بها، وحملتني طيلة النّهار إلى أن قلتُ: «ها أنذا وجدتُ منفذ استِعادة عقلي السَّوِي»، فإذا بالفِكرة تتمَلمَل في المسَاء منعطفة نحو السُّقوط، فأنتبه إلى أنني خُذِلتُ، إلى أنني كنتُ من الغبَاوة والسَّذاجة بحيث ظلّت الصَّخرة اليومَ كله وهي تميلُ ببُطء دون أن أنتبه، وبذلك أجدُ نفسِي مُعلقا في الفراغ ما يمسِكني إلا الأصَابع التي أشدُّ بها بقوة على الفكرة. إنْ سقطتُ انتحرتُ…
عندَمَا أقفُ صباحا ببابِ المنزل لا أرَى حيثما ولَّيتُ وجهي إلا ضَبابا وغبارا ورائحة مَوت. أرى الأزقة مسَالِك مُوحشة، والناس جُذوع أشجَار مُتحركة، والعِمارات أشجار عملاقة ذات فروع سَوداء وأغصَان جليدية ضَاربة في عنان السَّماء، والطرقات مياه بِرك راكضة، فأتساءلُ: أي اتجاه نأخذ؟، لنأخذ وِجهة الكلام. صَباح الخير يا سِتّ كلمَة. تفضلي. هَا قد امتطيتُ كلمتي الشَّامخة النّاضجة كَي أبحرَ في لغاتكم. أرسلها، تحاصرُوني بكلمة قاصِرة، ترتدُّ إلي الكلمة سائلة: «مَن أنا؟»، أسقط، أستمسِكُ، أقف، لا ينفعني الوُقوف، أحَاول انتشَال يدي من يدها بعُنف، غير أنها تظلُّ لاصقة بي كقدر مسعور: فبقدرِ ما أحَاول سحبَ يَدي بقوة تضاعفُ هي مِن قوة إمسَاكها بي، وبقدر ما يُسقطني شلل قدمي علَى الأرض تنهضني هِي بقوة وتجبرني على استئنافِ المسيرِ، إلى أن أصرُخ بأعلى صَوتي: «عمّا قريب سَأتحوَّل إلى حُقول زرع وأشجار فواكه. عمَّا قريب سينزرع وينغرسُ كلُّ ما أكلته، فأعيدِيني إلى المنزل. أعِيدِيني إلى المنزل، فأنَا لست يُوسُف!».
– أيُّ يوسُف؟!
– عفوا، عفوا! إنّي أهذي…
كلكم عاقلٌ، وكلّ عاقل متربّص بي، يرومُ الإطاحَة بي. هَا هِي حُشُود أقوامِكم وأقوَالكم ونظراتكم مُتجمهرة في غرفتي. بعضُها مهشم الرَّأس، وبعضها مَكلوم الخاطر. بعضها يزحف، وبعضها يترنّح. وكلّما استجبتُ لتوسُّل إحداهن، وتهيأتُ لتضميد جراحهَا أو إسعافها لإنقاذها من مَوت محقق، لم أفطن لنفسِي إلا وجُيوش الحرُوق الهجائية تكتسحُ جسَدي. أنا الآن أسير بينكم مُغَلفا بفرن زُجَاجِيّ حيثما وضعتُ قدَمي أصَابني حرق مِن بُخار أوامركم ونواهيكم. انظروا هذه البقع البنفسَجية التي كسَت جسَدي إلى أن صارَت له شِبه قمِيص…
*
* *
أراهنُ بما تبقَّى من عقلي أنَّ مَا في عُقولكُم إلا هُو. مِلْكُ أذهانكم، وقِبلَةُ أجسادكم، وذِكرى أجدَادكم. أمَّا أنا فبريء البراءة الكبرى منه. لحمِي لم يعد لي. صار جسدي سُور إسمنتٍ مسلح يقيني من الاحتكاك بكم أو التماس معَكم. هُو الآن شيخ، ويدكُم جميعا فيه. مَن فهم الإشارة أدركَ العبارة، ومن فاته الفهمُ حدّثناه بلُغَته. قال: «جهَّزْنا السَّرْج منذ مدَّة. من شَاء أن يركب فليقتربْ. أتريدون أن أدلكم على معنى الزواج؟ هو أن توضعَ للمرء علامةُ STOP فوق جبينه، فيمرُّ وتشتهيه سَيداتٌ وأوانسُ وعوانسُ في الشَّوارع، لكنّهن لا يجرؤنَ على مُفاتحته خِشية الممر الممنوع. ها قد نزعتُ العَلامة المحرَّمة منه، ووضعتُ لوحَة زرقاء مَكان الحمراء. من رأيتُها فهي لي ومَن لم أرهَا فلي ثلثاها. أينَ انتهى كلامُه لأغلق المزدوجتين؟ الله أعلم!، بل هل انتهَى كلامه أم ترَاه أراد التمويه عليّ بإلقاء التسَاؤل عَلى لسَاني قائلا: «أين أغلق المزدَوجتين؟» كي يُوهِمني بأنه قد توقفَ عن الكلام في هذا السَّطر فيما سيُواصل الحديث ليوهِمكم أني المتكلم؟
أيُّها الناس! إني بريءٌ بَراءة تامَّة مما أكتبه الآن!، فما يكلمكم منذ بدَاية المزدوجتين حتّى نهاية النص إلا الرِّيح. افترى عليَّ، وزعَمَ أنِّي مُتزَوِّج، وهُو يعلم أني الواحدُ الأحَد، لا زوجة لي ولا وَلد، لم يلدني أحدٌ، لا ولن ألد أحدا!. ها هُو أمَامكم مكشوفٌ. حُلُّوا هذه المعادلة الرِّياضية: من رآه فقد اشتهاه، ومَن لم يرَه فقد شبع منه. اليوم مطرٌ وغدا حليبٌ. فشدِّدُوا الحراسة على مؤسَّساتكم.
*
* *
لفرطِ ما عاشرتُ السَّماء تأتى لي من المعارف بالكواكب والمجرَّات ما لم يملكه بشرٌ من قبل ولن يملكه أحدٌ من بعد. فأنا أعرفُ مسالك درب التبَّانة مَسلكا مسلكا، وممراته ممرا ممرا، ومنعرجاته مُنعرجا منعرجا. ولذلكَ، ينتابني قلقٌ كبير، وإحساسٌ بالغبن الشديد كلما سمعتُ عن انطلاق مَركبة فضائية، لأنني أقصَى من مُرَافقة رَبابِنَتِهَا إلى السماء دونَ مُبرر معقول، أنا الذي أعيش بمنطق السَّمَاء، وأتكلم بلغته، وأرَى ما لا يَراه الآخرون وأسمع ما لا يسمعون. أهذا هو السَّبب في أن لا أحد منهُم فهم كلامي إلى اليوم؟ أيكون رُعب ما امتلكته من مَعَارف هو الذي أصمَى آذانهم وأقصاني من حقول تواصُلهم؟
اصحبوني معكم إلى الفضَاء كي أُرِيكُم المدنَ السَّماوية القابلة للسَّكن. نعم، السَّماء ممتلئة عن آخرها بمدن قابلة لإيوائكم، والدليلُ على ذلكَ كونُ الحيواناتِ متربصة بنا جميعا. إذا اعتقدتم أنكم قد تفوَّقتم علينا أو اتقيتم شُرورَنا إلى الأبد أخطأتم. أعلمتم ما تردِّدُه حُشُودنا عندَما تتجمهرُ في غرفة من يخاطبُكم الآن وتنهمك في النّظر إليه لاستراق مَا يُدوِّنه من وَحي؟، نردِّد:
«نحن، معشر الحيوانات، نفكر مليا، ولا ينقصنا إلا الخيط الرابط بين الفكر والعمل كي نهتدي إلى استرجاع ما استلبَهُ منَّا الإنسان. ما المدنُ إلا مُستعمرات اقتطعها بنو البشر ظلما مِن الغابة-الأم، غابة البدء حيث كانت اليمامة أختك، والسّبع أباك، والضّبع عمّك، والفيلُ أخاك…»
ومعنى ذَلك أن مَثلَ الحيوانات في الغابة كمثل الشَّخص الذي رأيته ممدَّدا في الطّريق، بعد أن داسته سيارة، أثناء قفولي في أحَد أسفاري من عطارد إلى المرِّيخ. كان الجريحُ ممددا في حَال بين الإغماء واليقظة، ويعرفُ أنه في منتهى الخطر يُقيم، أنَّ سيارة أخرى لا محالة قَادمة يحتمل أن تدهسَه ثانية وتحيله إلى رَميم، وما يفصله عن الخلاص إلاّ القدرة على نصف حَركة. كذلك الحيوانات: هيَ الآن مُنهمكة في التفكير في كيفية الزَّحف على المدُن، واسترجاعها إلى حظيرة الغَابةِ-الأمِّ، ولا ينقصها إلا نصف فِكرة لتحقيق ذلكَ. وعليه، فلكم أن تختارُوا الآن بين أمرينِ:
الأولُ: أن تأخُذوا عقلي المزوَّر وتعيدوا عقلي الحقيقِي الذي اختلستموه مني. ولتسهيل هذه المهمَّة عليكم، فقد هيأتُ نفسي لذلك منذ مدَّة. اجتهدتُ إلى أن أفلحتُ في نزعِ دِماغي من رأسي دُونَ أن ألحق به أدنَى ضرر، ثمَّ وضعتهُ في علبة وأحكمتُ إغلاق جيبي عليهِ. عقلي الآن في جيبي، ما يحدِّثكم اللحظة إلا الريح. وهَذا هو معنى قولي قبلَ قليل: «عندما أقولُ “أنا”، فإني لا أقصدُ أنا، كما لا أقصد أيَّ شخص آخر كنتُهُ أو سَأَكُونُهُ غدا أو بعد غدٍ أو في العَام المقبل»، وقولي: «إنَّ “هُوَ” هُوَ الذي يحدثكم الآن». من هُو؟ الله أعلم!. وإذا تعذر عليكم إعادة عَقلي أريتُكُم تقنية ليس «صنع علب العقل» فحسْب، بل وكذلك تقنية صُنع علب حفظ نفايات أجسَادكم لتتحَوَّلوا إلى كائناتٍ قدسية.
الثاني: أن تتمادَوا في رفض إعادَة ما سَرقتموه مني. إن تفعلوا أعمد إلى الغابة، ثمَّ أفتح علبة عقلي وأناولها للحَيوانات، فتستعيدُ بوصلة الاهتداء إلى طرُق استرجاع الغابةِ-الأمِّ، فتصيرون ما هي إياهُ الآن، إلى أن لا يفطن كل واحِد منكم لنفسِه إلا وهو هزارٌ في قفص أو ضفدَع في بركة، أو فيل في حَديقة عمومية، أو زرافة في مَحمِية طبيعية…
إنني لأنفق ساعاتٍ طويلة يوميا لأبلغكم هَذا الأمر، ولا من مُنصت أو مجيب. ولأني غسَلت يَدي نهائيا ونفضتهُما من إمكانية التقاطِكُم مَوْجَتِي فعليَّ أن أكتشفَ الحلَّ بنفسي. وفي انتظار ذلكَ، ها أنذا أقبع في مكان شبه آمن: أنا الآن في وضع اعتِباري يقع بَين الحيوَان والإنسان. لستُ حيوانا لأنني مقيم بينكم، ألبسُ ما تلبسُون، وآكلُ ما تأكلون، وأنامُ كما تنامُون، ولستُ إنسَانا لأنني أفهم لغة الحيَوانات وأدرك منطقها، وأعرفُ غصن القرابَة الذي يجمعني وإياهَا في شجرَة نسابة الكون الكبرى. وهذا هو السَّبب في اختفائي الدَّوري من بين ظهرَانيكم: أكون بصدد تفقد الغابَة لإحياء صلة الرحم مَع إخواني الذئبِ، والغزالة، والبقر الوَحشي، والفيل، والقرد، والبوم، والغرَاب، وما إلى ذلك. وحَاشا أن يتنكروا لجميلي يَوم ينجحوا في الزَّحف على المدُن، والإطاحَة بكم، واقتحام منازلكم، وطردِكم منها. فهُم أعطوني العهُود والمواثيق بأن يُنَصِّبُوني عليهم مَلِكاً حَالَمَا يلحقوا بكم الهزيمة الكبرى. لِذا، عليكم من الآن فصَادِعاً أن تكفوا عن مُناداتي ب « أحمد» أو «محمَّد». نادوني ب «مَولانا الملك» أو «سيدنا الأمير». ألم أخبركم بذلكَ مِن قبل؟ ألم أقل لكم: «اجمعُوا حقائبكم وأعدُّوا عدة الرَّحيل»؟!…
في بعض الأحيان، أنفضُ أشواكَ الفكر من حَولي، فيلوحُ لي أفقٌ قُزَحِيٌّ مماثل: أتوهَّمُني حيوانا، ووُجُودِي في المجتمع البَشري لا يخرُج عن أحد أمرَين: إما أن المكلف بوضعِي في الأرض أخطأ إنزَالي، فوضَعَنِي في مَدينة بدَل غابة، أو أنني ضحية كيدِ الحيَوانات ببني الإنسان: لعلهَا اقتربت من الحلِّ، فأرسلتني بهيأتي الحالية كي أتجسَّسُ عليكم وأوافيها بالمعلوماتِ الضرورية للإطاحَة بكم في أقرب وقت ممكنٍ وبأقل الخسَائر المحتملة، أو لعلها اكتشفت الحلَّ نفسَه في شخصي فجعلتْ مِني قنبلة أو صاروخا. نعم، أنا الآن صَاروخ أو قنبلة ألقَت بها الحيواناتِ عليكم. ابتعدُوا! تفرَّقوا! انطَرِحُوا جميعا على الأرضِ كي لا تصيبكم شظايا عَقلي، لحظاتٍ وأنفجرُ.
أما البَحْرُ الثّاني، ف…،
أيُّ حِبْرٍ؟
عَفوا! نسيتُ.
كنتُ أهذي!