في ألف ليلة وليلة لا يُسْتَهَلُّ الحكْيُ بصيغة «كان في قديم الزمان…»، بل يُسْتَهَلُّ بعبارة «حُكِيَ (..) أنه…». في هذا النص لا يرتكز السَّرد على زمن بدئِيٍّ تَامٍّ، وإنما ينهَضُ من الإحالة على الحكي نفسه. يُذكَرُ رهان ألف ليلة وليلة منذ الكلمة الأولى. وهو رهان شروط الحكي ووظيفته: يروي السَّارد ما رُوِيَ له عن حكايةٍ جرَتْ في «قديم الزمان وسالف العصر والأوان…»[2]
وعن آثار هذه الحكاية نفسها يمكننا الإنصات إلى ما حدث فجأة في مدينة ساسان «في جزر الهند والصين»، لأن الألسن والآذان تناقَلَتْهُ من جيل إلى جيل عَبْرَ ما يمكن تسميته بفَنِّ العَلاقة[3]. فعند نزول الليل، يمكن لكلمةٍ ظلَّتْ محظورة طوال النهار أن تُعَبِّرَ عن نفسها وتُتَدَاول. ينفصل الراوي عن الجماعة، وينقل ما سمعَه ذات ليلةٍ لم يكن فيها سوى مستمعٍ واحد بين مستمعين آخرين. يروي بتفصيلٍ ما نُقِلَ إليه دون أن يستطيع الحيلولة بين ذاكرتِه وتأويلِ ما سُمِعَ، بين ذاكرته وعمل التحريف الذي يُقْحِمُ في الدَّليل (Répertoire) الكلاسيكيِّ المشتركِ ذلك التنويعَ الخفيفَ الذي يمثله كل فرد بالنسبة لوحدة النوع البشري .
لا يكون السَّاردُ سارداً إلا إذا جَعَلَ صوتَه من نفسه مثيراً مؤَجِّجاً، وجعل كلِمَتَهُ لا تنقلُ مَتْناً من الحكايات فحسب، بل أكثر من ذلك تُثِيرُ في الآخر الذي يستمع إليها سلطةَ الحكي التي ستجعل منه هو نفسه ليلةً أخرى أمام مستمعٍ آخر هـو الرَّاوي.
وإذا كان توالي عمليات الحكي – التي نقصد بها سلسلةً لا نهائية من الإيصال[4] – يُظْهِرُ زَمَنَ تتابع الأيام والليالي بكل امتداده، فإن هذه الزَّمنية لا تنساب إلا من جرَّاء كونها تعجز عن تحديد بداية العلاقة الأولى، أي تعجزُ عن تسميةِ الرَّاوي الأول. وفي كل حَكْيٍ جديدٍ تتوجَّبُ مهمة إكمال ما تحرِّكُه العلاقة الأولى، وهو ما لا ينتهي فعلا إلا داخل تكرار الحركة الاستهلاليـة.
لقد تولَّد عن النقلِ الكتابيِّ لما ظلَّ إلى تلك اللحظة تقليدا شفهيا ليليا مجموعةٌ عجيبة من الحكايات. فألف ليلة وليلة ليست أنطولوجيا قصصية على شاكلة حكايات بيرُّو [5] أو الإخوة غْرِيم[6]، ذلك أننا لسنا أمام مجرد قصصٍ جُمِعت ونُقِّحَتْ دون أن يربط بينها أي شيء عدا قرار الذين جمعوها متقمصين صور أشخاص آخرين. إن ألف ليلة وليلة حكايةٌ لا يدَّعي أحدٌ أنه مؤلفها. تروجُ طبعات عديدةٌ منها لا يحدِّدُ هويتَهَا إلا مكانُ صدورها )القاهرة، كلكوتا…(. لا يُقدَّم لنا سلسلة متوالية من الحكايات كي نقرأها، وإنما يُعْرَضُ علينا ما حصلَ في توالي الأيام والليالي – وبرواية الحكايات – ليس للمستمعين وللرَّوِايَة فحسب، ولكن أيضا لمدينةٍ بكاملها. والحكايات هنا لا تأخذ شكل وحدات معزولة لكلٍّ منها بداية ونهاية، بل تدخل ضمن مشروع كليٍّ، تنخرط في حكيٍ مُطَوَّل. وهذا الحكي بدأ مسبقاً ووقع قبل أن يحكي لنا الراوي المجهول ما تُتِمُّه كلمة راوِيةٍ وما سيتواصل فيما وراء ألف ليلة وليلة: ذلك أن «الملك شهريار أسرع بإحضار الكتَّاب النجباء من بلاد الإسلام والمؤرخين المشاهير، وأمرهم بتدوين كل ما جرى له مع زوجته شهرزاد، من البداية إلى النهاية […]. ثم نسخ منه نسخا عديدة أمينة، ونشرها في أقطار الأرض كي تكون عبرة للأجيال»[7].
يحرِّكُ ألف ليلة وليلة مشروعٌ واحدٌ. من الأكيد أن مضمون الحكايات هامٌّ، لكن ليس في حدِّ ذاته. ذلك أن فائدة كل حكاية لا تنكشف إلا بالاستماع إليها في علاقتها بسياق الحكي نفسه، كما هو، وكما تحدِّدُه اللحظة التي يفرض فيها هذا السياق نفسَه على الراوية وقد ولَّدَتْهُ، في آن واحدٍ، الحكايةُ السابقةُ والآثارُ التي أنتجهَا الاستماعُ إليها في المستمعين والحاكية على حدٍّ سواء.
والخاصية الثانيةُ لهذا الحكي هيَ أنه لا يمكن مواصلته. ذلك أن تقطيعه ليس تقطيعاً للحكايات، وإنما هو تقطيعٌ أو إقرارٌ لسلسلة النهار والليل المتوالية القاسية. فعندما ينزل الليل يبدأ الحكي، وعندما يبزغ الفجر تتوقف الحكاية بغض النظر عما إذا كانت عقدتها قد حُلَّتْ أم لا. ما يضع حدا للحكي ليس هو نهاية الحكاية، وحْدَهُ النهار يفرض تعليقها، ووحده الموت يمكن حقا أن يوقفها. أما فعالية الحكاية، فتحدَّدُ بسياق جريانها كما بطابع التقطيعات الذي يشملها.
أهميـة السيـاق بالنسبـة للحكـي لنعد إذن إلى سياق ألف ليلة وليلة. إنه سياقٌ معروفٌ كليا ومجهول شبه كليا، في آن واحد.
تبدأ القصة قبل لقاء شهرزاد والملك شهريار بوقت طويل. لا يُرْوَى أنَّ شهـرزاد تحكي، بل يقال لنـا أولاً ما حصل لملك ساسان فغيبه عن حياته الخاصة وتركه بلا نوم، داخل القلق، إلى حد إغراق حياته في كابوس. لقد بدأت الحكايةُ بوقتٍ طويل قبل أن تظهر شهرزاد وتباشر الحكي.
يحكى أنه كان أخوان: أحدهما أكبر يُدعى شهريار، والآخر أصغر يسمى شاه زمان. الأول ملكٌ لساسان، والآخر لسمرقند العجم. وقد فرَّق بينهما موت أبيهما حيث تولى كلاهما الملك على قسم من المملكة. كان كل شيء يسير على ما يرام – فيما يبدو – حتَّى يوم غادر الأصغرُ مملكتَه استجابة لدعوة أخيه الأكبر الذي اشتاق إليه. ولأنه نسيَ الهدية التي كان سيقدمها لأخيه، فقد عاد إلى مملكته فجأة فضبط زوجته وهي تخونه. فاجأها «راقدةً في فراشه معانقةً عبداً أسود من العبيد»، فقتلهما على الفور، وسافر إلى أخيه. غير أنه لم يتمكن من نسيان المصيبة التي ألمَّت به. حجَبَ لونه «غمٌّ زائد» واستمر على تلك الحال إلى أن شاهدَ زوجة أخيه تخونُ زوجها بطريقة بدَتْ له معها بليَتُه «أخفّ وطأة» من مُصَابِ أخيه. فلما عاد أخوه ألحَّ عليه في السؤال عن سبب تغير لونه وانشراح حاله، فانتهى به الأمر إلى أن كشف له مَا رآه. ولم يستطع الملك شهريار تصديق ما حكاه له أخوه إلا بعد أن رأى بأُمِّ عينيه زَوجتَه وهي تخونه. تركته رؤية المشهد مذهولاً، جامداً، لا يقوى على القيام بأي حركة عدا الفرار خارج قصره، خارج المدينة. مرفوقا بأخيهِ، سيرحلُ شهريارُ ضاربا في الأرض مومناً بأنْ «لا حاجةَ» له «بالمُلْكِ» ما لم ينظر «هل جرى لأحد مثله أم لا». وفي شخص عفريتٍ سيجد شهريارُ وأخوه منْ يبحثان عنه. بل، سوف لن يتضح لهما بأنه هو ما كانا يبحثان عنه إلا بعد أن ألحَقَا به مُصَاباً أفظع من مصابهما: ففيما كان العفريت نائما حمَلَتْهُما امرأته على مواقعتها. بعد أن أوقع الأخوان من هو أقوى منهما في ما كانا ضحية له، آنذاك فقط استعادا القدرة على استئناف مزاولتهما للمُلْك. غير أن ذلك لم يحُلْ دونهما ونسيان مصابهما واستعادة طعم الحياة. عاد الإثنان إلى مدينتيهما حيث تقلدا الحكم دون أدنى اكتراث لرعاياهما ولا لمستقبلهما. فطوال ثلاث سنوات، فرَض شهريار أن يأتيَه وزيرُه في كلَّ ليلة بفتاة بكرٍ، فيفتضُّها، ثمَّ يقتلها في الفجر. وقد تصرَّفَ أخوه في ذلك الوقت على النحو نفسه في مدينته، كما تخبرنا بذلك نهاية ألف ليلة وليلة، إلى أن «ضَجَّتِ الناس وهرَبَتْ ببناتها»، وجاء يوم «لم يبق في المدينة بنت تحتملُ الوطء» عدا بنتي الوزير: ابنته الكبرى شهرزاد، وكانت قد بلغت سن الزواج، ثم الصغرى دنيازاد، وكانت على مشارف البلوغ. وفي هذه النقطة من الحكاية فقط، حيث صارت مدينة بأكملها مهددة بالزوال تحت وطأةِ جنونِ مَلِكِها القاتلِ الذي حرمها من كل أمل في البقاء والنماء، في تلك النقطة فقط ظهرت صورةُ من صار اسمها مرادفا لفنِّ الحكي. يُحكى كيف أنه، في ذلك الوقت الذي كَفَّتْ فيه الكلمة نهائيا عن الدَّوران وصارت فيه كلُّ علاقةٍ غير مجدية، استطاعتْ فتاةٌ أن تأخذ الكلمةَ، وتحيي بها شروط علاقة ممكنة، ثم تصير زوجةً وتبقى على قيد الحياة.
وشهرزاد نفسُها هي التي طلبت من أبيها المرعوب أن يزوجها للملك دون أن يثنيها عن ذلك خطرُ مقتلها في فجر الليلة الأولى، لأنها كانت على معرفة بأنه «يجب إطلاقا القيام بذلك!». كانت تعرف – وهي التي يَعْنِي اسمُها ابنة المدينة – أن رهان لقائها بالملك ليس هو فقط إنقاذ حياتها، وحياة أبيها وأختها، وإنما هو اقتلاع المدينة بكاملها من جنون الملك. وذلك بضمان إمكانيةٍ لخلفه، أي إمكانية انحذارِ سلالةٍ منه. بمنح شهرزاد نفسها للملك رَفَعَتْ تحدِّيَيْن: التَّحَدِّي الأبَوِي، وتحدِّي القَدَر. فبعد أن حكى لها هذا الأب حكايةً ناصحا إياها بعدم الدخول في علاقة مع الملك لأنه – على حد قوله -: «بالله عليك لا تخاطري بنفسك أبدا فتموتي»، بعد ذلك أجابتهُ بما مضمونه: «يمكنني أن أنفصل عنك، أنت يا أبي، وأن ألتقي برجل آخر دون أن أموت من جرَّاء ذلك، يمكنني أن أُ غَيِّرَهُ. لشهرزاد الثقة في قوة اللغـة. هي تعرف أن القدرةَ على تحويل المصيبة إلى قدرٍ أمرٌ داخل اللغة يُقِيمُ.
بفم شهرزاد، آخر من تبقى في المدينة من البنات البالغات، سيُسْمِعُ صوتٌ نفسَه. صوتٌ قادرٌ على أن يمنح ثانيةً مواردَ اللُّغة لملكٍ حجَّرَهُ ما ألمَّ به. ستعقبُ سنواتِ التكرار القاتلِ الثَّلاثِ سَنَوَاتٌ ثَلاَثٌ سَيُعيدُ فيها الحكيُ بناءَ المدينة.
والحكيُ الذي ستتعاطى له شهرزاد، ليلةً بعد أخرى، لن يكون مُسْتَمِعُهُ الوحيد إلا الملك. ولئن كانت دنيازاد الأخت الصغرى لشهرزاد حاضرة، فإنها هي التي طالبت به منذ الليلة الأولى باعتباره شرطا مسبقا لفقدان عذريتها. من دنيازاد سيصدر طلبُ حَكْيِ حكايةٍ لـ «قطع سهر الليلة». وكثيرا ما يُنْسَى حُضُور هذا الطرف الثالث مع أن ما تجسده دنيازاد من حث على الحكي هو ما سيوقف لأول مرَّةٍ التكرارَ القاتلَ. ستكون دنيازاد حاضرة في كل ليلة من الليالي الألف الموالية. ستكون حاضرة ليس فقط باعتبارها مستمعة لأختها، بل وكذلك بوصفها شاهدة على لحظات مرح هذه الأخت ولهوها مع شهريار.
لقد ذكَّرنا بالسياق المزودج، السياق الذي يُجْبِرُ على الحكْيِ وسياق الحكي نفسه، لأنه – في آن واحدٍ – معروف جيدا ويُعَادُ نسيانه دائما. ستتحول بِنْتٌ إلى امرأة، فتأخذ الكلمةَ وتُسمِعُ صوتها. لكن هل يتعلق الأمر حقا بصوتها هي؟ ألا يجب، بالأحرى، أن نتساءل: إلى أي شيءٍ تُعِيرُ صوتها؟ إلى من تُعِيرُهُ؟ أي صوتٍ، إذن، يُسمِعُه فَمُ شهرزاد من خلال إثارة «خرافات الملوك القدماء وقصص الشعوب الغابرة؟». سيـ «يُنْزِلُ» صوت الرَّوِاية «السَّكِينَةَ» على الملك. سيُوَلِّدُ فيه نسيانَ إدراكِ مُصَابِهِ باقتلاعه من رؤية مشهدٍ لا يُنْسَى. من أين يستمد هذا الصوت سُلْطتَه، وهي سُلطة العلاقة، سلطة النقل، سلطة الاستذكار، سلطة بِنَاء ذاكرةٍ للمستقبل؟
في ترجمة مردروس Mardrus التي اعتمدناها أساسا، دون أن نغفل الترجمات الأخرى ومختلف الطبعات العربية، تتضح «خيانة المترجم» بالخصوص في كون شهرزاد تحكي دائما آخذة بعين الاعتبار سياق الحكي. فهي لا تقوم بمجرد حكي قصص كيفما اتفق، ووفق أي ترتيب كان، بل هي دائمة الانتباه إلى ما يتولَّدُ في هذا الملك الذي تروي له حكاياتها. يتحدد اختيار الحكايات بإدراكات صغيرة جدا لحركات فِكْرِ الملك. ينتظمُ الحكيُ كحركة طويلة من الذهاب والإياب، تارة تُبعِدُ فيها الحاكيةُ الملك عن مصيبته وتُنسِيه إياها: تبعده وتنسيه ذلك المشهد الذي لم يفلح في الانقلاع منه، وتارة تعيده إلى المشهد نفسه مجازِفَةً بحياتها: ذلك أنه يحدث أحيانا في الصُّبْحِ أن يتذكر الملك مشروعَه الأولي في قتل شهرزاد، فيهدد من جديد قائلا ما مضمونه: «اِحك حكاية وإلا قتلتك». فعل الكلمة عند شهرزاد هو دائما مواجهة مع الموت، وحياتها تتوقف على سداد ما تقوله.
ألف ليلة وليلة علاجٌ عاشق متعدد الرهانات. غير أنه شفاء يختلف عن ذاك الذي تحكيه رواية غراديفا [8] جنسن، لأن الأمر لا يتعلق بوِصَال سعيدٍ. فما هو متعذر الترميم من الجرح داخل ألف ليلة وليلة ليس منفيا تماما، و على امتداد الحكي تحضر الكراهية والعنف، والمـوت، ومعاناة التكرار القاتـل.
يحدث كثيرا )وهذا كلُّه يُنْسَى( أنه لا يُحتفظ من الليالي إلا بحكايات معزولة لا نعرف دائما أنها أجزاء من ألف ليلة وليلة.
فهذا الكتاب قبل أن يكون أنطولوجيا قصص هو قصة إعادة تأسيس مدينة عبر انخراط ثان متفرِّدٍ لملِكِهَا في الجماعـة البشريـة. سيحتاج الأمر فعلا إلى ألف ليلة وليلة كي تَحُلَّ ليلةٌ، كي يَحُلَّ زمنٌ جديدٌ: سيُحْتَاجُ إلى ألف ليلة كي يتوقف الكابوسُ، ويغادر الرعب قلوب رعايا مَلِكٍ يستعيد أخيرا عقله. وكلمة شهرزاد هي التي ستولِّدُ ذلك في الزمن الذي ستحبل فيه وتنجب ثلاثة أبناء من هذا الملك الذي تحكي له.
تدَاخُـلُ الحكايــــات يكمن ثراء هذا النص – ضمن ما يكمن – في كونه عبارة عن بنيةِ تدَاخُل حقيقية. يُحكى لنا أن شهرزاد حَكَتْ حِكاياتٍ كانت قد رُوِيَتْ لها. وداخل هذه الحكايات كانتْ شخصياتٌ أُخَر تحْكِي حكاياتٍ أخرى لشخصيات أخرى، وهكذا ذواليك. ونحن هنا، اليوم، لكي نحكي لكم. نحاول أن نتابع حكْيَ شهرزاد عن كثبٍ. وعندما نقوم بذلك، فإننا نأمل في أن نَسْمَعَ ونسمِعَكم رهانَ هذه الحكاية وما تُعلِّمُنا إياهُ حول سلطة الحكاية، والسلطة السحرية التي تمتلكها الكلمة. وعمَلُنَا بالمقارنة مع ألف ليلة وليلة هو قرارٌ بألاَّ ننطلق من تأويلات اختزالية. كما نرفض – جهد ما استطعنا – إخضاع سَنَنِ هذا النص لعملية تفكيكٍ. إننا نعرض أنفسنا عليه ونخضع لتأثيراته كما خضعت لها شهرزاد ومُسْتَمِعَاهَا. ونظن أنَّ للتأويلِ الذي يمكن أن يُفْهَم داخل محاولةٍ لمواصلةِ الحكْي بإنتاج حكايات جديدة[9] فعالية ذات طبيعة أخرى. لقد قبِلْنَا أن ننساق مع حكْيِ شهرزاد إيَانَا لأننا نرى أن فنَّ العلاقة الذي تملكه هذه المرأة يتضمن من المعرفة أكثر بكثير مما يمكن للعلم أن يتصوره.
إن العَمَلَ الَّذِي تنجزه كلمةُ شهرزاد يُغْرِقُنَا في الارتباك والحيرة. فالعالم الذي تُغْرِقُ فيه الملكَ هو عالمٌ للمتخيل. ونتيجة هذا الإغراق يمكن تسميتها إنتاج الرَّمْزِي. لكن إرادة الفصل بين «السِّجِلَّيْنِ» المتَخيَّل والرَّمزي بطريقة جازمة ويقينية أمرٌ يبدو لنا منطويا على أكثر من مخاطرة. ذلك أن من شأن الانطلاق بهذه الكيفية أن ينطوي على جهل بكون الخط الذي يفصل بين الرمزي والمتخيَّل خيطٌ يشبه مقْسِم المياه، وهو ذلك المكان الذي تختلط فيه المياه دون أن نستطيع تمييز مصدرها بكيفية متيقنة: هل هي لحظة اضطراب تسبق منشأ مجرى جديد؟[10]
ألف ليلة وليلة هي حكايةُ ما يتولَّدُ في قارىء الحكاية. إنها سردٌ يستحود علينا، فيسوقنا داخل الحكْيِ منسيا إيانا أصل هذا الحكي نفسه وسياقه على السواء.
تمتلك شهرزاد فن العلاقة الذي هو فن الفصل المائزِ وفن التقطيع. ففيما تعرَّضَتْ، طيلة ثلاث سنوات، أكثر من ألف بنتٍ للافتضاض والقتل دون أن تستطيع أي واحدة منهن أن تتفرَّد، ستنجح شهرزاد في إدخال تكرار آخر مختلف عن تكرار الجمع اللامُمَيِّـز. حيثُما عجزتْ كل فتاةٍ صارت امرأةً عن التميُّز عن المرأة الخائنة، ]عن زوجة الملك[، ستجعل شهرزاد بسلطة الكلمات من الاختلافات قابلةً للإدراك، ستعيدُ للتفصيل قدرتَه على التمييز. فقد كانت نظرة الملك سجينةَ مشاهدة خيانة زوجته إياه، كان إدراكه متوقفا عند صورةٍ لم يستطع الانفصال عنها: وهي صورة غير قابلة للتجزيء، صورة مُرَكَّبَة[11] ومستبدة في مخلفاتها. وقبالة هذه الصورة الملازمة للملك، سيضع الحكيُ حشد الصور التي ستولدها فينا التفاصيل الألف الصغيرة التي نرتكز عليها في رؤيتنا للعالم.
و«العلاج العاشق» الذي تقوده شهرزادُ عملٌ من صنيع الصبر، هو انشغالٌ بالتفاصيل، انتباهٌ لأدنى الحركات الجائلة في خاطر من تريدُ أن تعيد إليه صورةً إنسانية. ولكون حكيها ينشغل بآثار كلمته التي تحدده بالمقابل، فإنه يشتغل بمثابة إعادةِ إنتاجٍ حُلْمِي سيتيح لشهريار أن يستعيد النوم حيثُ يمكن للحلم أن يحدث. هل يجب التفكير في آثار هذه الليالي الألف باعتبارها عملا للاستيعاب[12]، بواسطته يصير الحاضر راهنا بالماضي والماضي راهنا بالحاضر؟ هل هذا هـو الترميز؟
تقطيـع الليـالـي:
سنحاول تحسيسكم بمكانة الـتقطيع في حكي شهرزاد. يُلاَحَظُ أن تقسيم الحكايات لا يطابقُ تقسيمَ الليالي. وهذا السبب وثيق الارتباط بسياق الحكي، إذ يتعين على شهرزاد عند متمِّ كلِّ ليلةٍ أن تُبْقِي الحكايةَ مُعَلَّقَةً. وبإبقائها إياها معلقة، فهي تدفع الملك إلى عدم قتلها وإلى قول: «لن أقتلها حتى أعرف نهاية هذه الحكاية». لكن ما يبدو لنا بمثابة حسابٍ يَظْهَرُ في الليالي بمثابة إيقاع طبيعي، وهو: «وأدْرَكَ شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح»: معنى ذلك أنَّ عودة الفجر هي التي توقف الحكي، وأن نوعا مـن الوقف[13] المنتظم يَضَعُ حدّاً للجلسة بشكل حتمي.
قبل أن نتساءل عن معنى هذا التنظيم، يجب أن نرى ما آل إليه:
في الطبعات العربية يتِمُّ الحفاظ دائما على هذا التقطيع. وهو يأخذ فيها شكل جملة مقولبة تتكرر في نهاية كل ليلة، وهي: «وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح»[14]. أما استئناف الليلة الموالية فيتم بعبارة: «قالت». إنه نوع من القطع المجهول، هو بمثابة بابٍ ينفتح وينغلق، يَرشـمه تعاقبُ الأيام والليالي.
بخصوص الترجمات الفرنسية، سنتكتفي منها بتـرجمتي غالاند Galland و مردروس [15]. تقع ترجمة غالاند في اثني عشر جزءا، أنجزها بين 1709 و1713. وقد اتبع تقطيع الحكي إلى ليالي على امتداد الأجزاء الستة الأولى. لكنه لما وصل إلى الليلة 235، أي إلى حكاية قمَر الزمَان، نَشَرَ في مستهل الجزء VII التنويه التالي:
«لقد مَـلَّ قراء الجزئين الأوَّلَيْنِ من هذه الحكايات ذلك التوقيفَ الذي كانت تدخله دنيازاد على القراءة. وقد عالجنا هذا الخلل في الأجزاء التالية. نحن متأكدون من أنهم سيكونون أكثر رضا عن صنيعنا، لأنهم من الآن فصاعدا سيتخلصون من الانقطاعات التي تحدثها توقفات كل ليلة. يكفيهم أنهم على علم بتصميم المؤلف العـربي الذي كتبها.
»نجد من هذه الحكايات باللغة العربية ما لا يُتَحَدَّث فيه عن شهرزاد، ولا عن السلطان شهريار، ولا عن دنيازاد، ولا عن التقطيع إلى ليالي. ومعنى ذلك أن جميع العرب لم يتستحسنوا الشكل الذي أعطاه إياها المؤلف، وأن عددا لا يحصى منهم قد سئم هذه التكرارات التي لا يتوقف عليها مغزى الحكايات إطلاقا. وقد أردنا في الترجمة الحالية أن نتطابق مع هذه النسخ العربية، إلا أننا واجهنا صعوبات كانت من الكِبَرِ بحيث اضطررنا إلى التخلي نهائيا عن الوقوف عند تلك التقطيعات، هذا ما لم نتحدث عن الأسباب الأخرى التي دعتنا إلى ذلك.
»ونحن مع ذلك مرتاحون لتنبيه القرَّاء من جديد إلى أن شهرزاد ستواصل الحديث دون أن تُقَاطَع»[16].
أما ترجمة مردروس فهي، على العكس، تحترم إطار ألف ليلة وليلة بدقةٍ، مُتَّبعَةً تقطيع الليالي بشكل صارم. لكن صاحبها بدل أن يقف عند التقطيع البسيط المقولب الذي نجده في النصوص العربية، عمد إلى تنويع الصياغة وإرفاقها – في أغلب الأحيان – بشرح سيكولوجي يرسم ترابطا حقيقيا بين الحكايات، كأن يبدي ملاحظة حول تطور الشخصيات بتطـور مجرى الحكي.
لم يسبـق أبدا – في حدود ما نعلم – أن أثيرت مسألة التقطيع هاتـه، ومع ذلك فهي تبدو رئيسية بالنظر إلى ما يجري في الليالي. رئيسية بالقياس إلى مسألة الزمن وإعادة إدخاله في وضعية تتميز بالثَّبَات والتِّكْرَار. في درجة أولى، يكون للتقطيع أثَرُ رغبة الملك في الاستماع إلى التتمة )بما أن الشرط الضمني هو أن الحكي لا يمكن أن يجري إلا في الليل: في الزمن المخصص للنوم، للحلم، في الزمن المخصص في العالم العربي لحَكْيِ الحكايات([17]. فهو =]التقطيع [ يضعُ الملك في موقف حيثُ يتعين عليه أن ينتظر، أن يضعَ تباعُداً بين رغبته وإشباعها. يُستبدَلُ الثباتُ بالحركيةِ والسُّقُوطية، والتقطيع يعيد خلق القدرة على احتمال غياب موضوع الرغبة، أي احتمال المسافة التي تحجبه. وكما قلنا في مقام آخر[18]، فإنه «يتعين أن تخونه امرأة )في رغبته(، لكن دون أن تخونه، كَيْ يتمكن من أن يصير رجلا وأباً».
عندما يتخلل التقطيع وضعيةً متجمدة متحجرة، فإنه يتيح إعادة إدخال الزمن والمسافة. في النسخ العربية لألف ليلة وليلة يجري هذا التقطيع في النقصان الذي تحدثه العبارة الطقوسية والثابتة كما يحدثه رقَّاصُ السَّاعة. ومامن امرئ شعر بِرِهَانِ الليالي إلا واحتُمِل أن يقع تحت طائلة إغراء إرادة الحديث عن التحول الذي عاشته الشخصيات الثلاث الأساسية، أو إغراء توضيحه ولو ضمن إطار سيكولوجي. وهذا ما فعله مردروس عندما خلَّلَ الليالي بفواصل ووصلات، عندما أدرج شبه حكاية بين الحكايات، فأعاد تشكيل قصة العلاج المزدوج: علاج رجلٍ ومدينةٍ.
الوجود المزدوج في ألف ليلة وليلة يجري مسارُ الليالي بكامله كما لو كان، للخروج من حالةِ وحدةٍ جذرية معطاة (يمكننا بالتأكيد أن نسميها رضَّة[19])، يتعينُ شطْرُ هذه الحالة نفسها، أي تضعيفها، أو يتعين أن يُصْنَعَ منها أو أن يُعْثَرَ فيها على ضِعْفٍ مُعَوِّضٍ، انطلاقا منه قد يمكـن لذلك الوضع أن يُعَـاش ثانية بطريقة أخرى، كي يـقوم بنقدٍ في دليلٍ (Répertoire) مختلف، بما أنه قد سُمِّيَ، أي مرَّ من المحسوس إلى المعقول. تفتح شهرزاد للملك السجين داخل تكراره فضاءً مزدوجا: فضاء للزمن عبر الانتظارات التي تؤسسها، وفضاء للحلم بالحكايات التي ترويها. إزاء ما أصاب الملك تقدم شهرزاد بحكاياتها حشداً من الصور التي يمكن لهذا الملك أن يتماهى معها، بنبذها أو بالاقتراب منها، كما يحدث في الحلم، لكي ينتهي به الأمر إلى القدرة على الحديث عن هذا المصاب. لملكٍ جدِّيٍّ، مَهْوُوسٍ بعمقٍ، مَشْدُودٍ لقلقِهِ، تفتح شهرزاد أبواب متخيلٍ مجنح، مقتلعة إياه من نفسه، بمعنى أنها تجعله يأخذ مكانة هؤلاء الأبطال الذين يجذبونه أو يُنَفِّرُونَه، يقودونه بعيدا عن نفسه كي يعيدونه بغثة إلى ما هو أكثر حميمية في كينونته. وبذلك تُدْخِلُهُ إلى وجود الكائنات المزدوج، أي تقوده إلى إدراك هذا الوجود المزدوج في نفسه، إلى القدرة على تسمية ما كان بالنسبة إليه عجزاً غير قَابِلٍ للتفسير. لكن إيجابية الحكايات أو سموُّ الليالي يكمنُ في القدرة على إخراج (mise en scène) هذه الكثافة أو العمق المزدوج، هذا الوجود المزدوج، أي في القدرة على إزاحة الأشياء بما فيه الكفاية لجعلها قابلة للتصوير. وكما يعبر عن ذلك جيدا بول أوستيـر:
«ما معنى أن تقول الحكاية: «”هذان الكلبان أخواي” أو ”هذه البغلة كانت زوجتي!”؟ ما معنى أن تنظر الحكاية إلى شيء أو موضوع يوجد واقعيا في العالم الواقعي، إلى حيوان مثلا، ثم تؤكد على أن ذلك الشيء ليس هو ما يُرَى؟ معناه أن ما من شيء إلا وله وجود مزدوج: وجود في العالم ووجود في أذهاننا في آن»[20].
وفي هذا الانتقال المباشر الذي يتم دون سابق إعلام، من واقع الحكي إلى الواقع الذي تخلقه الحكاية، تكمن بالضبط القوة التي تتيح للحكاية أن تقتلع المرء من نفسه.
في كتاب حكاية بلا نهاية لميكائيل أند Michael End تَظْهَرُ جيِّداً هذه القدرة على التأرجح بين الواقع والخيال. الأشياء تخلقها الكلمة التي تسميها، لكن ليس ثمة تسمية لا توظف الرغبةَ:
لا يمكن أن تكون لك رغبات إلا مقدار ما تتذكر عالمك. أهلُ هذا العالم استَهْلَكُوا ذكرياتهم قاطبة. ومن لا ماضي له فلا مستقبل له. ولهذا السبب فهم لا يهرمون. انظر إليهم! أتظن أن البعض منهم يوجد هنا منذ ألف سنة أو أكثر؟ لكنهم يبقون كما هم. لا شيء يمكن أن يتغير بالنسبة إليهم ما داموا هم أنفسهم لا يستطيعون أن يتغيروا» [21].
لـفَتْحِ طريقٍ للمتخيل تُسَخِّرُ حاكيةُ الليالي نفسَها، فتقص حكايات متشابكة تجعل بين الحَاكِية والحِكَاية كثافةَ واقعين أو ثلاثة. في حكاية يَملِكَة[22]، يجد البطل حاسب نفسَهُ، بعد أن تخلَّى عنه رفاقه الحطَّابين، في عمق مغارة لن يستطيع أبدا الخروج منها. وآنذاك يكتشف في الجدار شقا يفسح منفذا للخروج إلى مملكةِ يَمْلِكَةِ مَلِكَةِ الثعابين. في هذه الحكاية تروي يَمِلْكَةُ لحاسب حكاية بلوقية الذي يحكي هو نفسه قصة جَمْشَة. المسافـةُ مع الذات تُحْفَرُ بدون شك، كما من أجل توسيع فضاء للتنفس أو للشَّطرِ حول مَوْقِعِ ألمٍ بدئي: وهو في الحالة الراهنة أن ابناً لا يستطيع الوصول إلى إرث أبيه لأنه لا يستطيع التحرر من سلالته الأموميـة.
ما فائدة هذه المسارات الجديدة؟ إنها تصلح بالضبط لجعل هذين النمطين الوجودين للأشياء يتعايشان، أي لإقامة الصلة بين واقع اليوم الخام والواقع الذي يمكن أن يُحَمَّلَ بأناً مَّا: بماضيَّ الطفولي أو بماضيَّ الحديث: كل شيء يجب أن يُعادَ إلى حاضر الكلمة ويقترن بداخله. وهذا بالضبط ما تقوم به شهرزاد عندما – وهي تحكي قصص الأزمنة الغابرة – تـوجِدُ طرقا لانبثاق السحيق في حاضرالمستمع. وهو ما يعبر عنه ج. – ب. بونتاليس في تقديمه لرواية غـراديفـا:
«لقد أفضت القولة الشهيرة: «اللاشعور يجهل الزمن» إلى قول الكثير من التُّرَّهَات. نعم، إن اللاشعور يوجد خارج الزمن الخطي – اللاَّمُنْعَكِس – وقد صار ثانويا، وأهمَلَتْهُ معالمُنَا الكرونولوجية. إنه يخْلِطُ الأزمنة – وكل حلم من أحلامنا يشهد بذلك -، يمكنه أن يجعل من ماضينا مستقبلنا، ومن المستقبل ذاكرتنا، ومن الحاضر أحيانا لحظة خلود. لكنه مع ذلك لا ينفلت تماما من تجربة الزمن ومما هو بدون شك محوره: ونعني به تجربة الفقدان والغياب. اللاشعور هو الأزمنة المتداخلة وليس هو اللازمني»[23].
وتجربة الغياب هاته هي اللحظة التي تُغَـيِّبُ فيها عودةُ النهار صوتَ شهرزاد، هي اللحظة التي تطرح السؤال: ما هو الصوت الذي يحكي؟ أي شيء يعيره صوتُ شهرزاد للملك؟ أيُّ جانب سحيق في الملك، في طفولته، يُسْمِعُ نفسَه؟
خطاب للحاضــر تحقق الحكاية نوعا من التَّرْهِينِ المعَمَّمِ في الحاضر. فَتَرَاكُبُ الحكايات المتخيَّلة في حاضر الراوية ومستمعيها يخلق مكانا للاتحْدِيدٍ يكون فيه لقاء الماضي والحاضر ممكنا، جاعلا بالإمكان تحْدِيدَاتٍ أخرى. أكثر من، ذلك فهو يخلق المكان الذي يصير فيه ممكنا تعايش ما أنشأه المعنى العقلاني باعتباره متناقضا: ليس فقط حاضر-ماضي، لكن أيضا خير-شر، مذكر-مؤنث، نعم ولا، واقع ومتخيل. هذا الفضاء هو المجال الذي يمكن أن يتم فيه خلاص ما كان قد أُغلِقَ داخل ما يتعذَّرُ على التجربة أن تلجه أو داخل تأويل المعنى: هنا أين تُخَـلِّصُ الحكاية فِعْلا الكلمةَ.
تُتِيحُ القراءة المتأنية لكتاب «الآيات الشيطانية»[24]، وهو كتاب قيل عنه الكثير من جوانب أخرى، كَشْفَ انتقالٍ لهذا الإجراء نفسه. فَلِلْوَهْلَة الأولى، تبدو الأوضاع التي يصفها الكتاب منحدرة من أزمنة ملتبسة كليا وأشخاص كذلك. ثم نفطن إلى أنَّ الـتشويـشَ المؤقت للحدود بين النعم واٌللاَّ – الناجم عن كونه وَضَعَ كلَّ شيء في الحاضر – لا يُكَرِّسُ الغموضَ، وإنما يتيح لما شكَّلَ مشكلةً منذ البدايات أن ينفذ في معيش اليوم. وبذلك، تُرْفَعُ رقابة ديكتاتورية المعنى جزئيّاً ويمكن للجانب المتناقض في الصراع أن ينبثق. كونُ الله لا يمكن أن يُوجَدَ دون إلهاتٍ، ولا الملائكة دون جنٍّ، ألا يطابق ذلك قضايا الإنسان الأساسية جدا في سائر الأزمنة؟ وأيُّ كلمةٍ بوسعها أن تنفذ إلى هذه القضايا ما لم تسلك أوَّلاً التواءات المتخيَّل وحِيَلِه لتخليصها من «الكهف» الذي كانت توجد أسيرة فيه؟
أسئلة أخرى يقودنا ما سبق كله إلى وضع الليالي في سياق أكبر هو سياق لغة الحكاية والفعالية النوعية التي تأخذها فيه الكلمة. هل يمكننا المضي أبعد فنستخرج، في هذا المجال، خصوصيات للنص أو للفكر الإسلامي على الأقـل؟
لا يمكننا إلا أن نندهش لملاحظة هذا الثبات الذي تتمسك به الطبعات العربية في الإبقاء على إطـار الليالي من جهة، والمآل الذي يُوضَعُ لهـذا الـتقطيع السردي في الترجمات الفرنسية من جهة أخرى (علما بأنه ينبغي أيضا التطرق إلى هذه المسألة في ترجمات الليالي إلى لغات أخرى). نحن لا نعْرِفُ ما فهمهُ المؤلفون العرب من مسألة التقطيع، لكن الظاهر هو أنهم لم يتصوروا بنية ألف ليلة وليلة باعتبارها مجرد حيلة بسيطة. أما في الترجمات الفرنسية، إذا كان الحديث منها قد تخلى عن الإطار (تَرْجَمَتَا غالاند Galland، ثم خوام Khawam حديثا جدا)، فإن ترجمة مردروس Mardrus، على العكس، ضخمت هذا الإطار، لكن مع إضفاء صبغة نفسية عليه، أي صبغة فردية. وهذا يطرح المشكل الكبير المتمثل في ما يجري داخل الترجمة من لغة إلى أخرى. فالمترجمون الفرنسيون يبدو أنهم يستهدفون لذة قارئ مفرد. أما النص العربي فهو، على العكس، لا يتضمن أي إحالة إلى تفاعلات شخصية بين الشخـوص. التقطيع في الترجمات الفرنسية إما لا يُحتَملُ أو لا يُستطاعُ أخذه بعين الاعتبار ما لم تُضْفَ عليه نزعةٌ سيكولوجية، وما لم يرفق بشروح. ولا شك في أن مردَّ ذلك هو اختلاف تمثلات «الهوية الفردية» في كلتا الثقافتين.
في المقارنة التي كثيـرا ما تُعْقَدُ[25]، بالخصوص في هذين الوسطين، بين حكي الليالي وعملية العلاج التحليلي، يجب أن نلاحظ أن من يتَحَدَّثُ هنا ليس هو الملك وإنما شهرزاد. بدل أن يعبر الملِكُ عن أفكاره «تُقَدِّمُ» الرَّاوِيةُ مُتَخَيَّلا. ومَا تبـرزه الليالي جيدا هو أن تحَوُّلَ الملِكِ لا يمكن أن يتحقق إلا بتحوُّل شهرزاد. وانطلاقا من هذه الملاحظة الأخيرة قد يمكن لامرئٍ غير مُحلِّلٍ أن يطرح سؤالين على المُحَلِّلِينَ النفسانيين حول هذه المكانة المتبادلة بين المُحَلِّلِ والمحَلَّلِ، بالتشابه مع موقع شهريار وشهرزاد. اٌلسُّؤالُ الأول هو: هل توجدُ في التحليل مواقف يتعيَّنُ فيها على المحلِّل أن يفعل مثل شهرزاد، أي أن يفتحَ مُتَخَيَّلا، أن يرويَ حكايات، أن يستعملَ إجراء مماثلا للذي تستعمله شهرزاد في الليالي؟ أما السؤال الآخر فيَهُمُّ أيضا هذا المكان الـمتبادل: في الليالي (وهذا ربما قليلاً ما تمَّ ملاحظته) هناك بالتأكيد تحولٌ للملك، أي خلاصُه من صدمته، لكن هناك أيضا خلاصُ الرَّاوية التي تحوَّلت من بِكْرٍ إلى امرأةٍ وأمٍّ دون أن تقصي إحدى الصورتين الصُّورةَ الأخرى. بقراءة النص، ينتابنا الإحساس بأن الملك لا يستطيع أن يتحول إلا لأن شهرزاد تتحول. ألا يمكن أن يكون الأمر نفسه هو ما يجري في العيادة التحليلية: بمعنى ألا ترتبط قدْرَةُ المحلَّل على التَّحَوُّلِ بِقُدْرَةِ تَحَوُّلِ المُحَلِّلِ؟
المصـــادر والمـراجـــع
أ – العربيــــة:
ألـف ليلـة وليلـة، سائر الطبعات العربية المتداولة، وبالخصوص طبعـات: بولاق، كلكوتا، حسين مهدي.
ب – الأعجميــــة:
Auster, Paul, L’invention de la solitude, Paris, Actes Sud, 1988.
Ende, Michel, Histoire sans fin, Paris, Stock, 1984.
Freud, Sigmund, Le délire et les rêves dans la «Gradiva» de W. Jensen, Paris, Gallimard, coll. «Traductions nouvelles», 1986.
Galland, Antoine, Les Mille et Une nuits, traduction d’Antoine Galland (1709-1713), Paris, Garnier-Flammarion, 1965, 3 tomes.
Lacan, Jacques, Le Séminaire, Paris, Le Seuil, livre II.
Layla, «Les Nuits parlent aux hommes de leur destin», in Corps écrit, «L’Arabie Heureuse», N° 31, automne 1989, Paris, PUF, pp. 47-61.
Mardrus, J.-C., Les Mille et Une nuits, contes traduits par J.-C. Mardrus, 1899-1904, Paris, Robert Laffont, coll. «Bouquins», 2 tomes.
Pontalis, J.-B., préface de S. Freud, Le Délire et les rêves dans la «Gradiva» de W. Jenson, Paris, Gallimard, 1986.
Rushdie, Salman, Versets sataniques, Paris, Christian Bourgeois éditeur, 1989.
الهوامــش:
[1] – كتِبَتْ هذه الدراسة بالاشتراك مع فرانسـوا فيـلا، وهي إحدى ثمرات تنسيق مشترك بيننا، دام ثلاث سنوات، في تنشيط حلقةٍ دراسية بمدرسة الدراسات العليا في في العلوم الاجتماعية بباريس. الحلقة المذكورة كانت تحمل إسم «الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي: في الأصل والإيصال».
[2] – Les Mille et Une nuits, contes traduits par J.-C. Mardrus, t. I, p.7.
بالنسبـة للطبعتين العربيتين اللتين نعتمدهما، راجع: ألف ليلـة وليلة، بيروت، دار الهدى الوطنية للطباعـة والنشـر والتـوزيـع، ج. 1، ص. 5، وألف ليلـة وليلـة، بيـروت، دار العودة، ج. 1، ص. 5. (م).
[3] – كما نبَّهَنا إلى ذلك رودولف بيدوفسكي (Rodolphe Bydowski)، فإن كلمة علاقة «relation» تفتَحُ، بطباق معانيها، مِنَ المنظورات أكثر مما يفتحه مصطلح «حكي» أو «سرد» (Narration).
[4] – الإيصال الثقافي (Transmission culturelle): مصطلح يُقصَدُ به في التحليل النفسي كل ما ينقله السلف إلى الخلف بطريقة لا شعورية، وبذلك فهو يتضمن مجموع التمثلات والأوامر والمحظورات، والسلوكات والمتخيـل، إلخ. (م).
[5] – شارل بيرو Perrault:كاتب فرنسي (1628-1703)، اشتهر بكتابه حكايات وخرافات الأزمنة الماضية (Histoires et contes du passé) الصادر سنة 1697 (م).
[6] – الأخوان غريم Grimm: جاكوب لودفيغ (1785-1863) وويلهايم كارل (1786-1859) ألمانيان اشتهرا على الخصوص بمؤلفهما حكايات شعبية (Contes populaires) الصادر بين سنتي 1812 و1815. (م).
[7] – Les Mille et Une Nuits, op. cit., t. II, p. 1018.
ملحوظة: كما سبق أن نبهنا إلى ذلك )الهامش 6 من دراسة: ليلى: الحكاية والقدر (ضمن الكتاب الحالي)، فالنسختان العربيتان اللتان نعتمدهما في هذه الترجمة لا تتضمنان هذا المقطع الذي يسوقه مردروس، ولذلك فقد اضطررنا إلى تعريبه عنه!! (م)
[8] – In Sigmund. Freud, Le délire et les rêves dans la «Gravida» de W. Jensen.
ويمكن العودة إلى الترجمة العربية: سيغموند فرويد، الهذيان والأحلام في الفن، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1978. علما بأن المترجم – خلافا للمصدر الذي يحيل عليه المؤلفان – اكتفى بترجمة دراسة فرويد لرواية غراديفا دون نقل النص الروائي إلى اللغة العربية. (م).
[9] – عملٌ بدأناه في نصٍّ كتبه ثمانية باحثون، ونُشِرَ بتوقيع:
Layla, «Les Nuits parlent aux hommes de leur destin», in Corps écrit, n° 31, automne 1989, Paris, PUF, pp. 47-61.
ملحوظة: لقد ترجمنا هذه الداسة تحت عنوان: ليلى: الحكاية والقدر، وهي منشورة ضمن الكتاب الحالي. (م).
[10] – نعثر على بذرة الفكرة التي عبر عنها أوكتاف مانوني Octave Mannoni في مداخلةٍ لهُ خلال حلقةٍ دراسيةٍ لجاك لاكان تحمل عنوان: من كان قادرا على «إعجاب بهذه القوة ». فإزاء جاك لاكان الذي صرَّح بـ«أننا كائنات مُجَسَّدَة، وأننا نفكر دائما عن طريق شيء مَّا متخيَّل يُقاطع الوساطة الرمزية، أي يوقفها ويشوشها، وبذلك فإن هذه الأخيرة تكون دائما مفرومة أو مُقَطَّعَة»، إزاء ذلك، يبدي مانوني نقدا نحسُّ بأننا أقرب إليه: «إن ما يزعجني هو أني أملك إحساسا بأن هذا البديل أو التضعيف المتخيل لا يفرم فقط، وإنما هو الغذاء الضروري للغة الرمزية، وأن اللغة متى حُرِمتْ كليا من هذا الغذاء صارتْ هي الآلةَ نفسها، أي شيئا ليس إنسانيا»، ضمن:
Jacques Lacan, Le Séminaire, livre II, p.367.
[11] – مصطلح فلسفي يستعمله المؤلفان على سبيل القياس التشبيهي: والمقصودُ به قضيةٌ تقوم حقيقتها على مراقبةٍ مُسْبَقَةٍ لِكُلٍّ من أفرادها. (م).
[12] – عمل الاستيعاب (Perlaboration): عملية يُدْمِجُ المحلل بواسطتها تأويلاً مَّا ويتخطى ما يثيره هذا التأويل من مقاومة. ويتعلق الأمر هنا بنوع من العمل النفسي الذي يتيح للمُحَلَّل أن يقبل بعض العناصر المكبوتة و يتخلص من سطوة الإواليات التكرارية. يظل الاستيعاب ثابتا في العلاج، ولكنه يشتغل بالخصوص في بعض المراحل التي يبدو فيها أن العلاج يراوح مكانه والمقاومة تتواصل رغم كونها تعرضت للتأويل. وبالتلازم مع ذلك، ومن وجهة نظر تقنية، تساعد بعض تأويلات المحلل على عمل الاستيعاب، ولا سيما تلك التي تتمثل في تبيان كيف تلتقي المعاني موضوع البحث في سياقات مختلفة. عن: J. Laplanche et J.B. Pontalis, Vocabulaire de la psychanalyse, Paris, PUF, 1967, p.305. وبخصوص الترجمة العربية، يمكن الرجوع إلى جان لابلانش وج.ب. بونتاليس، معجم مصطلحات التحليل النفسي، ترجمة الدكتور مصطفى حجازي، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1987، ط. 2، ص. 367-368. (م).
[13] – مصطلح بلاغي معناه الوقف في منتصف بيت الشعر. (م)
[14] – النص العربي، طبعة بولاق، القاهرة.
[15] – Les Mille et Une Nuits, traduction d’Antoine Galland, 3 tomes. Les Milles et Une Nuits, contes traduits par J.-C. Mardrus, 2 tomes. . وسنترك جانبا ترجمة خـوام الـتي يظل منطقها غير واضح. كما نشيـر إلى أن ترجمة جديدة لألف ليلة وليلة بالبليـاد (La Pléiade) هي قيد الإنجاز تحت إشراف جمال الديـن بن الشيـخ.
[16] – غالاند، المصدر المذكور، ج. III، ص. 257. خلافا لما يقوله المترجم، فإن مختلف النسخ العربية (كلكوتا، القاهرة، وحديثاً محسن مهدي) تحترم التقطيع بالليالي.
[17] – حسب تقليد شائع جدا في المغرب، من يروي الحكايات في النهار يعرض نفسه لخطر إنجاب أبناء قرع. ونجد إشارة إلى هذا الاعتقاد في رواية محمد الأشعري الأخيرة: «[…] ألا تكون هناك دعوة تخرج في الذين يصنعون الأحاجي من حياتهم نفسها مثلما يحدث في دعوة الولد الأقرع التي تخرج في الذي يروي الأحاجي نهارا…». راجع محمد الأشعري، جنوب الروح، البيضاء، منشورات الرابطة، 1996، ص. 52؛ «أحاجي بالليل وأحاجي بالنهار، حتى جاء المخاض وقضي الأمر. وَوُلِدَ الأقرع…»، نفسـه، ص.55.
[18] – ليلى، مرجع سابــق. راجع الهامش 9 من الدراسة الحالية. (علما بأننا ترجمنا الدراسة المذكورة ضمن الكتاب الحالي تحت عنوان «ليلى: الحكاية والقدر» (م)).
[19] – الرضة أو الصدمة (trauma): حدث في حياة الشخص يتحدد بشدته وبعجز هذا الشخص عن الاستجابة له بطريقة ملائمة، كما يتحدد بما يحدثه في التنظيم النفسي من اضطرابات وآثار دائمة مولدة للمرض. وتتصف الرضة اقتصاديا بفيض من الإثارات التي تكون مفرطة بالنسبة لطاقة الفرد على الاحتمال وقدرته على التحكم في هذه الإثارات. عن: J. Laplanche et J.-B. Pontalis, Vocabulaire de la psychanalyse, Paris, PUF., 1967, p. 499.، وبالنسبة للترجمة العربية، انظر: جان لابلانش وج. ب. بونتاليس، معجم مصطلحات التحليل النفسي، ترجمة د. مصطفى حجازي، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والتوزيع والنشر، 1987، ط. 2، ص. 300. (م).
[20] – Paul Auster, L’invention de la solitude, p. 189.
[21] – Michel Ende (bis), Histoire sans fin, p. 455.
[22] – انظر نص الحكاية في: ألف ليلة وليلة، بيروت، دار الهدى الوطنية للتوزيع والنشر، ص. 27-111، وهي تحمل عنوان «حاسب كريم الدين». وبالنسبة لطبعة دار العودة، بيروت، 1988، انظر المجلد 2، ج.4، ص. 894 وما بعدها.
[23] – J.-B. Pontalis, préface de S. Freud, Le Délire et les rêves dans la «Gravida» de W. Jenson, p. 15.
[24] – Salman Rushdie, Paris, Christian Bourgeois éditeur.
[25] – من هذه المقارنات، انظر على سبيل المثال تلك التي عقدها كلود ليفي ستراوس بين الشامان والمحلل النفساني في دراستين:
– الأولى: «الساحر وسحره»، ضمن Anthroplogie structurale I, Paris, Plon, 1973 [1958], pp 183-203.،
– والثانية: «الفعالية الرمزية»، ضمن المصدر السابق، صص. 205-226.
وبالنسبة للترجمة العربية لهاتين الدراستين، راجع: كلود ليفي ستروس، الإناسة البنيانية، ترجمة حسين قبيسي، بيروت – البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1995، الفصلين التاسع والعاشر، صص. 183-223. كما يمكن العودة إلى الدراسة التحليلية التي خص بها كلود روكفيل هذا الجانب من المقارنة (التي عقدها كلود ليفي ستراوس بين الساحر والمحلل النفساني( في دراسة تحمل العنوان نفسه: الساحر والمحلل النفساني) صدرت في مجلة Perspectives psychiatriques – V – n° 84، وترجمناها ضمن: بول جوريون وآخرون، أبحـــاث في السِّحْـر، ترجمة محمد أسليم، مكناس، مطبعة سندي، 1995، صص. 29-48.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأربعاء 12-09-2012 04:01 مساء