(صدر في الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، يوم 12 ماي 1995، العدد: 456)
فيما كنت البارحة أمشي مسرعا لامتطاء آخر قطار متجه إلى الدار البيضاء وجدت نفسي وجها لوجه أمام أمه التي أخذت تشتكي لي منه ومن الخرف الذي أصابه بعد أن كان هو الأم الروحية للجيل الضائع. أخرجت لساني وصفرت طويلا في أذنها قبل أن أدفعها بقوة لتسقط على الأرض وهي تصرخ بقصيدة ابنها المشهورة «عواء». لم أصدق أذني أمام حركاتها المتوحشة المرفوقة بكلمات هوت علي كالصاعقة: أمسكتني من عنقي بكل ما أوتيت من قوة، ثم دفعتني وارتمت فوقي تريد خنقي. قاومتها. لم أستطع. فقد كان شيطانها ركبها إلى أن صارت شبه دمية في يد قوة عاتية مجنونة. عاودت المقاومة، لكن دون جدوى… وأخيرا استسلمت. رددت في خاطري: «أيعقل أن يقودك عشق الأضرحة إلى المقابر؟». وأنا تحتها، تخيلتها بهيأة سمكة مقلية أو دبوس يبحث عن رأس ليهشمه. عادة لا أطيق العجائز اللواتي أضعهن في الكوكوت مينوت وأعدهن للعشاء. ربما يعود ذلك لأمه التي حاولت ذات مرة أن تستدرجني لسريرها كي أفك لغـز فتحتها التي انقلبت إلى سكون منذ وقت طويل، لكني أصبت بذعر كبيـر عندما شاهدت ذاك الجلد الذي يشبه جلد ثعبان متقاعد منذ زمن. أما ثقبها فبالوعة يمكن أن تغريك أكثر منه. لا أعرف أين يمكن أن تذهب بك شطائر اللحم الباردة عندما تكون حزينا ولا تريد أن تراقص شمطاء مثل هذه. وأنا مستلقى فوقها (أو هي مستلقاة فوقي؟ لم أعد أدري) تناهت إلي من أقاصي تخومي الباطنية أصوات آذان، فاستغفرت نفسي، وقلت: أثقبها جلد حقا أم هو فضاء السماء المترامي؟. ثارت بذهني أسئلة البدء والخلق الملغزة، وفجأة أشرقت بذهني الحقيقة العارية التالية: لم أكن أمام ثقب ولاحوض أو ضريح، بل كنت بباب المغارة التي صنعت التاريخ والأمجاد والبطولات. أرهفت سمعي، فإذا بجحافل الخيل، والليل، والبارود، والمفرقعات، من كسرى إلى نابوليون، مرورا بأكبر خان والقيصر وهتلر وآخرين، إذا بذلك كله يتناهى إلى مسامعي… خلعت نعلي وانحنيت إجلالا وأنا أردد في خاطري: «المجد ثم المجد لك أيها التاريخ. لحظة وتلتف الساق بالساق ويكون إلى تخومي المساق». وبالفعل، فقد كان الأمر على ما توقعت، إذ ما أن شرعت اللذة في اعتصاري حتى انفتح باب المعارف بداخلي على مصراعيه، وتناهت إلي أصوات الأجيال الماضية التي منها أتينا وجحافل الأقوام الآتية التي إياها نصير وهي تردد: «من هنا أتيت، من هنا أتيت». وبإحساس تمتزج فيه طراوة البدء، وسديم النهايات، وخرير المياه، وقـرع الطبول، وقصف الرعود، فقدت وعيي في شبه إغماءة خادعة، فإذا بالكبش الذي أوتي من علم الصرديات ما لم يوت به جيرار جنيت وكلود بريمون ينطـق بحال نفسه قائلا: «هل تعرفون الفرق بين الفصة والبنية؟ والشعير والتبئير؟». نظرت إليه، فوجدت صفة الكبش أجل وأعظم من أن تلحق به. فهو في النهاية لا يعدو مجرد قطعة براز انطلت على كتاب مدرسي وجده الحمار في مزبلة، فأعارها إياه ليصبح بين ليلة وضحاها منظرا للكر والفر في الرواية والصرد وما يعتمل بصدورنا نحن معشر أهل اللغو الغاوين الضالين. وفيما كنت أقـرأ إحدى رواياته على سبيل الفضول لم أفطن إلا وقد انقضت علي ومدت يدها إلى مفاتيح غيبي، ثم أخذت تبكي وهي تداعب سري بأصابعها الحادة كسكاكين مطبخ فارغ وتقول لي: «لماذا تتمنع عن منحي الشوكولاطة؟». وفيما كانت تنتظر أن أجيبها وقفت بسرعة خاطفة، ثم ركلتها إلى أن انقذفت بعيدا وسقطت قبالتي ككيس رمل أو إسمنت. حسبت أنها سقطت جثة هامدة، لكنها استجمعت قواها بالسرعة نفسها التي ركلتها بها ثم عادت تتضرع إلي بإصرار وهي تداعب سـري قائلة بترنح وعينيها مغرورقتين دمعا: «لماذا لا تمنحون الشوكولاطة إلا للذين لا يحبونها؟». رق قلبي لبكائها إلى أن قادتني الشفقة عليها إلى إكرامها. تصدقت عليها برضاعة، فما أن ناولتها إياها حتى أخذت تمتص الحليب بشراسة طفل يكتشف لأول مرة سر السائل الذي انحذر منه التاريخ. وبقدر ما كانت ترضع كانت تزداد تألقا وبهاء وتصغر إلى أن صارت ابنة أربعة عشر، مسدلة الشعر كالحرير، ذات عينين من واحتين، ونهدين كقبتي ضريح ضارب في عنان السماء، وعانة كغابة عطر من فردوس، وفخذين كصرحين من ياقوت أو مرمر… قلت لها وأنا منخطف في أعالي حضرتها:
– أيمكن للشوكولاتة أن تفعل كل هذا؟
ضحكت وأجابتني بغنج:
– ألا تشاهد قناة رت ل بالبارابول؟
هززت رأسي موافقا، فقالت متعجبة:
– وإذن فلماذا تسأل؟
استلقت على ظهرها. لم أجد ما أواجه به هبتها تلك إلا إشهار قبعتي بالشكل الذي أشهرها به في وجه العقيد طوال كل جماع تدعونا إليه الست مؤسسة لتوسعنا فساء وضراطا. قلت لها:
– كيف تجدين قبعتي؟
قالت: كما يجدها العقيد.
وما أن انتهت من التلفظ بهذه العبارة حتى ارتبت في أمر الذكورة والأنوثة في هذا البلد السعيد. أتعرفون لماذا؟ لأن العقيد ساقه العشق إلى امرأة، فخاط جسده بجسدها، لكنها ما أن أيقنت بأنها صارت أمه حتى أصبحت كلما وقعت عيناها على قبعة أحدهم إلا وسال لعابها، وركبتها الرغبة إلى أن تعود لا تفطن لنفسها إلا وقد وثبت عليه، ولا تخلي سبيله إلا بعد أن ترتدي القبعة وتعتصرها مصا. وذات مرة فيما انتهيت من إشهار طاقيتي عليها وصل القطار إلى المحطة. وجدت نفسي وجها لوجه أمامها. أخذت تشتكي لي منه ومن الخرف الذي أصابه بعد أن كان هو الأم الروحية للجيل الضائع. أخرجت لساني وصفرت طويلا في أذنها قبل أن أدفعها بقـوة لتسقط على الأرض وهي تصرخ بقصيدة ابنها المشهورة «عواء». تذكرت أمه أو أمي؟ لست أدري، لأن كل ما أذكره الآن هو أنني بصقت عليها، وعلى القطار، وعلى حذائي المثقوب الذي تهرب منه أفكاري كلما مشيت طويلا للبحث عن مخدع للهاتف لأحدث الله، لكني دائما لا أجده لأنه مشغول بأشياء العالم كلها إلا بي . شدتني من طوقي ورفعني إلى القطار. بدت، وهي تجثتني من الرصيف، امرأة سمينة بيضاء كقطعة جبن بلدي. دنت من أذني كي تهمس فيهما بكلام حميمي، لكنها تراجعت فور تلفظها بالكلمة الأزلى، فجعلت شفتيها تقتربان من شفتي، ثم قالت بصوت شهوي:
– كدت أن تموت أيها الأحمق، أيوجد رجل يحدث حذاءه والقطار يوشك على الإقـلاع؟
سأل سائل:
– لماذا تكثر من الحديث عن الأضرحة والثقوب والقبعات والشفاه؟
– وماذا تنتظر أن أفعـل أيها المقعد؟
وفيما تأهب المقعد للتبرز ببضع كلمات في وجهي لاح لي محيا فرويد من بعيد وسط حشد تجمهر من حواليه مصرة على صلبه. تعالت صرخات اللحي الطويلة مرددة بهتافات:
– أما استحييت يامستر فرويد؟ فقد وضعت عقولنا بين أفخادنا..
اشتبك السيد فرويد مع الجموع. تعالى الصراخ والهتاف وقذف الحجارة. اندس وسط الحشـد ملتح آخر يدعى ماركس محاولا، لأيا، أن يخلص سليله من مشنقة حتمية… أما أنا فانصرفت… تذكرت أنني إنسان، وأنني سأموت، وأنني لم أستشر في المجيء ولن أستشار في الرحيل. فاضـت عيناي دمعا. ألقيت نظرة عن يميني وأخرى عن شمالي عساني أجد شيئا يضمد جراحي الباطنية العميقة، إلا أنني لم أر حيثما وليت وجهي إلا فراغا وغبارا وصمتا وموتا، ولذلك لم أجد ما أواجه به الموقف الملغز الذي كنت فيه الآن إلا اشتهاء السيدة التي كانت جالسة عن يساري في المقعد الخلفي لطاكسي الأجرة الكبير. دون أدنى تفكير مددت يدي إلى جيب جلبابها، ودسستها بين عموديها. لم تقل شيئا، أدخلتها في المحراب الرخامي، لم تقل شيئـا، واصلت الدس، والاحتكاك، واللمس وهي غارقة في بهاء صمتها لا تقول شيئا. ومن أعماق تلك اللذة الماجنة المسروقة أحسست بأنني كنت زجاجا ينكسر. وفيما كنت أنكسر خرج من فتحتها سرب عصافير ملونة تعالت في السماء وهي ترسل تغريدات ساحرة تخلب الألباب وتسلب العقول. نظرت حولي، فإذا بالرجل النحيف كمسمار يسحب يده من جيب سرواله بحركة مرتبكة عجولة، كأنه ضبط متلبسا، وهو يلهث. خمنت أنه كان منهمكا في تمارين رياضية عساه يصل إلى ذروة انتشاءة مستحيلة. بدا شبه كبير بينه وبين العقيد الذي كان لا يكف عن دعك قبعته كلما شاهد صورة البقرة الضاحكة على غلاف علبة جبن لأن التي خاط بجسدها جسده تنصلت في قرارة نفسها من الرباط المقدس وانصرفت عن صاحبها مشغولة بدعك كل القبعات التي تصادفها في الطريق. أكثر من ذلك فقد مضى بها عشق الطاقية إلى حد أنها كلفت سكرتيرة عمياء بتلمس حجم ووزن وشكل كل قبعة تصادفها نيابة عنها، ووضع باقات زهورعليها، ثم تعبئة ورقة تقيم فيها نوعية النسيج الذي صنعت منه (ثوبا أو صوفا أو فروا أو جلدا، إلخ). وبذلك انتهى بها الأمر إلى أنها صارت تسير مسرنمة إلى المؤسسة، وما أن تصل حتى ترتمي على باب الأرشيف، فتفتحه، وتخرج ملفات القبعات، ثم تضع مكان فتحتها ضمة، وتأخذ في الارتعاش إلى أن تشهق شهقة ذروة الانتشاء، تفعل ذلك كله والذي خاط بلحمها لحمه نائم بجانبها يشخر كمن بيع في سوق نخاسة…
سألني السيـد الحمار:
– لماذا تتزوجـون؟
أجبتـه: لأننا، بني الإنسان، أفضل منكم يامعشر الحيوان.
– لمـاذا؟
– لأننا أصحاب عقول، ولأننا فضلنا عليكم…
قال: لماذا؟
– ذلك ما لا أعرفه، لكن ما أعلمه علم اليقين هو أنه يعود إلى حكمة ما.
– ما هـي؟
– لست أدري ما هي بالضبط، ولكن دلائلها موجودة.
– ما هـي؟
– كوننا، مثـلا، لا نمشي عراة أو حفاة، ثم إننا نتزوج ونضع صغارا ونسكن أوكـارا، إلخ.
– أتظـن أن في ذلك فعل حكمة؟
– بالتأكيـد.
– ما هي؟
– الزاوج، مثلا، يضمن لنا تأميم الأنثى منا، ووضع حجب بينها وبين رغبات ما عـدا مؤممها، إلخ.
ضحك الحمـار إلى أن استلقى على ظهـره، ثم قــال:
– لو علمت ما يقع فيكم من الخيانة لما رأيتم حمارا يطأ برذونا إلا وركعتم إجلالا لهما أو خلدتم احتفالا على شاكلة ما تفعلونه عندما يتـزوج المرء منكم امرأة، ذلك أن البرذون ما أن ينزل عنها واطؤها حتى تقبر كل رغبـة إلـى حمل آخر. أما أنثاكم فيعتليها أحدكم ويحسب أن ما معتليها إلا هو، لكنها في الحقيقة لا تتخيـل مواقعها إلا شخصا آخر، ثم ما أن تقوم من تحته حتى تتقاذفها أمواج الشهوة والرغبة إلى الشارع حيـث تلتهم عيناها كل مار وهي تردد في خاطرها: «هـل من مزيـد؟ أين [الرجل] الموالي؟ هل مـن مزيـد؟ أين [الرجل] الموالي؟ أفهمـت الآن قصة صاحبك العقيـد؟…»
صرفت محادثي لأن رأسي كان يوجعني ورغبة في القئ تملأ أحشائـي. هـرولت إلى البيت كي أختلي بنفسي. إلا أنني وجـدت الوحـدة القاتلة تنتظـرني. قالـت السيـدة الوحـدة:
– لماذا عدت متأخرا الليلـة؟
قلت لهــا:
– أتحبين الشوكولاتـة أنت الأخرى أم تراك أشكل عليك الأمر فحسبت أني السيـد العقيــد؟
انتظرت جوابها، لكن يداي كانتا قـد امتـدتا إلـى علـب الدواء المنشـورة فـوق الطـاولة. هممت بالانتحار، لكن صوتا بداخلي صدني قائـلا:
– ما أغبـاك! ما أغبـاك!
تساءلت أأنا غبي فعلا أم هي حبال الرغبة في الحياة قد تنكرت في هذا الصوت الذي ما أراه إلا من أقاصي أعماقي يأتـي؟ سمعت الجـواب يناديني مـن المطبخ:
– تعال أجيبك عـن هــذا الســؤال!
وقفت، واستمسكت، ثم تهيأت للتوجه إلى المطبخ، لكن الصداع كان قـد مـلأ رأسي والدوار استحوذ علي. كدت أسقط في شبه إغماءة. استجمعت قـواي. تمسكت قدماي بسطح الأرض. حملت حذائي. قذفت به بأقصى ما أوتيت من قوة في اتجاه الجـواب صارخـا:
«لاجـواب، ولاحذاء، ولاوحدة، ولاقبعـة، ولاحمـار، ولاكلب، ولاأم، ولاثقب، ولاأنا، ولاهـم، ولايحزنون»
ثم ارتميت فـوق السرير لأحتمي بالفراش. دسست جثتي تحت الغطاء وأنا أرتعش حمى وأحترق بردا. إلا أن السيدة لذة جاءت متنكرة بـزي راقصة بلاط هاربة من زوجها إبليس، واندست بجواري تحت الغطاء الدافئ البارد وهي ترسل فحيحا مثيرا لإيقاظ الثعابيـن النائمة في بيجامتي الحمراء. تقيأت عليها، وبلت في الفراش، وتبرزت عساها تخلي سبيلي، لكنها أطبقت الإمساك علي عنقي، قائلة: لن أخلي سبيلك ما لم تسمع لقصيدتي التاليـة:
العين تصلح لأن تكـون بالوعـة لمثلك
أيها الحقيـــر
الأفلاك والمدارات في الرأس تحتضـر
أين حذاؤك الذي بالت فيه أحـزان السيـد العقيـد
وهي تنظر إلى صوفك المتسخ بالنظريات النقدية الحديثة؟
طنين في الرأس: «مصدره ضراط المؤسسة»
لماذ صفرت في أذنها طويلا؟
ما أغبـاك! ما أغباك!
ما الكبـش؟ ما الحمار؟
ذاك لغـز هـذا النـص.
ثم عاد للأفلاك التي تقلي البيض في الـرابعة صباحا
وهي تقفـل سكرانة لا ترى الديك حمارا
ولا الكبـش سمـاء، ولا العقيـد قبعـة
وهي تقـول: هـل هـذا شعـر؟
هـــل هــذا شعــر؟
هـــل هــذا شعــر؟؟؟؟
(مكنـاس في 09/02/ 1995 من س 4 إلى س 6 صباحا)