Notice: Function _load_textdomain_just_in_time was called incorrectly. Translation loading for the all-in-one-wp-security-and-firewall domain was triggered too early. This is usually an indicator for some code in the plugin or theme running too early. Translations should be loaded at the init action or later. Please see Debugging in WordPress for more information. (This message was added in version 6.7.0.) in /home/aslim/public_html/wp-includes/functions.php on line 6114
محمد أسليـم: بالعنـف تتجدد دمـاء الحـب (نصٌّ ) – محمد أسليـم

محمد أسليـم: بالعنـف تتجدد دمـاء الحـب (نصٌّ )

1404 views
محمد أسليـم: بالعنـف تتجدد دمـاء الحـب (نصٌّ )

لم تكن التصفيقات الحارة لجمهور الحاضرين قد توقفت بعد، على إثر انتهاء مداخلتي، لما انسلت من صفوف المدرج ابنة ست وعشرين سنة، حسناء شقراء، لم يسبق لي أن عرفتها إطلاقا من قبل، قامت تتهادى، ثم أخذت وجهة المنصة بخطو سريع شيئا ما وخصلات شعرها تداعب جبينها وعينيها، وموكب عطرها يسبقها إلى أن وصلت إلى مائدة المشاركين، فاختارتني لسبب لا زلتُ أجهله إلى اليوم؛ وثبت على وجنتي وانكفأت طابعة عليهما قبلات ملحاحة عميقة. خجلتُ، ارتبكتُ، سألتها متمتما:
– من أنت؟
– ستعرفني فيما بعد.
– لماذا تجرؤين على تقبلي؟
– ستعرف فيما بعد.
– لكن زوجتي حاضرة هنا…
– إنك لم تتزوَّج بعد.
سألتها باستغراب شديد، وأنا أشير إلى حيث تقعد زوجتي:
– وإذن فمن تكون تلك المرأة؟
– مجرد نقطة في المداخلة، كانت أهم ما أثارني في كلامك، وأودُّ مناقشتك فيها بالفعل. نلتقي فور انتهاء الندوة، على السادسة والنصف مساء، في مقهى العزَّب؟ متفق؟
– ولكنني لستُ أعزب، أنا رجل متزوج وأب لطفلين…
– مجرد وهم. أنت لا زلتَ أعزب ككل الرجال المتزوجين، وزوجتك لا زلت عزباء ككل نساء البلد. الموعد ضروري ومؤكد. ستجدني في تمام الساعة السادسة والنصف، في مقهى العزَّب.
كدتُ أن أقنع نفسي بأن الأمر يتعلق بطالبة مجنونة، ولكن ما أن ألقيتُ نظرة عن يميني ويساري حتَّى تبدَّد ما هممتُ إقناع نفسي به. فقد شدَّ المتدخلون على يدي واحدا واحدا، يصافحونيي، بل وتجرأ بعضهم على تقبيلي من الوجنتين كما فعلت الفتاة…
انصرفتُ إلى المقهى وأنا شبه موقن بأن حكاية البنت التي اغتصبتني لا يمكن أن تفسر إلا بكون المعنية تخفي لي مفاجأة كبرى: لعلها قريبة لي انقطع حبل الصلة بأهلها منذ عقود، ثم اهتدت إلي، واختارت أن تستهل عرض هذا اللقاء بين قريبين، بعد فراق طويل، على ذلك النحو. أو ربما جئتُ في عرضي – من غير أن أعلم – بنظرية جديدة ستقلب كل المعارف الرائجة حاليا «بصدد تفسير نشأة المؤسسات الاجتماعية: الأسرة نموذجا»، وكان هذا هو عنوان العرض الذي ساهمتُ به، حثَّني على هذا التفسير طول ما حظيت به من تصفيقات الجمهور، ثم التحية التي خصني بها زملائي الأساتذة…. لكنني، فيما باعد سأكتشفُ أن تصفيقاتهم وتقبيلاتهم لم تكن لي ولا لعرضي، وإنما كانت مجرد تقرب من الفتاة وسعي لنيل رضاها…
ما أن وطأت عتبة مقهى العزاب حتَّى لاح لي وجهها. وبعد جلوسي معها لا حظتُ أن مائدتنا كانت شبه مغناطيس تجذب أنظار كل زبون جديد لفرط ما تزدهي به جليستي من جمال وسحر لا يملك القلم أمامهما، إذا ما أراد وصفهما، إلا المكوث صامتا منذهلا نشوانا مثل حشاش.
– أهلا وسهلا، بك
– أهلا وسهلا بالأستاذ. أنا لستُ من أقربائك، كما قد يخيل إليك، ولا حتَّى ممن قد يكون أعجبه عرضك. بل، إني كدتُ أعتبره أضعف المداخلات لولا أنه أثار في ذهني أفكارا، فقررتُ أن أقنعك بها…
– أنا لا أزعم أنني جئت بوحي أو بحقائق نهائية. اعرضي المسألة، واقنعيني بالحجج والبراهين المضادة، وأنا على أتم الاستعداد لإعادة تحرير العرض على ضوء ما تقترحين.
– ذكرتَ أنَّ ظهور المؤسسة العائلية يرتبط في شق منه بالضُّعفِ، مثلها في ذلك مثل كافة القوانين: فسن القوانين يتوِّجُ تسلطا لا مثيل له: في البداية ينال الأقواء ما يشاؤون بفضل قواتهم البدنية، لكنهم يفطنون إلى أن هذه القوة ستطالها شيخوخة مزدوجة طال الزمان أم قصر: شيخوخة السن، وشيخوخة النسل، وفور فطنتهم لذلك يحرورن قوانين، هي ضرب من عقود ومواثيق يضمنون بها استمرار امتلاكهم، هم وأبنائهم، للامتيازات التي نالوها بالقوة. بهذا المعنى، لا يرتبط رجل بامرأة إلا ليؤممها ويصرف عنها، بقوة القانون، الجبابرة المردة من الرجال الذين يصولون ويجولون في حلبة النساء طولا وعرضا، لجمالهم أو لأموالهم، أو لقوة عضلاتهم… ثم ذَكَرْتَ أن ظهور مؤسسة العائلة نفسه يرتبط في شقه الآخر بالمزايا النفسية التي يحققها هذا التنظيم، حيث سردتَ مجموعة من الحالات النفسية، زعمتَ أنَّ الإنسان لو لم يجد فيها راحة وسعادة لكان استغنى عن الزواج منذ قرون. أليس كذلك؟
– بلـى.
– هذا بالضَّبط ما أريد أن أناقشك فيه. وأود أن أستهل هذه المناقشة بسؤال، سؤال واحد، تعدني وعد شرف بصدق الإجابة: هل تحب زوجتك أم لا؟
سادَ صمتٌ رهيبٌ. هممتُ بالنطق، احتوتني نظرات جليستي الملحاحة الغنجة، فوجدتني غارقا في الصمت. داخل صمتي طاردتني جليستي:
– هل تحب زوجتك؟ وعْدَ شرفٍ بصدق الإجابة.
سادَ صمتٌ أطول، خلتُ نفسي نائما، لملمتُ كلمة، ههممتُ بنطقها، حاصرني جمال الجليسة، أفناني فيه. غرقتُ في تأمل محياها بإجلال وخشوع، لستُ أدري كم من وقتٍ؛ فتارة أغرق في نشوة الابتهاج بجمال بدئي، وتارة يغيبُ وجه جليستي فتنبجس منه صورة زوجتي أيام تعرفتُ عليها… تساءلتُ هل أحسست يومئذ بالنشوة ذاتها والجاذبية ذاتها؟. اختلط الوجهان: وجه قديم جديد، ووجه جديد قديم. هاجت حواسي، تمنَّيتُ لو كانت جليستي الآن هي زوجتي. قلتُ كالمستيقظ من النوم:
– لا.
تنفست الصعداء كأنها نجحت في اختبار عسير، أو نجت من عقاب وشيك، سوت مقعدها قليلا بحركة فهمتُ من خلالها أنها حدثت نفسها قائلة: «يحق لي الآن أن أستمر في مجالسته والحديث معه.. هناك شيء ما يبرر الاستمرار في الجلوس معه والتحدث إليه». ومما رسخ في ذهني صواب هذا التفسير كون الوضع الجلوسي الجديد الذي أخذته محادثتي، سمَّر بصرها في وجهي بحيث صار مستحيلا عليها أن تنظر إلى أي رجل آخر غيري، وهي التي كانت قبل قليل مطبقة ببصرها على فضاء المقهى وشخوصه الجالسين والمنصرفين والقادمين، كأنها جهاز رادار فائق الحساسية لطائرات العدو وصواريخه». أحسستُ بالذنب: لماذا لم أصددها لحظة طبعت في خدي قبلاتها الملحاحة؟ زوجتي المسكينة جالسة الآن أمام طفليها، تنتظرني كي تستفسرني عن بعض أفكار ذكرتها في العرض، وكنتُ أخفيتها عنها من قبل… أحسستُ بالنشوة: لم يكن بوسعي أنا ولا أي رجل آخر أن يرفض قبلاتها؛ فهي أوقعتني في ما لا أتردد الآن في تسميته بفخ: تصرفت على نحو أوهمتني بأنها موظفة جديدة في الكلية، ولما اطمأنت إلى أنني خدعدت، انحنت ثم أدنت فمها إلى أذني كأنها ستقول لي شيئا ما، ستبلغني أمرا إداريا، أو تسلمني رسالة شفوية من أحد الزملاء الأساتذة أو اللجنة المنظمة للندوة، وما ملتُ بأذني كي أسهل على نفسي التقاط ما خيل إلي أنها كانت تود قوله لي، وأسهل عليها إيصال «رسالتها» إلي حتَّى وثبت على خذي وأغرقته بالقبلات…
– أي رجل كان بوسعه أن يفعل شيئا آخر غير ما فعلته؟!
أجبـتُ زوجتي في حـوار بيني وبينها بصـدد المشهد المعلـوم. لكنها ردَّت حجتي باعتـراض أقـوى، ربما كان هـو
سبب انتشائي، وتبدد إحساسي بالذنب، ردت حجتي صارخةُ في وجهي بعينين جاحظتين يتطايران شرا:
– ولماذا اختارتك أنت من بين سائر السادة الأساتذة؟ ..
نعم لماذا اختارتني من بين سائر زملائي؟ أنا بدوري ما فتئتُ أطرح السؤال مع نفسي حتَّى الآن، ولكن أحد لن يصدقني إطلاقا.
– ………..
– لو لم يكن لها تصور عنك، معرفة مسبقة بك، لو لم يكن لها فهم معين لنصوصك، لو لم يحكى لها عنك، لو، لو، لو، لو، لما جرأت على فعل ما فعلته معك وحدك…
انتزعتني الجليسة من اللجاج الدائر في رأسي بيني وبين زوجتي، أخذت ملامحها حزما عتابيا قزَّم عبوس ربة بيتي؛ بدت كأم أمسكت عصا وعبست، ثم أرسلت سيلا من العتابات والتعنيفات لطفها تمهيدا لإمطار ظهره بسيل من الضربات. قالت لائمة مستغربة:
– ولماذا لا تحبها؟!!
– أقصد أنني لم أحس بالسعادة معها. ربما لكون الحب يتلاشى داخل الحياة الزوجية. في البداية يحب الرجل الفتاة-مشروع زواجه، فيكون سعيدا، يتخيل أنها ستأويه في الفردوس، لكن ما أن يجمعهما سقف واحد، وتتمطىالأعوام علىالبيبت، ويعمر بالأبناء حتَّى تصير الحاجة إلى الآخر محض روتين.
– عجبا، ولماذا؟
– لستُ أدري، ربما طبيعة الإنسان كانت دائما هكذا…
– هل يمكنني أن أفهم أن الإنسان يكون أسعد لو لم يتزوج؟
– ربمـا.
تنفست الفتاة الصعداء مرسلة زفرة أطول من الأولى، كأنها نجحت في اختبار أعسر، أو أفلتت من عقاب أوشك، سوت مقعدها قليلا بحركة فهمتُ من خلالها أنها تحدث نفسها قائلة: «الآن، يحق لي أن أستمر في مجالسته والحديث معه. ثمة شيء ما يبرر البقاء معه…»، قالت:
– ذاك هو رأيي بالضبط، وذلك هو الاعتراض الذي أردتُ إبداءه نحو ما جاء في عرضك. فأنا لستُ متزوجة، ولا أفكر في الزواج إطلاقا، ولن أفكر فيه. لكن، أنت لماذا تزوجتَ؟
– لست أدري. لأنني لم أفطن إلى هذه الحقيقة إلا في وقت قريب جدا، إلا بعد فوات الأوان. فالآن أنا أب أطفال، ولي مسؤوليات تجاههم، ولا يعقل أن أمضي وأتركهم، لو أفعل أرتكب جريمة في حقهم. وفي النهاية، إنالأطفال أنفسهم يرتقون ما يخرمه الزمن. إذا كانت العلاقة بالزوجة تتحول إلى أزل من الروتين، فالأبناء يزودون الزوج والزوجة، في كل يوم، بوقود جديد لطي ما سيأتي من السنوات. إنهم يمنحون الطرفين نوعا من التعويض، حيث ينسى كل طرف الآخر، بل وحتَّى نفسه، ليصرف اهتمامه وبصره بما يجمعه بالطرف الآخر: الأبناء. فوق هذا كله، فإنني لست نادما على زواجي، لأنَّني لو لم أفعل لربما كنتُ الآن صعلوكا أو مشردا، أو ربما كنتُ ميتا لفرط ما كان سينقض علي من أمراض عائدة إلى سوء التغذية وقلة العناية بالنفس…
– أعتقـد أن المرء بإمكانه أن يخلـق السعادة بنفسه، متى شاء، كأن تغيرا دوام القبوع في البيت؛ تنظما خرجات أو أسفار، تدخلا إلى السينما من حين لآخر، تجلسا في مقهى رفقة طفليكما…
– يا سيدتي، لقد فعلنا ذلك؛ سافرنا، وخرجنا، وأكلنا في المطاعم، وقضينا ليالي في الفنادق، وتجولنا معا في الشوارع، إلى احتمينا من روتين الإقامة فيها بالهروب منها. لكننا لما عدنا إلى البيت وجدنا روتينه قد اشتد ساعده وكبر وانفتلت عضلاته، فخشينا العودة إلى الشارع مخافة أن يكون روتينه قد صار غولا… إني لموقن بأنني لست الوحيد الذي يعاني من هذا الروتين. ولكي تقفي على ذلك، يكفي أن تقومي بإطلالة في حانات المدينة. إنها مكتظة عن آخرها بالآباء، مثلي، الذين يهربون من جحيم البيت، ويحتمون بالحانة، محاولين تعويض برودة العلاقة بالزوجة بدفء العلاقة بالخمرة.
– أخطأت الخطأ كله إن ظننت أنه بالإمكان تعويض المرأة بالخمرة، كما ذهب إلى ذلك ألفريد دو موسيه في «نزوات مريانا» وبودلير في «الجنات الاصطناعية» و«أزهار الشر» وآخرون كثيرون. ذلك أنه لا يعوض امرأة إلا أخرى. والطريق الملكي لذلك، هو أن يخون الزوج زوجته، أن يرتبط بامرأة أو أكثر… وبإقامته هذه العلاقات، سيتغلب حتما على الروتين، ويعيد تفجير ينابيع الحب والعشق التي أقبرتها زوجته فيه. ذلك أن الرجل ضعيفٌ، وما أحوجه إلى امرأة تعامله كما لو كان طفلا صغيرا، فتبسم له على الدوام، وتسأله عما به، وتقرأ أقل قسمات محياه لدى كل لقاء جديد بينهما. وهذا ما لا تعطيه النساء، لأنهن لا يعرفن جميعا هذه الحقيقة، واللواتي يهتدين إليها يسدلن أستارا ويقمن حواجز من شكو بينهن وبينها. وبذلك، ما أن تثقل الواحدة منهن كاهل زوجها بحمل من أطفال حتَّى تفرح وتتنفس الصعداء قائلة: «هذا الرجل مجرد زوج لي»؛ حتّى تنقلب عليه وتأتي من الأفعال والتصرفات ما يجعله يحس كأنه يعيش مع والدته أو جدته… وأمام وضع كهذا، للرجل الحق في أن يتخذ له خليلة خارج البيت؛ لا يراها يوميا، فلا يقنع منها، يشتاق إليها علىالدوام. ولا تراه يوميا؛ فتحن إليه على الدوام، ومتى التقاها لم تسعها الدنيا فرحة بلقائه، فتنيمه في فراش غطاؤه حبّ ولحافه عشقٌ ووساده هيام، مانحة إياه كل ما حرمته منه الزوجة، وكلها خوف من أن يكون قد تبقى فيها شيء لم تمنحه إياه. وله أن يتدبر أمر الحصول على عشيقته إلى أن يتأتى له ذلك. إن عجز فخادمة البيت تكون دائما أقرب النساء إليه، وأكثرهن في متناوله..
– لاتنسي أن زوجتي موظفة.
– ليس ذلك عذرا، بل بالعكس كلما كانت المرأة متمدرسة سهل إقناعها بضرورة الخيانة وفوائدها. ومعناه أني أرى أن الزواج الأحادي لا يجب أن يجبر عليه إلا من تزوج امرأة أمية، لأنه لن يقنعها أبدا حتى بفائدة الخيانة ولو ساق لها حجج الدنيا وبراهينها قاطبة، فأحرى أن يقنعها بتعدد الزوجات… بخلاف ذلك، فالمرأة المثقفة تملك من اتساع الذهن والابتعاد عن التحجر، وتفهم الآراء المخالفة لقناعاتها، ما يجعل من السهولة على الزوج أن يقنعها بكل شيء. وأنا لا أفهم لماذا لم يأخذ أي رجل المبادرة حتى اليوم. أكثر من ذلك، إني لا أفهم لماذا لا تتصرف النساء المثقفات، في سياقات خيانة الزوج، إلا مثل الأميات. أتتصور ماذا فعلت أختي، وهي امرأة موظفة، عندما ضبطت زوجها فوق الخادمة؟ غضبت، وهجرته إلى بيت والديها، فيما خجل هو ولازم بيته؛ لم يقو على الذهاب إليها اعتذارا. ومع ذلك، ما مضت بضعة أيام حتَّى سقت لها – أنا التي لست سوى امرأة – من الحجج والبراهين ما جعلها لا تعود إلى البيت راضية فحسب، بل وأيضا قبلت رأس زوجها طالبة منه أن يصفح عنها لما اقترفته في حقه من إساءة. قالت له: «أعرف أنك رجل، ونصيب الرجل من الشهوة يضاعف ما للمرأة منها مقدار الكرة الأرضية.. لذا، فمتى أحسست بالروتين اخبرني، وسأتكفل بأن أسوق لك من النساء ما يبدد عنك الحزن ويجلو عنك الحزن، ويجدد شرايين الحب في البيت، فتغذق علي من الحنان والعطف والحب وحسن المعاملة ما يعيدني سنيين عشرين إلى الوارء… نعم، سأتولى أنا أمر الاختيار، لأن امرأة أعرفها، فأختارها لك، خير ألف مرة من امرأة لا أعرفها، وتختارها لنفسك: التي أعرفها ستحترم الرابط المقدس بيننا، ولن تحدثها نفسها بأخذك مني، أما التي لا أعرف فقد تأمرها نفسها بالسطو عليك. وقد يتأتى لها ذلك بسهولة، لما هومعروف عن الرجل من سرعة انهزام أمام المرأة، فأفقدك إلى الأبد يا عزيزي». وذلك ما كان، وهما الآن يعيشان في سعادة لا مثيل لها؛ من يراهما يقول إنهما عادا إلى الوراء عشرين سنة أو أكثر…
– لا تحدثني نفسي بذلك، ولا أظنني أقوى عليه. وإن كنتُ ألوم في ذلك أحدا كنتِ أنتِ أول من ألوم. نعم، أنتن النساء مصدر شقائكن وشقائنا، لأنكن ناديتن بتحرر المرأة، فنلتنها، ولم تقنعن بها، ففرضتن علينا الزواج الأحادي، ومن ثم جنيتن على أنفسكن وعلينا: على أنفسكن لأن العديدات منكن لا يجدن بدا من بيع أجسادهن في الشوارع حتَّى إذا ذبل جمالهن وانفض الرجال من حولهن، انقلبن إلى شحاذات أو مجنونات، والحال أنه كان بوسعهن الانضمام إلى بيوت فيعمرنها، ونساء فيؤنسنها، وفرش فيدفئنها. وأنا موقن أنه لو كان العمل بتعدد الزوجات لازال مباحا لما كانت عاهرة واحدة في البلاد. جنيتن علينَا، لأنني، مثلا، قنطت من بكاء زوجتي اليومي من جراء تمزقها بين عمل البيت وعمل خارج البيت… لو كان لي الحق في اختيار أكثر من امرأة واحدة لاخترت أربعا: واحدة موظفة، وأخرى متخصصة في شؤون الطبخ والغسل، بما يجعل الجماعة في شباب وقوة دائمين، وثالثة لتربيـة الأولاد وتعليمهـم،
ورابعة لتبديد غيوم القنط في البيت بالرقص والغناء والتمثيل…
– لا أتفق تماما مع هذا الرأي لأنه يتنافى وطبيعة المرأة. فالزوجة بوسعها أن تقبل من زوجها كل شيء، وتغفر له كل الأخطاء، إلا أن يجعل بيتها قسمة بينها وامرأة أخرى. ثم إن الرجل مهما يفعل، لن يعدل بينهن…
– معناه أن المرأة عدوة للمرأة، أنها حاكمة ديكتاتورية ومتسلطة في مملكة البيت، لا تعرف التسامح ولا تعدد الأماني… معناه، أن النساء لو تلقدن الحكم، لكان زمن نصف دقيقة كاف لقيام الحرب العالمية الرابعة: الدولة بيتٌ والعالم بيتٌ، والبيت لا تسكنه امرأتان. إنهن ينفرن غريزيا من بعضهن بعض، ويكرهن غريزيا بعضهن بعضا، لذلك سيتطاحنَّ لأتفه الأسباب… ثم أيهما أفضل للمرأة؟ أن تتعرض لغبن صغير في بيتها، من جراء عدم قدرة زوجها علىالعدل بين النساء، أم تتعرض لغبن كبير في مجتمعها، فينبذها الجميع؟
– أنا أفضل الحل الأول. أليست الخادمة دائما في المتناول؟
– بلا، ولكنها تغدو مصدر شقاء آخر، عندما تكون صغيرة السن، وأجمل من الزوجة، إذ ترتدي ربة البيت بذلة وقبعة، وتحمل عصا ومسدسا، ثم تنذر نفسها لإثباب النظام والأمن والاستقرار داخل المأوى.
– وإذن ففي هذه الحالة يبقى العنف هو السبيل الوحيد لإحياء السعادة داخل البيت وتجديد شريان الحب فيه. نعم، العنف هوالسبيل الوحيد. ذلك أن المرأة تحتاج إلى أن يعاملها الزوج مثل صبية، فيمددها في فراش من حنان، ويغطيها برداء من عشق، ويسألها دائما عن رغباتها، ولا يحدثها إلا بكلمات من عسل… غير أن كبرياءه يمنعه عن ذلك، فضلا عن أنه هو نفسه أحوج من المرأة إلى ما تحتاجه منه: يحتاج إلى أن تعامله كطفل، فيجدها، لدى عودته إلىالبيت قد تزينت، ولبست أبهى الحلي والحلل، ثم أحضرت ماء دافئا، فتبتسم له، وتجلسه في مكان مريح، وتخلع حذائيه، وتغسل رجليه في الماء، ثم تأتيه بالطعام، وتلازمه وهو يأكل، سائلة إياه عما ينقصه، محدثة إياه بكلمات لا تقطر إلا عسلا… وانسجاما مع هذا الكبرياء، يجب على الرجل أن يعامل زوجته بمنتهى القساوة، فيعنفها، ويهددها، ويوسعها شتما وضربا وركلا إلى تنكسر أمامه، وانكسارها أمامه هو وحده الذي يمكن أن يفجر فيه ما تحتاج إليه زوجته. آنذاك، سيشعر بالانتشاء، وينتشي بأنانيته، سيحس أنه بالفعل متفوق على المرأة، فتنقلب به الغريزة إلى منعطف الإشفاق عليها؛ سيتمزق حسرة، فيغذق عليها من الحب والحنان والعطف، وحسن المعاملة، وجميل الكلام، ما يكفي لقضاء أسبوعين أو ثلاثة في حضن الحب والعشق، بعدهما يجب عليه حتما أن يعود إلى ضربها… أنا موقنة أن العنف الدوري، داخل البيت، يقود حتما إلى منح الحياة الزوجية دماء جديدة، وتجديد تدفق شرايين العشق والعطف والحنان والمحبة بين الزوجين.
عدتُ إلى البيت، حييت زوجتي، لم ترد عليَّ، صرختُ في وجهها، قالت ساخرة متهكمة كأنها ضطبتني متلبسا:
– لستُ من السذاجة بحيث تفتعل ما ينسيني عظم ما أتيت به اليوم. من تكون – خيرا وسلاما – تلك «الصُّوبِّصَة» التي أغرقتك بالقبلات، دون سائر الأساتذة، كأنها تزوجتك بشهادة الشافعي وابن حنبل؟
– أنا نفسي لم أعرف من هي، ولازلت حتَّى اللحظة أتساءل من تكون…
– ها ها!، أتستبلدني!؟ أين ذهبت بعد انتهاء الندوة؟ كنتَ في موعد معها، أليس كذلك؟ أين؟ في مقهى أو حانة؟…
هويتُ على زوجتي بأقرب شيء إلى يدي، أطلقت صرخة، ثم ساد البيت صمت مخيف. هل ماتت؟ أتصفح ملامحها، لم تمت، ها هي جالسة أمامي تبتسم، غارقة في النظر إلى وجهي، وأنا شبه غائب عن نفسي لفظاعة ما ارتكبته. اقتلعتني من شرودي داعية إياي: «هيا إلى البيت، فهناك سيكون الفضاء أليق لهذا النوع من النقاشات». قالت ذلك، ثم سوت حساب النادل، وسبقتني دون أن تترك لي فرصة للتلفظ بأي كلمة….
لم أعرف حتَّى الآن أي منطق أخذته مجاري الأمور إلى أن آل نقاشنا إلى ما آل إليه: فما كادت نفسي تطيب بالمكان حتَّى عادت إلي مضيفتي، من الغرفة الأخرى، وهي نصف عارية، زاعمة أن حرارة الجو كانت مفرطة، مع أن أنفي ما كف عن الرشح ونزلات الأنفلونزا ما انفكت تعاودني منذ مستهل ذلك الشتاء القارس بوجه استثنائي… جلست معي قليلا، ثم افتعلت إحضار كتاب، فإذا بها تعود وقد أزات رافعات نهديها، قرأتْ جملة من الكتاب، ثم اصطنعت البحث عن معجم، فخرجت، وإذا بها تعود وقد خلعت سروالها… ثم تتوالى استئذانها، وخروجها ودخولها إلى أن لم أفطن لنفسي إلا ونحن معا فوق سرير نومها وهي عارية كما ولدتها أمها. استيقظ حارسُ الأخلاق بداخلي. أحسستُ بالذنب. سألتها:
– لماذا تعريت؟
احتوتني بنظرة شبه ساخرة، ثم قالت:
– يبدو أنك لم تفهم شيئا لحد الآن، ولستُ ألوم في ذلك إلا نفسي لكوني لم أكن واضحة بما فيه الكفاية. اعلم يا سيدي أنني لم أتعر بعد، شأني في هذا شأن كل النساء. فللمرأة فتحتان: إحداهما في الجسد وأخرى في العقل. وهي من النرجسية بحيث تمنح للرجل فتحة الساقين، فتوهمه بأنه قد افتضها فيما تظل بكرا مدى الحياة، لأنها لا تمنح فتحتها إلا لنفسها. وهذا يغدو مصدر قلق عميق لها وللرجل على السواء. ولتبديد قلقها، فهي تفكر في خيانة زوجها. إن تأتى لها ذلك خانته بالفعل، وإن عجزت خانته في الرغبة والمتخيل؛ أتظن أن المرأة التي تصرف ساعات خمس في التجول في سوق الخضر أو الملابس أو الحلي بدعوى التحقق من الأثمنة، لا تفعل أي شيء آخر عدا التتحقق من الأثمنة؟. وإن تعذر عليها هذا وذاك صرَّفتْ عجزها في إشعال نار جحيم من رقابة الزوج ومعاقبة الأبناء، وحولت الحياة داخل البيت إلى عالم لا يطاق. وأمام وضع كهذا ليس للرجل إلا أن يبحث عن نساء عديدات خارج البيت. نساء عديدات بحيث يصل عددهن 100 سيدة فما فوق. ومع ذلك لن أضمن له أن يحقق إشباعا ولا سعادة – وهذا هو الوجه الإشكالي في ما أود إقناعك به – لأن للرجال بدورهن مساحة لذة في العقل لا ترتوي أبدا، لأنها مساحة من كبتٍ يعادل القارة الآسيوية بأراضيها وأهاليها، كبت استغرق نموه وكبره مجموع القرون المنصرمة. وهل يمكن للإنسان أن يهدم في يوم واحد ما استغرق بناؤه عشرات آلاف السنين؟… وهذا هو الأصل في كون الرجل يطلب دائما المزيد، ويشعر على الدوام بغبن ما فاته مضاجعتن من النساء حتى وإن بلغ عدد ما عاشرهن 000 10 امرأة أو أكثر.
– هل يمكن أن أفهم من كلامك أننا – نحن العرب – نعيش في هذا الباب ضمن شوط متخلف جدا بالمقارنة مع الغربيين؟ فالرجل منهم متى أحب امرأة، واتخذها زوجة، فما عليها إلى أن تنام على يدها اليمنى، لأنه يحبها بالفعل، فلا يتمنى غيرها ولا يشتهيها. وكذلك المرأة منهم…
قهقهت، ثم قالت:
– هاي هاي، لم يتحقق الإشباع الجنسي ولا سعادة الرابط بين الجنسين بعدُ في أي بقعة من العالم. ففي أوروبا، مثلا، حطمت الخيانة للزوجية كل الأرقام القياسية، والرجل الغربي ما أن يختلي بامرأة عربية حتَّى يصير عرضة للخبل من جراء ما يشتعل فيه من الشهوات… ثم إذا افترضنا جدلا أن الغربيين قد وصولوا فعلا إلى تحقيق الإشباع وسعادة الصلة بين الجنسين، فبماذا تفسر ازدهار تجارة الجنس، في العوالم الافتراضية، كأفلأم الخلاعة، والقنوات الخليعة، ودور «السيكس شوب» ..، ما لم تكن هذه المؤسسات جاءت لتسد فراغا رهيبا داخل حياة الأسر، وترقع حبل الزواج المهلهل على الدوام؟؟
لم يسعفي العقل في الاهتداء إلى أي سبيل للرد عليها. هاجت حواسي. هممت بتقبيلها، أبعدتني بكيفية لم أتردد معها في نعت نفسي بالضعيف والغبي لكوني لم أقو على صدها بمثل هذه الوحشية، لحظة انكفأت علي وأمطرت وجنتي بالقبلات. قالت:
– ما هذا قصدتُ، لماذا تختزلون المرأة إلى فاكهة، فتقطفونها، وتنصرفون بحثا عن أخرى؟ وفضلا عن ذلك، فأنا لا زلتُ بكرا جسدا وعقلا، ثم إني عاهدتُ نفسي ألا أتزوَّج مدى الحياة.
لفني صمتٌ خجول، تدفق في خاطري سيل من الأماني: «ليتني لم أذكر زواجا ولا عنفا في عرضي، ليتني صددتها كما صدتني توا، عندما انحنت على أذني وأغرقت وجتني بالقبلات، ليتني لم أشارك أصلا في تلك الندوة الملعونة، ليتني لم استجب لدعوتها إلى المقهى، ليتني فارقتها في المقهى…». أعقب سيل الأماني غضبٌ كبير وشعور بالغبن شديدٌ. أي شيء يجب فعله بجسد أنثى عار يلتوي رغبة في حضور رجل، وكلما رام الرجل إشباع رغبته صـده
الجسد العاري عنه؟!
استأذنتُ جليستي، فأذنتْ، خرجتُ إلى غرفة مجاورة، خلعتُ الحزام الجلدي من سروالي، ثم عدتُ إلى غرفة النوم، وأنا نصف عاري. هممتُ بالجلوس، فما اطمأنت الفتاة إلى أنني سأجلس حتَّى رفعتُ الحزام وهويت عليها بضربة وحشية، ارتسم فوق ظهرها على الفور خط أحمر عريضٌ، صرختْ بأقسى ما أوتيت من قوة، طوحتُ بالحزام في الهواء، وألقيته بعيدا، انحنيتُ على مضيفتي أتوسل إليها الصفح عني، صدتني بوحشية، ثم قالت في ما يشبه الابتهال الخشوع: «زدني». رفضت الاستجابة لرغبتها إشفاقا عليها، لكن إلحاحها كان من الجد والاسترسال، بحيثُ لم أملك سوى الانكسار أمامه: فأنا رجل لطيف يكره التعذيب، ولكن ها هو يجد نفسه إزاء ضحية فاقت كل مازوشية. أشفقتُ عيها وعلى نفسي فتقطرت من خذي دمعتان، اتجهتُ إليها وأنا أرجوها أن تعفيني، لكن بقدر ما كنت أزداد أمامها انكسارا كانت هي تزداد إصرارا… وفيما كنتُ شاردا في التفكير في ما يجب فعله، تذكرتُ دون أن أعرف لحد الآن أي سبب جعلني أتذكر ،في تلك اللحظة بالضبط، حكاية ذلك الشرطي: فقد كان يتردد على حي للعاهرات، فيختار أجملهن، ثم يختلي بها في غرفة، وبدل أن يلج سرها، يأمرها بالتجرد من الملابس، فتفعل إلى أن تصير (زبطاء) كأنها نزلت لتوها من رحم أمها، فيجلسها في حاشية السرير ووجهها مستدير صوب الجدار، ويتجرد من ثيابه، ويبتعد عنها إلى أقصى طرف البيت، وهو يتأمل الردفين، ووجه المومس مدفون في الفراش… وفجأة تسمع وقع خطوه القوي على أرض البيت: ها هو يتقدم نحوها جاريا، تقبض أنفاسها، تستعد لإطلاق صرخة كبرى من جراء الألم الذي سيحدثه دس سره في سرها… لكن يا للعجب!. تصوروا ماذا يفعل. ما أن يصل إليها حتَّى يقعد، ويصفع ردفيها باليمنى واليسرى، كأنه يصفع خدين، ثم يجهش بالبكاء مخاطبا حشد الأرداف: «أنا مزاوك فيكم، ها العار فيكم. آش بغيتوا عندي، تفرقوا مني، الله يرحم والديكم، أنا مزاوك فيكم. راني جيت غير نحـ…..كم»، ويلازم ذلك الوضع إلى أن يقذف في يديه، ثم يسلم صاحبته المبلغ الذي اتفقا عليه، كأنه ضاجعها فعلا، وينصرف في حال سبيله فرحانا مسرورا…
من قبل، كنتُ كلما سمعت الحكاية اكتفيت بالسخرية من الشرطي مبتسما، لكنني وجدتني الآن أطلق ضحكة كبرى، لستُ أدري سببها ولا سبب كوني تخيلت المشهد، لأول مرة، وكأنه يمر أمامي مثل شريط…
لم تسعف توسلاتي ولا ابتهالاتي ولا محاولاتي في إقناعها بعجزي عن الإمساك ثانية بالحزام. فقد كان إلحاحها وتوسلها من الصدق والرقة بحيث لم أملك إلا الإذعان. ولحد الساعة، مهما نجحتُ في إقناع نفسي بأنه لم يكن بوسعي أن أعمد إلى أي شيء شيء آخر عدا تعذيب مضيفتي تعذيبا فاق كل وحشية، فإنني لن أفلح طالما حييتُ في فهم لغز المارد الذي خرج مني لحظتئذ، وجعلني أقوى على القيام بكل ما قمت به في تلك الليلة: إذ لم أكتف باتخاذ حزامي سوطا وتمزيقه فوق ظهر الحسناء الشقراء فحسب، بل قيدتها بالسلاسل، وكسرت فوق ظهرها جميع الأوني الخشبية، ولويت على ظهرها ضربا كل ما كان في البيت من قضبان وأواني المعدنية، ومزقتُ ملابسها وعددا لا يستهان به من الأفرشة، صانعا منها قيودا وأغلالا، فكبلتُها، ودسستُ قطع الصوف والقطن في فمها، للحيلول دون تسرب صراخها إلى خارج البيت… ولم أتوقف إلا بعد أن صارت مؤنستي جثة هامدة. توهمتُ أنها ماتت، استحوذ علي الفزع، ندمتُ ندما شديدا، قضيتُ الليلة بجانبها، أتصنتُ من حين لآخر إلى دقات قلبها، وأراقب شهيقها وزفيرها، طالبا من السماء أن لا يكف ذلك القلب عن النبض ولا ينقطع ذلك الشهيق والزفير…
في الصباح الباكر استيقظتُ على صوتها وهي تئنّ تحت جروحها، فرحتُ. نظرتُ إليها، هالني منظرها، انقض علي خوف رهيب، أخذت فرائصي ترتعش. قلتُ في نفسي: «محظوظ أنا جدا، لأنني لم أقتلها»، لكن حظي سرعان ما تبدى أعرج: «ماذا لو انقلبت عليَّ؟»… دون أن أنتظر نضج أي جواب في ذهني، اتجهتُ إلى المطبخ. في المطبخ هالني حشد ما رأيتُ من العلب والقنينات المصطفة في الرفوف. دنوتُ منها فإذا هي كلها مستحضرات طبيعية من الأعشاب، دون على كل زجاجة اسم الدواء ولأي داء يصلح….حملتُ الأدوية ولوازم التطبيب المناسبة للحالتها، ثم دخلتُ غرفة النوم، وشرعتُ في تضميد جروحها، وتكميد البقع الحمراء التي انتشرت في جسدها بالكمادات، وتدليك أعضائهـا بالمراهـم، وتقطير سوائل في فمهـا وأنفها، فمـا مضت ساعتين حتَّى كانت واقفة على رجليها تجـوب غـرف
المنزل جيئة وذهابا، مستعرية أمامي لاقتناص تلصصي، كأنني لم أدخل إلى المنزل إلا منذ لحظات. سألتها:
– كيف اهتديت إلى كشف الحجب بينك وبين الطبيعة؟
– بوحي من كاتب ورسام تعرفت عليهما في مكناس. الأول: يهتم بالموت، وألف فيه كتابا أفزعت قراءته الكثيرين، وخلق له أعداء بالمجان عديدين، لم يتردد بعضهم في نعته بالمارد. درس الأدب، والرسم، والفلسفة، والطب، والسحر، إلى أن صار يضرب الرمل ويكتب الحجب للفتيات العانسات ومنكوسات الحظ… وكما قال هو عن نفسه، فهو «عالم من العصور الوسطى يعيش في القرن العشرين». أما الثاني، فقدم نفسه قائلا: «هل أحدثك عن سبب هجرتي إلى فرنسا؟ سافرتُ لسري ولا لشيء آخر غير سري. وسري هو الذي (خرج علي). كان أهل البلد كلما عادوا من المهجر قالوا لنا نحن معشر من لم تطأ أقدامهم أرضا خارج الوطن قط: “عجبا أمر النساء هناك. ما يصل المغربي لمحطة قطار أوستليتز حتى تطارده الباريسيات من كل جانب. إن لم يأخذ حذره لن يفطن لنفسه إلا وهو فوق إحداهن في سرير نومها…”. فلما سمعتُ هذا سافرتُ. سافرتُ ابتغاء نساء لا رزق. هناك، لم أجد أي امرأة في انتظاري ولا في انتظار أي مسافر. ومع ذلك فقد ضاجعتُ ما يزيد عن 1500 منهن.»…
قلتُ في نفسي: «لن يكونا إلا أسليم وموهوب: نعم، أسليم هو الذي كتب «حديث الجثة»، هو الذي يهذي بالطبيعة والأعشاب ويوزع الدواء مجانا في مقاهي مكناس…. وموهوب هو الذي يرافقه مثل ظله، هو الذي أنفق على سره ما يكفي لبناء عمارة من عشر طوابق في أفخم شوارع مدينة مكناس، موهوب هو محمد شكري الشفوي… نعم لن يكونا إلا هما؛ هما اللذان يدمنان السفر في الطريق الثلاثية 33 ويأتيان المصائب في مداشرها وقراها، كما يشهد بذلك سائقوا الشاحنات المترددون على تونفيت، اغبالو إسردن، وزاوية الشيخ، وتيغسالين، والقباب…». استحوذ علي خوف لم أجد لحد الآن تفسيرا له. استأذنتُ مضيفتي في الانصراف، أذنت لي، تهيأت للخروج، استوقفتني، قالت:
– يمكنك الآن أن تعود إلى بيتك، لكن اعلم أنك لست زوجا لأي امرأة سواي؛ هن جميعا يمنحنك فتحة الساق ولا يمنحنك فتحة العقل. من الآن فصاعدا أنت زوجي، لأنك فتحتَ عقلي.
بباب المنزل شاهدتُ رجلين يتهيآن للدخول، وكلاهما حمل قفة: إحدهما امتلأت خضرا وفاكهة وخمرا، والثانية خيوطا عديدة فهمتُ فيما بعد أنها كانت سياطا وحبالا للتعذيب. رفعتُ بصري، وها هو أسليم بقامته النحيفة وظهره المقوس مثل قوس قزح، وشعره الأشعث، وفمه المدبوغ بالسجائر والقهوة والخمر… ثم ها هو موهوب بشعره الأشيب، ونظارتيه السميكتين، ويديه الموشومتين، ومعجمه الفاحش يسبقه… ابتعدتُ قليلا عن المنزل، لاح لي طيف امرأة، تسير نحو البيت بخطى من غضب، وهي تجر بيديها طفلين يملآن الدنيا زعيقا ببكائهما. قلتُ: «لن تكون هذه إلا زوجة أسليم». وبالفعل، ما أن دونتُ منها حتَّى كانت هي. قلتُ في نفسي: «أحمد الله على كوني لستُ محمد أسليم»، دون أن أعرف لماذا استثنيتُ موهوب، ثم عدتُ إلى بيتي وأنا أفكر في اصطناع عذرٍ أراوغ به زوجتي، فتصدقني، وتستسيغ عدم قضائي ليلة أمس في البيت…

محمد أسليـم

تنويه: النص الحالي نواة لرواية بالعنف تتجدد دمـاء الحب، وقد صدر ضمن مواد الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، ليوم الجمعة 29 يناير 1999، العدد 561

Breaking News