Notice: Function _load_textdomain_just_in_time was called incorrectly. Translation loading for the all-in-one-wp-security-and-firewall domain was triggered too early. This is usually an indicator for some code in the plugin or theme running too early. Translations should be loaded at the init action or later. Please see Debugging in WordPress for more information. (This message was added in version 6.7.0.) in /home/aslim/public_html/wp-includes/functions.php on line 6114
محمد أسليـم: الكتابة باعتبارها قضية ومشروعا. قراءة في مسرحية (آمنة) لبديعة الراضي(*) – محمد أسليـم

محمد أسليـم: الكتابة باعتبارها قضية ومشروعا. قراءة في مسرحية (آمنة) لبديعة الراضي(*)

1717 views
محمد أسليـم: الكتابة باعتبارها قضية ومشروعا. قراءة في مسرحية (آمنة) لبديعة الراضي(*)

تسعى القراءة الحالية إلى التقاط الثابت في كتابات بديعة الراضي، من خلال نصها الأخير (مسرحية «آمنة»)، ومحاولة تبين الرسالة أو الرسائل التي قد يتغياها هذا العمل، وذلك من موقع قارئ للنص المكتوب لا من منظور مشاهدٍ له. علما بأننا إزاء عمل أدبي كُتبَ للإخراج والعرض المسرحيين وليس للقراءة على غرار ما هو الأمر مع نصوص أخرى، تعرضُ، ثم تُطبعَ للقراءة، مثل الملك أوديب لتوفيق الحكيم وغيرها…

الكتابة باعتبارها قضية ومشروعا:
تندرج مسرحية «آمنة» في خط سير للكتابة يبدو ثابتا، من خلال ما تأتى لي قراءته من أعمال بديعة الراضي، وهو ما يمكن تسميته بـ «الكتابة الملتزمة»، أي الكتابة التي تدافع عن قضايا معينة، ولا تنشغل بشؤون الذات، محورُها ليسَ هو الفرد الناطق بضمير المتكلم، الذي يحكي عن معاناته وانشغالاته وأسئلته، بل الغير / الآخر..
وإذا كان ما من نص أدبي إلا يكون وراءه ذاتٌ كاتبة منتجة له، هي المؤلف، فنحن مع نصوص بديعة الراضي إزاء ذات تختار موقع المحو، إن جاز التعبير، والانصهار في الجماعة، من خلال تسخير الكتابة الأدبية لخدمة هذه الجماعة.
وبالفعل، فالمتلقي الذي يقرأ أعمالا سابقة للمؤلفة، كروايتها الأخيرة «أبناء المحيط»، ويقرأ أو يُشاهد مسرحية «آمنة»، سيعثر لا محالة على الانشغال نفسه، ما يُفيد أنَّ هناك خيطا ناظما، بين العملين، ويوحي بأننا إزاء كتابة أدبية تتحرك داخل إطار مُحدَّد سلفا، وتتوفر على خيط ناظم لمشروع أدبي واضح المعالم.
من ذلك أننا نعثر على شخصيات من عينة واحدة، هي هذه الفئات المهمَّشة، أو «المحيطية»، بتعبير أصح، التي تحتل موقعا في المجتمع المغربي، بعيدا عن نظيرتها من الفئات المركزية التي تمتلك زمام أمور تسيير البلاد، اقتصاديا وسياسيا، أو التي تنعم بالغنى والثراء، مع ربط وضع هذه الشريحة «المحيطية»، بسياق أكبر، وهو العلاقة بين بلدان شمال المعمور وجنوبه.
و«الجديد» في نص «آمنة» هو جنس الكتابة، إذ أخذ العمل شكل مسرحية أو دراما لتشخيص المضمون وعرضه أمام المتلقي.
خلاصة هذا المدخل أننا:

1 )إزاء كتابة تُمنَحُ الأولوية فيها للقضية أو الموضوع الأدبي، وليسَ لشكل الكتابة أو للجنس الأدبي، ما يتيح افتراض أنَّ الكاتبة حتى ولو أبدعت في أنواع أخرى، كالشعر، فالإبداع عندها سيمتح من المصدر الآنف نفسه، وسيعبر عن القضية نفسها.
2 )أننا أيضا أمام كتابة يحضر فيها جانبان متوازيان: وظيفة إخبارية – إطلاعية، بجانب أو بأكثر من جوانب فئات معينة داخل المجتمع، ثم وظيفة التعاطف مع هذه الفئات، وأحيانا حشد لدعم لها.
3 )لعل الجديد هنا، كما سنرى، هو التأصيل لإحداث تغيير في المجتمع، يهم العلاقة بين الجنسين.

إطلالة على المسرحية:
مسرحية «آمنة» عملٌ اعتمد على نواة، هي حكاية بسيطة، تمَّ صياغها في قالب درامي.
الحكاية يمكن تلخيصها كالتالي:
كانت إحدى القرى الصحراوية في المغرب، باعتباره أحد بلدان الجنوب، تعيشُ في أمن وسلم وطمأنينة، لكن جراء جشع بلدان الشمال وطمعها في الاستحواذ على خيرات الجنوب وممتلكاته، وفي مقدمتها النفط، وجراء احتقارها لسكانه، فقد أرسلت جنودها، فاحتلوا الأراضي وسلبوا الممتلكات ونهبوا الخيرات، وداسوا الأعراض، ولم يترددوا في اغتصاب النساء، لكن حبَّ سكان الجنوب لوطنهم، رجالا ونساء، جعلهم يتصدون ببطولة نادرة للمستعمر، رغم التفاوت الهائل بين الطرفين في العدد والعتاد، فجاهدوا وقاوموا إلى نالوا الاستقلال.
داخل هذه الحكاية الكبرى، إن جاز التعبير، تمَّ تبئير مشهد الاغتصاب من خلال عرض قصة إحدى نساء القرية، واسمها آمنة (ولا تخفى هنا رمزية الاسم، حيثُ يدل على الأمن والأمان)، وقعت ضحية اعتداء جنسي من لدن جماعة من جنود الاحتلال، وذلك بعرض تفاصيل الاغتصاب، وما ترتب عنه من تحول لهذا الحدث المفرد إلى شأن جماعي، حيثُ اجتمع أفراد القرية، وانهمكوا في التخطيط للانتقام من الجنود بقتلهم، وهو ما تحقق في اللوحة الأخيرة من هذا العمل الذي يتألف من:
– مشهدين متفاوتي عدد اللوحات، حيث يشتمل الأول على أربع لوحات فيما يتألف الثاني من ست لوحات؛
– لوحات متفاوتة بدورها، من حيثُ الطول، حيث أقصرها، هي اللوحات 1، و7 و10؛ وهي تصويرية، تخيم عليها أجواء شاعرية «غنائية» وحماسية، ويغيب فيها الحوارُ، ويحضرُ صوت الشاعر أحيانا، فيما تَحضر في باقي اللوحات الشخصيات والحركة والحوار، وغيرها من مكونات العمل الدرامي.
على أنَّ أقوى لوحات هذا العمل، من حيث حضور الحوار، والحركة، هي اللوحة 3، التي يتم فيها تجسيد فعلَ الاغتصاب الذي تقع ضحيته البطلة على يد جنود الاحتلال الفرنسي، ليلا، وهم سُكارى، مستغلين غياب عبد الجبار الذي لا يخفى إيحاء الاسم ورمزيته، إذ يحيل إلى حقل دلالي يفيد القوة والبأس؛ فهو عبدٌ لـ «الجبار». والجبار اسمٌ يقترنُ بالخالق، إذ هو أحد أسماء الله الحسنى، ومعناه هو:
«الذي ينفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل واحد ولا تنفذ فيه مشيئة أحد الذي لا يخرج أحد من قبضته وتقصر الأيدي دون حمى حضرته، فالجبار المطلق هو الله سبحانه وتعالى فإنه يجبر كل أحد ولا يجبره أحد…»(1).
كما قد يُسمَّى به الشخص، فيفيد المعنى التالي:
«الجبار من العباد من ارتفع عن الأتباع ونال درجة الاستتباع وتفرد بعلو رتبته بحيث يجبر الخلق بهيئته وصورته على الاقتداء به ومتابعته في سمته وسيرته فيفيد الخلق ولا يستفيد ويؤثر ولا يتأثر ويستتبع ولا يتبع…»(2).
ومن خواصه: «الحفظ من ظلم الجبابرة، والمعتدين في السفر والإقامة»(3).
وعبد الجبار هذا تتعدد نعوته في المسرحية، إذ تارة يُنعَتُ برفيق آمنة، وتارة أخرى بعاشقها، وثالثة بصاحبها.
هذا المشهد العنيف (اللوحة 3)، تقابلهُ اللوحة الأخيرة في المسرحية (رقم 10)، بمعنى أنه الحدث الذي سيَحُدِّدُ تطور أفعال المسرحية لتصل إلى النهاية متمثلة انتقام الأهالي من جنود الاستعمار الذي تُجسِّدُه اللوحة 10، التي تخيم عليها أجواء نشوة النصر، من خلال زغاريد نساء القرية، على إثر قتل مقاومين، من سكان القرية ملثمين، من بينهم عبد الجبار، لجنديين فرنسيين كانا من بين مغتصبي آمنة سابقا، فيما يرمز تبعثر أشياء الكوخ في مسرح العملية، وهو بيت آمنة، إلى ضراوة المعارك والتضحيات الجسيمة التي أثمرت الحصول على الاستقلال، ويرمز وقت تنفيذ العملية، وهو الفجر، إلى بشائر الاستقلال التي قد تكون جاءت من المناطق المسماة إبان الاستعمار، وبعده، بـ «المغرب غير النافع».
مما سبق، يستخلص أننا إزاء مسرحية، يمكن اعتبارها تاريخية، ولكن الهدف من إعادة تشخيص واقعة أو وقائع جرت في الماضي، يتجاوز هنا مجرد التذكير بما حدث سابقا والتغني به إلى بعث رسائل، من بينها:
– تجذر المساواة بين الجنسين في بعض المناطق والفئات التقليدية المغربية، ما يُمكن أن يُعطي سندا لدعوات المساواة التي تصادف حاليا مقاومة شديدة من لدن بعض الأوساط التقليدية الدينية أساسا.
– استقلالُ المغرب، الذي يؤول في نهاية المطاف إلى صد الجنوب لأطماع الشمال، لم يكن ثمرة كفاح حضري صرف، بل هو نتاج تضحيات جسيمة شاركت فيها سائر المناطق المغربية والشرائح الاجتماعية، بما فيها الصحراوية؛
وعند هتين النقطين، ستقف الورقة الحالية دون أن تتجاوز ذلك إلى إجراء قراءة فنية للنص المسرحي التي تتم عادة من منظورين:
أ) تحليل بناء النص، أي كتابته وشعريته؛
ب) دراسة إخراجه (أو إخراجاته) المرتبطـ(ة) بعملية العرض(4).
الفصل بين الجنسين وقضية الشرف
إذا كانت أحداث المسرحية تدور في مجتمع تقليدي، فقد تبين من خلال العديد من الدراسات أن المجتمع التقليدي المغاربي، وضمنه المغربي، يتحدد بـ «إطار هو الفصل بين الجنسين، وبنية هي النسب الخطي الأبوي، ونمطا في الممارسة هو السلطة، ثم إوالية لإعادة الإنتاج هي النقل (أو الإيصال) الثقافي»(5).
سيكون من باب التعسف البحث عن مقابل لسائر هذه المكونات في المسرحية، إذ ليست مهمة الأديب هي تقديم وصف ضاف لمجتمع الكتابة. فهو مبدعٌ وليس عالم اجتماع، بيد أن من النصوص الأدبية ما يُقدَّم، وبشكل عفوي، مَا يقتضي جُهدا خاصا من لدن الباحث الاجتماعي، وتقنيات بحث مُحدَّدة، وذلك إما بالتضمين التلقائي، على غرار ما نجد في روايات مُدن الملح لعبد الرحمن منيف أو جنوب الروح لمحمد الأشعري(6) أو جيرترود لحسن نجمي(7)، على سبيل المثال، أو باستهداف فعل أو تغيير اجتماعيين. وبالفعل، فبعرض المسرحية الحالية على الإطار السابق، يتضحُ أنَّها، تتضمن أحد المكونات الآنفة، وهي «الفصل بين الجنسين» التي جاءت في هذا العمل-المنتوج التخييلي مختلفة عما هو كائنٌ فعلا في الواقع.
1. الفصل بين الجنسين:
يعتبر الفصل بين الجنسين عنصرا مكونا لكل عائلة، بل تكاد الدراسات المنجزة حول المجتمعات التقليدية المغاربية، وضمنها المغرب، تجمعُ على اعتباره عنصرا مهيكلا للمجتمع، إذ على التقابل الأولي (ذكر – أنثى) تٌبنى سلسلة من التقابلات الاجتماعية: مثل (خارج – داخل)، (فضاء عمومي – فضاء خصوصي)، الخ.، حيث يُحفظ الخارج العمومي للذكور فيما يُحفظ الداخل والخصوصي للإناث(8)، ويُمنَع اختلاط الجنسين ابتداء من سن معينة…
مقابل هذا الوضع، تعرض المسرحية جوا مختلفا، إذ يلحق عبد الجبار برفاق الكفاح، بعيد اغتصاب آمنة، مرفوقا بها، ما يفيدُ أنَّ تلويث الشرف وإن حصل، فإنَّ المرأة تمَّ تنزيهها عن أي مسؤولية عنه، وإن بشكل غير مباشر اعتبارا لكونها أنثى على نحو ما هو معتاد في العديد من المجتمعات العربية، فيَحضُر الاثنان تخطيط الجماعة للانتقام من الجنود.
في الإطار نفسه، الشكل الوحيد الذي يُعترف به للعلاقة بين الرجل والمرأة هو رابط الزواج، ومن ثمة إقصاء كل علاقة خارج هذه الصلة، وعدم الاعتراف بها، وإدراجها ضمن ما هو «غير شرعي»، وبالتالي يستوجب العقابَ. إلا أننا مقابل هذا الوضع، نجد في المسرحية أشكالا من العلاقات، حيث تنقسم النساء إلى «حبيبات»، و«نساء» (الأقارب الإناث: أخوات، عمات، خالات، الخ.)، و«عشيقات»، ثم أخيرا «زوجات». يقول عبد الجبار:
«هم يمزقون ستارنا ويبعثرون أغراضنا، ويستبيحون حبيبات قلوبنا، نساءنا، عشيقاتنا، وزوجاتنا.. لن نستريح حتى نبني الوطن الذي نريد، أنا ابن الجبل الآتي من عزة النفس والكرامة، لن أرضى بكل هذا الخواء، أمام استشراء الظلم والإهانة بيننا. لن أرضى» (اللوحة: 5).
وتقدم اللوحة 04 مناجاة عاشقة بين الاثنين، لا يتضح فيها أن العلاقة بين الاثنين تتم خارج مؤسسة الزواج فحسب، بل وأنها كانت بمباركة من جارة أمينة. أكثر من ذلك كانت حتى بعلم والدتها التي تكلفت بإعداد لوازم زينة ابنتها كي تلتقي بحبيبها:
«- عبد الجبار: آه لو تدرين، بما أحس لقد جئت من الجبل, لأشكو غربتي و ظلمي وأروي عطشي من روحك التي تمتد داخلي لأبكي بين يديك وأورثي وطني جئتك لأختبئ في عينيك في قلبك لأزيل الأغلال الموجودة حول عنقي , لقد نزلت من الجبل إلى القرية والألم دواخلي باحثا عن مجد لأرتوي من عشقك (…)
– آمنة: وأنا كذلك كنت احلم بلحظة لقاء هاته بارتواء بعشق أذوب به في عينيك وأنا بين ذراعيك ملتصقة بجسدك، أذوب فيك، أهرب فيك إليك، أبوح بآلامي وجنوني وبأحزاني، وأخلد فيك كامرأتك، كحلمك، كأرضك، كجبلك، لأعيش بدواخلك بسلام تلك الليلة تهيأت غسلت جسدي في بيت جارتي وضعت الحناء والقرنفل على شعري الأسود وسكبت الباقي على جسدي قالت جارتي أريحي البطل من عناء السهر والجهاد من اجلنا ومن أجل قريتنا المخنوقة المحاصرة, كم كنت جميلة تلك الليلة وكان جسدي كطفلة زاهية و كجبل أبيض وكليل قمري, كحلت عيني من الخليط الأسود الذي أعدته أمي و كانت شفتاي عطشى وجبيني كقبلة حبيبي…» (اللوحة :4)
2. مسألة الشرف:
إذا كان الشرف شأن رُجولي، فنقطة ضعفه تقع في جانب النساء، إذ لا تعترف المرأة للرجل بالشرف إلا بقدر ما تعترف له به جماعة الرجال من خلال ما يُبديه من بطولة في المعارك، مثلا، ومن خلال تحكمه في السلوك الجنسي لنسائه (أم، أخوات، بنات، الخ.) (9).
وعبد الجبار، في المسرحية، يتصف بالبطولة، إذ هو قائد مقاومة، وتتعرض رفيقته «آمنة» للاغتصاب، لكن ذلك لا يلوث شرفه، في عيون رفاقه في الكفاح، حيث سيواصلون احترامه والحرص على حياته، وطاعة أوامره:
«- الحارس: سيدي لقد وصل
– الممثل 1: هل هو وحده؟
– الحارس: الرفاق يقولون إن وضعه آمن، وأن لا أحد يتعقب…
– الممثل1: جيد، أدخلوه من الباب الخلفي» (اللوحة: 5)
والخلاصة أنّ بعضُ مكونات النسق التقليدي، كالفصل بين الجنسين، ومنع إقامة علاقة خارج مؤسسة الزواج، وربط الشرف بالسلوك الجنسي للنساء، قد تمَّ انتهاكها في المسرحية لفائدة قيم أخرى، يحتل فيها حب الوطن، المرتبة الأولى، ويصير الشرف والكرامة نابعين في المقام الأول من العمل المؤدي إلى التحرر من قبضة الاستعمار، كما يصير الحبُّ والعشق مُسخَّرين لخدمة القضية ذاتها.
مسألة العلاقة شمال – جنوب (أو شرق – غرب) أو المتخيل المتبادل:
يمكن إدراج العمل الحالي في خط عدد من الأعمال الروائية العربية التي تناولت علاقة الشرق بالغرب، مثل روايات عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، والحي اللاتيني ليوسف إدريس، وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، والأشجار واغتيال مرزوق لعبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا، وغيرها.
بيد أنه مقابل تقديم الشرق باعتباره «فحولة سمراء» في مقابل غرب هو «أنوثة شقراء»، حيث يلعب الرجل الشرقي دور الذكورة والفحولة، فيما يُمنح للغرب دور الأنوثة المحتاجة إلى خصب مفقود يُجَسِّدُه الشرقي(10)، ومقابل الديك الشرقي المحشو بالفيتامينات، كما ورد في أحد الأعمال التي خصها جورج طرابيشي بتحليل في كتابه «شرق وغرب. رجولة وأنوثة»(11)…، مقابل هذا النوع من الصور، تقدم لنا المسرحية الحالية صورة معكوسة تماما، إذ يصير الشمالُ أو الغربُ، ممثلا في عساكر فرنسيين، هو الذي يتقمَّصُ دور الفحولة، فيغتصبُ جنودٌ من بلد الديك نساء القرية، وتصير نساء الجنوب مطفأة لحرائق رغبات رجال الشمال.
وهذه النقطة تتقاطع مع الراهنية، إذ كلنا يعلم حكاية برودة العلاقة المغربية – الفرنسية مؤخرا، جراء تشبيه أحد الديبلوماسيين الفرنسيين للمغرب «بالعشيقة التي ننامُ معها، لكنْ لا قدرة لنا على تركها»(12).
هذه العلاقة، تؤثت في المسرحية بسلسلة تقابلات (جنوب-شمال)، حيث يعبر أحد الجنود عن استيهاماته إزاء آمنة، إذ يقول الجنود:
«- الجندي1: هذه البدوية تثير شيئا في داخلي
– الجندي3: (ضاحكا) أيها المتوحش هي في جميع الأحوال لا تضع على جسدها عطرك الباريسي المفضل.
– الجندي2: (ملتصقا بالمرأة) رائحة القرنفل والحناء الشرقية تفوح منها.» (اللوحة: (3
«- الجندي (مضيفا): أينك يا قطعة من جبن أبيض، أريد أن أذيبك في قبلاتي الشمالية الساخنة، أيتها الجنوبية الحارقة، أينك، صدقيني هذه الليلة سأعجبك».
(…)
-» الجندي (يضيف): غدا سآخذك إلى شوارعي الشمالية الجميلة، سأزيل جلبابك الأسود، وسألبسك التنورة القصيرة، ستكونين أميرتي المطيعة، سأقلم أظافرك الحادة، وسأجعل جارتي تضع محلها أظافر اصطناعية بيضاء من صنع ماتيلدي الشهير بتجميل العارضات…سأجعل منك عارضتي المفضلة… آه يا كم ستبدين جميلة، وأنت نصف عارية، مفاتنك الجنوبية لا يمكن أن تبرز إلا في لمسات الشمال المبهر، المحتوي، العالي، المقدس…» (اللوحة: 9)

خلاصة وتنويه
والخلاصة أننا أمام عمل يستثمر حدثا تاريخيا، ليس من أجل تمجيد لحظة تاريخية والتغني بها كما لو كان التاريخ قد توقف فيها، بل سعيا إلى تأصيل تحديث المجتمع الراهن، عبر إيجاد جذور محلية لبعض مظاهر هذا التحديث، لعلها هنا المساواة بين الجنسين، وهو سعي سبق وأن قام به بعض الباحثين على صعيد آخر، مثل فاطمة المرنيسي، من خلال نشرها لحكاية «كيد الرجال وكيد النساء»(13)، لـ «تبرهن على أن الرفض النسائي لتفوق الرجال موجود في ثقافتنا، أي أنه «لم يفد من باريس»»(14)
ختاما، يجب التنويه إلى أنّ إمكانيات تأويل العمل الحالي، خلافا للنص المكتوب في أنواع أدبية أخرى، كالرواية أو القصة على سبيل المثال، ستظل مفتوحة ومتعددة بسياقات العرض وتواريخه ونوعية المشاهدين: فعلى سبيل المثال، إذ قدِّم في خشبة فرنسية، وشاهده فرنسيون، فسيستخلصون معاني قد تختلف تماما عن تلك التي سيخرج بها مشاهدوه من سكان حاضرة مغربية، كالرباط، مثلا، وفي يوم محدَّد من أيام السنة كيوم 08 مارس الذي يخلَّد فيه عيد المرأة. وكذلك الأمر، لو عُرض في مدينة مغربية في يوم من سائر أيام السنة أو إذا عُرضَ في قرية مغربية صحراوية.
—————
هوامــش

(*) ألقيت في أشغال الاحتفاء التكريمي ببديعة الراضي، بالمجمع الثقافي محمد حجي، سلا الجديدة، يوم 19/03/2014
(1) محمد بن محمد الغزالي أبو حامد، المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، تحقيق : بسام عبد الوهاب الجابي، قبرص، الناشر: الجفان والجابي – قبرص، الطبعة الأولى ، 1407 – 1987، ص. 74. متوفر في شبكة الأنترت بصيغ عديدة، اعتمدنا منها المنشور بصيغة وورد (الثانية في القائمة):
http://www.al-mostafa.info/data/arabic/depot/gan.php?file=000150-www.al-mostafa.com.pdf
http://www.dahsha.com/uploads/maqasd-asna-ghazali.doc
http://www.daraleman.org/forum/uploads/2006-07-26_010749_MaqsadAsnaGhazali.rar
(2) نفسه، الصفحة نفسها.
(3) مختصر المقصد الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للشيخ أحمد بن أحمد البرنسي المغربي المشهور ب (زروق) نزيل مصراتة والمتوفى فيها سنة 899هـ، اختصار: نبيل معين عسَّاف، متوفر في الشبكة بالدخول إلى الموقع التالي، وكتابة العنوان في محرك البحث:
http://fr.scribd.com/
(4) Danielle Chaperon, L œuvre dramatique, cours des Méthodes et problèmes, Dpt de Français moderne – Université de Lausanne, 2003-2004 :
http://www.unige.ch/lettres/framo/enseignements/methodes/oeuvredramatique/index.html
(5) جلبير غرانغيوم، «الأب المقلوب واللغة الممنوعة»، ضمن اللغة والسلطة والمجتمع في المغرب العربي، ترجمة محمد أسليـم، الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، 2011، ص. 127.
(6) خصصنا مسألة الإيصال (النقل) الثقافي في رواية جنوب الروح لمحمد الأشعري، منشورة بالعنوان:
http://www.m-aslim.net/site/news.php?action=view&id=79
وكذلك خصصنا مسالة الرابط الاجتماعي في رواية القوس والفراشة، للمؤلف نفسه، منشورة بالعنوان:
http://www.m-aslim.net/site/articles.php?action=view&id=90
(7) أفردنا ورقة لرواية جرترود باعتبارها طقوس عبور وجنائز:، منشورة بالعنوان:
http://www.m-aslim.net/site/articles.php?action=view&id=91
(8) يرَاجع، في هذا الصدد، على سبيل المثال:
– Germaine Tillon, Le Harem et les cousins, Paris, Le Seuil, 1966
أو ترجمته العربية: جرمين تيليون، الحريم وأبناء العم. تاريخ النساء في مجتمعات المتوسط، ترجمة عز الدين الخطاب وإدريس كثير، بيروت، دار الساقي، 2000. متوفر في شبكة الأنترنت، ويمكن تنزيله من روابط عديدة، منها على سبيل المثال:

http://books.ibtesama.com/dldgyf85611.pdf.html

http://www.4shared.com/office/t34RIJu4ba/___-___1_.html

– Fatima Mernissi, Sex, Idéologie, Islam, Edition marocaine faite à partir de la

traduction des Editions Tierce, 1985.

أو ترجمته العربية: فاطمة المرنيسي، ما وراء الحجاب، الجنس كهندسة اجتماعية، ترجمة: فاطمة الزهراء أزرويل، الدار البيضاء، الفنك – المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، 2005. متوفر في شبكة الأنترنت، ويمكن تنزيله من الرابط:

https://docs.google.com/file/d/0B5QKmqGZCzZtWXRPdGRLQlJ2b3c/preview?pli=1

(9) جلبير غرنغيوم، الأدب المقلوب واللغة الممنوعة، م. س.، ص. 128، وكذلك: فاطمة المرنيسي، ما وراء الحجاب. الجنس كهندسة اجتماعية، م.س.
(10) يُنظر، في هذا الصدد: جورج طرابيشي، شرق وغرب. رجولة وأنوثة. دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1977، والرابعة 1997.
(11) ورد في قصة السنفونية الناقصة لصباح محيي الدين، والتي خصص لها جورج طرابشي فصلا من كتابه السابق (صص. 113-123)، ما يلي: «كنتُ في ذلك العهد أدرس في جامعة السوربون، أو هكذا كان يظن والدي. وفاته – رحمه الله – أن إرسال شاب في العشرين إلى باريس، كمن يطلق ديكا كثير الفيتامينات في مزرعة تعج بالدجاجات الجميلة»، عن المرجع نفسه، ص. 114.
(12) هشام تسمارت، صحف فرنسيَّة: “البرودة” تجتاح العلاقات بين الرباط وباريس، هسبريس، 24 فبراير 2014:
http://www.hespress.com/politique/143701.html
(13) حكاية جمعتها فاطمة المرنيسي، ونشرتها في عام 1983، مرفوقة برسومات للفنان صلادي.
(14) جلبير غرانغيوم، «الأب المقلوب واللغة الممنوعة»، ضمن م. س.، ص. 133.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الخميس 20-03-2014 01:08 مساء

Breaking News