لم يسلم المسمى «ألف ميم» جسده للنوم ليلة أمس إلا بعد أن غلظ الأيمان بألا تغرب عليه شمس غد إلا وقد وضع حدا لمأساته. ولأجل ذلك فقد قضى الجزء الأعظم من الليلة في ابتكار الحيلة التي ستمكنه من المروق، بين حشود المتجمهرين والحراس والأعوان، للتسلل إلى دار استلام الكنانيش. لكن الصباح أتاه بما يستحيل توقعه: وجد نفسه ينسابُ سريعا إلى الدار وجموع المحتشدين والحراس تفسح له سبيل المرور. بلغ الباب، ناداه أحد البوابين باسمه ولقبه قائلا:
– بلغنا أنك لم تسلم جسمك للنوم، ليلة أمس، إلا وقد غلظت الأيمان بألا تغرب عليك شمس اليوم إلا وقد وضعت حدا لما أسميتَه «مأساتك»، وأنك قضيت الجزء الأعظم من الليلة في ابتكار الحيلة التي ستمكنك من المروق بين حشود المتجمهرين والحراس والأعوان، للوصول أخيرا إلينا. فها أنت وصلتَ. تفضل وادخل، تفضل وادخل.
دخل ألف ميم مسرعا، وبدخوله لم تتبدد أمامه، في أقل من لمح البصر فقط، كل الحسابات التي ضربها ليلة أمس، بل وتبخرت أيضا جميع حسابات سني انتظاره الطويلة، لأنه لم يجد نفسه داخل دار الكنانيش، كما خيل إليه من قبل، وإنما وسط منزل يشبه خيمة من لؤلؤة، سعته فرسخين أو ثلاثة، بناؤه لبنة ذهب ولبنة فضة، جدرانه محففة بالريحان المحفف بالحناء، بلاطه المسك الأذفر، وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت، ترابه الزعفران. ومن سقف الدار تدلت ثريات عملاقة أفزعه تهاديها وتمايلها خشية أن تسقط عليه إحداها وهو سائر تحتها. على الجدران رُسمَ عرش مطرت منه سحابة فخلقت أمطارها حسَانا ضُربَ على كل واحدة منهن خيمة ليس لها باب، وعلى جدار آخر رُسمَ عرش آخر فجرت منه البحور الأربعة: بحر الماء، وبحر اللبن، وبحل العسل، وبحر الخمر، وأنهار حفت بها قصور من اللؤلؤ والزبرجد أحاطت بها أشجار سيقانها ذهبٌ وأوراقها ياقوت وأغصانها زمرد، فيها طير ذات أعناق كأعناق الجز، وخيول من ياقوت أحمر تطير براكبها حيث شـاء…
في إحدى الزوايا جلس رجل، يرتدي جلبابا أبيض، وراء مائدة زينت صفحتها بأباريق وكؤوس من ذهب وأمشاط فضة مرشوشة بالذهب الأحمر. بالجالس أحاطت جاريتان في الحسن توأمتان: من تحت كلتيهما برز ساق عاجي يعتليه قفطان أحمر مرصع بالذهب والفضة أطل من ياقته سفحا نهدين ورديين رخوين اعتلاهما وجه أشرق كالشمس توسطته أطراف مريضة وتدلت حوله ذؤابات سوداء. كانت كلتاهما ماسكة منشة من أوراق الريحان تلطف بها الهواء عن وجه صاحب الجلباب…
خُطف عقل ألف ميم، تلاشى في هول خشوع، قال في خاطره وهو يتوغل في الدار:
– سبحان الله! ما أكون الآن إلا في الجنة أو في قصر الأمير!
غير أنه ما كاد يقترب من الجالس حتى تبخر يقينه؛ فقد وجد من خيل إليه أنه جالس، وجدَه غارقا في نوم عميق أبداه كتمثال منحدر من عصور سحيقة. همَّ بالكلام، لكن البنتين أرسلتا إشارة يد فهم من خلالها أنه أمِرَ بالجلوس دون أن يزعج النائم. جلسَ، وقعت عيناه على ساعة حائطية ضخمة بدت كأنها ثبتت قبالته قصدا ليتأتى له معرفة التوقيت وحساب مرور الزمن، واصلت البنتان تلطيف الهواء حول وجه النائم في حين راح «ألف ميم» يقلب بصره بين رسوم الجدران وبهجة المكان.
*
* *
مرت ساعة، لم يقف النائم ولم تتوقف البنتان عن تلطيف الهواء عن وجهه، مضت أخرى، لم يتغير شيء، هم «ألف لام» بالكلام، منعته البنتان، قضت ساعة ثالثة، أطلق ألف ميم حشرجة وتهيأ للسعال، جرى نحوه حارسان، أمسكاه من ياقته، هدداه بخنقه إن عاود مثل هذه الإشارة.
عند متم الخامسة بعد الزوال ضاق صدر ألف ميم وثار البركان في رأسه، قرر الخروج غير آبه بتحذير البنتين، لكنه ما إن خطا خطوة حتى هرول نحوه الحارسان وهما لاويين بيديهما على هراوتين غليظتين. وقف، هم بالكلام، منعه الحارسان من الكلام، أجبراه على الرجوع، قعد، قام مرة أخرى، أجبره الحارسان على العودة بفظاظة أقوى من الأولى، هم بالصراخ، لكنه تَصَوَّرَ هول ما كان سيحل به من قبل الحارسين لو تفوه بنصف كلمة منعه من الكلام، عاد إلى أريكته، شغل نفسه بالإنصات إلى صراخ حشود المنتظرين الذي كان يَصِلُ بين الفينة والأخرى إلى الداخل، ظل كذلك إلى غلبه النوم، فنام.
كانت الساعة تشير إلى التاسعة ليلا لما استيقظ، وكان الثلاثة قد انصرفوا، وكانت المائدة قد كشطت من الأباريق والأكواب والصكوك، اجتاحته سورة غضب. أراد أن يصرخ، لكن حارسا قاطعه بفظاظة ساخرة:
– عندما كان هو [صاحب الجلباب] جالسا يستقبل الزائرين ويسلمهم جوازاتهم كنتَ أنت تغط في النوم، ولما أنهى عمله وانصرف استيقظت تريد الصراخ!
*
* *
مرت الليلة سريعة. في الصباح الباكر وصل النائم محاطا بالبنتين الجميلتين وهما ترتديان قفطانين أسودين مرصعين بالذهب والفضة، وتمسكان بمنشتي أوراق الريحان، تقدم النائم نحو ألف ميم مرسلا ابتسامة مرتبكة، صافحه بحرارة، ربت على كتفه معتذرا، قال:
– بلغنا أنك قضيت ليلة أمس هنا، وإذ نبلغك عميق أسفنا، نرجو منك الصفح والمعذرة. حقا، إن ما لحقك من غبن ليستدعي منا الخجل، لكنك لو عاينت ما يستنزفه منا إعدادُ كنانيش السفر من طاقات جبارة لبادرت أنت بالتماس الصفح والمعذرة عما أحطتنا به من شكوك طوال السنوات العشر الماضية…
قال ذلك بلهجة متواضعة عطوفة أرفقها بحركات ناسكة لم تبده شخصا حقودا يلتذ بتعذيب الآخرين كما خيَّل لألف ميم طيلة يوم أمس، بل أبدته أبا عطوفا حنونا متفهما. قال ذلك ثم أخرج من تحت جلبابه حزمة كنانيش صغيرة كتبت خطوط عناوينها جميعا بماء الذهب، سلم أحدها لألف ميم، وفي الوقت الذي تنفس فيه هذا الأخير الصعداء وتهيأ لاستلام كناش سفره أفاق من النوم، وجد نفسه ممددا فوق أريكة والساعة تشير إلى الحادية عشر صباحا والدار خالية إلا من حراس وقفوا أمام الباب لاوين بأيديهم على عصيهم تحسبا لاندفاع حشود المتجمهرين إلى الداخل.
دقت الساعة الثانية عشرة، لم يأت صاحب الجلباب. مرت ساعة، لم يأت. قضت ثالثة، لا جديد… عند متم الساعة الخامسة صباحا ضاق صدره وثار البركان في رأسه؛ قرر الخروج، صرخ في قرارة نفسه:
– لا كناش سفر أريد الآن ولا سَحْبَ ملف ولا يحزنون!…
لكنه ما كاد يصل الباب حتى وجد نفسه محاطا بجماعة الحراس وقد شهروا هراواتهم في وجهه، عاد إلى أريكته، غرق في تفكير قاده إلى رسوم الجدران، راح يسكتشف تفاصيلها جميعا إلى أن حل ألغازها: امتطى فرسا وطار إلى قصور اللؤلؤ والزبرجد، وما دنا منها حتى خرجت جواري حسان مبرقعات بأطراف مريضة حُشيَت أنظارها فتورا وسحرا، ورفعن ثيابهن حتى جاوزن نحورهن فإذ هن قضب فضة شيبت بماء الذهب، لهن صدور من الورد عليها قباب من عاج وخصور مطوية وسرات مستديرة تحتها جباه أسود وأفخاذ ممشوقة وسيقان ممتلئة تحرس خلاخل الذهب والزمرد… رفعن أصواتهن قائلات:
– نحن الخالدات فلا نبيذ، ونحن الناعمات فلا نبئس، ونحن الراضيات فلا نسخط، فطوبى لمن كان لنا وكنا له!
أدلى لهن بكناشه، دخل، اتجه صوب الخيام التي لا أبواب لها، كلما وقف أمام خيمة انصدعت عن باب عظيم وخرجت جارية كالبدر ليلة اكتماله أو كالشمس عند إشراقها، من أصابع رجليها إلى ركبتيها زعفران ومن ركبتيها إلى ثدييها مسك ومن ثدييها إلى عنقها عنبر ومن عنقها إلى رأسها كافور، يتلألأ وجهها ساطعا كما تتلألأ الشمس، رأسها ذؤابات مسك أذفر لا تحصى، يُرى كبدها من رقة جلدها، وبياض ساقها من وراء حللها، فتعانقه وتدخله إلى خبائها، فيضاجعها سبعون مرة، وكلما قام عنها عادت بكرا… ولما زار كل الخيام انتقل إلى أشجار الذهب ليتفيأ ظلالها فكان يمر الطائر أمامه فيشتهيه فيأتي بين يديه مشويا، وتمر السحابة من فوقه فيقول لها: «امطري لي جوار حسان»، فتتهاطل عليه حسان كأنهن حور عين… وفيما كان يتهيأ لامتطاء صهوة فرسه أيقظه صراخ حارس يأمره بالقيام لأن صاحب دار الكنانيش كان قد وصل وتهيأ للدخول.
دخل المسؤول بالهيئة نفسها التي كان ألف ميم قد رآه عليها في حلم ليلة أمس؛ كان يرتدي جلبابا أسود أطلت من ياقته بذلة رمادية ذات رباط عنق حمراء، وكانت البنتان من حوله لابستين قفطانين أسودين مرصعين بالذهب والفضة، ماسكتين منشتي الريحان. التبس على ألف ميم الموقف؛ لم يعرف أكان قد صحا من حلم ليلة أمس أم كان لازال فيه غريقا. أراد أن يتكلم، قاطعه القادم:
– بلغنا أنك لم تسلم جسمك للنوم ليلة أمس إلا بعد أن غلظت الأيمان بألا تغرب عليك شمس اليوم إلا وقد وضعت حدا لما أسميته «مأساتك»، وأنك قضيت الجزء الأعظم من الليل في ابتكار الحيلة التي ستمكنك من المروق من بين حشود المنتظرين والبوابين والحراس للوصول أخيرا إلى دار الكنانيش. والآن ها أنت وصلت إلينا، فاعلم أننا نؤكد لك بأنك قد صحوت من حلم ليلة أمس، وأنك ستستلم كناش سفرك حالا.
قال ذلك ثم أمر الحارس بمرافقته إلى دار السُّحُب، ضغط الحارس على قطعة خشب، انفلق أحد الجدران، أفضى به إلى ممر انتهى عند باب نقش عليه بماء الذهب: «دار سحُب كنانيش السفر».
*
* *
ما إن وطأت قدماه المكان حتى أدرك أنه خُدع، لأن الباب لم يُخف وراءه مكتبا ولا رفوفا ولا سجلات، وإنما ساحة اكتظت رحابها بقطع الحديد والخشب والآجر وأكياس الإسمنت والرمل والجبس ولوازم البناء والنجارة والحدادة. هم بالصراخ، لكن رجلا يرتدي جلبابا أشار إليه من وراء مائدته الصغيرة المنزوية في ركن بالساحة، بأن يتقدم نحوه. وفور وصوله شرع حارسٌ في إدخال حشود منتظري الكنانيش إلى الساحة جماعات جماعات، تتألف كل واحدة من زهاء مائة شخص، فيتحلقون حول المائدة، فيشرع صاحب الجلباب في النداء على من جهزت كنانيشهم، غير أنه بمجرد ما يباشر النداء يهتز المكان تحت ضربات أدوات النجارة والحدادة والبناء، فتعمه ضوضاء تصمي الآذان، لا تتوقف إلا بانتهاء المناداة، وفور انتهاء صاحب الجلباب من تلاوة قائمة الأسماء يتوجه إلى المتحلقين حوله فيقول لهم:
– أحد لم يسمع اسمه؟ إذن فجوازاتكم لم توقع بعد. انصرفوا حتى إشعار آخر!
فتخرج الجماعة لكي تحل محلها أخرى… لم يسمع ألف ميم اسمه، لكنه لم يخرج لأنه أيقن أنه قد وقع فعلا ضحية خدعة، إذ «كيف يعقل أن يتبين المرء اسمه وسط قيامة هدمٍ وبناءٍ لا تقوم إلا ساعة النداء؟!»، تساءل. ولذلك قرر بعزيمة فولاذية أن يسحب ملفه، اتجه نحو باب نقش عليه: «دار سجلات الكنانيش»، فتحه، ثم دخل.
*
* *
خلافا لما أفضى إليه باب «دار الكنانيش» وباب «دار السّحُب» لم يفض به مدخل «دار سجلات الكنانيش» إلى خيمة أو ساحة، وإنما إلى ممر ضيق طويل استوقفه عند نهايته باب ثان كتب عليه هو الآخر: «دار سجلات الكنانيش»، فتحه، دخل، أفضى به هو الآخر إلى ممر ضيق كالأول انتهى به هو الآخر إلى باب جديد كتب عليه «دار سجلات الكنانيش»، فتحه، دخل، قاده إلى ممر ضيق كالممرين السابقين انتهى به هو الآخر إلى باب ثالث كتب عليه: «دار سجلات الكنانيش»، فتحه، دخل…
لم يدر كم بابا كان قد فتح وكم ممرا كان قد اجتاز لما استحوذ عليه اليأس. هَمَّ بالرجوع، لكن فور استدارته إلى الخلف وقع بصره على نقش بالباب كتب عليه: «دار المخزن»، أيقن أنه وقع في فخ الفخاخ، صرخ بأعلى صوته كمن يلقي وحيا:
– أراهن بعنقي أني ما نظرت إلى عجيزة امرأة يوما، ولا راودت صبيا، ولا حكت قدمي قدم مصل، ولا واقعت امرأة من دبرها، ولا طالبتُ بزيادة في أجر ولا انخرطت في نقابة… أنا ألف ميم، أبي خراز، وأمي نائحة… أدعو للأمير بالخير والبركة ودوام الصحة والعافية، في الصباح والمساء، في سري وجهري. أبقى الله الأمير، وأطال عمره، فما أراه جعلني حيث جعلني إلا لضيق أحسَّ به، وهو يفكر في سفر.
صاح بذلك خمس مرات وهو موقن أن الباب سيفتح فور انتهائه من الصراخ. وبالفعل، ما أنهاها حتى انفتح له باب أفضى به إلى ممر ذي سقف مُقَوَّس تسلقته الدوالي والسرخسيات، أسلمه إلى ساحة انتصبت وسطها شجرة تين عظيمة مالت لثقل فاكهتها الناضجة. عن يمين الشجرة قام صرح شامخ من أكياس العلف بحواشيه محاريث ومعاول ومناجل وعربات خيول لا تحصى، وعن يسارها وقفت بئر كبيرة بمحاذاة صهريج واسع امتلأ صحنه بمياه فضية. وراء الشجرة وقفت بناية شامخة من الطوب الأحمر المتآكل، انتصب ببابها شيخ مسن جلله اشتباك التجاعيد وبياض اللحية والجلباب بهالة من الوقار، وكانت وقفته توحي بالانتظار الطويل، أشار لألف ميم بأن يتقدم نحوه، ولما دنا منه قال الشيخ له:
– تفضل!
ارتاب ألف ميم، غير أن الشيخ العجوز طمأنه:
– أنا لستُ مثله، فأنا مستيقظ، كما ترى، ثم إن لا أحد يلطف الهواء عن وجهي.
قال ذلك ثم ربت على كتفه ودعاه للدخول إلى البناية ليجد مكتبا واسعا ذكره كبره بـ «دار السّحُب»، لكنه كان – بخلاف هذه – ممتلئا بالرفوف والخزانات. أمره الشيخ بالجلوس، سأله من وراء مائدته:
– ما أمرك؟
– أصلح الله الأمير (…) ما أراه جعلني حيث جعلني إلا لضيق أحس به، وهو يفكر في سفر.
استشاط الشيخ غضبا، قام، صرخ:
– لا أمير، ولا بلاد، ولا ضيق، ولا هم يحزنون. ما أمرك؟!
– أأنت هو الأمير؟
– لا! (بسخرية لاذعة)
– أأنت ملاك؟
– سبحانه عما يشركون!
قال ذلك، ثم افتعل هدوءا مريبا قبل أن يضيف:
– بلغنا أنك لم تسلم جسمك للنوم ليلة أمس إلا بعد أن غلظت الأيمان بألا تغرب عليك شمس اليوم إلا وقد وضعت حدا لما أسميته «مأساتك»، وأنك قضيت الجزء الأعظم من ليلتك في ابتكار الحيلة التي ستمكنك من المروق من بين حشود المنتظرين والبوابين والحراس للوصول أخيرا.. فها أنت وصلت، ماذا تريد؟
– أريد كناش السفر
– ما كاد ينهي كلمته حتى صعق الشيخ؛ بدا كمن داهمه الموت فجأة فانهار، غير أنه غالب صعقته، تظاهر بالهدوء، استمسك، قام، أمسك ألف ميم من يده:
– تعال معي
اتجه به نحو تخت من خشب الأرز فضي الأعمدة، أرجواني المقعد، ثم ركبه، ودعاه للركوب بجانبه، وأخذ مسلكا بين أشجار برتقال مالت تحت فاكهة ناضجة مشرقة لماعة ككرات من ذهب. تحت أشجار الليمون انتشر بساط من الأعشاب والحشائش الخضراء نثر الندى فوقها قطرات تتلألأ كحبات الفضة الطرية. فوق أعراش الشجر وبساط الخضرة والأزهار كانت أسراب طيور فاتنة الألوان تنتقل راقصة شادية. بين ممرات الأشجار لاحت قطعان ماعز وبقر وأغنام ترعى في ذهول كأنها نائمة. اجتاز الشيخ المسلك صامتا إلى أن وقف التخت أمام بئر كبيرة تقع هي الأخرى بجانب شجرة تين عظيمة تسلقت أغصانها فروع الدوالي والسرخس وحاذاها مسبح دائري شاسع امتلأ صحنه بمياه أبدته كالبحر. بالمسبح حفت أشجار التفاح والإجاص والموز والرمان والزيتون؛ كل يضاهي الآخر بناضج فاكهته، نزل الشيخ من التخت، قال لألف ميم:
– أحقا تريد الحصول على كناش السفر؟
ما قرأ الشيخ في ملامح ألف ميم التهيؤ للإجابة بنعم حتى أجهش بالبكاء، ثم سأل:
– لماذا؟!
ودون أن ينتظر أي إجابة رفع رأسه نحو أغصان الأشجار المحيطة بالمسبح، فإذا بمائدة كمائدة النائم التي أحاطت بالبنتين النشاشتين تنبسط أمامهما مزدانة بصحون من ذهب وأباريق وأكواب فضة مرشوشة بالذهب، وإذا بالفواكه تنجني وتنعصر ثم تستقر في الأطباق وتنسكب في الأباريق والأكواب، ثم تقول للجالسين:
– كولاني واشرباني هنيئا مريئا…
لم يدر ألف ميم كم مسلكا كان قد اجتاز، وكم أشجار فاكهة كان قد وقف أمامها لما وجد نفسه مرة أخرى جالسا بجانب الشيخ على حاشية بئر تقع قبالة حقل امتد كالبحر فبدى بزرعه الناضج كمرج ذهب اعتلته غيوم دخان. في الحقل انتشرت قطعان أبقار عملاقة قوائمها أعمدة الرخام وضروعها شامذات مخاض يفوح بها الجو لبنا وحليبا… سأل الشيخ ألف ميم ثانية:
– لماذا تريد الحصول على جواز سفر؟!
– أضاف ألف ميم يائسا: لا كناش سفر أريد ولا هم يحزنون! أعيدوا لي وثائقي، إني هنا في البلد لقاعد مع القاعدين!
غضب الشيخ بالطريقة نفسها التي غضب بها لما قال له ألف ميم داخل البناية: «أصلح الله الأمير (…) كأن البلاد ضاقت به ولذلك جهز نفسه للسفر»، فقام، تمالك غضبه، إلا أن غما غلبه فأجهش بالبكاء، سأل ألف ميم معاتبا:
– ولماذا ستقعد هنا؟!
– أحس ألف ميم بالرعب الشديد، أخذ يرتعش وهو يتساءل في قرارة نفسه:
– إذا كان سفري خطر وقعودي خطر فأين يجب أن أقيم؟! بل من أنا؟! وأين أوجد؟! ولماذا أنا هنا؟!
تساءل بمرارة شديدة كمن حاصره الموت، وكانت أسئلته كطوق النجاة الذي يحاول المحتضر أن يتخلص به من مداهمة الموت إياه. وفجأة قام وصرخ في وجه الشيخ وكأنه يلقي وحيا:
– أصلح الله الأمير (…) ما نظرت إلى عجيزة امرأة، وما راودتُ صبيا (…) وما طالبت الزيادة في أجر، وما طلبت كناش سفر…».
أرسل الشيخ إيماءة امتعاض وقلق شديدين، أمسك ألف ميم من يده ودعاه لركوب التخت ثانية، واجتاز به مسالك عديدة إلى أن عاد به إلى بناية الطوب الحمراء ليجد نفسه جالسا قرب مائدة فيما تسلق الشيخ سلما خشبيا، وانهمك في تفتيش الرفوف والخزانات إلى أن عثر على سجل اهترأت أوراقه وأكلتها الأرضة حتى بدت كأوراق بردي منحدرة من عهد الفراعنة، ثم نزل، وفتح السجل، وأخذ يقرأ ما كتب عليه مخاطبا ألف ميم:
– اسمك ألف ميم، أبوك إسكافي، أمك نائحة، جدتك ماشطة (…) أودعت ملفك هذا الاستلام جواز السفر عام كذا، شهر كذا، ساعة كذا، دقيقة كذا، ثانية كذا، ترددت على دار الجوازات كذا مرة (…) إلى أن قادك يأسك ليلة أمس إلينا. ونحن إذ نتفهم ظروفك، نؤكد لك أن جوازك جاهز منذ أودعت طلبك، ولا ينقصه إلا التوقيع، وستستلمه فور توقيعه.
فطن ألف ميم لأول مرة إلى أن الشيخ كان يرتدي تحت الجلباب الأبيض بذلة سوداء، أطل من فتحة عنقها رباط عنق أحمر، ارتاب ارتيابا شديدا، أراد أن يتكلم، لكن الشيخ لم يترك له فرصة للنطق بحرف واحد، إذ قام واستدرجه إلى زاوية بالمكتب، وفتح بابا كتب عليه: «دار التوقيعات»، ثم أمره بالدخول وهو يوصد الباب من خلفه ويردد:
– ستستلمه حالا. ستستلمه حالا.
*
* *
ما إن خطا خطوة داخل القاعة حتى خطفته روائح المسك والعنبر والند وبخور زكية شتى لم يتبين أنواعها، احتواه ذهول عميق لم يملك ما يقاومه به؛ جلس في أول أريكة، انصرف لتأمل الفراغ. كانت الغرفة أنيقة، زينت جدرانها بلوحات صغيرة استنسخت رسومها من جدران دار الكنانيش فمنحها شكلها المصغر هيئة تحف أثرية إيرانية نفيسة، وكان فضاؤها مفروشا بأرائك فخمة اتكأ عليها رجال ذوو جلابيب مختلفة الألوان، وفي زاوية جلس رجل أدرك ألف ميم فورا أنه هو صاحب التوقيعات. كان الجالس شديد الشبه بالنائم قيم دار الكنانيش لدرجة أن ألف ميم حسبه في البداية النائمَ نفسه، لكن سرعان ما اتضح له خطأ ظنه: فالجالس كان حديث السن بشكل ملفت للانتباه، والفتاتان المحيطتان به كانتا صبيتين صغيرتين، وأباريق المائدة وأكوابها وصحونها كانت من نحاس ولم تكن من ذهب، وفوق كل ذلك، فهو لم يكن نائما، ثم إنه كان يرتدي البذلة فوق الجلباب وليس الجلباب فوق البذلة. حدس ألف ميم أنه وقع من جديد ضحية خدعة لأن المشهد بدا له مجرد مسرحية مصطنعة؛ فكل من بالقاعة كانوا، قبل دخوله، غارقين في احتساء القهوة وتدخين السجائر، ولم يتظاهروا بالانهماك في العمل الجاد إلا للتمويه عليه بعد أن كاد «يضبطهم متلبسين»، وكان ذلك الحدس كافيا لإثارة زوبعة الأسئلة في رأسه:
إذا كانوا يريدون خداعي بهذا الجد المصطنع، فما أدراني أنهم لا يريدون خداعي بهيئاتهم وروائحهم وصورهم هذه؟! أملتحون هم أم حليقون؟ أجلابيب يرتدون أم بذلات؟ وهذه الروائح التي تزكم أنفي، أعطر هي أم روث بهائم؟ وما يمسكه هذا الجالس أمامي، أمسبحة هو أم زجاجة خمر؟ ثم أين أنا الآن؟ ولماذا أنا هنا؟ ومنذ متى؟ ومن جاء بي إلى هنا؟… غير أنه ما كاد يتوغل في الأسئلة حتى انتشله صاحب التوقيعات بلهجة خشنة حادة:
– أنردشير كنا نلعب أم شطرنج، بذلات كنا نرتدي أم جلابيب، روائح عطر كانت أم روث بهائم، وما إلى ذلك، فهذا كله ليس شأنك. لندخل مباشرة إلى صميم الموضوع: ألم تغلظ الأيمان ليلة أمس، قبل أن تنام، بألا تغرب عليك شمس اليوم إلا وقد وضعت حدا لما أسميته «مأساتك»، وقضيت الجزء الأعظم من ليلتك في ابتكار الحيلة التي ستمكنك أخيرا من المروق بين حشود المنتظرين والبوابين والحراس للوصول إلينا أخيرا؟!
قال ذلك، ثم أخرج من جلبابه حزمة كنانيش صغيرة كصكوك الغفران، احتفظ بأحدها، قال:
– ها هو كناش سفرك جاهز لا ينقصه إلا التوقيع، سنوقعه حالا.
هوت هذه الكلمة على الحاضرين كالصاعقة. عم القاعة صمت رهيب. استحوذ على الجالسين هلع محزن. لفوا صاحب التوقيعات بنظرات كسيرة حسيرة، كأنهم ينعونه قبيل وفاته… ولم يكسر ذلك الصمت سوى وقع خطى كانت تتقدم هي الأخرى ثقيلة متباطئة كما يتقدم المرء نحو موته. تقدمت فإذا بها تكشف عن شاب ارتدى وزرة ملطخة بدسم المدافع والحرَّاقيات والرَّاجمات، ما جعل ألف ميم يوقن بأن القادم قد جاء لتوه من دار العسكر، لاسيما أن رائحة البارود قد انتشرت في المكان. تقدم الفتى وهو يحمل بين يديه شيئا حرص على كتمانه بغطاء كتان أسود حتى إذا وصل إلى المائدة كشف عنه فإذا هو دواة في حجم قصعة شدت إليها ريشة طاووس، وضع القادم الدواة والريشة فوق المائدة، ثم مرق بسرعة مقلقة لم يبددها سوى الصمت الرهيب الذي خيم على المكان ثانية.
ثبت صاحب التوقيعات عينيه في خانة بالكناش الصغير، أمسك الريشة بثقة واثقة، غمس الريشة في الدواة، رفعها، غمغم كأنه يتلو عزيمة سرية استعدادا للتوقيع، اتجهت يده نحو الصفحة، تهيأ لختم الكناش، أخذت يده ترتعش، دنت من الصفحة، تضاعف ارتعاشها إلى أن أبداه كمفلوج، وضع رأس الريشة في مكان التوقيع، لكن الصفحة تلطخت كلها بالمداد، وها هو يطلق صرخة هز دويها القاعة، قام مترنحا يتلوى ألما، كأنه تلقى صدمة كهربائية، ارتمى فوق أول أريكة اعترضته وهو يلهث لاسترجاع أنفاسه أو لمقاومة اختناق وشيك. قامت البنتان، أخذتا تلطفان الهواء عن وجهه فيما أحضر الآخرون بخورا، عجلوا بإطلاقه، أخذوا يسبحون وهم يلفون ألف ميم بخزرات لوامة حقودة.
ألقى ألف ميم بصره على الساعة الحائطية المثبتة قبالته، كانت عقاربها جامدة في الحادية عشر صباحا، هم بالكلام، حذرته البنتان من مغبة إيقاظ النائم، أعاد المحاولة، صدتاه بالطريقة نفسها، مد بصره خارج النوافذ الزجاجية، كانت الشمس من كبد السماء تلهب الأرض بأشعتها المحرقة. ذكره المقام بهول يوم القيامة. غرق في فك الغاز رسوم اللوحات المعلقة على الجدران… إلى أن أيقظته حركات غير عادية أعقبتها كلمة رهيبة لتغرق الحجرة في وحشة رهيبة:
– التوقيع!!
كان النائم قد أفاق واسترجع عافيته وعاد إلى المائدة، لأجل التوقيع، بخطوات كسولة أبدته كمن استدرج إلى باب وقيل له: «تعال تدخل الجنة، حتى إذا خطى خطوة أولى لاحت له ألسنة النيران وشهبها العملاقة فما ارتاب في أنه إلى الجحيم مساق وليس إلى الجنة، لكنه كلما هم بالتراجع حثه مستدرجه من ورائه مؤكدا له أن ما يراه هو الجنة عينها، فيوقن أن أوان العودة قد فات وأنه هالك لامحالة، وليس أمامه سوى الاستسلام لقدره…
لما دقت الساعة السادسة مساء تمزق ألف ميم حسرة وشفقة على ما ألم بصاحب التوقيعات من ألوان العذاب طيلة اليوم، فقام وقال بأعلى صوته:
– سبحانك سبحاني، فما أنت إلا أنا وما أنا إلا أنت!
قال ذلك وهو موقن بأن الموَقِّعَ لم يكن يفعل سوى إخراج مأساة شخصية مطابقة لمأساته هو: فمثلما كان هو يدور في دوامة الحصول على كناش السفر وعدم الحصول عليه، ها هو الموقع يريد أن يستيقظ، لكن النوم يداهمه حتى إذا أسلم جسمه للنوم داهمته اليقظة… رد صاحب التوقيعات على ألف ميم بلهجة ساخرة:
– لا أنا ولا أنت ولا هم يحزنون! لقد استصغرت شأن التوقيع، وما يستصغر هذا الأمر إلا كافر أو زنديق؛ فلو كنت أنت الموقع لهان عليك أن تزهق روحك ولا يهون عليك وضع خاتم واحد في كناش أو وثيقة. أما ترى أن الغم يأكلنا أكلا لأن السماء تعدنا بإنزال الذهب والفضة والمسك والكافور والياقوت والزعفران قناطير مقنطرة مقابل التوقيع، لكننا لا نعرف التوقيع؟! لو كان حفظ المرء القرآن ودراسته الحكمة والطب والهندسة والقانون والكيمياء والرياضيات… يؤهله للتوقيع لكانت البلاد جنة ولكان الفرد من العامة يفيق فيجد وسادته محشوة بالذهب والفضة، ولما خطر على بالك أنت سفر ولا قعود، لكن بما أن لا شيء من ذلك كائن، فها نحن نسوق الرعاة سوقا، من وراء بهائمهم، واللصوص من مخابئهم، والزناة من مواخيرهم عساهم يوقعون، ولكنهم لا يوقعون… وإن ساورك أدنى شك فيما أقوله، فهاك الريشة والدواة وتكفل أنت بتوقيع ما كلفتُ أنا بتوقيعه، فترى بأم عينك ما يقع لك…
قال ألف ميم:
– قد يكون ذلك صحيحا، لكنني لم أطلب في يوم من الأيام كناش سفر ولا هم يحزنون.
غير أن أحدا لم يتمكن من سماع هذه الكلمة؛ فما إن نطق بأول حرف منها حتى علت دقات نواقيس عظمى أحالت كلامه إلى مجرد غمغمة صامتة. قبيل توقف الدقات قاطع صاحب التوقيعات ألف ميم قائلا:
– انتهت حصة العمل لنهار اليوم، انصرف الآن وعد في الصباح الباكر لاستلام جواز سفرك.
دب في المكتب حيوية ونشاط كبيران، ارتسمت على وجه صاحب التوقيع ومساعده ابتسامات عريضة، انسلوا من القاعة، وبنظرات خاطفة مسحوا صفحة الأرض المكسوة بعشرات الكنانيش الممزقة والملطخة بالمداد… الكنانيش التي تساقطت فوق صفحة أرض المكتب على امتداد النهار.