Notice: Function _load_textdomain_just_in_time was called incorrectly. Translation loading for the all-in-one-wp-security-and-firewall domain was triggered too early. This is usually an indicator for some code in the plugin or theme running too early. Translations should be loaded at the init action or later. Please see Debugging in WordPress for more information. (This message was added in version 6.7.0.) in /home/aslim/public_html/wp-includes/functions.php on line 6114
متخيل الثقافة الشعبية أم الثقافة الشعبية باعتبارها متخيَّلا؟ – محمد أسليـم

متخيل الثقافة الشعبية أم الثقافة الشعبية باعتبارها متخيَّلا؟

756 views
متخيل الثقافة الشعبية أم الثقافة الشعبية باعتبارها متخيَّلا؟

موضوع الصفحات الحالية تشَكُّل الخطاب حول الثقافة الشَّعبية، من خلال فحص ما تدُلُّ عليه مصطلحات «ثقافة» و«شعب» و«متخيل»، وذلك على ثلاث مراحل: في الأولى سنثير مسألة المفارقة التي تطبع الخطاب حول الثَّقافة الشعبية، وفي الثانية سنبيِّنُ أن هذا الخطاب يتكئ على إرث مزدوج: أحدهما داخل المنشأ (endogène)، والثاني خارجيّه (exogène)، وأن الثقافة الشعبية تشكِّل حقل نفاية خطابٍ مَّا يتشكَّلُ وفق إواليات محدَّدة. أما في المرحلة الأخيرة، فسيتيح عرضُ الدَّلالة الاشتقاقية لكلمة «شعب» على بعض معطيات الأنثروبولوجيا والتحليل النَّفسي الوقوفَ على الجانب الإشكالي في الحديث عن متخيَّل الثقافة الشَّعبية. ونحن لا نسعى بهذه المداخلة إلى تقديم حلول لكافة الأسئلة التي تطرحها الثقافة الشَّعبية بقدر ما نهدف إلى صياغة إشكاليات وطرح تساؤلات من شأنها أن تسلط بعض الضوء على موضوع هذه الشعبية.

1. الثقافة الشَّعبيـة وخطاب المفارقـة:
لا يمكن للخطاب حول الثقافة الشعبية إلا أن يكون مفارِقا، بمعنى أنه – لكي يتأسس – يعمَدُ إلى انتزاع الكلمةَ ممن لا يكَفُّ عن الكلام، لكن دون أن يقول أبدا لماذا يقول ما يقوله ولا كيف يقول ما يقوله، وذلك [«الصَّمتْ»] ربما لا يعود إلى عجزٍ ما بقدر ما يرجع لكون الثقافة الشَّعبية متى فعَلَتْ ذلك جازَفَتْ بفقدان هويتها والتحوُّل إلى آخر، إلى ما يُسَمَّى بـ «الثقافة العالِمَة».
حقا، ليس هذا الاختلاف في حضور ما يُسَمَّى بـ «الميتالُغَة» في الأولى وغيابه في الثانية، هو الفرق الوحيد الموجود بين الثقافتين. لكن لنسلِّم به مؤقتا كي نتمكَّن من التَّساؤل: هل يعني احتكارُ الثقافة العالِمَة الخطابَ حول الثقافة الشَّعبية أنَّ العلاقة بين الإثنتين علاقة عدم تكافؤ تهيمن فيها الأولى على الثانية وأن «الحديث عن الثقافة الشعبية لا يمكن أن يكون إلا سياسيا»؟ (ع. الديالمي، 1989: 80) كيف يتشكَّل الخطاب حول الثَّقافة الشَّعبية؟ عندما نصوغ خطابا حول هذه الثقافة، فإننا (الذَّات) نعمَدُ إلى وضع مسافة بيننا وبينها (الموضوع)، لكن إلى أي حدٍّ نكون متأكدين من أن تلك المسافة قائمة فعلا، وبالقدر الذي نتصوَّره؟ ثم، إذا سلَّمنا بأن المتخيَّل «ليس بشيء آخر عدا تلك المسافة التي يتشكَّل ويَتَقَولَبُ فيها تمثُّل شيء ما من خلال الحاجات الغريزية للذات، وتُفسّر فيها تمثلات الذات بتكيُّفها المُسبَق مع محيط موضوعي» (ج. ديرلاون، 1984: 38)، متى سلمنا بذلك فما الحاجات التي تتدخَّل في عملية التمثل هذه لتُشكِّل وتقولب تمثل الثقافة الشَّعبية؟ وما التَّكيُّفات التي تفسِّر هذا التَّعديل الذي يلحق بتصور الثقافة الشَّعبية؟

2. الخطاب حول الثَّقافة الشَّعبيـة؛ إرثٌ مزدوج:
خلافا للاعتقاد الذي يرى أن الاهتمام بالثَّقافة الشَّعبيـة إرث ينحدر من الإثنولوجيا الغربية، فقد كانت هذه الظاهرة – ولا زالت – تشكل مجالا لاشتغال التقليد الإسلامي الذي يُمَيِّزُ داخل المجتمع المُسلِم بين فئتين: فئة العامَّة التي تتألف من البدو والشَّرائح الدُّنيا من سُكَّان الحَضَر، وفئة الخاصَّة التي تتكوَّن من العُلماء ومن السياسيين والمُتَعَلِّمين بهذا القدر أو ذاك. ونظرا لأن الفئة الأولى تتسم بـ «الجهل» والتَّمسُّك بالمعتقدات والممارسات ما قبل الإسلامية، فإنها كانت – ولا زالت – تشكِّلُ خطرا دائما على الإسلام لكونها تجعل الأسْلَمَة عمليةً غير مُكتَملة يجب مواصلتها على الدَّوام. ومن هنا محاربة الإسلام الأرتذكسي للبدَع والخرافات والسِّحر، الخ.
باعتماد معيار واحد، هو الدِّين، سيُنعَتُ بالشَّعبي إذنْ كل ما لا يطابق ضوابط الإسلام الرَّسْمِي، أي كل ما يدخله للفقهاء في مجال إبليس، على حدّ تعبير الإمام الغزالي، مثلا، عندما يقول: «كل شيء سوى الله تعالى وسوى ما يتعلق به فيجوز أيضا أن يكون مجالا للشيطان (الغزالي، 3: 28)، أو ابن قيم الجوزية عندما يوكد أن «كل حال خرج صاحبه عن حكم الكتاب وما جاء به الرسول فهو شيطاني كائنا ما كان» (ابن قيم الجوزية، 1975: 266). وباختصار، فإن الشَّعبي في هذا المستوى هو فعل تسمية صادِرٍ عن رجُل الدِّين تُجاه كل ما يعتبره منحرفا عن العقيدة، أي تجاه كل ما ينتهك قانون الإسلام أو لا يذعن له، تجاه كل ما ينصت لصوت الرَّغبَة.
إن هذه الرَّقابة الدينية مازالت قائمة اليوم، لكنَّها تعزَّزَت برقابة أخرى يمكن نعتها بـ «رقابة الحَداثَة» الصَّادرة عن مُدَبِّري السياسة اللغوية والمثقفين على السَّواء. فبخصوص هؤلاء، لاحظَ أحمد بوكوس (1977: 361) أن: «المثقفين الوطنيين المتشبعين بالثقافة الكلاسيكية (…) يزدرون الفنون الشَّعبية باعتبارها فنونا “بدائية” (…) أما الأنتلجنتسيا المتنوِّرَة فتعتبرها تجليا لثقافة منحطَّة من شأنها أن تغلَّنا إلى اللاعقلانية والتَّقهقُر إلى الوراء».
ونظرا لكون نظام الحكم في المغرب وريثا في جانبه العصري – شأنه في ذلك شأن باقي بلدان المغرب العربي – فهو لا يسعى إلى التَّحكُّم في البنيات الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل يسعى أيضا إلى فرضِ – وبطريقة مُمَنهَجَة – لغة معيَّنة وطريقة مُحَدَّدة في التفكير وفي قول الأشياء. ووضع المغرب الرَّاهن من هذا الجانب لا يخلو من شَبهٍ مع وضع فرنسا على عهد الجُمهورية الثالثة، حيث اشتملتْ فيها عملية التَّوحيد اللغوي، من خلال نشر النظام التعليمي وتعميمه، على ثلاث جوانب أساسية هي:
«- إجراء توحيد لغوي لتمكين القاعدة من فهم خطاب الحكم المركزي
– الرَّفع من شأن ثقافة مركزية مع الحطّ من قيمة الثقافة الجهوية باعتبارها ثقافات لازالت في طور الطَّبيعية.
– منح اللغة دورا في ترميز الوحدة الوطنية» (ج. غرانغيوم: 1983: 38).
والوضع اللغوي في المغرب الحالي يتَّسم بالازدواجية والتَّعدُّد في آن واحد، إذ يمكن التَّمييز فيه بين:
– مجموعة من اللهجات: تشكل اللغة الأم للفرد، إذ بها تتم تنشئته اجتماعيا. وتنقسم إلى قسمين:
– اللغة الأمازيغية بتنويعاتها الثلاثة: التَّامازيغت، لغة الأطلس الكبير وغربه وسوس والأطلس الصَّغير، ثم التَّاريفيت، لغة منطقة الريف والمغرب الشرقي.
– العربية الدَّارجة بفصائلها الأربع: المدينية، وهي لغة التَّجمُّعات الحَضَرية الكبرى، كالرباط ومكناس ومراكش، والعروبية، وهي اللهجات البدوية التي أدخلتها قبائل بني هِلال وبني معقل إلى السُّهول الأطلسية، والجبلية، وهي لغة شمال المغرب، ثم الحسَّانية أو لغة المناطق الصَّحراوية.
– اللغة العربية الفُصحَى بشقَّيها: العربية المعيارية أو العصرية، ثم العربية الكلاسيكية.
– لغات أجنبية أدخَلها الاستعمار وتواصِل إدخَالَها الدَّولة المغربية العصرية، وهي الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، الخ. والمكانة المتميزة بين سائر هذه اللغات تعود إلى الفرنسية (ج. غرانغيوم، 1983: 11-18؛ أ. بوكوس، 1989؛ م. الغربي، 1993: 13-27).
ويبدو أن التَّوحيد اللغوي في المغرب سائر في اتجاه:
أ – الإبقاء على التَّفاوت القائم بين الكتابة والمُشافَهَة
ب – تكريس العربية الوُسطَى التي تقع بين الفصحى والدَّارجة على حساب العربية الدَّارجة واللغة الأمازيغية على المستوى الشَّفهي.
ج – تكريس العربية المعيارية لغةً للوحدة الوطنية على حساب العربية الكلاسيكية في المستوى الكتابي، وذلك بالسعي إلى جعلها تؤدي كافَّة الوظائف التي كانت تؤديها الفرنسية خلال الحقبة الاستعمارية وفي فجر الاستقلال باعتبارها لغة للحداثة والعَصْرَنَة.
وإذا أخذنا اللغة بالمعنى الذي يجعلها تكاد تُعادِلُ الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي، أي بمعنى يتجاوز كونها أداة للتواصل إلى اعتبارها أداة للوجود (ج. غرانغيوم، 1979)، فإنَّ ما هو شعبي من منظور عملية التَّوحيد اللغوي هذه سيكون هو كل ما يعرقل عملية المَرْكَزَة باعتباره جِهَويا، أو متخلفا، يحيل على مغرب ما قبل الاستعمار، أي مغرب ما قبل الدُّخول إلى الحداثة (الديالمي، م. س.).
لقد صارت رقابة الحداثة هذه تطالُ اليوم حتَّى بعض جوانب الإسلام التي كانت فيما مَضى تشكِّلُ قانونا كي تَكبِتَهَا وتنقلها بذلك من خانة ثقافة الإسلام الرَّسمية إلى خانة الثَّقافة الشَّعبية. وعمليتا الكبت والنقل هتان يتواطؤ فيهما ضمنيا الإسلاميون والحَداثيون على السَّواء. من هذه الزّاَوية سيُنعَتُ بالشَّعبي كل ذلك التَّقليد الكتابي والشَّفوي الذي صيغً انطلاقا من بعض المضامين القرآنية كوصف ملذات الجنَّة مثل:
«خلق الله الحور العين من أصَابع رجليها إلى ركبتيها من الزّعفران ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهَب، ومن عنقها إلى رأسها من الكافور الأبيض، عليها سبعون ألف حلة مثل شقائق النُّعمان، إذا أقبلت يتلألأ وجهها نورا ساطعا كما تتلألأ الشمسُ لأهل الدُّنيا، وإذا أقبلتْ يُرَى كبدها من رقَّة ثيابها وجلدها. في رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك الأذفر ولكل ذؤابة منها وصية ترفع ذيلها وهي تنادي: هذا ثواب الأولياء جزاء بما كانوا يعملون» (القرطبي، 2: 639).
وبعض محتويات السِّيرة النَّبَوية كتلك الأخبار العجائبية التي لم تتردَّد بعض كتب السِّيرَة والمُصَنَّفات التاريخية في إيرادها باعتبارها «حقائق واقعية»، مثل:
«قال الإمام أحمد (…): عدى الذئبُ على شاة فأخذَها فطلبه الرَّاعي فانتزعها منه، فأقعى الذِّئبُ على ذنبه فقال: ألا تتقي الله؟ تنزع مني رزقا ساقه إلي؟ فقال: يا عجبي ذئبٌ يكلِّمني كلام الإنس، فقال الذئب: الا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد «ص» بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق، قال: فأقبل الرَّاعي يسوق غنمه حتَّى دخل المدينة فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله “ص” فأخبره، فأمر سول الله “ص” فنودي الصَّلاة جامعة، ثم خَرَج فقال للراعي: أخبِرهُم، فأخبرَهُم، فقال رسول الله “ص”: صَدق، والذي نفس محمّد بيده لا تقوم السَّاعة حتى يكلم السّباع الإنس، ويكلم الرّجل عذبة سوطه، وشراك نعله، ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده» (ابن إسحاق، 1976: 260، وابن كثير، 1988، ج. 6: 150).
مما سبق يستنتج أن الثقافة الشَّعبية فعل تسمية يُطلق على حقل نفاية يتم تحديده بالإواليات نفسها التي أقصى بها العِلمُ السِّحرَ والنظرياتُ العلمية الجديدة نظيرتَها القديمة (لمزيد من التفاصيل، را. ب. جوريون وج.، 1980).
ورغم صعوبة تحديد طبيعة العلاقة القائمة بين «المثقَّفين» والدَّولة – علما بأن هذا المصطلح هو الأخير يحتاج إلى ضَبطٍ – فإننا سنفترض وجود شريحة مستلقة فكريا اسمها فئة الـ «مثقفين» كي نتساءل: أي شيء يُقصَدُ بالثقافة الشَّعبية لدى هذه الفئة؟ أيمكن اختزالها إلى عملية تَسميةٍ؟ إذا كان الأمر كذلك، فما معنى هذا الاختزال؟ ولماذا يتم؟ ما معنى اتخاذ الثقافة الشَّعبية موضوعا للتأمل؟ ما الفائدة التي تجنيها من هذا التأمل الثقافتان العالِمَة والشَّعبية على حدّ سواء؟
3. الثقافة الشَّعبيـة والمتخيَّل: متخيل الثقافة الشَّعبية أم الثقافة الشَّعبية باعتبارها متخيَّلا؟
في ما وراء الجلاء الظاهري لمعنى كلمة «ثقافة شعبية» ليس تحديد هذا المصطلح بالسُّهولة التي تتوقَّع. وهذه الصعوبة لا تعود إلى الاختلافات الخاصة بتعريف كلمة «ثقافة» – التي تتوفَّر وحدها على أزيد من 160 تعريفا (هرسكوفيتش، 1967)- بقدر ما ترجع إلى الغموض الذي يلف كلمة «شعب». فبين التعريفات التي قُدِّمتْ لـ «الثقافة الشعبية» خلال النَّدوة التي نظَّمها اتحاد كتاب المغرب في هذا الموضوع سنة 1981، يمكن ذكر: «الثقافة الشَّعبية هي الثَّقافة المتواجدة في صفوف الشَّعب، أي في صفوف (…) عامة النَّاس»، أو «هي من الشَّعب وإليه». لكن ما معنى «العامَّة»؟ ما معنى «شعب»؟ أين تقع الحُدود بين العامي أو الشَّعبي وبين ما هو غيرهما؟
لن يخلوَ الفحص الاشتقاقي لمصطلح «شعب» من فائدة، لا سيما أن «معنى الكلمة في اللغة العربية، بقطع النَّظر عن شكل هذه المفردة، لا يمكن فصله عن الجذر الأول الذي يتيح الرُّجوع – أبعد من الحفريات نفسها – إلى التَّمتَمات البدائية للقبيلة» (شلح، 1984: 18-19). وبالعودة إلى لسان العرب نجد صاحبه قد حدَّد كلمة «شعب» بثلاث تعريفات:
– الشَّعب هو القبيلة؛
– هو الحي العظيم يتشعَّب من القبيلة؛
– هو أبو القبائل الذي ينتسبون إليه، أي يجمعهم ويضمُّهم.
لعل أول ما يلفت الانتباه في هذه التعريفات هو هذا التأرجح بين الأم والأب، بين اعتبار القبيلة / الشَّعب أنثى وبين اعتبارها ذكرا. فكيف نفسر هذا التأرجح؟ وما مدى تخلفه أو ترسبه (sa survivance) في فعل تسمية الثقافة الشَّعبية من قِبَل المثقَّفين؟
يفسِّر الأنثروبولوجي المستشرق روبرتون سميث ذلك التَّردُّد بالانتقال الذي قد يكون عرفه المجتمع العربي ما قبل الإسلام من النظام الأمومي إلى النظام الأبوي، إذ يرى أن أسامي القبيلة كانت في فترة سيادة النظام الأول (الأمومي) تطابق الأعضاء الأنثوية؛ ثم انضافت إليها أسماء أعضاء مذكَّرة أثناء الانتقال إلى النظام الثاني (الأبوي). وعليه، يجب أن نفسرَ – حسب روبرتسون دائما – مصطلح «بطن» الذي يعني الآن قبيلة صُغرى باعتباره ذلك الجزء من الجسد الذي نُطلق عليه اسم «بطن» أو «كرش»، ونفهمَ كلمة «حي» التي تعني شعبا باعتبارها «فرْجا» (سوبليه: 1991: 18).
لنقبل بهذا الطَّرح كي نعود إلى التعريف الثاني الذي يقدِّمه صاحب اللسان لكلمة «شعب» ونتساءل: كيف يمكن للشعب أن يكون فرجا؟ بل ما المقصود بكلمة فرج نفسها؟
لقد خصَّصَ المحلل النفساني التونسي فتحي بنسلامَة دراسة متميِّزة لهذه المفردة قصد تفسير ذلك التحوُّل الذي طرأ على كلمة «فرج» داخل اللغة العربية، حيث انتقلت من الدَّلالة على جنس المرأة والرَّجل على حدّ سواء إلى الاقتصار على تعيين عضو المرأة التناسُلي، فأظهر بكيفية مُقنِعةٍ جدا أن ما كان يُقصَد بكلمة «فرج» في اللغة العربية إنما هو بالضَّبط ما يُقصَدُ بمصطلح (Phallus) [=جنسٌ مُطلَقٌ] في لغة التحليل النَّفسي: «ليس الجنس المُطلق (الفلُّوس Phallus) جنسا حقيقيا (un vrai sexe) ولا هو عضو جنسي بيولوجي. إنه صورة لا واعية لمقولةٍ يصعُبُ إدراكها، الانتماء المتبادَل بين المماثل والمفارق (l’identique et le différent)، وبين الذَّات والآخر (le Même et l’Autre) ، في الجنس (النَّوع) البشري والمرجع المطلق. ذلك هو الانفراج المزدوج إذن في موضع الفرج، انفراج يستتبع التفريق (la différenciation) بوصفه مبدأ خالقا ومُميتا (Principe créateur et mortel) (ف. بنسلامة، 1991).
بتبني هذا التفسير يمكن ترجمة مصطلح «الثقافة» على النحو التالي: إنها الثَّقافة المنسوبة إلى الجنس المطلق أو هي الثقافة (الفلُّوسية) إذا قبلنا بالترجمة التي يقترحها المشارقة لكلمة (Phallus)، أي قضيب. لكن هل يمكن الحديث عن ثقافة للجنس المطلق؟
للثقافة أكثر من 160 تعريفا – كما أسلفنا – لكن اقترانها بالجنس المطلق في هذا السياق يقودنا إلى فحص معناها وتشكُّلها من خلال بعض معطيات التحليل النفسي المتمثلة في مرحلة المرآة والأوديب (ج. لاكان، 1966: 89-97، ج.ب.، فاج: 1990: 13-28).
يحتاج الطفل فيما بين 6 أشهر إلى 18 شهرا تجربة تُفضي به إلى التعرُّف على نفسه باعتباره جسدا مُحَدَّدا في المكان، يمكن اختصارها كالتالي:
أ – عندما يشاهد الطفل صورتَه لأول مرَّة في المرآة يعتقد أن الأمر يتعلق بشخص آخر لو وجد واقعي؛
ب – في مرحلة ثانية يكتشف أن الصورة، صورته في المرآة، لا تعدو مجرَّد صورة؛
ج – في مرحلة أخيرة، تقع بين السن 16 و18 شهرا، يكتشف الطفل لأول مرّة أن الأمر يتعلق بصورته هو، فيتماهى معها ليسدَّ بذلك الفراغَ الذي يظل قائما إلى ذلك الحين بين جسده وصورته
وهذه المرحلة الثالثة للمرآة التي يتم فيها ما يُدعَى بالتَّماهي الأوَّلي تُشكِّلُ أيضا أوَّل مرحلة للأوديب، حيث يجتاز الطفل ثلاثة مراحل نختصرها في:
أ – رغبة الطفل في امتلاك الأم؛
ب – اصطدام هذه الرغبة بواقع كون الأم مِلكا للأب، أي بقاعدة منع غشيان المَحَارم، باستحالة تحقُّقها، وحمل الطفل شعورا متعارض وجدانيا تجاه الأب، أي كراهيته ومحبته في آن واحد؛
ج – تماهي الطفل مع الأب، أي قبوله الخصَاءَ بمعنى التَّنازل عن الأم والإذعان لقانون الجماعة، وبالتالي نيل عضوية فيها.
يتضح مما سَبق أن الجنس المطلق استعارة أبوية تحيل على اسم صاحب القانون الذي يفرض نفسَه على الفرد ويُجبره على التماهي معَه والدخول إلى اللغة، باعتبارها عالما رمزيا، كي يحصل على هوية تمكِّنه من نيل اعتراف وعضوية في جماعة ما. أما المتخيَّل فيُحيل على الأم، على الرَّغبة في التماهي معها والتجول إلى مُلحَقٍ بجسدها. غير أن هذه القطيعة في العلاقة الانصهارية بين الفرد والأم لا تتأتَّى للأب إلا إذا اعترفت له الأم بوظيفته الرَّمزية. فبدون هذا الاعتراف لا يذعن المرء للقانون، وبالتالي يقع تحت طائلة قهر الأم ويلازم طور المتخيَّل، يصير ذُهانيا (psychotique) أو مجنونا. وبذلك يبدو أن مصطلحي «ثقافة» و«متخيَّل» وإن كان يتيسَّر – بل يجب – الجمع بينهما نظريا، لأنه لا يمكن فهم أحدهما دون استدعاء الآخر، فإنهما لا يتأتيان للمُعايَنَة إلا باعتبارهما حقلين متباعدين إن لم يكونا مُتنافيين.
لقد كانت هذه المعطيات ضرورية في نظرنا كي نخلص إلى التساؤلات التالية:
إن الدخول إلى اللغة، باعتبارها أداة وُجُود ونظاما مشحونا بالأوامر والممنوعات، أو إلى «الشعب / الحي»، بتعبير ابن منظور، يتم في المغرب باللهجة لدى جميع الشرائح، فأي قانون – أو قوانين – نتماهى معها لاتنزاع مكانة الأب القديم وإحلاله إلى أم، إلى حقل للمتخيَّل؟ هل هذا التَّماهي تمَّ أم ما زال في طور التَّحقُّق؟ أسياقيٌّ هو أم نهائي؟ إذا كان سياقيا فما العوامل التي تتدخَّل لتجعله أمرا ممكنا؟ ما درجة هذا التَّماهي على مستوى المغرب الراهن ككل ثم على مستوى كل فئة من فئاته على حدة؟
كل شيء يؤكد أن ليس القانون الجديد بشيء آخر غير هذه الحداثة التي تفرض نفسها يوما عن يوم باعتبارها نمط حياةٍ كونيّ جديد في مقابل كل الأنماط الماضوية، ومن ثمة فالحديث عن الثقافة الشَّعبية لا ينفصل بدوره عن هذه الإشكالية الكبرى التي تواجه الفكر والمجتمع المغربيين، والعربيين على السَّواء، ونعني بها إشكالية الأصالة والمعاصرة أو الحداثة والتقليد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا صحَّ أن القانون لا يكون قانونا إلا لكونه يستدعي الخرق، أو «يوجد القانون هنا بالضَّبط كي يُنتَهَك» (ج. باطاي، 1957: 72؛ غ. روزولاطو، 1969: 42)، فإن ما نفعله هُنا باتخاذ الثقافة الشعبية موضوعا للتأمل، بمحاولتنا الإحاطة بها استنادا إلى أطر فكرية ومرجعية غريبة عنها، بتلفظنا هذا الكلام الذي هو كلمتنا داخل الآخر أو كلمة الآخر بداخلنا، ما نقوم به بالضَّبط هو انتهاك قانون هذا الآخر الذي يظل في الحالتين معا صورة للذات أمام المرآة.

محمد أسليـم

(مداخلة ألقيت في ندوة «الثقافة الشعبية والمتخيل»، المنظمة بصفرو، سنة 1993، من قبل المجلس البلدي للمدينة والمكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب، ونشرت بمجلة آفاق (اتحاد كتاب المغرب)، ع. 55/1994، صص. 71-79 وفي كتاب، هوامش في السحر، القاهرة، وكالة الصحافة العربية، 2002)
ــــــــــــــ
بيبليوغرافيا
أ – مراجـع:
– ابن إسحاق، سيرة ابن إسحق المسماة بكتاب المبتدأ والمبعث والمغازي، تحقيق وتعليق محمد حميد الله، الرباط، معهد الدراسات للأبحاث والتعريب، 1976.
– ف. بنسلامة، الجن المطلق، مواقف، ع. 64، 1991، ص. 10-29.
– أ. بوكوس، اللغة – الثقافة الأمازيغية، آفاق، ع. 1، 1991.
– ع. الديالمي، القضية السوسيولوجية، نموذج الوطن العربي، البيضاء، إفريقيا الشرق، 1989.
– القرطبي، التذكرة في أحوال الموتى، والآخرة، تحقيق وشرح وتعليق الدكتور السيد الجميلي، بيروت، دار ابن زيدون، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1986، ج. 2.
– ع. د. ابن كثير، البداية والنهاية، تحقيق أ. أبو ملحم، ف. السيد، ع. ن. عطوي، م. ناصر الدين، وع. الستار، بيروت، دار الكتب العلمية، ط. 4، 1988، ج. ج. 6.
– أ. الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت، دار القلم، بدون تاريخ، ج. 3.
ب – الفرنسية:
– Georges Bataille, 1957
L’érotisme, Paris, Minuit.
– Ahmed BOUKOUS, 1977
Langage et culture populaire au Maroc, essai de socio-linguistique, Casablanca, Dâr el Kitâb.
– J. Chelhod, 1984
L’Arabie du Sud, histoire et civilisation, 1, le peuple yéménite et ses racines, Paris, Maisonneuve & larose.
– Gilbert Durant, 1984
Les structures anthropologiques de l’imaginaire, Paris, Bordas.
– E. El Gherbi, 1993
Aménagement linguistique et enseignement du Français au Maroc, enjeux culturels, linguistiques et didactiques, Meknès, la voix de Meknès.
– Gilbert Grandguillaume, 1983
Arabisation et politique linguistique au Maghreb, Paris, Maionneuve et Larose.
– Jean-Baptiste Fages, 1990 (1971)
Comprendre Jacques Lacan, Toulouse, Privat, Psyhiatrie/Psychanalyse.
– M. G. Herscovits, 1967
Les bases de l’anthropologie culturelle, Paris, Payot.
– J. Lacan, 1966
Ecrits, Paris, Edition du Seuil, t. 1.
– J. Soublet, 1991
Le voile du nom, essai sur le nom propre arabe, Paris, PUF.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأحد 02-09-2012 01:32 مساء

Breaking News