Notice: Function _load_textdomain_just_in_time was called incorrectly. Translation loading for the all-in-one-wp-security-and-firewall domain was triggered too early. This is usually an indicator for some code in the plugin or theme running too early. Translations should be loaded at the init action or later. Please see Debugging in WordPress for more information. (This message was added in version 6.7.0.) in /home/aslim/public_html/wp-includes/functions.php on line 6114
محمد أسليـم: كتاب الفقدان: – 4 – محمد أسليـم

محمد أسليـم: كتاب الفقدان: – 4

1202 views
محمد أسليـم: كتاب الفقدان: – 4

كِتَـابُ الفُقْدَانِ

«يمامة العقل طارتْ، ووهادُ الفكر مالتْ. أنتَ اليوم ضريرٌ. نطحتكَ ناطحاتُ الفكر، فألقت بك طريحا على قارعة الطريق. اليوم أنت ضريرٌ. لكَ أن تشحذ مِنهمُ الفكرَ أو تتصدَّقَ عليهم بالأزمنة وحُرُوقُ ما أنزِلَ عليكَ من وَحْي…تسألُ عن الجليد؟ بين أضلُعِكَ قِمَمٌ شَاهِقَةٌ مِنْه، ما الهملايا إلا نسخة رديئة منها…».

دعنا من هذا الكلام! فقد قلتُه لهم، ثم قلتُه، وأعدتُه، ثم كررتُه، ولم يسمعني أحدٌ، فأحرى يَفهَمني! هاتني الآن كشفَ حِسَاب ما دوَّنَّاهُ من وحي لنقفَ على كلفة ماكتبناه عسَانا نخرج سالمين من قَعْرِ البئر التي نحنُ فيها قابعونَ منذ سنين.

ما من صفحةٍ كتبتهَا حتّى الآن إلا وأدَّيتُ عنها مبلغا بأوراق نقدية من فئة دماغي. فكلما عدتُ إلى صَحيفة وجدتُ بهَا بقعا رَمادية اللّون وبقايا من رَائحة ذَاكرتي. عَرضتُ الأمر عَلى جماعة من البَشر، إلا أنهُم كانوا من العمى بحيث لم يروا أيَّ شيء مما أرَاه. وإذا كان خَوف استنفاذ دماغي هُو ما أجبرني على الإمسَاك عن الكتابة طيلة السَّنوات العشر المنصرمة فها أنذا اكتشفتُ طَريقة لاسترجاع ما اقتصَّهُ مني القلم:

* الاسم: أأحمد أنت أم محمدٌ؟

– ويوسف، أين تضعه؟

– تلك مشكلةٌ أخرى!

* تاريخ الإزدياد ومكانه: سنة 000 000 1 ضَوئية، بالضلع الأيمن.

* مشكلتك: لستُ أدري أينا يقع خارجَ الآخر: نفسي أم أنا؟ غير أن معرفة ذلك لن تغير أي شيء مما بي لأنه سَواء أكنتُ أنا السَّاكن خَارج ذاتي أم كانت نفسِي هي القاطنة خَارجي فذلك يؤلمني كثيرا ويُوحِشُ الحياة في عيني…

ثمَّ هذه الجثة! أأنا الذِي أحملها أم هي التي تحملني؟ وسواءٌ أكنتُ حاملها أم كانت حامِلَتِي فهي ليسَت سوى نافذة يطلُّ منها عشرات الأشخاص الموجُودين بداخلي. لستُ وحيدا بالقدر الذي تتوهمونه! فقد وُلدتُ عشر مرَّات، وبداخلي جماعة مني ترافقني أينما حللتُ، فافسحوا لي الطريق عندما نَكونُ سَائِرا حتى أتمكن من المرور بلا ازدحام. إن زاحمتمُوني عرَّضتم الغرف المقيمَة بداخلي لخطر الانهيار عليَّ. وكثيرةٌ كثيرةٌ هي البيوتُ المقيمة فيَّ: غرَف للدماغ وغرَف للأفكار، غرف للأحاسيس وأخرى للأعضَاء…

عمَّا قريب سَأكافؤكم بتخليصِكم من عُقال العقل: سَنَاتيكم بتمَارين ما يُنجزهَا المرءُ منكم حتى يتعطل عقله. سَنكتب قصَصا أن يُنهي المرء قراءتهَا حتى يعدَّ حقائبه ويفرَّ إلى حيث لا عَودَة. وهؤلاء الذين لا نعرفُ من مِنَّا يقيم في الآخر، ستنفلتُ مني دَوما الإطاحَة بهم (لا الإحاطة بهم، فقد غسلتُ يديَّ ونفضتهما من مَعرفتهم مُنذ اكتشفتُ أنهم كانوا خوَنة، يُفَاوضُون الملائكة سرّاً) لأنهم يتوالدُون باستمرار ويتنكَّرُونَ وراء هيئاتٍ متعدِّدَة فضلا عن أنَّ ما من أحدٍ منهم إلا وفيه شيءٌ مني. فمن أنا؟

يخامرُني يقينٌ وأنا قابع في وحدتي هذه بأنني لستُ سوى تركةٍ عمياء تَبَقَّت مما تمَّ هنالك حيث فُقئَت عيناي وقُطعت يَدَاي ورجلاي وخُتِمَ على عقلي بالنِّسيان. أنا الآن مجرَّد كتلة دم وعظم وظلام، لا يشدّني إليكم سِوى كيسُ البُراز، هذا، الذي تسمُونه بطنا.

عمَّا قريب سيصيُر الغابُ مقامي، والماء خمري، والعُشب طعَامي، والحيَوانات إخواني، ووُجودكم من حَواليَّ محضَ ذكرى عَمياء.

 

*

*             *

 

بقدر ما يَهَبُنِي يقينُ كوني أجَسِّدُ صفاءَ النوع نشوةً واعتزازا تُسَلِّطُ عليَّ القناعة نفسها رُهاب دنسِ مخالطة الآخرين حتى لئنَّ الشَّعرة الواحِدة تسقط من رأسي لهِيَ عندي أغلى من مجمُوع ذهب العالم وأموَاله. وهذا هو السَّبب في كوني لا أبارح المكَان الذي تسْقط فيه «مجرَّد» دمعة أو مخاطةٍ أو قطرة عرق مني إلى أن أستعيدها وإن اقتضَى ذلك مني صَرف أعوام وسنين. فإياكم ومغبَّة الاستغراب أو السُّخرية مني إذا رأيتمُوني أحُط الرِّحال «أينما اتفق» وألازم المكان الواحِد أياما وشهورا بقواريري وصُحوني وزُجَاجَاتي وأغطيتي، أو رأيتموني أقوم بتلك الحرَكات البهلوانية في الطرقات. إني أكونُ حينئذ بصدَد البحث عما ضاعَ مني مانعا جسَدي من التفسُّخ، وعن المكان الملائم لإيواء غرفة قِيادة العالم التي أحفظ بها توازنكم فيه. إن تسخرُوا مني أو تزعجوني أرفع يدي عن المقوَد فلا تفطنوا إلا وأجسَادُكم هَاوية على السَّماء بسُرعَة مُدوِّخة…

أخبركم من الآن بأني قد وُلدت كهلا، وبتوالي الأعوَام أصغرُ، ولذلك فسوفَ يأتي يومٌ أحبو فيه حتى إذا بلغتُ أشُدِّي بدأتُ الرَّضاعة. فهيئوا حليبي من الآنَ…

وهذه القوارير والعُلب التي لا أترُكُها تبعد عني قيدَ أنملة، أتظنون أنَّها مجرد أشياء تافهة؟! انظروا: في هَذه العلبة أضعُ أظافري، وفي هذه أودِعُ شَعري. في هذه دموعي، وفي هَذه مخاطي. في هذه عَرَقي وفي هذه برَازي… أنا كائن مقدَّسٌ. حذار أن تمسُّوا إحداهن، إن تفعلوا لن تمسُّوا إلا أنا، لأنَّ هذه القوارير هي حدُود جسَدي. هل استوعَبتم الآن الفرقَ بين وُجُودِكم ووُجُودِي؟ وجُودٌ قَنويٌّ. استبدلوا نونَ الصِّفة لاما، فذو اللامِ وُجودُكم وذو النُّونِ وجودي.

لستُ بقواريري وأوعيتي هَذه سوى مُشرفٍ عليكم منَ الأزمنة السَّحيقة القادمة بأدواتٍ بدائية تعوزني الآنَ قدرة صنعها بالطريقة الأكثر ملاءمة. فأنا مُوقن تماما بأن هذه التي تسمونها مخترعاتٍ لا تعدو مجرَّد أدواتٍ يشيد الكون نفسه بها عبركم. إنَّ العالم بصدَد الانبناء. وما أنتم في أشواط تشييد نفسه بنفسه سوى في المرحلةِ الأشد بدائية. سوفَ يأتي زمن يُحَوِّلكم فيه الكونُ إلى أجهزة مثبتة مشدُودة إلى أنابيب بحيث لا يُبارح أحدكم مكانه منذ ولادته حتى مماته: أنبوب مثبت في عينيه سوف يأتيه بما يبصرُ، وأنبوبُ ملصق في أذنيه سيأتيه بما يسمعُ. أنبوب يأتيه بالهواء وآخر يمتصُّ منه البولُ والغائط…

أنا الآن في ذلك الزمن. ولكونِي لم أنجح في صُنع أنابيب فقد اكتفيتُ بقوارير. فهل فهمتم الآنَ معنى هذا الكلام؟ أعتقدُ أني واضح بما فيه الكفاية. وإلاَّ فعليكم السَّلام. وإذا تمسَّكتم برغبة المعرفة فقولوا: «هَذَا كلامُنا» مثلما أقول عندما لا أفهمُكم: «ما هذا إلا كلامي! هذا كلامي وكفى، فسبحاني ثم سبحاني!».

إن تستزيدوا لأزيدنّكم بأسلوبٍ آخر:

سأدعُو هَذه الكائنات التي تنزل من كَواكب أخرى، خصِّيصا إلي، لتوسعكم ضربا بهراواتٍ ما هذه الأدوات للعِقاب التي تسمُونها مُسدَّساتٍ، وعصيا، وأصفادا، وبندقيات، ودبَّابَات، وشُرطة، وعَسكرا…، مَا ذلك كله أمامها سوى لعبٍ خسيسةٍ تثير الضحك والشفقة.

عَفوا، عَفوا! آه عَفوا! فأنا أهذِي. هَدِّئ نفسك يا أنا! هَدِّئ نفسَك!

 

*

*             *

 

من منا انسحبَ، أو بالأحرَى أقصَى الآخَر، أنا أم هُم؟ متى تمَّ ذَلك؟ يجب عليَّ صرف ما تبقَّى من حياتي في «مجرَّد» البَحث عن جوابٍ لهذا السؤال، فأحرَى استعادة حَيَاتي السَّوية. وفي انتظار ذلك، كلُّ ما أذكرُه الآن هو أنني لم أفطن إلا وقد وجدتُ في اللغة شروخا كبيرة وهُواتٍ عميقة لا تحيل كلَّ تواصل بيني وبين شَخص آخر، مهمَا كان، إلا إلى حِوار بين ساكني كوكبين مختلفين أو إلى حَديثٍ بين إنسان وَجدار. فقد صارَ كل لقاء بيني وبَين الآخرين لا يتِمُّ إلا على شكل امتحان عَسير: ما من كلمةٍ يلفظها مُحادِثي إلا وتضعُني في حالة حَصرٍ عميقٍ لا أفطنُ معه إلا ووجهي محمرٌّ وجبيني يرشحُ عرقا. ما من شيء ينطق به الآخر إلا ويهوَى على رأسي كما تهوَى عليهِ المطرقة الصلبة. لذلكَ، مقتنعا بأن تلك هي الحقيقة، لا أجد بُدّا مِن إصدار إيماءة بالرَّأس قائلا: «نعم»، حتَّى إذا انصرَف محادثي وخلوتُ إلى نفسي انبجستِ الحقيقة مُتألقة في ذهني، وهبَّت عليَّ أفواج البراهين المعاكِسة من كلِّ حدبٍ وصوبٍ ناسفة كلَّ ما سمعته، فأوقن بأني قد غُبنتُ. وفعلا أكونُ غُبنتُ لأنَّ السياقات المقبلة لا تسمحُ لي بعَرض براهيني عَلى محادِثي لأنَّ عرضَهَا لحظة المناقشةِ يكونُ فاتني، ثمَّ لأنني لو عرضتها في سياق لاحق لغيَّرتُ مجرَى الكلام ولسخر مني الآخرون. ولذلك قرَّرتُ أن أقول دائما: «لا». غير أنَّني كلمَا ألفظها يسخر مِنِّي الآخرُون طالبين توضيحاتٍ فأجدُني صامتا خجولا مغبونا محمر الوجه كمَن ينتظرُ وَحيا لاينزلُ، أو كمن نزَلَ عليه وحيٌ تعذرَت عليه سُبل تبليغه، حتَّى إذا وصلتُ إلى المنزل وجدتُ الجوابَ المناسب…

لقد تحدَّيتُ أحدهُم مرة – كان سألني البارحَةَ: «هل هذا كُرسي؟»، فأجبته: «لا» – بأن عُدتُ إليه صباح اليوم الموالي، وقلتُ له مشيرا إلى ما سَبق أن زعم أنه كانَ «مِقعَدا»: «إنَّ هذا شَجرة»، لكنه أمسَكَني وقادني إلى زاوية في الشَّارع ثم أومأ إلى شيء وقالَ لي: «هل هذه شجرة؟»، أجبته: «لا»، فسخِرَ مني صحبة جماعة. ولما عُدت إلى المنزلِ اكتشفت أن ما زعم أنه شَجرة لم يكن في الحقيقة إلا أنا. لكن أي سبيلٍ لإقناعهم به؟

لقد تعقَّدَ مقامي في الحياة إلى أن أصبحتُ «مجرَّد» بحثٍ متواصل عن معرفة متى يجب عليَّ أن أقول «نعم» ومتى يجبُ أن أقول «لا»، متى يجب أن أتكلم ومتى يجب أن أصمت، كيف يجبُ أن أضحك وكيفَ ينبغي أن أسير في الطريق… ولكي أتوصَّل إلى ذلكَ أنفقتُ أعواما وسنينا اجتزتُ طوالها محنا عديدة قبل أن ينتهي بي الأمرُ إلى ما أنا عليه الآن:

كنتُ أيامها أشخاصا عديدين لا أذكرُ منهُم الآنَ إلا اثنين: أحدُهما اسمه أحمد والآخر اسمه محمد. أحدهما قريبٌ، والآخر بعيدٌ…

– أي الاثنين كانَ القريب وأيهُما كان البعِيد؟

– صَه يا أحمد! أإيهَاما بأنكَ صِرتَ شخصا ثالثا يحكِي عن أحمد ومحمَّد؟!

– نعَم. أنا يعقوب.

– أأحمد أنتَ أم محمد؟

– الله أعلَم!

– وإذاً فقل «نحنُ جمعٌ»، وكفَى.

– نحنُ جمعٌ وكفى!…

القريبُ كان يلازم المنزل، طاولة الكتَابة تحديدا. كانَ ذاك الشخصُ عقلا مدبرا يُملي عليَّ كل ما يجب أن أفعَله كي أنجحَ في إخفاء مَرَضِي عن الآخرين، خاصَّة في الأيام التي استحوذَ علي فيها وسوَاس فقدان الذاكرة بعدما أخذ الناس من حَولي يتراءون لي قطعانَ ماشية يصعُبُ تمييز الواحد داخلها عن الآخَرين (ولا أريد أن أُصَعِّدَ رأسي هُنا بالوقوفِ عند هذه النقطة لأن ذلك سيضطرني إلى كتابة أسطر عَديدة، يمنعني الإرهاقُ من تدوينها، ستتبدى في النهاية حكاية ل «لا» و«نَعَم» مِن وجهها الخَرُوفي إن شئتم).

ومما أمرَني به ذلك الشخص تدوين دليلٍ عِلمِيّ لي في الحياة أسميتُه «كيف تكون إنسَانا سويا»، وهو عبارة عن كتابٍ ضخم في حجم وِسَادة كبرى، نسختُ فيه كل ما يحتمل أن يتراءى لي أو يسْقط بصري عليه حتى أتمكن من التعرُّف عليه بسهولة والتصرُّف معه بالطريقة اللائقة لكي لا أثير انتباه الآخرينَ، بدءا من الأشياء الجامدة، مُرورا بالكائنات المتحرِّكة، وانتهاء بالسياقات والمواقف. كان ذلك الكتاب هوَ طوق النجَاة الذي كنت آمُلُ من خلاله اتقاء خطر الغَرَق في الأشياء والناس. وقد اتَّبَعْتُ في تأليفه الطريقة الآتية: أحكمتُ إغلاق بَاب غرفتي عليَّ، وجلستُ في المكتب، ثم فتحتُ الصفحة الأولى، وقيَّدتُ فيها حرُوقَكم الهجائية حتى لا أنسَاهَا، ثم شرَعتُ في ضَبطِ أوصافِ جميع الأشكال الموجُودَة داخل الغرفة وإثبات ما يقابلها من أسماء، فكنتُ أكتبُ مثلا:

«إذا رأيتَ صندوقا صغيرا من الكارتون، بداخله شبه جارورة امتلأت عن آخرها بأخشاب كالمسامير، على رأس كل واحدة منها شيء يُبديها كالدَّبُّوس، فقل: “إنما هذه علبة أعواد ثِقَابٍ، وهي تصلح لإيقاد النار”».

وتحسُّبا لأي خلط قد ينتابني في التعرف على الشيء الواحدِ حينما تتغير أشكاله، كنتُ أضبط جميع تنويعاته على شكل مُلاحظات أذيِّل بها نصَّ وصفه. ففي حالة أعواد الثقاب، مثلا، عمدتُ إلى شِراء جميع أنواع العُلب الموجودة في السُّوق، ثمَّ ذيَّلْتُ الاسم السَّابق كاتبا:

«ملاحظة: لا يتغير هذا الاسم حتى وإن كانت العلبة حمراء اللون، رُسِمَ على وجهها الأول صورة جياد أربعة تجر عربة مثلثة كتب فوقها: “العربة الممتازة”، وعلى وجهها الثاني كُتِبَ الاسمُ نفسه بالحروف اللاتينية، أو كانت العلبة بيضاء رسم على إحدى جهتيها فراشة أو قطة، وكتب على وجهها الثاني اسم الشيء المرسوم بالعربية واللاتينية… كما لا يتغيَّر الاسم رغم تبدل مواد الأعواد الموجودة داخل العلبة وأشكالها، كأن يكون بعضها مربع الشكل مصنوعا من الخشب، على رأسه دائرة حمراء أو زرقاء، وبعضها مستديرا، مصنوعا من الورق المشمَّع ذي لون أبيض أو بني…»

وبهذه الطَّريقة كتبتُ جميعَ الأشياء الموجودة في غرفتي إلى أن انتهيتُ، فانتقلتُ إلى باقي أجزاء البيتِ، فسجَّلتُ اسم أمي وأوصافها، وأبي، وإخواني، والأفرشة، والأوانِي، والمنزل لأنتقلَ بعدَ ذلك إلى الخارج، فقيَّدتُ أسماء الجيران، وأوصافهم، وأنواعَ سَيارات الحيِّ، وألوانها، وأسماءَ أصحابها، ومواقع الدكاكين وأسماء السِّلع… وأهم من ذلك كله، فقد كتبتُ اسمي، وأوصافي، وملابسِي، وطول قامتي، وَوَزنِي…، وذلك بأن وضعتُ أمامي مرآة، فنسختُ كل ما رأيته فيها، ثم أحصيتُ ملابسي، ووضعتُ تَأليفا نهائيا بينها كَاتبا:

«البنطلون الأسود يُلبَسُ صحبة القميص الأسوَد، والسّروال الأزرق رفقة القميص الأصفر، والحذاء الأبيض مَعَ القميص البرتقالي والسِّروَال البنفسجي، وما إلى ذلك…»

ثم ألزمتُ نفسي بالتقيد بذلك النظام حتَّى يسهل علي التعرف على نفسي بين الآخرين بمجرَّد النظر في المرآة أو الالتفات إلى ألوان ملابسي…

ولكي يَسهُل عليَّ ضبط الأحاسيس التي يحملها الآخرونَ إزائي، فقد وصفتُ جميع الهيئات التي تأخذها وجوههم وأيديهم، ووضعتُ أمامها مايقابلها من أسمَاء مثل:

«إذا رأيت شخصا ينظر إليك وهو يقبض عينيه كأنه سيغمضهما، فاتحا فمه إلى أن تبدو أسنانه وتميل جانبا شفتيه إلى جهتي خذيه، فقل: “إنه يضحك”، وإذا رأيتَ شخصا سادا فمه وهو يرسل نظرات حادة ووجهه منقبض فقل: “إنه قلق”، وما إلى ذلك…».

أمَّا الشخص الآخرُ، البعيد الذي كنته، فكان يأمرني بتعلم قواعِد السُّلوكِ والتصرُّفات الحسنة خِلسَة في مناطق نائية. ولأجل ذلك كنتُ أقطَعُ مسافاتٍ طويلة، كي لا يضبطني أحد المعَارف، إلى أن يقعَ بصري على فردين أو جماعة يتحدثون فأقتربُ منهم دُونَ أن يفطنوا، وآخذُ في مُراقبة حركاتهم، والإنصات إلى كلامِهم بمنتهى اليقظة والإنتباه لأختزن المشهدَ بكلِّ تفاصيله ويسهُل عليَّ تقليدُه فيما بعد…

 

*

*             *

 

اليوم لا تسعُني الدنيا فرحة. فقد عُوفيتُ من مَرَضِي منذ مدة. بوسعي الآن أن أخالط من الآخرين ما شئتُ، وأقوم بكل ما يقومونَ به من غير أن أشعرَ بنقص أو خَجل، وما يحول بيني وبين الخروج إلا كونِي أشعر من حين لآخر بقلق من جراء السؤال التالي:

متى استعدتُ صحتي؟

كيفَ؟

ما الدليل على كوني قد عوفيتُ فعلا من المرض ولستُ أرزحُ الآن تحت وطأة مَرَض عُضَال آخر أشدَّ وأوهَنَ، هُو الشفاء؟

ما أن تسدل عليَّ هذه التساؤلات حجبَها القرمُزية حتى يعبث بوُجودي بحران: أحدهما في جزر مطلق، والآخر في مَدّ مطلق: الأول يقنعني بما لا مجالَ للشكِّ فيه بأنني قد عدتُ سويا، والدليلُ على ذلكَ هو انقشاع سُحبِ الأحزان التي ظلت تغلفني منذ لستُ أدري كم من وقتٍ ولا كيف ولا متى. غيَر أن الأكيد هو أنني لم أفطن ذاتَ يوم إلا وقد انحفرت هُوَّتان: إحداهما بيني وبين نفسي، وأخرَى بيني وبين الآخرينَ:

فأما التي انحفرت بيني وبين ذاتي فقد غرَّبتني عن نفسِي إلى حد أصبح معه جسدي ورطة حقيقية بحيث صرتُ أعرف أنني إنسانٌ – من خلال هيأة كتلة اللحم والعَظمِ والأطراف التي تكسوني – لكنني أعجز تمام العجزِ عن تشغيل هذا الإنسان بكيفيةٍ لا تلفت انتباه من يحيطونَ بي. فأنا أقوم في الصَّباح وأحس بخفة تسري في العقل والبدن، فأقولُ: «يا له من صبح سعيد! اليوم ستنقشع سُحبُ مرضي، وأتحول إلى إنسان سَوي»، ثم أحشُو معدتي بالطعام، وأتدبر أمْرَ ارتِداءِ الملابس، والتخطيط لبرنامج أجَزِّي فيه الوقتَ. لكن بمدى توغلي في الزّمن تنغرس قدماي في القَلَق والألم، وأحسُّ كأن العالم الخارجي قَدَرٌ يَغلِي وأنا مُلقى بداخله، حيثما نقلتُ رجليَّ احترقتا، وحيثما وليتُ وجهي لم أر إلا غبارا وألما وموتا وظلاما، حتى إذا حَلَّ المساءُ انتابتني رغبة عارمة في وضع حد لحياتي، فأخطط لذلكَ، وأحشد في غرفتي عقاقير وحِبَالا وسكاكين وإبرا طويلة حادَّة وأنا عازم بما لا رجعة فيه على ألا يصبح اليوم الموالي إلاَّ وقد وضعت حبلا حَول عنقي أو بَقرتُ بطني، أو ولجتُ الغيبوبة الكبرى على إثر تناول خمس عُلب دواء أو ست، عازم بما لا رجعة فيه أن ألا يُمسِي علي المساء إلا وقد «أرَحتُ» هذه الجثة إلى الأبَد بإرقادها الرقدة الأبدية. لكنني لا أفطن إلا وقد قمتُ في الصَّبَاح الموَالي وأنا أحس بخفَّة كبرى تسرِي في العقل والجسم، فأقول: «هُو ذَا يوم سعيد، حسنا فعلتَ عندما لم تضع حدّا لحياتك ليلة البارحة… فلو فعلتَ لكنتَ حرمتَ نفسك من التلذذ بطعم هذا الصَّباح الجميل…». والدليلُ على كوني عوفيتُ من مرضي هو أنني لم أعد أحسُّ بسعادةٍ مُفرطة في الصباح ولا برغبةٍ في وضْع حدٍّ لحياتي في المساء… صرتُ عاديا جدا كآلة تعملُ وفق نظامٍ وإيقاع قارَّين رتيبين لا يتغيران… أهذا معنى أن أكون إنسانا سويا؟ وإن كنتُ صرتُ بالفعل سَويا، فكيفَ أقنع الآخرين به؟

أما البحر الثاني، ف…، أيُّ حِبرٍ؟ عفوا! نسيتُ. كنتُ أهذي!

 

*

*             *

 

– كيف فقدتُ نفسي؟

– أعتقدُ أن كلَّ مأساتي كلها قد انطلقتْ من رغبتي تلك في أسر الكائنات والأشياء التِي تحيط بي وتقليد ما لا يُقلَّد. فما من إشارة أو حركة أو كلمة كنتُ أعيدُها إلا وكانت تثير سُخرية محادثي، كأن يُدير وجهه إلى الجهة الأخرَى أو يبصقَ على الأرض أو يُودِّعني بدعوى أن لديه أشغال ومَواعيد هامة، رغم أنني في جميعها كنتُ أحرصُ حرصا شديدا عَلى إعادة إخراجها بشكل مُطابق تماما لما لاحظتُها عليه لحظة الرَّصد. فكنتُ أقيسُ بدقة متناهية المسَافة التي يجبُ أن تفصلَ يدي ورجلي وعَيني وأنفي وفمِي عن يَدي مُحَادِثي ورجليه وأنفه وفمه، وأثبِّتُ لهجة كلامي، ورنة صوتي، ونظرتِي، وابتسَامتي وأنظرُ إلى عينيه بالطريقة ذاتها التي شاهَدتُ الآخرين يستعمِلونها، وأسعلُ كمَا سمعتهم يسعلون، وأمتعضُ كمَا رأيتهم يمتعضون، وأصطنعُ الغضبَ كما شاهدتهم يصطنعون… ففيما تقطرُ كلمات الآخرين مِن أفواههم كالعسَل فيتلقفها المتلقون بنهَم شديدٍ وهم يستزيدون، يَسيلُ الكلام مني ذميما مقرفا مقززا كقيح أو قرُوح، فينفضُّ القومُ من حَولي لأجدني وحيدا مثل أجرب أو مسعور…

أيها الناسُ!

أرُوني هذه العلامة التي تتعرفون عليَّ بها جميعا بطريقة واحدة، فتتجاوزونني وتمضونَ تاركين إياي أتلظى بنيران الحرُوقِ الهجائية. لقد صَرَفتُ أحقابا وسنينا في تفتيش جسَدي إقليما إقليما، مَنزلا منزلا دُونَ أن أفلح في التعرُّف عليها. لم يُجدنِي في ذلك كتابٌ ولا قلمٌ ولا مرآة.

الكتاب؟!

آه من الكتاب الذي أنفقتُ في تدوينه ثلث سِني حياتي حَصدَ خلالها أسناني وأذاقني طعم ليالي طويلة بيضاء، قصصتُ فيها الأقلامَ من لحمي وكان المدادُ من دَمي.

عفوا! عفوا! فأنا أهذي.

 

*

*             *

 

لم أفطن مرَّة إلا وأنا في شجَار عنيف مع شخص يرتدِي سِروالا أزرق وقميصا أصفر. تحلَّق حولنَا قطيعٌ ضخم من الرِّجال والأطفال والنسَاء. لقد اعتقدت أن ذلك الفرد لم يكن إلا أنا فاستغربتُ من سيرنا مفترقين، ولذلك أمسكتُ به ملحا بالدعاء: «أنتَ هو أنا فتعالَ إلى حيث أنا ذاهبٌ». ردَّ الشخصُ مرارا بأنه لا يعرفني، إلا أنه كلما نطَق بكلامه عقَّبْتُ قائلا: «وإذن فانفتِحْ حتى ألجَكَ، وأحُلَّ فيك فترى إلى أي حد ما أنتَ إلا أنا». أمام استغرَاب المتحلقين اضطررتُ لإخلاء سبيل صاحبي، والعودة إلى المنزل ملفوفا بسحَابة من الغم والخجل والصَّمت لقضاء عشرة أيام استولى عليَّ الرُّعب طيلتها، لأنني كنتُ موقنا بأنني لم أكن إلا طيف نفسي. أما أنا وهيأتي فقد سُرقتا مِني أو ضاعتا، فكنتُ أصرف الساعات الطوال في التنقلِ بين غرف البيت وحجراتِ عقلي باحثا عني وأنا أنادِي: «أنا! أين أنت يا أنا؟ تعال يا أنا. لماذا انصرفتَ عني يا أنا؟…»، حتى إذا حلَّ اليوم العاشر اكتشفتُ بأعجوبةٍ أن الآخرينَ كانوا على صواب بينما كنتُ مخطئا: تذكرتُ الكتابَ الذي كتبته، فوجَدتُ في «باب الملابس» التنبيه الآتي:

«إذا أشكل عليك تمييز نفسك وسط أفراد يلبسونَ ما ترتديه نفسه فاحْتكِمْ إلى المرآة».

وقفتُ أمام المرآة فوجدتُ فعلا أن صاحب المشاجرة لم يكن هو أنا. هَل كانتْ هذه الحادثة إنذارا من «كيفَ تكونُ إنسانا سويا» أم لكمة عنيفة سَدَّدها إلي الكتاب نفسُه وأنا الآن إثرها صريع؟ مهما يكن من أمر، فأنا الآن أحملُ معي مرآة تلازمني أينما اتجهتُ، فحذار أن تعتقدوا أنني بنظري المتعاقب فيها أتجمَّلُ. فما أنا بأنثى ولا ذكر أو خنثى. أنا قاطع لحمِه من جسمه يَعجنه بعظمه ليهبكم هذا الذي تسمونه كلاما، يَهَبُكم نُصُوصا لا لُصُوصاً.

عفوا! عفوا! فأنا أهذي.

ثمَّ توالت الأعوام، فلم أفطن إلا وبذاكرتي خُرُومٌ. عرفتُ ذلك أول مرة لما صرفت أياما عشرة في صمت مطبق أسمعُ الكلام وأفهمُه دون أن أعرف بم أجيب: يقال لي: «ما اسمُك؟»، فأمكث مَشدوها، ويؤتاني بمذياع أو قلم ويُوَجَّهُ إلي السُّؤالُ: «ما اسم هذا؟» فأبقى ساكنا مَذهُولا أنظر في الفراغ. لا تصدقوهُم. لم أكن أيامها مريضا، ولم يشفني طبيبٌ عقليٌّ ولا محلِّلٌ نفساني ولا عرَّافَة أو فقيه. كلهم خَونَة. وكلُّ ما حَدَثَ هو أنَّ عطبا صغيرا حدث في ذاكرتي فنسيتُ أنني كنتُ سجنتُ الأشياء والأسماء في كِتابي. ففي اليوم العاشر هوى عليَّ وحي الذكرى، فمددتُ يدي إلى الكتاب وأنا موقن بأنه لم يكن ديكا أو حمارا كما خيِّلَ إلي من قبل…

ولتفادي الوقوع ثانية في مِثل هذا النسيان كتبتُ صيغة: «عُدْ إلى الكِتَاب» في يدي ورِجلي وجبيني ومختلف الأمكنة التي أترَدَّدُ عليها. لكن مَا فائدة ذلكَ عندما تصير حياة امرئ مِثلي مجموعة حِبال متشابكة كلما عُقِدَ جزءٌ منها انفسخ الباقي؟… فذات يوم لم أفطن لنفسي إلا وأنا أتساءلُ: «ما مَعنى الكتاب؟»، حتى إذا انصرم شهرٌ ووجدته ألفيتُ ما دَوَّنتُهُ فيه من قبل شبيها بكتابة هِيروغليفية. فحينما كان بعضُهم يسألنِي: «ما اسمك؟» كنتُ أعودُ إلى باب الاسم، فأجد أنه سبق لي أن عرَّفته على النحو التالي: «هو اللفظُ الموضوع على جوهر أو عرضٍ لتعيينه وتمييزه»، إلا أنني آخذُ في التَّساؤل:

«ومَا مَعنى “اللفظ”؟

ما معنى “الموضوعُ”؟

ما معنى “جوهر”؟

ما معنى “عَرَض”؟

ما معنى “تعيين”؟

ما معنى “تمييز”؟»…

فأضطر لاستشارة أبوابِ مجموع هذه الكلماتِ. وفي كلِّ مرَّة كانت دَائرة المفرداتِ المبهمةِ تتسعُ إلى أن قعدتُ مشذوها ومَا مِن شَيء يقع عليه بَصري إلا وأناديه: «أنا!». ولما لم يُجبني أيُّ شيءٍ خَرجتُ إلى الشَّارع وأنا أصرُخ:

«أينَ أنا؟

من أنا؟».

والآنَ مَن أنا؟ أينَ أنا؟ ما هَذِه الأوعيَة والقوَارير التي تحاصرُني؟ أينَ الكتابُ؟ أين البَحرُ؟ أين العرَبَة؟ أينَ عقلي؟ أين الحِبرُ؟ أين الفَجرُ؟ أين الجمرُ؟ حَذار! افسَحُوا لنا الطّريقَ! ابعدُوا! فبعدَ لحظاتٍ سأنفجرُ.

Breaking News