مَعْجُـونُ اللُّغَة وَالجَسَـــد
من دَلَّ الحربَ الدائرة في رأسِي على فراشِي حتَّى أحكمَ هو الآخرُ القبضَ براحتيه معا على جَسَدِي؟
لقد أصبح مجرَّد الوُقوف لا يتأتى لي إلا بعدَ اجتياز حرب يومية بيني وبين جسَدي، والسَّماء، والأرض. نعم! فمجرَّدُ نهُوضِي يُكلفني ساعاتٍ طويلة من التفكير المرهق في الكيفية التي ينبغي أن أقومَ بها: «أعلى يديَّ أم على رجليَّ ينبغي أن أقف كي أكون في الوضع السَّليم؟ ما معنى “الوضع”؟ ما معنـى “السَّليم”؟»، أتساءلُ دون توقف. غير أن جميع المجهُودات التي أبذلها لتعريفِ الكلمتين لا تفضِي بي سوى إلى استنتاج أنَّ يديَّ ليستـا سوى رِجلين أخريين، وقدمي مجرَّدَ يدَينِ أخريين، وبذَا أصير ذي قوائم أربعة أو أيادي أربع. وهَذا الإدراك يحدث لي التباسا كبيرا يزيد في تعقيده اللُّبسُ الآخرُ الذي يترتبُ عن محاولتي معرفة ما إذا كانت الأرضُ هي التي تقع تحت السَّماء أم أن السَّماء هي التي تقع تحتَ الأرض…
وعندما أصِلُ إلى مرحلة مُتقدِّمة في مُعالجة هذا الإشكال أدرِكُ حقيقةَ تَسَاقُفِ الأرض والسَّماء، فيترتبُ عن ذلك لا جدوى الأفضلية بين أن أقف على اليدين أو الرِّجلين لأنني في الحالتين معا سَأكون بصدد مَشي مزدوج: سأكون ماشيا على الأرض والسَّماء، ولذلك أغمض عيني وأقفز بسُرعة تاركا للصدفة أمر تحديد الوضع الذي أقفُ به. وبالإيقاع نفسِه أجتاز، قبلَ الخروج من المنزل، حَربا أخرى مع الملابس أحسمُها بالطريقة نفسها. وهذا هُو السَّبَبُ في كونِي كثيرا ما أرتَدي الثياب بشكلٍ مقلوبٍ حيث أضعُ القميص على رجلي والسِّروال عَلى يدي…
غير أن اجتيازَ هاتين الصُّعوبتين لا يحلُّ إشكاليتي بصفة نهائية: فلحظة استدارتي حول المائدة، كثيرا ما يربكني إدراكٌ أعتقدُ من خلاله أني بصدد رَفسِ وَحَلٍ بالرِّجلين، فأنسى أنني بصدد الأكل، وأكفُّ عن إمداد فمي بالطعام، وبدَل ذلك، أغرق في تأمل حَركات رجلي وهُما تعبثان وسَط الإناء. إن ذلك يبديني والآكلين كمَن يَرقصون رَقصة جماعية وسط الصَّحن أو كمن يعركونَه جماعيا. تنتابني رغبة كبرَى في الانفجار ضحكا، إلاَّ أن تجهم وجُوه الآكلين وغرقهم في تحجيم لقماتِ الطعام بمنتهى الجدِّ يجبرني على قمع الضَّحك بداخلي فأستسلمُ بدَوري لتحجيم لقمَاتِ الطعام ووجهي مغلف بقناع سميكٍ من الـجَـدِّ (بَدَلَ الـجِـدِّ) وأنا أتسَاءَلُ: «كيف الخروج من هَذِه الوَرطة؟». والآن كيفَ الـخروج من هذه الورطَة؟
*
* *
– أأنا المجنـونُ أم اللغـة؟
– عندما لا تفضي التأمُّـلات الجسَديَّـة بالمرء سِوَى إلى سِلسِلة من اللاَّتواصلات والأزَمَات الدَّاخلية يبقى الالتفاتُ إلى البعد الآخر هو الأمل الوحيد في استعادة تواصلٍ ممكنٍ. فقأتُ عينيَّ والتحقتُ باللغة، غير أني وجدتُ الآخرين هنا لا يتجاوزون مجرَّد أشباح تعوم في الكلام بأقوال مسطَّحة مُبهمة، وذلك حتى عندما يتوهَّمون أنفسَهم بصدد محادثات دقيقـةٍ…
أرهِقُ نفسي ببذل مجهوداتٍ ذهنيةٍ دينصوريةٍ لفهم مَلفوظاتهم، لكنني ما أجدُني دوما إلا أمام الحائط نفسِه: إسراف الآخرينَ في تبذير الكلام، وعجزي التام عن فهم ما يقولونه. أكفُّ عن السِّباحة، ألتحق بالشَّاطئ، وأنفضُ ما علق بجسدي من كلماتٍ، ثمَّ أستسلم لتأمُّل بقاياها في دَهاليز ذاكرتي مستضيئا بوحشة المجهول، تاركاً الآخرين يسبحونَ. إلا أن هذا الحل هو الآخر يرهقني كثيرا ويُوَفِّزُ أعصابي لأنه يحيلُ التواصُل معهم إلى استحالة ما لم يَنعَجِن جسَدِي بالكلمة. وهذا يغضبهم كثيرا. فمهما تكن الرِّسالة الكلامية التي أتلقاهَا من أحدهم إلا وأطلبُ تفصيلات وتوضيحاتٍ عن مجمَل عناصرها. وذَلك يجعلني في أعينهم البَلادة بعينها وقد أخذت هيأة كائن… وما من مُناقشة أشارك فيها إلا وتكون مساهمتي هزيلة جدا ما لم تنحصر في الصَّمتِ حتى إني كِدتُ ألصِق علامة الفراغ بنفسي قبل أن يلصقها بي الآخرُون لو لم أجند عقلا ثانيا بِدَاخِلي ليتوَلَّى مراقبة عقلي الأول فَوَافَانِي بما يلـي:
«اعلم أنه يصعب تحجيم أفكارك ولغاتك بأحجام الزمان والمكان والسياقات. فبدل أن تفكر في الواقع تفكر في واقع الواقع، وأحيانا كثيرة في واقع واقع الواقع. وذلك ينقلك إلى عمق الأزمنة السحيقة القادمة. وبدل أن تكتفي بالتواصل تُخْضِعُ التواصل ذاته للتأمُّل والتفكير، بحيث يلقي عليك الآخرون بكلامهم وينتظرون إجابتك، إلا أنك بدل أن تفعل مثلهم، بدل أن تحرك لسانك يمينا وشمالا وتجمع أصواتا وتلوكها ثم تقذفها إليهم كيفما اتفق، بدل ذلك تتيه في تحليل كلماتهم كلمة كلمة من حيث المعنى والجدوى، ثم تسيح بها في أرجاء الكون الرحب إلى أن ينهمر عليك من طوفان الفكر وسديم الأزمنة ما لا تسعه صهاريج العالم ولا عقول البشَر قاطبة ولو انتفخت أدمغتهم وتضاعف وزنها إلى مئات المرات بحيث يصير المرء كلما رام التحرك طلب شاحنة ليحمل فيها عقله… وهم ما ينتظرون منك ذلك يا يعقوب… ثم إنك لحظة وجودك في مكان ما رفقة جماعة ما تكون في وَضع الحاضر الغائب المستعصِي على اللغة والفكر احتواؤه لأنك تريد أن تتواصل بكلام يتقاطع مع حركة العالم وضجيجه: تريد النطق بكلام يلامس تنافر حركات البشر في بقاع العالم أجمع في اللحظة الواحدة. كلاما يلامس العاهرة التي تفتح فخذيها لزبونها في هذه اللحظة، والمرأة المترنحة صراخا من ألم الوضع في اللحظة ذاتها، والعامل الذي يسقط في اللحظة نفسها من الطابق العشرين فيهوى صريعا، والظنين الذي يصدر في حقه حكم الإعدام في اللحظة ذاتها… وذلك يبعثرك ويبعثر أفكارك إلى أن صرتَ مَعْبَرا للأفكار وقارة لإيـواء سائر أنواع الرحلات. فالفكرة الواحدة تنطلق في ذهنك حول موضوع ما، في يوم ما، بمكان ما وأنت رفقة جماعةٍ من الأفراد، لكنها لا تمضي إلا قليلا ثم تتوقف لمدة زمنية لا تملك أنت ولا الزمن المتواضع عليه وحدات قياسها، تتوقف استجابةً لطلبات أفكار أخرى منها ما ينطلق للمرة الأولى، ومنها ما يعبر، ومنها ما يستأنف رحلته بعد طول وقوف وانتظار… وذلك كله يجعل من جسَدِك جينيالوجيا للأفكار أو همّا للعالم (وقد أصبتَ يوم قلتَ: «لما كثرت هموم العالم وأثقلت عليه وشقَّ عليه حملها صارت إياي») ويعطيك وضعا إشكاليا يصعب تحديده. فأنت تعرف كل شيء ولا تعرف أي شيء. أنت ممتلئ وفارغ. ممتلئ بفراغك وفارغ بامتلائك. تقول كل شيء دون أن تقول شيئا. وحينما تحاول تحديد وضعك تؤدي الثمن بمعجون من جسدك وكلماتك واحتراق رئتيك… أتذكر تلك المناقشة التي استغرقت منك انسلاخ قدميك مشيا لتجد أخيرا أن ما تبادلته خلالها ومُحَادِثُكَ لم يتجاوز عَشْرَ جُمَل؟
أنت في وضع ربحتَ فيه العالم وخسرتَ اللغة، ولكن العالم عندكَ الآن قلق لأن اللغة تنقصه. وما تسعى إليه بالضبط هو تقليص المسافة الفاصلة بين اللغة والعالم. يجب أن تعلم أن المفارقة بين الإثنين مُفارقة معطاة، وما حاول الإنسان إنجازه منـذ وجوده «الأول» حتى الآن إنما هو إقامة زواج بين العالم واللغة وجعل كل منهما وجها ثانيا للآخر. لكن، هل هذا ضروري؟!»
والآن، هل هذا ضـرُوري؟ هه؟! أجيبوا. لماذا أنتم صَامتون؟!
للخرُوج من هَشاشتي وهُزَالي أمام كثافة اللغة وتعدُّدها أحكمتُ إغلاقَ باب غرفتي علي وحصرتُ مجموعة من المواضيع قصدَ الكتابة فيها، لكنني ما أكاد أكتب سَطرا واحِدا حتى يقعَ خللٌ بين سُرعَة إيقاع توارد الخواطر والأفكار وبُطء حركة القلم المواكبة له، فتتحَوَّل عملية الكتابة إلى سِبَاق بين صاروخ وسُلحفاة لا أظفر منها إلا بما هو أبلى من العَالم، وذلك حتى عندما كنتُ أحوِّل نفسِي إلى مجرَّد قناة لعبور اللغة إلى صفحة انكِتابها…
تحايلتُ على المشكل بالتوسُّل إلى الهوامش، لكن ما من كلمَة كنت أكتبها إلا وكانت تقتضي إثباتَ هامش خاصّ بها، تقتضِي ذلك حتى وإن وَقعَت في الهامش أو هامش الهامش أو هامش هَامش الهامش، فيتحوَّل النصُّ الواحد إلى نسابة من الهوامش اللامُتناهية التي لا تفضي إلى نسيان الموضُوع الأول فحسب، بل وتستوجبُ إلحاق تغييـر جذريّ بالشكل الحالي للكتاب بحيث يصير علوُّه عدة أمتار مَا لم يأخذ شكل رُولُـو. ولأن ذلك لم يتيسَّر لي بعد، فقد لجأتُ إلى طريقة أخرى في الكتابة لوضع حدٍّ لتساقط الأسطر من أعلى الورقة إلى أسفلها: شرَعتُ في استهلال الكتابة من أسفل الوَرقة: أخطّ الحرُوف مقلوبة، ثمَّ أتجه بالأسطر إلى أعلى الصَّفحة التي لا أقلبها (لتأخذ وضعَهَا الحـالي) إلا عِند امتِلائها بالحروف لأتغلبَ بذلك على التشويش السُّفلِيِّ الذي يمارسُه الفَراغ أثناء الكتابة. إلا أنني هُنا مَا أكادُ أكتبُ الصفحة الواحدة أو نِصفها حتى تزدحم الأفكار والمشاريع في ذهني فأجدُني مضطرّا للكَفِّ عن الكتابة في هَذا الموضوع، ووضعه جانبا، بشكلٍ مؤقتٍ على أمل العودة إليه لاحقا، والشُّرُوع في كتابة الموضوع الآخر، وهَكذا… إلى أن تحوَّل دفتري إلى مزبلة من الفقرات التي تفوقُ في تبعثرها تبعثرَ شخصيتي بأضعافٍ مُضاعفة…
آنذاك قررتُ أن أخصِّصَ لكلِّ نصٍّ دفترا. لكنني عندما فطنتُ وجدتُ أن علاقتي بالوراقة قد توثقت إلى أن حصَل في ذِهن صَاحِبها إشراطٌ بيني وبين الدفاتر فصَار مجرَّد مُثولي أمَامه يعني عنده «ناولنِي دفترا أو دفترين»، وإن كنتُ في الأصل لا أريد سِوى شفرة حلاقة أو عُلبة سجائر! وهاهي غرفتي الآن مزدحمة بدفاتر لم يُكتَب من كل واحدٍ منها إلا صفحَة أو صفحتين، لست أدري ما تفعله هُنا ولا ما يجبُ أن أفعله بها، إلا أنَّ ذلك ما عاد يهمني بالقدر الذي يهُمُّنِي به البحث عن جوابٍ لهذا السؤال:
– أأنا المجنـونُ أم اللغـة؟
*
* *
لي اليقين التام بأن المسؤُول الأوَّل والأخير عمَّا أنا عليه الآن إنما هُو اللغة، أقصدُ اللغة كما توَاضعَت عليها البشَرية بعدما حجَّمتها بأحجام وقاستها بمقاييس، وسلمَتها لكلِّ امرئ قائلة: «إليكَ بوعَاء يسَعُ إحسَاسك وفكرك مهما يكن هذا الإحسَاس والفكر»، أقولُ: أقصدُ تلك اللغة وليسَ اللغات الممكنة التي أضاعتها جحَافلُ الأقوام التي انحدرنا منها، التي تعاقبت على الأرض مالئة إياها بالصُّرَاخ والاقتتال زَاعمَة أنّها تشيِّد وتبني وتتقدَّم! اللغَات التي أضاعتها البشريَّة جمعاء. ذلك أنهَا لما اكتشفت اللغة، بدلا من أن تواصِلَ الحفرَ في هذه الأداة للوُجود إلى أن تدرك أن مَا من إنسان مقبل إلا وسيطلُّ من آفاقَ رَحبة جديدة مودَعة بداخله، وشرفات ونوافذ عديدة مُثبَّتة في رأسه، تحتَاج إلى إمكانياتِ ابتكار مُتجددة دوما، للنقل والإيصَال، داخِل اللُّغة نفسِها، بدَل ذلكَ استسلمتْ هذه البشرية للنوم العَميق… ومن ثَمَّ، هُزَالُ القوامِيس الحالية وضُمُورُهَا أمام ما أحِسُّ به وما أفكرُ فيه. أنتم تعرفون هذا جيدا، لكنَّكم لا تملكونَ الشَّجاعة الكافية للإفصاح عنه، وإلا فلماذا لم تصدِّر أيُّ صحيفة من صُحف العالم قاطبة – على كثرتها الرَّهيبة – صَفحتها الأولى بالإعلان عَن خبر مرضي، علما بأني – مع «دائي» هذا – أظلُّ أعظمَ وأنبلَ وأذكى رجُلٍ عرفته البشرية على الإطلاَق، بل أثرى رَجُل على وجه البرية بما أملكه من ثروات فكر وأزمنة طَائلة؟ إنني لأؤكدُ لكم منذ الآن ثمَّ أؤكد بأن شخصية مثلي إن هيَ إلا فلتة لم يجُد بها التّاريخ على بني الإنسان إلا مرة واحدة مُجسَّدَة فِيّ بالضَّبط. وعمَّا قريبٍ سأقدِّم لكم الدليل الملموس على ذلك باستبدَال حُرُوقِكم (لا حُرُوفِكم) الهجائية بحُرُوفٍ جديدَة ما أن يُلَملم المرءُ شفتيه للتلفظ بكمشَة منها حتى تنقلب عَليه بما لا ينفعه مَعَها إلا جمع الحقائب والسَّفر إلى بلادٍ حيث العُشْبُ يهذي، والأزمنة تصمِي، والفكرُ يجـرفُ كالطوفان…
*
* *
سيدتــــي،
لا تحية ولا يحزنـون
وقبــــــل،
فإنِـّــي أنا، وأنـا لستُ أنَـا،
اعلمي أن السّاعة تشيرُ الآن إلى الرابعة صباحا وأنا لم أنجح بعد في دل النوم على جسدي رغم استلقائي فوق السرير وإطفائي للمصباح وتوسُّلي في محاولة إرهاق الذهن إلى التأملات المضنية العميقة، ولذا فكرت في المثول أمام هذا البياض للكتابة إليك.
إن هذا التصرف، كما تَرَيْنَ، تَصَرُّفٌ غير لائق. ينم عن سوء تربيـة، لا أخلاقي ومغرق في الأنانية، لأنني لم أجد ما أصطاد به راحتي سوى إزعاجك في هذه الساعة المتأخرة من الليل أو المبكرة من الصباح. لكنك ستجدين في هذه الصحيفة من المعلومات الخاصة بشخصك وشخصي ما سيفرحك، وبالتالي يجنبكِ حتما مغبَّة مؤاخذتي.
لا أخفي عليك، سيدتي، أن الجنون قد حاصرني إلى حد لم تعد تجدي معه أي محاولة بذلتها إلى اليوم لإخفائه. لم تعد محاولاتي طُرَّا سوى سلسلة من الاستحالات. فقد هرئت أقنعتي جميعا ولم تعد تفيدني في شيء حتى عندما ألبس أربعة منها أو خمسة دفعة واحدة، إذ ما أمثل أمام الآخرين حتى تأخذ حُجُبِي في التفسخ والتساقط الواحد تلو الآخر إلى أن أجدني وجها عاريا لا يفعل سوى إعادة قذف – وبشكل ميت – كل ما يمتثل أمامه. وذلك يثير في رعبا لم أتخلص منه إلا يوم دفنت نفسي في هذه الغرفة الكئيبة والتحقتُ بجمهرة الأشياء المحنطة بداخلها. لقد امَّحَت أدنى مُستويات الإدراك عندي وها أنذا أحيا مُشيَّئا، لا فرق بيني وبين هذه القنينة المثبتة في زاوية الغرفة أو هذه اللوحة أو الكتاب… أنا الزُّجاجةُ والكتابُ والرَّفُ والحذاءُ. أعيش خارج الزمان والمكان، لا أعرف منذ متى التحقتُ بهذه الحجرة ولا كم قضيتُ فيها. كل ما أعرفه هو أنني الآن موجود فيها في انتظار أن أجد المكان الأليق بها وبي. وفي انتظار ذلك، ها أنذا منهمك في إعادة مَوْضَعَتِهَا يوميا في باطن الأرض، وأعماق البحار، وأجواء السماء، وقمم الجبال…
سيدتـي،
ستكونين مخطئة الخطأ كله إذا تسرعتِ بإبداء أدنى شعور بالشفقة إزائي. اعلمي أنك إلى شفقتك أحوج مني إليها. فأنا أضطلع بمهام كثيرة شاقة معقدة وعلى درجة قصوى من الجد والأهمية. فحينما يرتفع ضغطي الدموي أتولى قيادة العالم من غرفة قيادته هَذه التي هي غرفتي. وأخبرك منذ الآن أن ركض حوافركم – أنت وسائر الأسوياء الذين يحسبون أنفسهم ملائكة – في الصباح الباكر يزعج قيادتي لكثرة ما يحدثه من صداع في رأسي وما يكلفني من مجهودات دينصورية لحفظ توازن العالم. إن لم تكفوا عن الركض أجد نفسي مضطرا لإعادة تشكيل الكون وخلقكم ثانية بهيئاتٍ جديدةٍ… إلا أن العالم حينما يتوازن، يسيل الدم مني بقعا، فيقشعر الجسمُ، ويقف شعر الرأس، وتتقزز السبابة والإبهام كلما احتكتا، فأؤدي الثمن بتنقل لا ينقطع بين الفراش والمصباح لرؤية ما إذا كان فراشي قد غرق في دمي أم لا…
تنتابني رغبة كبيرة في القيء، إلا أنني لا أقيؤني إلا بهيأة جسدٍ زجاجي يحولني بشفافيته إلى معبر للكائنات والأشياء، فأغرق في التأملات الذهولية المنتشية ومجاهدة النفس في إيجاد صيغة توفيقية بين تَمْوِيض الجنون والفصل بين المتصل والمنفصل – بداخلي – بيني وبين العالم الخارجي إلى أن أنكسـر. ولست أظنك مستزيدة تفاصيل أخرى حول هذه المسألة مادام سَبَقَ لكِ غير ما مرَّةٍ أن توليتِ أنتِ نفسِك جمع شظاياي وإعادة تركيبها من جديـد…
لا أخفي عليكِ، سيـدتـي، أن الحيوانات قد بدأت تمارس عليَّ من الاستفزازات ما لم يقف عند جعل جسدي منزلا للـرعب والصراخ فحسب، بل تعدَّاهُ إلى إحداث التباس – لا زالَ مُستمرا حتى اللحظة – لديّ في معرفة مَا إذا كنت إنسانا أم حيوانا: فبالإضافة إلى تجلي يدي بأشكال الذئاب امتلأتْ غرفتي بكافة فصيلات الأفاعي، والأحلام القاتلة والكوابيس المرعبة التي تسافر بي إلى عوالم أنفق فيها الساعات الطوال بين اقتتال القطط والأفاعي، ولا تسلمني إلى اليقظة إلا بهياة ثعبان. وبهذه الهيأة أنجح في التعرف عليك كلما زرتني من غير استئذان ولا سابق إعلام، وذلك حتى عندما تتنكرين بهيأة علبة سجائر، أو دفتر كتابة، أو أقلام رصاص، أو أعواد ثقاب… والسبب في عدم نومي إلى هذه الساعة هو رعب الأفاعي، وخاصة منها وحيدة القرن مثل هذه التي لم تنفك تنظر إلي منذ جلست في المكتب وحملت القلم والورقة لكتابة هذه الخطبة. فكيف يمكن تفسير ذلك؟ أهو استعجال لاتجاه الإنسان العاقل نحو وضع الامتداد أم هي التباشير الأولى لموتي المرتقب؟ ألا يجب إنجاز بحث في الأفعى وما يحايثها من أساطير وخرافات وتمثلات وطقوس في كافة بقاع العالم وعلى امتداد التاريخ؟ ما علاقة الأفعى بالإيروسية؟ ما علاقتها بالموت؟…
سيـدتـي،
لا أخفي عليكِ أنَّ الموت قد ضَرَبَ عليَّ هو الآخرُ حصارا قاهرا لا أجد ما أتوسل به لفكه سوى تأملات تستنفذ مني طاقات ذهنية بحجم انتفاخ جثتي وما يكسُوها من أورام. لقد ارتفعتْ من جسدي ثنائية حياة – موت والتحقت بها كافة مستتبعاتها اللغوية والطقوسية، فأصبحتُ سجينَ بُعدٍ وجُودِيّ واحدٍ لا أعيشُ به إلا داخل حياة مطلقة أو موت مطلق…
ما الموت؟ الموت هو الـ «هنـا»، الـ «كل هـذا»، الـ «نحن»، الـ «أشيـاء» المحيطة بنا… وعليه، إن أمُت تكوني مخطئة الخطأ كله إذا اعتقدت أنني أنا الذي متُّ لأن الميت آنذاك لن يكون إلا أنت، وأبي، وأمي، والآخرين… وإذا بكيتم علي لن يكون بكاؤكم إلا على أنفسكم. أما أنا فسأكونُ في منطقة الحياد. سأعبرُ سريعا سريعا إلى منطقة الحياد والمحو والبياض، حيث أصرفُ الآن أزمنة مكعَّبَة في استكشاف مساحة الموت بداخلي واستنطاقه إلى أن يتكلمَ، فينطق بكلام يصعب نقله إليكم باللغة في وضعها الحالي…
سيـدتـي،
لقد توترتْ علاقتي بالمحيط الخارجي إلى أن أصبحت سلطة تحطيمي في متناول جميع الناس، لكنني لا أتحطم إلا بحروب داخلية لا تنقطع، ما الحركات البهلوانية التي تلبسني لحظة مشيي وقعودي وكتابتي، ومشيتي المتمايلة التي يعتقد من نصبوا أنفسهم ملائكة أنها بسببٍ من السُّكر أو الجنون، والحواجز التي أقصتني من التواصل بحيث تقوقعتُ على نفسي وانكمشتُ إلى أن لم أعد أعرفُ ما إن كنتُ لا زلتُ إنسانا أم صرتُ قنفذا، والجرأة التي ساقتني إلى اقتحام بيتك دون استئذان أو سابق إعلام لمجرد الإنصات إلى الموسيقى المنبعثة منه في ذلك الصباح السعيد، والإفراط في الرقص إلى أن حشدتُ طوابير السيارات والعربات والدراجات، والصراخ الذي أصميتُ به أذنيك عندما ردَّدْتُ: «أعيديني إلى المنزل، فأنا لستُ يعقوب!» عندما كنتِ تضاعفين من قوة إمساك يدك بيدي مقدار محاولتي سحبَ كفي من كفك بقوة..، ما ذلك كله إلا أكثر المظاهر تسطحا للحروب الضارية الدائرة فيَّ ليل نهار. فبإمكان أي فرد، حتى وإن لم يتجاوز عمره ستة أشهر، أن يؤزمني إلى أن أضعَ وُجودي بكامله موضع تساؤل، وأصعد رأسا إلى الأسئلة الكبرى من ضرب:
إذا كنا آيلين حتما إلى الموت فلماذا نتهافت على الحياة؟ بل، هل هذه الحياة جديرة بأن تعاش؟ لماذا بدلا من تأخذ البشرية سبيل القعُود والتأمّل في الموت، واختلاف المخلوقات والموجُودات، وحُدود اللغة، ومعنى الجنس، والمرض، والحياة، وما إلى ذلك…، وتمضي فيه قرونا طويلة، ثم تختار بعد ذلك النمط الوجودي الملائم – على ضوء ما ستهتدي إليه من أجوبة – أقبرتْ تلك الأسئلة كافة وزجَّتْ بالجماعات والأفراد في هذه القمامة قائلة: «احيوا، توالدوا، وتناكحوا، وتكاثروا. فما الحياة إلا أكل وشرب ولباس وعمل ونكاح وتوالد»! نعم ما الحياة إلا قمامة للأكل والشرب واللباس والعمل والتوالد… فيا رحَّالُ، افرغ هذه القمامة منا وأرحنا جميعا!
لقد وُضِعَ التأويل بداخلي في حالة مدٍّ فصرتُ وصار الناسُ والأشياءُ من حواليَّ لصوصا (لا نصوصا) مستغلقة لا أملك أمامها إلا الوقوف مشذوها متسائـلا: «أبارانويا عشق أنا أم عشق بارانـويا؟»
أبتهل يوميا إلى طوق نجاة فما أجدُنِي إلا غارقا في ممارساتٍ غريبة لا أفهم حتى معناها، فأحرى أصلها. ففي غمرة ذهولي المنتشي أنهمك في تشويهِ – وبدقة مبالغ فيها – عَدَدٍ لا محدود من الرؤوس البشرية قبل أن أمزقها مباشرة وألقي بها في سلة المهملات. ما معنى ذلك؟ إني قاعد هنا، أنتظر حواء الجديدة في كل لحظة وسط طقوس من الابتهالات المرفوقة باستحلاب ضلعي الأيمن…
سيـدتـي،
لقد استعضتُ عن الماء بالقهوة السَّوداء. أدخِّنُ أربع سجائر دفعة واحدة، فما أكاد أقضي خمس دقائق أو ست في مكان ما حتى أحجبه وسط غيومي. وصارت الموسيقى تزوبع مكامن خواطري وشجوني فلا أملك أمام سماعها إلا النهوض والرقصَ الرقصَ بشكل يثير قرف الحاضرين واشمئزازهم إلى أن يفروا ويتركونني فريسة لذبذباتها…
لماذا أفعل ذلك كله؟ ومن يملى عليَّ القيام به؟
سيـدتـي،
أرجو منك أن تتفضلي بمد يد المساعدة إلي حتى أتمكن من الخروج من هذه الورطة، وذلك بإجابتك عن هذا السؤال خارج كل مراوغة أو مواربة: «متى بدأت السيرورة التي حتَّمَتْ عليَّ الاستقرار في هذا الوضع؟ أيوم أصِبْتُ بهَوَسِ الرّقص أم يوم انفجرتُ ضحكا؟ هل أنت هي حواء الجديدة؟ لا تراوغي. وإلا فلماذا شغَّلتِ جهاز الموسيقى وتركتِ باب بيتك نصف مشرع؟»…
أتعلمين سبب انفجاري ضحكا يوم تناولتُ وجبة غذاء معك؟ لقد أربكني إدراكٌ خيَّلَ إلي أنني بصدد رفس وحل بالرجلين، فنسيتُ أنني كنت بصدد الأكل، وكففتُ عن إمداد فمي بلقمات الطعام. وبدل ذلك غرقتُ في تأمل حركات رجليَّ وهما تعبثان وسط الإناء. لقد كان ذلك يبدينا كالراقِصَيْنِ رقصة ثنائية وسط صَحنِ الطعام أو كمن يعركانه. انتابتني رغبة كبرى في الانفجار فانفجرت ضحكا، لكن تجهم وجهك وانهمَاكِكِ بجد في تحجيم لقماتِ الطعام أجبرني على قمع الضحك بداخلي، فاستسلمتُ بدوري لتحجيم لقمات الطعام ووجهي مغلف بقناع سميك من الجَدِّ وأنا أتساءل: «كيف الخروج من هذه الورطة؟ كيف الخروج من هذه الورطة؟»
والآن كيف الخروج من هذه الورطة التي ألقيتِ بي فيها وانصرفتِ؟
سـيدتـي،
مخافة أن يفرَّ بي القلم إلى ما أخشى سوء عاقبته عليكِ وعليَّ أتوقف عن الكتابة الآن.
تذكيـــر: لا تنسي أني أنا، وأنا لستُ أنا
وفي انتظار جوابك، لا تحية ولا يحزنون، ولك مني جزيل الشكر على حسن انتباهك.
التوقيـع:
رأسُ العــاقـلِ
ي. ي. م. أ.