ما إن انتهى الرَّاهبُ من تبليل عينيَّ بالسَّائل السِّحري حتى انقلبت المدينة أمَامي إلى إمبرطوريةٍ من حمير، فلم أعُد أرى حيثما وليتُ وجهي إلا حمارا، وكان ذلكَ يُقلقني كثيرا لأنني كنتُ أضطرُّ دوما إلى مُراجعة هيأتي خِشية أن أصير بدَوري حمارا لاسيَّما لما علمتُ أن هذا الأخير بدوره لا ينجو من اجتياز طقسٍ تطهيريٍّ يسمى «طقس التطهيـر الحماري» يتعَلق الأمرُ فيه أيضا باستئصال الدَّنَس الجنسي المحتمل أن ينشرَه هذا الحيوانُ في المدينةِ، وذلكَ بتحييد جنسه. ولهذا السَّبب، ما من أنثى تصلُ إلى المدينةِ إلاّ ويتمُّ تحويلها – عبر الطقس السَّابق – إلى ذَكَر، ولِذا يستحيلُ أن تجدَ أتانا واحدة بينَ عشراتِ آلاف الحمير الذين تعُجُّ بهم المدينة. قلتُ للرَّاهب:
– لماذا تنعدمُ إناث الحميـرِ بالمدينة؟
– تلكَ طريقتنا في تطهيـر نسَائنا وأطفالنا.
– لكن ألا ترى أنَّ ذلك يجبـر البهَائم على تعاطِي اللواط؟
احمرَّت وجنتاه كأنّه ضُبط متلبسا، فأجابَ مرتبكا:
– إنَّ ذلكَ عندنا أيسرُ من الحبلِ والولادة…
قاطعتهُ صارخا في وجهه:
– أنتَ زنديـقٌ!
إلاّ أنني لم أفطن إلا وعَصا تَهوى على ظهري محدثةً به وَجَعا لازالَ مُستمرّا إلى الآن، ثمَّ سمعتُ كلاما رطنا اختلطت فيهِ العرَبية الفصحى باللهجَة الطورُّوبريَّانديَّة المحليَّة، لم أميز فيه سوى كلمة «شيطان» التي ترددت كثيرا على لسَان الرَّاهب.
آهٍ كم كنتُ غبيا لما تجرَّأتُ على مُفاتحة الرَّاهِب في هذا الموضُوع! فللحمار عند الطورُّوبريَّانديِّين مكانة لا يُضاهيها سِوى مَنزلة المرأة: فما مِن منزل إلا وبه حمارين أو ثلاثة عَلى الأقل. وَكثيرا ما يخلط الرَّجُلُ بين إحدى بناته وواحدٍ من حميره فلا يَنجح في تمييز أحدِهما عن الآخر إلا بإجرَاء طقوس خَاصَّة أو الاستنجادِ برَاهبٍ. وأحد الأركان الأساسية في الدِّيانة الطّورُّوبريَّانديَّة اسمه «مَقامُ مُؤَانسَة الحمَار»، والمثلُ القائل «الحمارُ يبشِّرُ بالدُّولار» يُعتبر مفخرة طورُّوبريَّانديَّةٍ بالإجماع.
*
* *
إذا سمعتَ طورُّوبريَّانديّا يحدِّث آخرَ ويقول له: «اركب شيطانكَ» فاعتقدتَ أنه يحدثه في أمور دينية أخطأتَ، لأنه إنما يأمرُه بركوب حماره لاغير. وإذا ناداكَ أن تعالَ «يارأسَ الحمار» ورفضتَ الامتثال لأمره أو تشاجرتَ معهُ اعتقادا منك بأنه أهَانكَ أو شتمكَ اعتبركَ زنديقا. وإذا سألكَ أحدُهُم عن كيفية وُصُولك إلى المنطقة وقلتَ له: «عَلى متن طائرةٍ» أو «على متن باخرةٍ» لم يفقَه مِن كلامِكَ شيئا، وإذا فطنَ لقصدِك صُدفة بادر فورا بتصحِيح جَوَابك وإرغامكَ على تكراره على مَسَامِعِه قائلا: «قلْ: أتيتُ على متن حمار الماء، ولاتقلْ: أتيتُ على متن باخرةٍ. قل: أتيتُ على متن حمار الهواء، ولا تقل: أتيتُ على متن طائرة». وإذا لم تفعل اعتُبرتَ زنديقا أيضا لأن سائر وسَائل النقل ليسَت في نظر الطورُّوبرياندييَن سِوى فصائل حمير: فالدرَّاجَة العادية، مثلا، يُسمونها «حمار الرِّيح»، والدرَّاجة النارية «حمار الدُّخَان»، والبَاخرة «حمار المـاء»…
وراء إطلاق الطورُّوبريَّانديِّين تسمية «الشيطان» مجازا على الحمار تختفي «فلسفةٌ» بكاملها قادَهم إليها تأملٌ طريفٌ وذكيٌّ في التبَاسِ التَّرَائي الذي يُسَلطه هذا الكائنُ على رائيه مِن بعيدٍ: فهو حينما يكون مقبلا يأخذ هيأة كَائن غريبٍ جدّا: رأسٌ تدلى تحته مُباشرة سَاقان طويلان دُون أن يكون لذلكَ الرَّأس صدرٌ أو بطنٌ، ولذلكَ فهُم يُطلقون عليه «اسم العُلويِّ». وحينما يكون مُدبرا يأخذ أيضا هيأة كائن غريبٍ لكنه مختلف عن الأوَّل: يتراءى بهيأة مُؤخِّرَةٍ تدلَّى تحتها مباشرة ذيلٌ وساقان دُون أن يعتليهما بطنٌ ولا رأسٌ، ولذلكَ يطلقون عليه نعتَ «السُّفلي». وعَلى أساس هذا التقابُل الأولي يُصَنِّفُ الطورُّوبريَّانديُّون جميع كائناتِ العَالم وأشيائه، ويضعون كُلا منها في مَكانه المناسب بكيفيةٍ فضلا عن كونها تجعلُ من هذا التقابل أبا التقسيمات لأنَّ ما مِن كائنٍ أو شيء إلاّ ويجدُ موضعا لهُ في رأس حمار أو مؤخرتهِ، فضلا عن ذلكَ تجعلُ الحمارَ يلعبُ دَورا حاسما في تنظيم الفضَاء والعَلاقات الاجتماعيةِ ويمارس سُلطة قوية تجعله أحدَ المداخل الأساسِية لفهمِ المجتمعِ والثقَافة الطورُّوبريَّانديَّين.
ركبتُ أولَ حمار اعترضَ سبيلي، إلاَّ أنني مَا امتطيتُه حتَّى استعصى عليَّ، في آن واحدٍ، قيادته والنزول منه: فعندما آمرُه بالسَّير يقفُ، لكن عندما أستعدُّ للنزول من ظهرهِ، بعدَ أن يكون قد توقَّفَ، ينطلقُ ثانية؛ حينما أسَوِّي جَلستي لكي يُواصِل سيره، بعدَ أن يكون قد استأنفَ سيره، يتوقفُ ثانية، وحينما أتهيؤ للنّزول ينطلقُ من جديد… وبذلكَ استعصَى عليَّ البقاءُ كما استحال عليَّ النزُولُ. وهُو وضعٌ مفزعٌ – لأنَّ الدابَّة كانت تميلُ بينَ الفينة والأخرَى ظهرَها إلى الأرض كأنَّها ستنفضني – لم أملك أمامَهُ سِوى إطلاق صُرَاخ مُرعب. غير أنَّ لا أحدَ من المارَّة بادَر إلى إنقاذِي وكأنَّ صُراخي لم يكن سِوى صمتٍ مُطبق… ولم يُنقذني من ذَلك الوَضع إلا صَبي أرسَل من فوق حماره إشَارَة بعينه وأنفِه إلى «حماري» فانطَلَقَ بي هذا الأخيرُ جاريا كالرِّيح. أصَابني دُوار من شدَّة السُّرعة فلـم أصح إلا والحمارُ قد نفضني في سَاحة بمنزل الرَّاهب الذي أوجَعَني ضربا في السَّابق، وتوجَّه نحوه جَاريا وهو يُبَصْبصُ كجروٍ صغيـر.
*
* *
ما أن رَآني الرَّاهبُ حتى ضحك إلى أن استلقَـى على قَفَاه ثمَّ أخذَ مِخلاة فارغة وقرَأ عليها نشيدا دِينيا، وعلقَهَا على عُنق الحمَار دُون أن يضَعَ فيها شعيـرا، ثم قالَ لي: «لكَ علينا من اليَوم ضِيافة سبعـة أيام يمكنكَ بعدَهَا أن تسأَلنا عما تشاء»
طِوالَ تلك الأيام كانَ الأهالي الطُّورُّوبريَّانديُّونَ يتسَابَقُـونَ لاستضافتي إلى أن ينشب بينَهُم اختصامٌ واقتتالٌ. وما أن تَطأ قَدَمَاي منزلَ مُضيفي حتى يَستَدرِجَنِي إلى ساحةٍ ثم يمسِكُ بقطعة فحمٍ فيخطُّ في الأرض خطّا ويُجلسني في رُكن وهو يأمُرُني بلهجةٍ حادة: «هَذَا (مشيرا إلى جهة حريمه) رأسُ حمار وهذا (مشيرا إلى الجهة التي أجلس فيها) مؤخرَة حمار. الزم جلستك هذه داخِل مكانك هذا، وانظر ما يَليك فقطّ واستنشِق منَ الأكسيجين مَا يَليكَ فقط. وإن تستدِرْ يمينا أو شمالا تكن تجاوزتَ حُدُودَك، وإن تتجاوز حُدُودَك فلا تظلمنَّ إلا نفسَك»… وما أن أمتثل لأمره حتَّى يُنادي على مائدة كبيرة ويأتيني بماء أغسل يديَّ به ثمَّ يأمرني بالتهيؤ للأكلِ فيما ينصرفُ هو متنقلا بينَ المائدَة والمطبخ إلى أن يملأ صفحةَ المائِدَة بالأطباق والصُّحُون الفارغة والأباريق والكؤُوس الفارغَة أيضا، فيجلسُ بجانبي ويَقرَأ نشيدا دِينيا ثم يمسكُ بين يدَيه دائرةً من الهواء فيقطِّعُها كما لو كانت خبزَة. يمسِكُ الكسرَات الوَهميَّة ويبلل الواحدةَ منها تِلو الأخرَى في الصُّحُون الفَارغة ثم يُعيدُها إلى فمه ويأخذُ في مَضغ الهواء بنَهَم شديدٍ وهُوَ يستضيفني قائلا: «كل ولا تخجَل. تصرَّفْ كأنك بين ذويكَ، كأنَّكَ في بيتِك» فأنصرفُ بدَوري إلى تقطيع خُبزٍ وهميٍّ أبللُهُ في الصُّحُون الفارغَة وأحشُو به فمي ثمَّ أمضغ الهواء ولا أتوقَّفُ إلا بعدَ أن يتوقَّفَ مُضيفي. أثناء مُغادرتي للمنزل أخرُج مُجهداً نفسي في ترسيخ قدميَّ في الأرض كي لا أطيرَ من كثافة الهوَاء الذي يكونُ بطني قد امتلأ به. ببابِ المنزل يُوَدِّعُنِي مُضيفي بحرَارة كبيرة وهُوَ يسألنـي:
– ألم تجـدْنِي كريما؟
أجيبه دون أن أكلِّفَ نفسي عناءَ أي تفكير:
– بَلَـى. بَلَـى.
– وإذا، فبلغ ذويكَ ذلك؛ قل لهم كنتُ بين قوم لا مثيلَ لهم في الضيافة والكـرَمِ…
– حَاضِـر. حَاضِـر.
فينصرفُ وهو يضحكُ إلى أن يستلقي عَلَى قَفَاهُ…
خارجَ المنزل أجد دائما طورُّوبريَّانديِّينَ أو ثلاثة يَدعُونَني بدَورهِم لشُربِ الجعَّة أو الرَّحيق الإلهي، كمَا يقولون، وهي تأتي على رأس قائمة المشرُوبات الرُّوحية المحبوبَة عندهم، يحبونها إلى دَرَجَة العِبَادَة، ويُدمنونَ شربَها في كلِّ الأوقاتِ. وبذلك يمكنكَ دائـما أن تشاهدَ حيثما مَررتَ عَشرات الأطفال والنِّسَاء والشُّيوخ قد تحلَّقوا حول عِمَاراتٍ من صَناديق الجعَّة يلتهمونها وسَط ضوضاءَ من الأناشيدِ الدِّينيَّة والأغاني الوَطنية…
يأتي مُضيفي بعددٍ كبير من صناديق الجعَّة الفارغة فَيمسِكُ قنينة واحدة أو عُلبة ويناولني أخرَى ثمَّ يقرأ نشيدا دينيا ويقولُ لي: «اشربْ على نخبك» فأشربُ الهواءَ إلى أن تنتهي جميع القنينات والعُلَب لأنهضَ بعد ذلك وأنا أتمايلُ وأقيءُ إلى أن نتقذف أمعَائي أمَامِي…
في اليوم السَّابع استقبلني الرَّاهبُ وهو يرتَدي على التَّوَالي بذلة عَصرية أنيقة وجلبابا صُوفيا ورداءً يشبهُ البرنُسَ ثم استوى على كرسيٍّ كأنَّه سيلقي خطبة بالكنيسة وأمَرَني بلهجةٍ خشنة حـادَّة:
– لكَ الآن أن تسألنا عما شئـتَ!
– لماذا يُكثرُ رهبانكم من مُعاشَرة الصِّبيَان؟
احمرَّتْ وجنتاه، كأنَّه ضُبطَ متلبِّسا، فارتبكَ ارتباكا شَديدا، إلا أنَّه سُرعَان ما استعادَ ثقة كبيرة في نفسِه، فبَادَر صَارخا في وَجهِي:
– أنـتَ زنديـقٌ!
– أعِـرني حمـارَكَ
– أعيـرُكَ درَّاجتـي ولا أعيرُكَ حِمَـارِي!
– هَـات درَّاجَتَـك
– أعيرك الحمَار ولا أعيـرُكَ الدرَّاجـة!
– أنت بخيــلٌ!
ما كدتُ أنهي الكلمةَ الأخيرةَ حتَّى لم أحسّ إلا وعصا تهوَى على ظهري ألحقتْ به وجعا لا زالَ مستمرّا حتى اليوم..
أثناءَ مُغادرتي لمنزل الرَّاهب سمعتُ كلاما عَربيا فصيحا فاستدرتُ إلى الخلف لأجدَ الرَّاهِب يُرَقِّصُ حمارَه على طريقة الأعرَابية القديمة وهُو يُرَدِّدُ بيتيهـا الشهيريـن:
يَاحَبَّـذَا رِيحُ الْوَلَدْ رِيـحُ الْخُزَامَى فِي الْبَلَـدْ
أَهَكَـذَا كُـلُّ وَلَـدْ أَمْ لَـمْ يَلِدْ قَبْلِي أَحَـدْ
في مخرج الزُّقاق شاهدتُ راهبا آخر يجري مثعثرا في بُرنُسِه وقد أمسَكَ كرونوميترا بيدٍ ومبخرة وشيئا يشبه السُّبحَة بيد أخرى، فعلمتُ أن الرَّاهب الأوَّل قد اختلط عليه الأمرُ، فلم يميز بين حماره وواحدٍ من أبنائه فاستدعَى الرَّاهب الثَّاني ليحسِم في المسألـةِ…
*
* *
إذا كنتَ بصددِ التَّجوُّل في أحَد الشَّوارع الطورُّوبريَّانديَّة وسمعتَ خلفكَ صياح ماعز أو خوَار ثور أو نهيق حمارٍ فلا تتباطأ في شغـر الطّريق لأنك إن لم تفعل لن تفطن إلا وأنت ممددٌّ على الطَّريق وقد تهشَّمَ رأسُكَ أو ظهرك. وآنذاك فقط ستعرفُ أن الصِّيـاح أو الخوار الذي سمعتَه قبلَ ذلك بقليل لم يكن صَادِرا عـن بَهيمةٍ كما اعتقدتَ خطأ، وإنما عن سيارة أو شاحنةٍ لأنَّ البهائم الطُّورُّوبريَّانديَّةِ لا تصيحُ. وإذا احتججتَ على السَّائق قذَف في وجهكَ مرارا، بغضبٍ وتحدٍّ شديدين، كلمة: «أنتَ زنديـقٌ! أنتَ زنديـقٌ!»،وأعادَ قذفها كلَّما هممتَ بالكلام. وستكون بالفعل زنديقا لأنَّكَ أوَّلتَ مأثورة طورُّوبريَّانديَّة عريقة، والتأويل عندهُم محرَّمٌ. فقد قال لي الرَّاهبُ يوم أمرني أن أسأل ما شئـتُ:
«نحنُ قومٌ لا نحبُّ التأويل (…) لقد خلَّف لنا أجدادُنا الكرامُ ما يجعلُ ما من وَرَقة دولار أو سيَّارة أو قاطرةٍ ترُوج أو تدبُّ على وجه البرية إلا وهي مَدينَةٌ لنا بحيازة نُبوءة ظُهُورهما. قالوا: “الحمارُ يُبَشِّرُ بالدُّولار” (…) يوم ظهر الماعزُ لأوَّل مرَّة حسبه النَّاسُ سيَّارة فكنتَ تجدُ ما من عنز إلاَّ واعتلَى ظهرَهُ رجلٌ أو امرأةٌ يُجهدَان نفسيهما في الرُّكوب والسياقة إلى أن ظهَرَت الأكباشُ، ثمَّ ركبوا الأكباش ظانين أنها سيارات، لكن ظهرت الأبقار، فركبوهَا، لكن ظهرَت الحمير… نحنُ قومٌ لا نحبُّ التأويل. نحن قوم لا نحب التأويـل».
إن تحريم الطُّورُّوبريَّانديِّيَن تأويل المثَل السَّابق هو الذي يُمَكِّنُهُم من تسمِية الشَّيء الواحِد بأسماء عديدة بكيفيةٍ تجعلُ من السَّهل جدّا المرُور بالشيء والكائن مما هُو إلى ما ليس هُو ومما ليسَ هو إلى ما هُو فعلا. بعبارةٍ أخرى، إنَّ تحريمَ التأويل هو الذي يتيحُ لهم اختزالَ المسَافة الفاصلة بينَ الأسماء والمسمَّيات وجعلها هَشَّة بحيث تصبحُ قابلة للمَحوِ باستمرار إلى أن يظهَرَ الوجه العَاري لكوميديا التسمية لكن أيضا لديكتاتوريتها. فمثلا، إذا صادفتَ في طريقكَ طورُّوبريَّانديّا وهـو يسيـر رُفقة امرأة وصبي وحمار ثمَّ ابتمستَ للصبي، كان أمَام صاحبك خمسٌ وثلاثون إمكانية لتسميتك يستتبع كلاّ منها ردُّ فعل مختلف إزاء ابتسامتك بحيث يمكنه أن يقتلك بسبَبِهَا كما يمكنه أن يكتفي بالابتسَام لك ومُوَاصَلة سيره. فإذا رام قتلكَ صرَخ بأعلى صَوته إلى أن يتحلَّقَ حولكما آلافُ المارَّة وهو يُردِّدُ: «لَقَدْ رَاوَدْتَ زَوْجَتَهُ! لَقَدْ رَاوَدْتَ زَوْجَتَهُ!». ولن ينفعكَ آنذاكَ أي شيء لردِّ زعمه: فإن قلتَ: «إنما هذا صبيٌّ وهذه امرأةٌ» سخر منكَ المتحلقون جميعا وهم يقولون لك: «لن تفيدَك مُراوغةٌ معنا! إنما هَذه [=الصبي] امرأةٌ وهَذا [=المرأة] حمارٌ»… أمَّا إذا شاء أن يقتلعَ إحدى عينيك فإنه يقفُ فورَ ابتسامك أمَام حِمَاره وهو يَصرُخ في وجهكَ: «أنتَ تزرعُ كراهية الإلهين في جَسَدِي. هَذا أبي…» وبالطريقة نفسها سيؤكد لك كلُّ المتحلقُون زعمه. وإذا لم تقتنع جيءَ بالسَّاحر، وبإصداره إشارة وَاحِدة بإحدى عينيه للحمار سيصرُخ هذا الأخيرُ في وجهك قائـلا: «إنما أنـا أبـُوه! إنما أنـا أبـُـوه!»
*
* *
إذا اعتقدتَ أن الطُّورُّوبريَّانديِّين يعيشون في فَوضَى التّسمية وسوَّلت لكَ نفسُك بالإيقاع بمن شئتَ منهم فإنَّ الأمر لن ينقلبَ دائما إلا ضدَّكَ لأنّك تسمياتك ستكونُ دائما مجازفاتٍ غير مضمونة فيما لا يجازف الطّورُّوبريَّانديُّون أبدا بالكلام، ذلكَ أنه مهمَا يكن الإسم الذي يُطلقه طورُّوبريَّانديٌّ ما فإنه لا يخرجُ عن إحدى قاعدتي «الكوجيتو الطورُّوبريَّاندِي». تقولُ القاعدة الأولى: «أنا لستُ أنتَ، وإذن فأنتَ هو أنا»، وتقولُ الثانية: «أنتَ لستَ أنا، وإذن فأنا هُو أنتَ». وبدُون تعلم اللغَة الطّورُّوبريَّانديَّة يستحيلُ على المرء أن يفهَمَ هاتين القاعدتين.
إنَّ الحروفَ الهجائية الطّورُّوبريَّانديَّةِ هي أيضا رُمُوزٌ دينية، ولذلكَ يستحيلُ تعلمَها دون المرور مِن الكنيسة. أمَّا عملية التعَلم فتستغرقُ تسعة وتسعين مقاما أو طقسا مُوزعة على عشر سنوات – كما مرَّ بنا – وهُو نفس عدد الحرُوف الطّورُّوبريَّانديَّة وعدد الكنَائس والأباطِرة الذين تعَاقبوا على حُكم المنطقة، أهمُّها على الإطلاق المقامات 5 و7 و99، وتسمَّى على التوَالي: «مَقَامُ التّطهِير الكلبيِّ»، و«مقامُ المرأة المعلقة في الهوَاء»، و«مَقَامُ مُؤَانَسة الحمَار». وتعلم كلّ حرفٍ يستتبعه أحدُ أمرين: التهيؤ للطقس الموالي، أو الإقصَاء النهَائي من التعلم. وإذا كانَ التأهُّل يقوي حُظوظ المتعلم في التثبت في النسَابة الطورُّوبريَّانديَّة، فإنَّ الإقصاء يفتحُ أمامَه باب الجنون على مِصراعيه. فإذا أقصِيَ الفردُ، مثلا، من الحرف رقم 20 امَّحَى عقله مما سوى عشرين حرفا فَلا يعُود ينطـقُ إلا إياها…
يتعلقُ الأمرُ في «طقس المرأة المعلقة في الهواء» بحشو مَسحُوق سِحريٍّ في أنف المتعلم وصبِّ سائلٍ في أذنيه، في غمرة أناشيدَ دينية، إلى أن تنكشفَ له امرأة معلقة في الهوَاء، تتراءَى لهُ حيثما نقلَ عينيه، فيُقَال له: «أتعرفُ من تكونُ هذه المرأة؟، لقدْ ثبِّتَ الكلامُ فيكَ بباقي الحواسِّ، فاذهبْ إنّكَ تفيضُ كلاما». وما أن يتمَّ الانتهاء بالتلفظ بهذه الكلمةِ حتى يجدَ المتعلمُ نفسَه بهيأة طفلٍ لا يتجاوزُ عمرُه سبع سنوات، وهي السِّن التي يتحتم فيها على كل أمٍّ طورُّوبريَّانديَّةٍ أن ترفق ابنها إلى السَّاحر كي يحدِّد له المهنة التي سيُمارسُها عندا يصيرُ كبيرا، وعدَد السنين التي سيقضِيها في الحياة، وعدد زَوجاته،وعدد الكلماتِ التي يجبُ أن يتلفظ بها طِوالَ حياته، وكمية الأوكسجين التي سيستنشقهَا… فإذا قال لطفل: «كن وَزيرا» صَار الطفلُ وزيرا بالفِعل حتى وإن تلقّى تكوينه في مَدرسَة رُكوب الحمير التي لا يتخرَّج منها في الأصل إلا الرُّهبان، وإن قال له: «كن فَاجرا» صَار فاجرا بالفعل ولو كلفَ بإدَارةِ أمِّ الكنائس وإلقاء خطَب الوعظ والإرشَاد فيها… وهَذا هو السرُّ في السُّؤال الذي لا يكف الطورُّوبريَّانديُّونَ عن طرحه على كلِّ ملتحق جديدٍ بالمنطقة اعتقادا منهُم بكونية الممَارسَات السَّائدة عندَهُم…
*
* *
عندَما يقولُ لكَ الرَّاهبُ: «اذهبْ فإنَّكَ تفيضُ كَلاما»، فإنه يكونُ قد بث سَلفا في مسألةِ إقصائك أو تأهيلك. فإذا أحسستَ عقبَ هذه الكلمة بأن العُنف الجسَدي قد تحوَّلَ داخلك إلى لغةٍ حتَّى أصبحتِ الكلمة المناسبة لجميع المواقِفِ والسِّياقات تنسابُ منكَ انسيابَ الوحي فاعلم أنه قد أهَّلكَ للمقَام الموالي. وعَلامَة ذلك أن لا يجدَ القومُ أنفسهُم أمَام كل كلمةٍ تتلفظ بها إلا كمَا يجدُ الطّائر نفسه في قبضةِ فخٍّ. فإذا رَفعُوا، مثلا، سِعر مواد كشفرة الحِلاقة والخبز وجدتَ نفسَك قد عمدتَ إلى إهمال اللحية وأكل الهوَاء، وإذا استعَار منكَ طورُّوبريَّانديٌّ مبلغا ماليا مُهمّا ثمَّ رحَل نهائيا عن المنطقة دُون أن يُسَدِّدَ ما عليه من دينٍ وأردتَ الانتقامَ منهُ اكتفيتَ بإرسال كلمةٍ واحدةٍ لهُ مع رسُول، فمَا يتلقاها غريمك حتى تبترَ إحدَى عينيه أو رجليه، وإذا ضُبِطتَ متلبسا فوق امرأةٍ أو حمار ليسَا في ملككَ قلتَ، مثلا، «إنما هذه [=المرأة] حمارٌ، وهذا [=الحمار] أبي… فلا يتردَّد القومُ لحظة واحِدة في تصديقك. والسَّببُ في ذلك كله هُو أنكَ تكونُ حينئذ تتكلمُ من عُمـق التّاريخ واللغـة الطورُّوبريَّانديَّين: فاللحية عنوان مُصنفاتٍ تاريخيةٍ خاصَّةٍ بحقبةٍ تاريخيةٍ بكاملهَا، كما الأوكسيجيـنُ، والمئزرُ، والقبَّعَـة، والهـوَاءُ… عناوين لمصنفاتٍ تاريخية خاصَّةٍ بحقب تاريخية أخرى، ذلك أن الطورُّوبريَّانديُّـون لا يكتبونَ التاريخ بتسجيلِ تعاقـب الأحداثِ والوقائع، وإنما يُدوِّنونه بأحوال الجسَد والمعِدة والطبيعَة خِلال حكم كلِّ إمبراطور: فحينمَا صعَدَ الإمبراطورُ الأوَّلُ فرضَ إهمال اللحية فأهمِلتْ إلى أن جاء الإمبراطورُ الثاني فحظرها وأمرَ القومَ بارتداء القبَّعة، ثمَّ قال: «السَّمَاءُ سَودَاء» فظلت سَودَاء إلى أن أسقطهُ الإمبرَاطورُ الثالث فقالَ: «لا. ليست السَّمَاءُ سَودَاء، بل هي بيضَاء» وأمرَ النساء بارتداء المآزر وفرَضَ على الرِّجال أن يرتدوا التنوراتِ القصيرة، ثمَّ جَاءَ الرَّابع فقال: «اذهَبوا فـأنتم العُرَاة» فنبذَ القومُ المآزر التنورَات وجابُوا الأرضَ عُراة حفاة إلى أن جاء الإمبرطورُ السَّادسُ وأمر النسَاء بارتداء التنوراتِ القصيرة والرِّجال بارتداء المآزر والخفين… والكلمة هي مجالُ حِس لا يُضاهيه إلا الحسُّ الجمَالي. وإذا كَان هذا الحسُّ هو السَّبب في عودَة غريمك – فور تلقفه كلمتكَ – إلى المنطقة أعمى أو كَسيحا، فإنه الحسَّ اللغويَّ نفسَه هوَ الذي سيتيح لجميع الأهَالي أن يتعرَّفوا حَدسا على القصَّة بكاملها بمجرَّد مُشاهدتهم ذلكَ الغـريم ولو لم تطلع أحَدا عليهَا، وبذلك مَا أن تسأل أحدهُم، حتى وإن كان مجرَّد طفل لم يتجاوز عُمره السنتين، عن صَاحب العَاهَة حتى يوافيكَ بتفاصيل القصَّة بشكـل يجعلك تشكُّ فيما كان ذلكَ الطفلُ هـو أنتَ أم أنـك هو… يقول لك: «لقد استعارَ منكَ مبلغ كذا دولار، وفرَّ من المنطقة فأرسلتَ – أنتَ – إليه كلمة مع أوَّل حمار هواء يُقلع، فما أن تلقّاها حتى عاد أعمى كَسِيحا…» وهذَا ينطبقُ مع المثلين الطورُّوبريَّانديِّينَ: «لا إجماعَ خارجَ الإجماعِ»، و«يستحيل أن تخذع طورُّوبريَّانديّا أو تغبنــه».
إن هذا الحسَّ اللغويَّ الدقيق هو الذي يجبر الطُّورُّوبريَّانديِّينَ عَلى الاستقامة في السُّلوك وتجنب الكذِب والسَّرقة والوشاية والنمِيمة والتطَاوُل على ممتلكاتِ الغيـر. كذلكَ، هذا الحسُّ هو الذي يُفسِّر النباهة الكبيرة للطورُّوبريَّانديِّينَ في التكلم بجميع اللغَات الأجنبية فِطرة ودُونما أيّ حاجة لتعلمها أو المرُور بالمعهد العالي للغات الأجنبية، وبذلكَ يمكنكَ دائما أن تشاهد طِفلا لم يتجَاوز عُمره سبع سنواتٍ وهو يجرُّ وراءَه قطيعا كامِلا من ذَوي البشرة البيضَاء يدلهم وسَط غاباتِ النخيل والمآثر التاريخية مُكلما كل واحدٍ منهم بلغته الخاصَّة بظواهرها وبواطنها…
*
* *
مَا ترَاءت لي المرأة المعلقة في الهوَاء حتَّى أصبحت فاتوراتُ الضَّرائب تنهملُ عليَّ كالشتاء إلى أن خَامرني الشكُّ فيما إذا كان الرَّاهِب قد أخطأ في إنجاز الطقس فحوَّلني إلى ضريبةٍ بذل أن يحوِّلني إلى طفل عمرُه سبع سنوات: فمهمَا كنتُ أفعل إلا وكانتْ تأتيني ضريبةٌ على ما فعلتُ، تأتي على شَكل فاتورة مملوءَة بإحصائياتٍ في منتهى الدقة،لم أعلم إلا فيما بعد أنهَا كانت من إنجاز آلاتِ رقابة شديدة الحسَاسية معلقة خفية في سائر الأمكِنة العُمُومية والخصوصية. فعندمَا كنتُ أغادرُ المنـزلَ كان الجابي يأتيني بفاتورَة ضريبة الخرُوج وقد قيِّدَ عليها، فضلا عَن الثمن، طول المسَافة التي مشيتها، ومجموع المسَاحة التي شغلتها قدَمَاي من الطريق وأنا أمشي، وكمية الأوكسيجين التي استنشقتها… وعندَما كنتُ أعرض عن الخروج كانت تَأتيني ضريبة القعُود وقَد قيِّدَ عَليها، بالدِّقة السَّابقة، مجموعُ السَّاعات التي قضيتهَا في المنزل، سَاعات اليقظة وسَاعات النوم وسَاعات التفكير… حينمَا كنتُ أهملُ اللحية كانتْ تأيني ضريبة الإهمَال، وحينمَا أحلقها تأتيني ضَريبة الحِلاقة. ولما نَفق كلُّ ما كنتُ أملكه في الضَّرَائب أكلتُ الهوَاءَ فجاءت ضريبة الهوَاء ثمَّ بعتُ ملابسِي فجاءت ضريبة العَـراء…
*
* *
آه الآن فقط أدركُ حجمَ الغباوة التي كانت تلفني وأنا أبذر مَا أمكله! فقد كانت التفاتةٌ واحدة إلى المرأةِ المثبتة أمَامي كافية لإخراجي من ذلك المأزق. اتجهتُ مُهَرولا إلى مكتبِ الضرائب وقلتُ للجابي: «إنني ضريبةٌ فضعوني في الصُّندوق»، وما أنهيتُ هذه الكلمة حتى انبعثَ الرَّاهب أمامي كالعفريتِ، ثمَّ قال وهو يُشير إلى الهوَاء: «أتعرفُ من هذهِ المرأة؟». قلتُ: «أيُّ امرأة؟ إنني مَا أرى إلا حمارا»، فضحكَ إلى أن استلقى عَلى قفاهُ ثمَّ قال لي: «هنيئا لكَ. فقد تأهَّلتَ لمقام مُؤانسَة الحمَار»، ثمَّ أخرجَ مـن جيبه قارُورة صغيرة وقالَ لي: «والآن هَاتِ عينيكَ كي أبللهمَا بالسَّائل السِّحري»…